الفصل التاسع عشر

أحسن إليَّ وأنا مولاك

في صيف السنة الماضية أهدى الأستاذ الرافعي إليَّ كتابه «رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب»، وكتب إليَّ يسألني أنْ أقول في كتابه شيئًا، وأنْ أحسن كما أحسن الله إليَّ، وألا أنسى نصيبي من الدنيا ولا أبغي، وإذن فقد كان يسألني أنْ أثني عليه، وقد كان على هذا الثناء حريصًا، وقد كان يدبر في نفسه أني آمنٌ إنْ أجبته إلى ما يريد فأثنيت وأطريت، وأني معرض لحرب شعواء إنْ أبيت عليه الثناء والإطراء، وكان في كتابه أقرب إلى التضرع والتسول منه إلى الوعيد والنذير، وقد ضحكت من كتابه هذا وأهملته فيما أهمل، ثم نقدت فلسفته في الجمال والحب، فأغضبه هذا النقد، ويظهر أنه أغضبه إلى حد أنْ أفقده رشده وصوابه، فكتب ما ستقرأ.

وفي الحق أني قرأت هذا الفصل الذي ستقرؤه، فترددت بين اثنتين: رأيت أنَّ فيه سفهًا كثيرًا، وشتمًا منكرًا، وتجاوزًا لحدود الأدب والأخلاق، فقدرت في نفسي أنَّ نشره شر؛ لأنه ترويج للمنكر، ورأيت أنَّ الرجل قد هوجم في كتابه، فمن حقه أنْ يدفع عن نفسه، ومن الحق عليَّ أنْ أنشر له هذا الدفع وإنْ كان قد أسرف فيه إسرافًا وأسف فيه إسفافًا، وقدرت في نفسي أنَّ الناس يقرءون مثل هذا الشر ويحتملون مثل هذا المنكر في طائفةٍ من الصحف، فليس عليهم بأس من أنْ يقرءوا سفه الرافعي ويحتملوا منكره مرة في «السياسة»، وقدرت في نفسي أيضًا أنَّ للناس شيئًا من الحق في أنْ يظهروا بأنفسهم على أخلاق الكُتَّاب وآدابهم ومناهجهم في الحوار وهم أحياء، وإذا كنت أكره أنْ أعرض لأخلاق الأحياء وآدابهم، وإذا كان الرافعي قد أراد أنْ يعرض نفسه على الناس، وأنْ يعرضها عارية مجردة كأبشع ما خلقها الله، فليس من حقي أنْ أحول بين الناس وبين هذه النفس، وليس من حقي أنْ أحول بين الرافعي وبين إظهار نفسه للناس، كما خلقها الله في غير تكلفٍ ولا تصنع، وقدرت في نفسي شيئًا آخر، لو أنَّ للرافعي حظًّا من الإنصاف لقدم إليَّ الشكر عليه، ذلك أنَّ الرافعي كغيره من الكُتَّاب يستطيع أنْ يكتب ما يفهم، وأنْ يقول أحيانًا كلامًا يدل على شيء، وهو إنما يستطيع هذا حين يحس ويشعر، ويريد أنْ يصف ما يحس ويشعر؛ أي حين يكون صادقًا في وصف نفسه لا كاذبًا عليها ولا واصفًا لها بما ليس فيها، وآية ذلك أنك ستقرأ هذا الفصل فتفهمه أو تفهم منه شيئًا كثيرًا؛ لأن نقدي إياه قد آذاه وأمضه، فأحس شيئًا من الألم، وأجرى هذا الألم قلمه بما كتب، فكان صادقًا في وصف نفسه وإعلان ألمه، ومن هنا كان مفهومًا، وهو إذن يستطيع أنْ يكون مفهومًا حين يكون صادقًا، ومن هنا تستطيع أنْ تتبين العلة الصحيحة في أنَّ فلسفته في الجمال والحب لا تفهم ولا تدل جملتها على شيء؛ ذلك لأنه لا يحس هذه الفلسفة ولا يشعر بها ولا يصف جمالًا يخلبه حقًّا، ولا يذكر حبًّا بعث قلبه على الخفوق، وإنما هو يكذب على نفسه حين يزعم لها حب الجمال وفهمه، ويكذب على قلبه حين يزعم له الخفوق بألم الحب ولذته، ويكذب على الناس حين يزعم لهم أنه يصدر فيما يكتب عن حس وشعور، هو متكلف، وهو يعرض لما لا يعلم، وهو يصف ما لا يحس، ومن هنا تورط في سخف القول وهراء الحديث، ولكنه على كل حال يستطيع أنْ يكتب شيئًا يفهم إذا لم يكذب على نفسه ولم يصفها بما ليس فيها، فإذا كان لي أنْ أقدم إليه وإلى أمثاله من الناس الذين يعشقون القديم على غير علم به ولا فهم صحيح له نصيحة، فهي أنَّ يصدقوا حين يكتبون، فقد كان القدماء صادقين حين يكتبون، ومن هنا فهمنا القدماء، ولم نفهم هؤلاء السادة «المتقادمين».

