الفصل العشرون

  • أسلوب الأستاذ وحيد.

  • مجلة الجديد للأستاذ محمود عزمي.

***

سألني منذ أسبوع كاتب أديب عن رأيي في أسلوب الأستاذ وحيد، وقد كنت أريد أنْ أقول في هذا الأسلوب كلمة، وكنت أرجئ هذه الكلمة من وقتٍ إلى وقت حتى سألني هذا الأديب، فرأيت أنْ أجيبه في هذا الحديث، ولكن الأستاذ وحيد تعجل الأمر وسبقني إلى الإجابة، فوصف نفسه بما أراد له تواضعه واقتصاده وحبه للاعتدال.

وليس من شكٍّ في أنَّ للأستاذ وحيد أنْ يجيب من شاء بما شاء وكيف شاء، وليس من شكٍّ في أني أعرف له رفقه بي وأشكر له ضنه بوقتي وأقدر له تواضعه، ولكن هذا كله شيء، وحقي أنْ أتناول أسلوب الأستاذ وحيد بكلمةٍ في هذا الحديث شيء آخر، وأنا شديد الحرص على هذا الحق، شديد الضن به، فليعذرني الأستاذ إذا لم أكتفِ بجوابه، وليعذرني إذا حرصت على أنْ أعلن رأيي في أسلوبه.

ليس من الحق أنَّ أمر هذا الأسلوب «ضئيل بئيل» كما يقول صاحبه، وإنما الحق أنه جليل بليل، أو عظيم نظيم، أو خطير بطير، أو ما شاء الأستاذ وحيد من هذا الإتْباع الذي يحسن أحيانًا ويسوء أحيانًا، والذي يجيده الأستاذ وحيد كما يجيد غيره من ألوان التكلف اللغوي إجادة يحسد عليها حقًّا.

ولقد قلت الكلمة، وكنت أريد ألا أقولها إلا بعد تحفظٍ واحتياط، وبعد أنْ أقدم بين يديها المقدمات؛ لأني لا أريد أنْ أسوء الأستاذ، وإذا كنت لا أريد أنْ أسوءه فليس ذلك لأني أريد أنْ أجامله أو أصانعه، وإنما هو لأني أراه خليقًا ألا يساء، بل أراه بالثناء حريًّا بريًّا!

قلت الكلمة في غير تحفظٍ ولا احتياط، فلأفسرها ليعلم الأستاذ وقراؤه أني لم أرد بها شرًّا، وإنما أردت بها حقًّا الخير.

الأستاذ وحيد، أو قل أسلوب الأستاذ وحيد، ظاهرة أدبية غريبة في هذا العصر، غريبة من وجوهٍ عدة، فالناس لم يألفوا الكتابة على هذا النحو، وإنما ألفوا أنْ يرسلوا النثر إرسالًا مع الطبع، فيكتبون كما يفكرون وكما يتكلمون، وإذا أرادوا أنْ يتكلفوا الإحسان ويستزيدوا من الإتقان اجتهدوا في اجتناب التكلف، وأحسنوا تخير ألفاظهم على أنْ تكون سهلة جزلة، وحرصوا على أنْ تكون أساليبهم مستقيمة لا ملتوية ولا معوجة، وبعبارة مجملة، ألف الناس في هذه الأيام ألا يعوقوا القارئ بالتفكير في ألفاظهم وأساليبهم عن التفكير في آرائهم ومعانيهم، لا أستثني من هؤلاء الناس إلا قومًا لم يرزقهم الله حظًّا من المعنى، ولم يتح لهم أنْ يكونوا من ذوي الآراء، وقد قُضي عليهم أنْ يكونوا كُتَّابًا، فهم يتكلفون إجادة اللفظ وتعقيد الأسلوب، والتحدث إلى الآذان حين عجزوا عن أنْ يتحدثوا إلى القلوب والعقول، أما الأستاذ وحيد فليس واحدًا من هؤلاء؛ لأنه لا يكتب ليبهر الناس بلفظٍ أو يسحرهم بأسلوب، وهو لا يرى نفسه كاتبًا كبيرًا، ولا يزعم لنفسه مكانة ممتازة بين أهل الأدب، وهو لا يريد أنْ يروعك باللفظ ولا أنْ يسحرك بالأسلوب، وهو لا يكتب ليكتب، وإنما يكتب؛ لأنه يريد أنْ يقول لك شيئًا، وقد يكون هذا الشيء عظيمًا فيطيل فيه إطالة حسنة، وقد يكون هذا الشيء يسيرًا فيوجز فيه إيجازًا بديعًا، وليس هو إذن من عبيد الألفاظ، وإنما هو من أهل الرأي، ولكنه مع ذلك يعنى باللفظ والأسلوب عناية خاصة لا يشاركه فيها أحد، وقد يكون من العسير جدًّا أنْ يشاركه فيها إنسان، فأنت لا تقرؤه في سهولةٍ ويسر، وأنت مضطر إلى أنْ تحتمل شيئًا من العناء قليلًا أو كثيرًا لتفهم عنه وتصل إلى ما يريد، أما منذ حين فقد كنت تحتمل هذا العناء في أسلوب الأستاذ وحيد، فقد كان هذا الأسلوب شديد الالتواء، فيه تعرج وانعطاف، وفيه انثناء وانحناء، وقد كنت تجد الضمائر فتبحث لها عن المراجع ولا توفق لها إلا بعد شيءٍ من الجهد، ولو أنك من الذين يقرءون اللاتينية واليونانية القديمة، لشبهت لك جمل الأستاذ وحيد في طوره الأول بجمل هاتين اللغتين اللتين يريد منطقهما أنْ يكثر فيهما التقديم والتأخير، حتى إنَّ فهمهما يصبح أقرب إلى حل المسائل الحسابية منه إلى فهم الكلام المألوف.

