الفصل الثاني والعشرون

في الشعر: وراء الغمام للدكتور إبراهيم ناجي

كان موضوع الحديث يوم الأربعاء الماضي مهندسًا، وموضوع الحديث اليوم طبيب، فما زلنا إذن بين العلماء الذين لم يصرفهم العلم عن الأدب — أستغفر الله — بل الذين أغراهم العلم بالأدب، فأقبلوا عليه وزاحموا فيه أصحابه الذين أنفقوا فيه حياتهم، ووقفوا عليه جهودهم، زاحموهم مزاحمة الموفق المنتصر الذي لم يظفر من النجح بحظٍّ قليل.

ويظهر أنا لن نفرغ من العلماء الذين أحبوا الأدب وكلفوا بالشعر، إذا فرغنا من الحديث عن ديوان شاعرنا الطبيب، فغيره وغير صاحبه المهندس من غذى عقله بالعلم، وقلبه بالشعر وقدَّم إلى الناس من نتائج علمه ما ينفعهم، ومن نتائج شعره ما يرضيهم من الغناء، وكم أتمنى أنْ أرى بين الأدباء من لا يزهدهم الأدب في العلم، أو من يغريهم الأدب بالعلم، فإني أستطيع أنْ أتصور عالمًا يستغني بالعلم، ولا يحفل بأن يشارك في الأدب، أو يكون بين المنتجين من الكُتَّاب والشعراء، ولكني لا أستطيع أنْ أتصور أديبًا يستغني عن العلم ويستقل بالشعر أو النثر استقلالًا تامًّا — كما يقول أصحاب السياسة — دون أنْ يحتاج إلى معونة العلم، ومعونته الدقيقة التي تدفعه إليها الضرورة الملجئة كلما هم أنْ يكتب أو ينظم الشعر، بل أنا أزعم أنَّ هؤلاء الأدباء الذين يغرهم الأدب ويزدهيهم ويغنيهم بنفسه عن العلم، يدفعون إلى الإنتاج الرديء دفعًا؛ لأنهم يجهلون العلم فيجهلون الحياة التي يجب أنْ تكون موضوعًا لأدبهم منظومًا كان أو منثورًا، ولكن لندع الاستطراد ولنعد إلى شاعرنا الطبيب؛ لنهدي إليه أجمل التحية وأحسن الثناء، ولنعرف له هذا البلاء الحسن الذي أبلاه في خدمة آلهة الشعر في وقتٍ قَلَّ فيه الخدام المخلصون لهؤلاء الآلهة — كما كان يقول اليونان — أو لهؤلاء الشياطين — كما كان يقول العرب — على أننا إنْ أثنينا على شاعرنا الطبيب لحسن بلائه وصدق نيته في العناية بآلهة الشعر أو شياطينه، ووقفنا عند ذلك، نظلمه أشنع الظلم، ونجور عليه أقبح الجور، فليس الدكتور إبراهيم ناجي رجلًا حسن البلاء صادق النية في حب الشعر فحسب، وإنما هو فوق هذا كله موفق إلى حدٍّ بعيد فيما حاول من إرضاء الشعر وأصحابه، موفق فيما قصد إليه من المعاني، موفق فيما اصطنع من الألفاظ، وموفق فيما اتخذ من الأساليب، معانيه جيدة تصل أحيانًا إلى الروعة، وإنْ كانت تنتهي إلى الابتذال، وألفاظه جيدة قد يعظم حظها من المتانة والرصانة، وقد تكره أذن السامع على الالتفات والإعجاب والشعور بهذه اللذة الموسيقية التي يشعر بها الناس أحيانًا بآذانهم، وإنْ لم تصل إلى عقولهم، وأساليبه جيدة أيضًا عظيمة الحظ من الصفاء، لا يفسدها العوج ولا يفسدها الالتواء في كثيرٍ من الأحيان، وإنْ كنا سنقف مع الشاعر وقفات عند ألفاظٍ لا تخلو من خطأ، وأساليب لا تبرأ من عوج، ومعانٍ لعلها تبعد عن الصواب، ولكن الذي يطالب الشاعر بالإجادة المطلقة في الألفاظ والمعاني والأساليب يكلفه شيئًا عسيرًا لا يتاح إلا لجماعة معدودين من الشعراء، الذين ميزهم النبوغ وسما بهم إلى حيث لا يكاد يرقى إليهم النقد إلا في مشقةٍ وجهدٍ وعسرٍ شديد.