قدرت في نفسي كل هذه الأشياء، فآثرت أنْ أنشر فصل الرافعي وأنا مع ذلك معتذر إلى القراء من نشره؛ لأني لم أعدهم أنْ أنشر مثل هذا الحمق في صحيفة الأدب، ومع ذلك فإني واثق بأن كثيرًا من القراء سيشكرون لي نشر هذا الفصل؛ لأنهم سيضحكون منه كما ضحكت، وسيستعينون به على قضاء ساعة لا تخلو من فكاهة وتسلية، وما رأيك في رجل يزدريني، ثم يكتب هذا الفصل الطويل فلا يدل به إلا على أنَّ الله قد ملأ نفسه غلًّا وحقدًا وخوفًا من النقد وذعرًا! وما رأيك في رجل يفلسف في الجمال والحب؛ أي يضع نفسه بين الفلاسفة بل بين كبار الفلاسفة، فلم يفلسف منهم في الجمال والحب إلا قليل، ثم لا تمنعه فلسفته أنْ يكون طفلًا، فيتحداني ويطلب إليَّ أنْ أكتب كتابًا ككتابه أو كفصل من كتابه، أستغفر الله! ومتى أبيح لمثلي من الضعفاء أنْ ينهض لتقليد الرافعي! أعترف بأني عاجز عن أنْ آتي بكتاب ككتاب الرافعي، أو بفصلٍ كفصول الرافعي؛ لأن الله لم يرد أنْ أكون غامضًا غموض الرافعي، ولا كاذبًا على نفسي وعلى الناس كذب الرافعي، ولا عابثًا بجمال هذه اللغة عبث الرافعي، ولا متسولًا على الناس في المدح والثناء تسول الرافعي، ولا حاقدًا على الناقدين حقد الرافعي، أبى الله عليَّ كل هذه الحسنات، فليس غريبًا أنْ يعجزني كتاب الرافعي، بل فصل من فصوله، بل جملة من جمله.

ستضحك حين تقرأ هذا الفصل، ستضحك حين ترى الرافعي يعتب عليَّ في غيظٍ وحقد، إني لم أسمه حين خطأني في نقد هيكل لاستعمال كلمة «مهوب»! ولقد أحب أنْ يعلم الرافعي أني لم أُسَمِّه؛ لأنه لم يكن أول من دلني على هذا الخطأ ولا آخرهم، وإنما سبقه إلى ذلك هيكل نفسه، وروى لي في ذلك شعرًا، ثم دلني على هذا الخطأ الأستاذ «وحيد» في مقالٍ نشرته له «السياسة»، ولمح لي إلى هذا الخطأ تلميحًا ظريفًا، فإذا كنت لم أُسَمِّ أحدًا فلم يكن ذلك نفاسة على الرافعي ولا جحودًا لعلمه باللغة، وأنا الذي يقول في الفصل الماضي: إنَّ الذين يحسنون العلم باللغة كما يحسنها هو قليلون.

ستضحك حين تقرأ هذا الفصل، فترى الرافعي قد انتهى به الغرور والعجب إلى حيث خيل إليه أنه أغضبني، وأني كنت أسمع كلامه فتبتلعني ثيابي، وأني اقتلعت نفسي من المجلس اقتلاعًا، بل فررت منه مرتين: تركته عند «عزمي» مرة وفررت إلى هيكل فتبعني، فتركت له «السياسة» كلها وأخطأ حين فسر هذا الاقتلاع بأنه أثر الخوف أو ما يشبهه، ولو فسره بشيءٍ آخر يشبه استثقال الظل واستبطاء الحركة لوفق لبعض الصواب، وأخطأ حين قدَّر أنَّ ثيابي كانت تبتلعني ومم تبتلعني ثيابي!