كنت أفكر كثيرًا في اللاتينية واليونانية حينما كنت أقرأ فصول الأستاذ وحيد في طوره الأول، وكنت «أبني» كلام الأستاذ وحيد كما «يبني» الطلاب جملهم اللاتينية حين يريدون أنْ يترجموها، أو قل حين يريدون أنْ يفهموها، ومعنى هذا البناء في اصطلاح الذين يدرسون اللاتينية واليونانية، هو هدم الجملة التي وضعها الكاتب وإقرار الألفاظ في مواضعها كما يريد الفن، بحيث يوضع المبتدأ في أول الجملة، ثم يليه الفعل، ثم يليه المفعول وما يشبهه على النحو الطبيعي.

كنت أبني جمل الأستاذ وحيد فأرتبها كما يريد النحو، لا كما يريد فن الأستاذ، وكنت أجتهد في تلمس النكت الفنية التي حملت الأستاذ على أنْ يقدم ويؤخر، ويدور بمعناه دورانًا يتعب القارئ ويشق عليه، فكنت أظفر بهذه النكت أحيانًا وأخطئها أحيانًا أخرى، ولكني كنت أجد في الحالين لذة وفكاهة، وكنت أقول في نفسي: إنَّ عقل الأستاذ وحيد عقل لاتيني ركب في شخص عربي.

ولعلي أذكر أنَّ كثيرًا من الناس كانوا يجدون ما كنت أجد من المشقة في فهم الأستاذ وحيد، وكانوا يجدون ما كنت أجد من الفكاهة واللذة في تحليل جمله كما نقول نحن، أو في «بنائها» كما يقول طلاب اللاتينية واليونانية.

ولعلي أذكر أني حاولت تقليد الأستاذ وحيد واجتهدت في ذلك فلم أظفر بشيء، ولم يقدر الله لي هذا الفوز، ولكنه قدره لغيري، فاستطاع اثنان أو ثلاثة أنْ يقلدوه فيحسنوا تقليده، ولكنهم كانوا مقلدين؛ أي متكلفين لا يصدرون عن طبع ولا يجرون مع سجية، فلم يتح لهم جمال الصنعة الوحيدية الحرة.

ومهما أنس فلن أنسى مقالًا نشرته الأهرام للأستاذ وحيد في حوار الأحرار الدستوريين، أراد صاحبه الجد فكان آية الفكاهة، وكان عنوانه: «ما قول فئة ما قولها؟» وقد أراد كُتَّاب «السياسة» جميعًا يومئذ وأنا منهم أنْ يردوا على الأستاذ وحيد، فأعياهم ذلك ولم يوفق له واحد منهم، ثم انتدب صديقنا الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة فأجاب الأستاذ وحيد بمقال عنوانه: «ها قول فئة ها قولها.» ولقد أتقن الأستاذ دسوقي أباظة تقليد صاحبه يومئذ حتى خدعني عن نفسه، وحتى خيل إليَّ أنَّ وحيدًا قد رد على وحيد، ولست أدري أكان جادًّا أم مازحًا ذلك الذي زعم لي أنَّ الأستاذ وحيد قد أعجب بهذا الفصل حين قرأه، واعترف بأن في «السياسة» قومًا يحسنون الكتابة أو اعترف بشيءٍ يشبه هذا.