ونحن نكذب شاعرنا الطبيب إنْ زعمنا له أنه نابغة، بل نحن نكذبه إنْ زعمنا له أنه عظيم الحظ من الامتياز، وإنما هو شاعر مجيد تألفه النفس، ويصبو إليه القلب، ويأنس إليه قارئه أحيانًا، ويطرب له سامعه دائمًا، فإذا نظرنا إليه نظرة الناقد المحلل الذي يريد أنْ يقسم الشعر أنصافًا وأثلاثًا وأرباعًا — كما يقول الفرنسيون — لم يكد يثبت لنا أو يصبر على نقدنا، وإنما يدركه الإعياء قبل أنْ يدركنا، ويفر عنه الجمال الفني قبل أنْ يفر عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل.

هو من هؤلاء الشعراء الذين يحسن أنْ يُقرءوا في رفق؛ لأنهم قد فطروا على رقةٍ لا تحتمل العنف وشدة الضغط، هو من هؤلاء الشعراء الذين يحسن أنْ نستمتع بما في شعرهم من الجمال الفني، كما نستمتع بجمال الوردة الرقيقة النضرة، دون أنْ نشط عليها بالتقليب والتعذيب، هو شاعر هين، لين، رقيق، حلو الصوت، عذب النفس، خفيف الروح، قوي الجناح، ولكن إلى حد، لا يستطيع أنْ يتجاوز الرياض المألوفة، ولا أنْ يرتفع في الجو ارتفاعًا بعيد المدى، وإنما قصاراه أنْ يتنقل في هذه الرياض التي تنبت في المدينة أو من حولها، والتي لا تكاد تبعد عنها كثيرًا، وهو إذا ألمَّ بحديقةٍ من الحدائق أو جنةٍ من الجنات لا يحب أنْ يقع على أشجارها الضخمة الشامخة في السماء، وإنما يحب أنْ يقع على أشجارها المعتدلة الهينة، ويتخير من هذه الأشجار أغصانها الرطبة اللدنة التي تثير في النفس حنانًا إليها، لا إكبارًا لها ولا إشفاقًا منها، هو شاعر حب رقيق، ولكنه ليس مسرفًا في العمق، ولا مسرفًا في السعة، ولا مسرفًا في الحب الذي يحرق القلوب تحريقًا ويمزق النفوس تمزيقًا، شعره أشبه بما يسميه الفرنجة موسيقى الغرفة منه بهذه الموسيقى الكبرى التي تذهب بك كل مذهب، وتهيم بك فيما تعرف وما لا تعرف من الأجواء.

شعره كهذه الموسيقى التي يفسدها الفضاء الطلق وتضيع في الميادين الواسعة، وتجود كل الجودة، وتحسن كل الحسن حين تغلق الأبواب، وتُرخى الأستار، ويخلو النجي إلى النجيِّ، ويفرغ الصفي للصفيِّ، ويتمتع الحبيب بقرب الحبيب.

وهذا — فيما أظن — هو أعظم ما بينه وبين شاعرنا المهندس من الفروق، فالأستاذ علي محمود طه مهيأ لأن يكون جبارًا إنْ عُنِي بفنه وفرغ له وجد في طلب الإجادة والإتقان، أما الدكتور إبراهيم ناجي فمهيأ لأن يكون هذا الشاعر الوديع الذي لا يتعبنا ويعنينا، ولا يكلفنا فوق ما نطيق من المشقة والجهد، وإنما يريحنا إنْ تعبنا ويرفه عنا إنْ شقينا، ويثير في نفوسنا هذه الأغاني الهادئة الوادعة التي تهيئنا لأحلام جميلة عذاب، صوته يرن في آذاننا ونفوسنا رنينًا حلوًا على حين يدوي صوت صاحبه في آذاننا ونفوسنا دويًّا يخرجنا عن أطوارنا.

ثم في شعر الدكتور ناجي بعد ذلك هَنات أحب أنْ يلتفت إليها، ويُعنى بإصلاحها عناية شديدة متصلة، فلست أعرف شعرًا أشد حاجة إلى أنْ يبرأ من العيب من هذا الشعر الوادع الذي يمتاز بالرقة والرفق، والذي يتحدث إلى النفوس المحزونة، والقلوب المكلومة، والضمائر التي تريد أنْ تستريح.