لقد يكون من الحق على الرافعي لو أنصف نفسه أنْ يعلم أني من قوم قد بلوا السفهاء فأحسنوا بلاءهم، وصبروا لهم واحتملوا منهم شرًّا كثيرًا لا ضجرين ولا متحرجين ولا مستخفين في ثيابهم، وإنَّ رجلًا يحتمل من السفهاء مثل ما نحتمل منذ امتحن الله مصر في أخلاقها هذه الأعوام الأخيرة، لخليقٌ ألا يضيق صدره إنْ زاده الله على هؤلاء السفهاء واحدًا، أو يبسم ثغره إنْ نقص الله من هؤلاء السفهاء واحدًا.

أحب أنْ يعلم الرافعي أني لا أضيق بالسفهاء ذرعًا، وقد أرى في سفههم سبيلًا إلى اللهو والتسلية، وأحب أنْ يعلم الرافعي أني بعيد كل البعد عن أنْ يغضبني فصله هذا أو يؤذيني، وأني إنْ أشفق على أحد من هذا الفصل فإنما أشفق على كاتبه؛ لأنه كتبه وهو محموم أو كالمحموم، وأشفق على قارئه؛ لأنه سيقرأ نكرًا من القول هو إلى هذيان الحمى أقرب منه إلى كلام العقلاء، ولقد نقدت الناس من قبل الرافعي فلم أصانعهم ولم أرفق بهم، وفيهم ضيِّق الصدر، وفيهم من لا يحتمل النقد ولا يسعه، فلم أجد منهم هذا الألم ولا هذا السخط، ولا هذا الشيء الذي يذهب على الرجل بعقله وصوابه، ويحك! وما عليك أنْ يقول الناس في كتابك إنه جيد أو رديء إذا كنت مقتنعًا بأن كتابك جيد! ويحك! وفيم تسأل الناس آراءهم في كتابك إذا كنت ضيِّق الصدر بهذه الآراء؟ ويحك! وفيم تغشى الناس في بيوتهم ودور أعمالهم! وفيم تلح عليهم بالبريد مرة وبالبرق مرة أخرى، وفيم ترسل إليهم الوسطاء وتتوسل إليهم بوجوه الناس، ليتصدقوا على كتبك بكلمة، إذا كنت لا تستطيع أنْ تقبل هذه الكلمة كما يريد صاحبها أنْ تكون؟! ويحك! أللمدح وحده تسلك هذه السبل، وتصطنع هذه الوسائل، وتتكلف هذه المشقات! وما قيمة المدح يكره عليه صاحبه! وما قيمة الثناء يبذله الرجل ليتخلص من مُلِحٍّ ثقيل، كما يبذل الرجل درهمه في غير إحسان ولا حب للإحسان، ولكن ليتخلص من هذا السائل الذي يتبعه في الطريق أو يأخذ عليه السبيل! أفي هذا الثناء تطمع، فإن ظفرت به فأنت سعيد، وإنْ لم تظفر به فأنت كهذا السائل الملح يؤيسه العطاء فيتبع مانعه بالشتم والسب؟! ويحك! إنك تذكر قومًا قرءوا كتابك وأثنوا عليه، أواثق أنت بأنهم قرءوه؟ أواثق أنت بأنهم فهموه؟ أواثق أنت بأنهم أثنوا عليه؟ ألم يخطر لك أنهم إنما ذادوك عن أنفسهم وألقوا إليك طرفًا من الثناء ليكفوك عن اتباعهم والإلحاح عليهم؟ صدقني، فأقسم ما أريد بك إلا الخير، وما أكتب هذا إلا مشفقًا عليك رفيقًا بك ناصحًا لك، إنَّ الذين يخيل إليك أنهم يرضون عن كتابك لم يقرأه أكثرهم، ولم يفهمه واحد منهم، ولم يخلصوا في الثناء عليك، وإنَّ على هؤلاء الناس لوزرًا غير قليل، فهم يشجعونك على الإيغال في السخف، ويبعثون في نفسك غرورًا وإعجابًا بما كان ينبغي أنْ تستخزي له وتستحي منه.

رحم الله حفني ناصف! إنَّ لك معه قصة لم أَنْسَها بعد، قصة توسط فيها البريد وتوسط فيها البرق، وتوسط فيها بعض الناس؛ لينتزع من الرجل ثناء على كتاب من كتبك، أحسبه «حديث القمر».