ولكني قلت: إنَّ أسلوب الأستاذ وحيد ظاهرة غريبة في هذا العصر، ويجب أنْ أتم تفسير هذا الرأي؛ فليست غرابة أسلوبه في التقديم والتأخير والتعريف والتنكير والتأنيث والتذكير وإرجاع الضمير، بل هي في ذلك كله وفي شيءٍ آخر، في تخير اللفظ الغريب الذي لم يألفه الناس أو لم يسمعوه، فتراه يبحث عن ألفاظٍ لم يسمع بها أحد من قبل، وتراه يوفق لهذه الألفاظ في معاجم اللغة فيسرع إلى اصطناعها وإذاعتها، ويُكره قراءه على أنْ يعرفوها ويصطنعوها، ثم لا يكتفي بالغوص على الألفاظ الغريبة، وإنما هو يغوص على الصيغ والأشكال أيضًا، فيستعمل الصيغ القياسية إذا كان الناس قد ألفوا الصيغ السماعية، ويلجأ إلى السماع إذا كان الناس قد ألفوا القياس، وأكبر ظني أنه يكد نفسه، ويشق عليها في البحث عن هذه الألفاظ والصيغ، وأكبر ظني أنه يرى هذا المثل الأعلى في الفن من جهة، ويراه وسيلة إلى نشر اللغة وإذاعتها من جهةٍ أخرى، وأكاد أقدر أنه يكتب كما يكتب الناس أول الأمر، ثم يترجم هذه اللغة السهلة المألوفة إلى لغته الغريبة النادرة، على أنَّ أسلوب الأستاذ وحيد قد تطور في هذه الأيام الأخيرة تطورًا شديدًا، تطور في شكله وصورته كما تطور في معناه وموضوعه وغايته، فاستقامت الجمل، واستقرت الألفاظ في مواضعها، وقلت الضمائر ورجعت إلى مراجعها المألوفة، وعرف المعرف ونكر المنكر، ثم اشتد البحث عن اللفظ الغريب والصيغ النادرة، فقربت المسافة بين الأستاذ وحيد وبين أصحاب الرجز من الأعراب، كرؤبة والعجاج وذي الرمة والشماخ ومن إليهم.

وإلى هذا التطور في الشكل والصورة تطور الأسلوب في الموضوع والغاية، فقصد الأستاذ وحيد إلى الهزل وافتن في المزاح، وكأن هذا الأسلوب كان قد خلق لهذه الغاية، فإن الذين يحبون الأستاذ، والذين يكرهونه، والذين يشاركونه في الرأي، والذين يخالفونه فيه، والذين يجدونه واضحًا جليًّا، والذين يجدونه عويصًا بويصًا، كل هؤلاء يقرون لأسلوبه في هذه الأيام، وبعبارةٍ أدق في هذه الأسابيع الأخيرة، بالظرف وخفة الروح، نعم، خلق أسلوب الأستاذ وحيد للفكاهة لا للجد، وليس هذا غريبًا، فإنك لا ينبغي لك أنْ تكلفني مشقة التأويل والتحويل، وجهد التقديم والتأخير إلا إذا كنت تكافئني على هذه المشقة، وتثيبني على هذا الجهد، وقد تعودنا ألا نرى في الجد مكافأة ولا ثوابًا، وإنما المكافأة الحلوة والثواب اللذيذ هو هذه الفكاهة تسليك وتلهيك وأنت محزون مشغول، وتحملك على أنْ تسيغ الجد ضاحكًا وإنْ كان مرًّا ممعنًا في المرارة، وأي الناس يستطيع أنْ يجحد ظرف الأستاذ وحيد في استكشاف كلمة «الألعبان» و«الفنخير» و«الفشوش»! وأي الناس يستطيع أنْ يجحد ظرفه حين يفسر هذه الكلمات على نحو ما تفسرها معاجم اللغة، ولكنه يتخذ سعدًا موضوعًا لهذا التفسير! وأنا أريد أنْ أعود إلى الألعبان بعد حين، وأي الناس يستطيع أنْ يجحد ظرف الأستاذ وحيد في هذا الإيجاز البديع الذي يوفق له أحيانًا توفيقًا غريبًا، فيكتب المقال لا يتجاوز السطر والسطرين وإنَّ فيه لشيئًا كثيرًا، وإنَّ القارئ ليقرأ فإذا هو قد حفظه عن ظهر قلب، ولقد يستطيع الناس أنْ يقولوا في الأستاذ وحيد ما يشاءون، ولكنهم لن يستطيعوا أنْ ينكروا أنه مرسل الأمثال في هذه الأيام، أليس هو الذي أرسل هذا المثل البديع «أما ألعبان!»