وأول هذه العيوب شيء من التكلف والحرص الظاهر على إقامة الوزن، أو على إقرار القافية، أو على مجاراة جماعة من الشعراء والمفكرين، وسأعرض بعد قليل للتكلف الذي يتصل بالوزن أو الذي يتصل بالقافية، ولكني أريد قبل ذلك أنْ أقف وقفة قصيرة جدًّا عند هذا التكلف الذي يتصل بمجاراة الشعراء والمفكرين، والذي يجعلنا نحسن في بعض القصائد أنَّ الشاعر لم ينظمها إلا ليقال إنه نظمها في هذا الموضوع أو ذاك، أو يجعلنا نحس أنَّ الشاعر قد نظمها وهو غريب عن موضوعها أو غريب عن هذا النحو من النظم، لم يهيأ له وما ينبغي أنْ يشقى به أو يدفع نفسه إليه، وانظر إلى هذه القصيدة التي سماها الشاعر «قلب راقصة» فقد تعجب كثيرًا من الناس وتروقهم، ولعلها تعجب الشاعر نفسه وتروقه، ولكني أؤكد للشاعر والذين يعجبون بهذه القصيدة من شعره أنها على ما قد يكون فيها من جمال اللفظ وحسن الانسجام أحيانًا ليست شيئًا، فليس فيها جديد ما، وإنما هي كلام مألوف قد شبع الناس منه حتى كاد يدركهم الملل، كان جديدًا في أواسط القرن التاسع عشر حين أخذ بعض الكُتَّاب والشعراء يحسن شيئًا من الإشفاق على الراقصات، وعلى بنات اللهو، وحين جعل «ألكسندر دوماس» العطف على هؤلاء النساء والرثاء لحالهن بدعًا من البدع وفنًّا من فلسفة الأدباء، ثم كثر هذا الكلام وشاع وملأ الأفواه والأسماع حتى زهد الناس فيه وانصرفوا عنه.

وفي القصيدة وصف للحانة لا جديد فيه ولا طريف، ولعل الشاعر يحس ذلك، وهو على كل حال يضطرنا إلى أنْ نحسه في بعض شعره، فانظر إليه كيف يبتدئ القصيدة:

أمسيت أشكو الضيق والأينا
مستغرقًا في الفكر والسأم
فمضيت لا أدري إلى أين
ومشيت حيث تجرني قدمي
فرأيت فيما أبصرت عيني
ملهى أعد ليبهج الناسا
يجلون فيه قرائح الحسن
ويباع فيه اللهو أجناسا
بغرائب الألوان مزدهر
وتراه بالأضواء مغمورا
فقصدته عجلًا ولي بصر
شبه الفراشة يعشق النورا

أترى في هذا الكلام معنًى جديدًا؟ بل أترى في هذا الكلام معنًى مألوفًا صور للناس في هذه الصورة الطريفة الرائعة التي ينتظرها الناس من الشعراء حين يتحدثون إليهم بالمعاني المألوفة؟ كلا، إنما أحس الشاعر ضيقًا وسأمًا، فخرج يمشي ليسري عن نفسه الهم، فأبصر مكانًا مضيئًا من أمكنة اللهو فدعاه الضوء، فدخل إلى هذا الملهى.

هذه هي المعاني التي اشتملت عليها هذه الأبيات الستة، لا جديد فيها — كما ترى — ولا غرابة، ولا جديد في الألفاظ والصور التي أدى بها هذه المعاني، بل دفع فيها الشاعر إلى شيءٍ من التكلف أو من الخطأ أو إلى شيءٍ لا أدري ما هو، ولكنه لا يحسن من الشعراء، فانظر إليه وقد أمسى يشكو الضيق والأين وهو مستغرق في الفكر والسأم، فأما الضيق والسأم فقد نفهمهما من الشاعر، وقد نفهم أنْ يشكو التعب ولا سيما إذا كان طبيبًا قد أنفق ساعات طوالًا يلقى المرضى ويفحصهم، ويصف لهم الدواء، ويسمع منهم ما لا يحب الشعراء أنْ يسمعوه، ولكن الذي لا يستقيم للشاعر المجيد هو الاستغراق في الفكر والسأم معًا، فالمفكر لا يسأم، والسئم لا يفكر؛ لأن التفكير يشغل صاحبه حتى عن الضيق والتعب والسأم؛ ولأن السأم لا يمكن صاحبه من التفكير، ولا يخلي بينه وبينه، وعلى كل حال فقد أمسى الشاعر ضيقًا متعبًا مغرقًا في السأم والتفكير، فخرج لا يدري إلى أين، ومضى حيث تجره قدمه، فانظر إلى هذه الصورة التي لا تلائم شعرًا ولا تلائم لغة، فالقدم لا تجر صاحبها، وإنما تحمله، وتحمله متثاقلة مكدودة إنْ لم يتح لها النشاط، وإنما يجر صاحب القدم قدمه إذا خرج فاترًا مكدودًا لا يقوى على المشي، ولكن الشاعر أراد قافية تلائم السأم، فجعل قدمه تجره، على حين كان ينبغي أنْ يجرها هو، فإذا لاحظت أنَّ «السأم» نفسها قلقة في موضعها لا يستقيم مع التفكير، ولا سيما بعد أنْ ذكر الضيق والأين، عرفت إلى أين ينتهي تكلف النظم بالشعراء المجيدين أحيانًا!