رحم الله حفني ناصف! لقد لقيته ذات يوم، فإذا هو متبرم بك ساخط عليك، يرسلك ويرسل كتابك معك إلى الشيطان، وإنَّ بين الأساتذة الأحياء لمن شهد معي تبرمه وسخطه في القطار بين القاهرة وحلوان.

لا تقل إذن أثنى عليَّ فلان وفلان، ورضي عني فلان وفلان، فليس لهذا الثناء ولا لهذا الرضا قيمة، ولكن قل نقدني فلان وفلان، وعابني فلان وفلان، فإن أصدق الناس في نصحك والإخلاص لك هم الذين ينقدونك لا الذين يحمدونك، إنَّ الذي يحمدك إما أنْ يكون كاذبًا عليك، وإما أنْ يكون متخلصًا منك، وإما أنْ يكون محبًّا لك قد صرفه حبه عن عيوبك، فأما الذي ينقدك فمهما يكن سيئ النية ومهما يكن مسرفًا في ظلمك والجور عليك، فهو يدلك على عيوب أنت خليق أنْ تمتحنها، فإن تكن فيك اجتهدت في أنْ تبرأ منها، وإنْ لم تكن فيك حمدت الله واجتهدت في ألا تتورط فيها.

كن عاقلًا وخَفْ حامدك أكثر مما تخاف ناقدك.

كن عاقلًا، واعلم أنَّ الثناء الخالص الذي لا يشوبه النقد إنما هو كالماء أذيب فيه كثير من السكر، وتوشك إنْ أسرفت في شربه أنْ يأخذك الغثيان، وخير لك وأصلح لصحتك أنْ تضيف إلى هذا الماء والسكر عنصرًا ثالثًا يحول بينك وبين القيء، فما كان لك ولا للناس نفع قليل أو كثير في أنْ تقيء لهم من حينٍ إلى حين رسائل أحزان أو شيئًا يشبه رسائل الأحزان …

أما بعد، فإني أقوم مقام هيكل فأشكر ثناءك عليه وإكبارك إياه، وأؤكد لك أنه ليس في حاجةٍ إلى هذا الثناء لينشر ما تبعث إليه من الفصول، وأؤكد لك مرة أخرى، وقد أكد لك هيكل نفسه، أنه لا يستطيع نشر هذه الفصول إذا لم أُرِدْ أنا نشرها ما دام إليَّ أمر صحيفة الأدب، ثم أؤكد لك أنَّ رئيس تحرير «السياسة» يؤثر نقدي إياه على حمدك له؛ لأن رئيس تحرير السياسة يؤثر الليمون على السكر الخالص، ثم أنصح لك ألا تدخل بيني وبين هيكل، فتضطر نفسك إلى ما لا تحب، أحسبك لا تطمع في أنْ أرد على ما في فصلك هذا من رد على ما نقدتك به، فأنت لم تردَّ إلا بشتم وسب، وما زلت أقول: إنَّ هذا دليل على أنَّ كتابك ليس جيدًا، وما زلت أقول: إني أفهم القرآن وغيره من الآثار الأدبية القديمة والحديثة، وإذن فعجزي عن فهم كتابك دليل على أنَّ كتابك رديء.

أما «السحاب الأحمر» فسأحدثك عنه، ولكن حين أريد أنْ أحدثك عنه، وكما أريد أنا وقواعد النقد، لا كما تريد أنت وتهالكك على الثناء.

•••

أرجو أنْ يتقبل الدكتور أحمد زكي أبو شادي مني أجمل الشكر لهذه الأبيات التي تفضل فأرسلها إليَّ يثني فيها على حديث الأربعاء، والتي أعتذر إليه من نشرها، لا لشيءٍ إلا لأني أرى الشاعر قد أسرف في حسن الظن بي، وغلا في الثناء عليَّ، حتى حال بيني وبين نشر أبياته هذه، فأنا أحتفظ بها عندي، وأرجو أنْ أوفق لتصديق ظن الشاعر بي ورأيه فيما أكتب، وإذا كنت قد نصحت للرافعي بألا يسرف في حب الثناء وإذاعته بنوعٍ خاص؛ فأنا خليق أنْ أنتصح بما أنصح به للناس، وأعيد للشاعر شكري، وأرسل إليه تحيتي الخالصة.

ولديَّ كتبٌ أخرى أحب أنْ أنشرها اليوم، ولكن ضيق المكان يضطرني إلى أنْ أرجئها إلى الأسبوع الآتي، فلينتظر أصحابها فلن تُهمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