وقد قلت: إني أريد أنْ أعود إلى «الألعبان» فأنا أخالف الأستاذ وحيد في ترجمتها إلى الفرنسية، لا لأن هذه الترجمة خاطئة، فهي ترجمة حرفية صحيحة؛ بل لأنها لا تؤدي في الفرنسية ما نفهم من اللفظ العربي، فنحن لا نفهم من لفظ الألعبان كثير اللعب، سواء أراد الأستاذ وحيد أو لم يرد، وسواء أرادت المعاجم اللغوية أم لم ترد، وإنما نفهم رجلًا يسرف في اللعب المضحك، ويسرف فيه حتى يُسلي ويلهي ويبعث على الإغراق في الضحك، وواضح أنَّ لفظ Grand Joueur لا يؤدي هذا المعنى، وما رأي الأستاذ وحيد في أنْ نترجم هذه الكلمة بلفظ Pitre فهو — فيما أرى — أوفق الألفاظ للدلالة على ما نفهمه من لفظ «الألعبان»، فهو يدل بالدقة على ما يفهمه الناس من لفظ «بلياتشو»، أليست هذه الترجمة أدق وأوفى؟!

واختيار لفظ الألعبان هذا مظهر لذوق الأستاذ وحيد، ويجب أنْ نعترف بأن هذا الذوق رقيق دقيق، أو قل هو دقيق بقيق، فأنت تجد في القاموس ألفاظًا كثيرة مشتقة من اللعب تدل على هذا المعنى نفسه، تقول رجل تَلْعاب وتِلْعاب وتَلْعابة وتِلْعابة بفتح التاء وكسرها، وللكلمة وجوه كثيرة كلها غريب وكلها قوي، ولكن أقربها إلى الظرف والفكاهة هذه الصيغة التي اختارها الأستاذ وحيد، صيغة «الألعبان»، ولعل زيادة الألف والنون هي التي جعلت هذا اللفظ خفيفًا سائغًا محببًا إلى الآذان جاريًا على الألسنة.

ولست أريد أنْ أترك أسلوب الأستاذ وحيد دون أنْ أذكر هذه البطاقات Billets التي أخذ يرسلها منذ حين إلى الأخبار يضمنها أنباء فكاهية عن سعد، وهي تذكر ببطاقات أنطوان التي يرسلها إلى «الجورنال» كل يوم من ملاعب التمثيل.

وجملة القول في أسلوب الأستاذ وحيد أنه ظريف كل الظرف، إذا ذهب به الكاتب كما يذهب الآن مذهب الفكاهة والهزل، فأما إنْ قصد به إلى الجد فذلك شيء آخر.

•••

ولندع أسلوب الأستاذ وحيد على كرهٍ منا لننتقل إلى مجلة «الجديد»، وأؤكد لعزمي أني شديد الرغبة في أنْ أتحدث عن «الجديد»، وشديد الحرص بنوعٍ خاص على أنْ أقرأه وأتدبره، فقد يكون «عزمي» صديقًا لي، ولكني لا أفكر في صداقته حين أكتب، وإنما أفكر في شيءٍ آخر يصل بينه وبين الذين يقرءونه من أحبائه وأعدائه، وهو أنه خفيف الروح جذاب شيق التفكير، وأي الناس لا يحب أنْ يقرأ فصلًا تظهر فيه خفة الروح، ويظهر فيه تفكير شيق قوي!

لو أني أردت أنْ أميز عزمي من الكُتَّاب السياسيين — فعزمي لا يتشدق بالأدب ولا يتمدح بأنه أديب، ولا يلصق نفسه بالأدباء إلصاقًا — لميزته بخفة روحه، وميله إلى الطرافة والابتكار، ولعل أحسن مميز له ولشخصيته الكتابية بنوعٍ خاص هو اسم مجلته «الجديد»، فعزمي جديد حين يتكلم، جديد حين يكتب، جديد حين يفكر، هو جديد في لفظه ومعناه.

وما رأيك في هذه الثقافة «البيضاء المتوسطة» التي تجدها مرات في مقدمة مجلته، والتي يترجم بها اللفظ الفرنسي: Culture Mediteraneenne، يريد ثقافة الأمم التي عاشت حول البحر الأبيض المتوسط، أراد أنْ يعبر عن هذه الثقافة تعبيرًا موجزًا شاملًا فجعلها بيضاء متوسطة، كما أنَّ الناس جعلوا البحر أبيض متوسطًا.
هذا تعبير مترجم، وهو جديد كعزمي، ولست أخفي على عزمي أني أقبل لفظ «الثقافة» وأقرأه وأعين على إذاعته واستعماله، ولكني لا أحب هذه «البيضاء المتوسطة»، وأستطيع أنْ أسمي ثقافته البيضاء المتوسطة هذه ثقافة يونانية رومانية، فقد يكون من الحق أنَّ الحضارة نشأت في مصر ونقلها الفنيقيون إلى اليونان، ولكن هناك حقًّا آخر لا شك فيه قد يغضب المتعصبين للشرق، ولكن هذا لا يغير منه شيئًا، هذا الحق هو أنَّ الثقافة البيضاء المتوسطة ليست شيئًا آخر غير الثقافة اليونانية اللاتينية في عصرها القديم والحديث، فلنسمِّها إذن بهذا الاسم، فهو صحيح، وهو خفيف على السمع، وهو بريء من التكلف الذي نجده في هذا البياض والتوسط، ولكن عزمي جديد يشذ عن المألوف دون أنْ يشذ عن هذا الشذوذ! وهو يفكر بالفرنسية، فإذا كتب في العربية فهو إنما يترجم إليها، ولعلك تذكر له «منطق الأشياء» و«طبيعة الأشياء» يريد أنْ يترجم من الفرنسية La logique des choses. La nature de choses.
ولعلك تذكر له «المعلومة الأولى» و«المعلومة الثانية» يريد أنْ يترجم La donnée التي هي ترجمة فرنسية للكلمة اللاتينية Data.

كل شيء عند «عزمي» جديد، وقد يغرق أحيانًا في الجدَّة فيجعل على نفسه سبيلًا، ولكن الإنصاف يقضي بأن نقول: إنه لا يتكلف هذا تكلفًا، لا يقصد إليه حبًّا في البدع، وإنما هو مضطر إليه اضطرارًا، كأنه قد فقد طبيعته القديمة في التفكير والتعبير، واستبدل منها هذه الطبيعة الفرنسية والجديدة، هناك خطأ في التعبير يمضك ويثقل عليك حين تلقاه، وهناك خطأ آخر يحملك على الابتسام، وربما بعثك إلى الضحك والإغراق فيه، ومن هذا الخطأ اللغوي المضحك الخفيف، خطأ عزمي الذي يضطر إليه حين يترجم عن الفرنسية، على أني لا أريد أنْ أطيل في هذه الملاحظات العرضية، فلنهجم على الموضوع هجومًا، ولنهنئ عزمي بهذه المجلة المصرية الراقية التي كان المصريون وما زالوا في حاجةٍ إليها.

ولكن ما موضوع هذه المجلة؟ كنت أحب أنْ يكون الأدب من موضوعاتها؛ لتكون مجددة في الأدب كما هي مجددة في السياسة وفي غيرها من فروع الحياة، ولكني لم أرَ إشارة إلى الأدب في مقدمة عزمي، أذلك لأنه لا يتكلف الأدب ولا يدعي العلم به؟ ولكنه لن يكتب مجلته وحده، ولن يعوزه الأعوان على التجديد في الأدب، وإذن فليفتح عزمي للأدب بابًا في مجلته، فليست حاجة الناس إلى الأدب أقل من حاجتهم إلى السياسة وما يشبهها.

وهل يغضب عزمي إذا أخذته بشيءٍ كنت أحب ألا آخذه به، ذلك أنه يذكر الصلات بين مصر وغيرها من البلاد العربية، فيذكر الجوار واللغة وفعل التاريخ، وما فعل التاريخ هذا؟ وما الذي يريده عزمي؟ أيريد الفتوح واتصال العلاقات السياسية؟ ولأكن صريحًا، ولنسأله أين الصلات الدينية، ولِمَ لا يذكرها؟ ولِمَ يدمجها إدماجًا فيما يسميه فعل التاريخ؟

ولألاحظ ملاحظة أخرى على عزمي، فهو يريد أنْ يكون التعليم الأولي في مصر مدنيًّا خالصًا لا صلة بينه وبين الدين، وهذا رأي جديد له أنصاره ومؤيدوه، ولست أناقش عزمي في حسنه أو قبحه، ولكني ألفت عزمي إلى أنَّ تحقيق هذه الفكرة يستلزم تحقيق فكرة أخرى، وهي أنْ تكون الدولة مدنية ليس لها دين رسمي، فأما أنْ تكون الدولة مسلمة أو مسيحية ويكون التعليم مدنيًّا خالصًا، فذلك شيء لا يستقيم في «منطق الأشياء»!

أضف إلى هذا أنَّ عزمي معتدل في السياسة، فهو يريد أنْ تتحقق آمالنا السياسية على اختلافها في تطورٍ هادئ، ولكنه متطرف في غير السياسة، فهو يريد ثورة اجتماعية خلقية، ولعل هذا هو الذي حمله على أنْ يطالب بالتعليم المدني دون أنْ يطالب بالفصل بين الدولة والدين، ولست أخفي على عزمي أني أكره الثورة الاجتماعية، كما يفهمها هو وكما يصفها كرهي للثورة السياسية، ولا أستطيع أنْ أتصور بلدًا يثور أهله على أخلاقهم وعاداتهم ونظمهم الاجتماعية، دون أنْ يثوروا على نظمهم السياسية أيضًا، فليست النظم السياسية شيئًا مستقلًّا عن النظم الأخرى، وإنما هي حلقة من حلقات هذه النظم، ولولا اضطراب في نظمنا الاجتماعية والخلقية لما اضطربت نظمنا السياسية، ولا أكاد أفهم في وضوح هذه الحياة الدستورية البرلمانية التي يريدها عزمي لمصر، على أنْ تكون مرنة تتشكل بمقدار ما لنا من رقي أو انحطاط، فما رأي عزمي في الدستور الذي ينظم حياتنا الآن، أملائم هو لهذه الحياة أم مخالف لها؟ أكثير هو علينا أم قليل؟ أفي حاجة هو إلى أنْ ينقص أم في حاجةٍ إلى أنْ يزاد؟

أفهم أنَّ عزمي كاتب سياسي، وأفهم أنَّ الكُتَّاب السياسيين يحبون المرونة، ويؤثرون العبارات التي تضطرب بين الوضوح أو الغموض، ولكن عزمي يكتب للمستنيرين؛ أي لقوم يحبون أنْ يفهم بعضهم بعضًا، وإذن فليكتب لهم لغة العقليين لا لغة السياسيين، ولقد أريد أنْ تكون آراء عزمي مبسوطة في شكل أوضح وأجلى مما بسطت في المقدمة.

ومهما يكن من شيءٍ فلن يجد عزمي من هؤلاء المستنيرين الذين يكتب لهم إلا عونًا وتأييدًا، وليس معنى هذا أنهم سيشاركونه في كل رأي، وإنما هم يؤيدونه ويعينونه حتى حين يخالفونه في الرأي، وأنا أعلم أنَّ صاحب «الجديد» سيكون جديدًا من هذه الناحية، فلا يغضبه نقد، ولا يسوءه خلاف، وعلى هذه القاعدة أتقبل مجلته، وأعده بأن أكون أحد المجددين فيها متى أذنت لي الظروف.

•••

لديَّ كتب تختلف طولًا وقصرًا من الأدباء: حسن بهجت، وشديد محمد رضوان، وصادق راشد، وكلها حول نقد الأستاذ الرافعي، فأنا أشكر لهم هذه الكتب، وأعتذر إليهم؛ لأني أريد أنْ أغلق هذا الباب.

أما كتاب العقاد فسأنشره في الأسبوع الآتي، إرضاءً للأديب صادق راشد والعقاد نفسه، إذا كان هذا يرضيهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