ثم انظر إلى قوله:

فرأيت فيما أبصرت عيني
ملهى أعد ليبهج الناسا

فالشطر الثاني كله لا معنى له، ولا امتياز فيه، و«فيما أبصرت عيني» غريبة؛ لأنها تشعر أنَّ هذا الملهى كان شيئًا ضئيلًا ضائعًا بين ما رأى من الأشياء، وأكبر الظن أنَّ هذه الأنوار المتألقة التي تعلن عن الملاهي خليقة ألا تجعله ضئيلًا يستخفي بين الأشياء التي ترى، بل عظيمًا يصرف عما حوله من الأشياء، ولكنه أراد أنْ يقيم الوزن، فأكره على هذه الجملة إكراهًا، وأراد أنْ يقيم الوزن والقافية فأكره على قوله: «أعد ليبهج الناسا.» فالملهى لا يُعد لشيءٍ آخر، ولكن «الناس» كلمة تلائم «الأجناس»، وتعقد معها شيئًا من النظام، فاحتال الشاعر لهذه الكلمة حتى جعلها قافية!

وانظر إلى كلمة «الحسن» في البيت الذي يأتي بعد هذا، وإلى ما بينها وبين «عيني» من هذه الملاءمة الغريبة التي يتورط فيها شعراؤنا المعاصرون كثيرًا، ثم انظر إلى قوله:

بغرائب الألوان مزدهر

فسترى أنه رفع «مزدهر» هذه، وكان الخير في نصبها؛ لأن الملهى منصوب، فكان يحسن أنْ تقع منه موقع النعت، ولكنه قطع الكلام واستأنفه لا لشيء إلا ليلائم بين «مزدهر» هذه، وبين قوله في البيت الذي يليه: «ولي بصر».

أترى إلى كل هذه الألوان من التكلف كيف دفع الشاعر إليها في غير حاجةٍ، لولا أنه يريد أنْ يقول الشعر فيما لا يستقيم له أنْ يقول الشعر فيه.

وامض في قراءة القصيدة، فستنتقل من كلامٍ مألوف إلى كلامٍ مألوف، وستمر بضعفٍ لتتجاوزه إلى ضعفٍ آخر، حتى تصل إلى هذين البيتين الغريبين حقًّا:

يا للقلوب لملتقى اثنين
لا يعلمان لأيما سبب
جمعتهما الدنيا غريبين
فتآلفا في خلوة عجب

فالملاءمة بين «اثنين» و«غريبين» ثقيلة في نغمتهما، ولكن ما رأيك في الشاعر الذي يلقى صاحبته ويلح في لقائها، حتى إذا ظفر به أراد أنْ تضرب له موعدًا وألح في ذلك حتى فعلت، ثم التقيا بعد انتظارٍ وخوف يشبه اليأس، ثم هو بعد ذلك لا يدري لم يلقاها كما أنها لا تدري لم تلقاه؟

هذا كثير، لا مصدر له إلا أنَّ الشاعر تكلف ما لا يحسن، ودفع نفسه إلى موطنٍ لم يتعود الاضطراب فيه.

وانظر بعد ذلك إلى هذين البيتين:

عجبًا لقلبٍ كان مطمعه
طربًا فجاء الأمر بالعكس
وأشد ما في الكون أجمعه
بين القلوب أواصر البؤس

فقوله «جاء الأمر بالعكس» كلمة خرجت من الأزهر الشريف، ولست أدري كيف اهتدت إلى شاعرنا الطبيب! وهي على كل حال من أشد الكلام نبوًّا في الشعر، ومنافاة للجمال الفني، ولكن انظر إلى قوله: «وأشد ما في الكون أجمعه.» فكيف تقرأ «أجمعه» أتضم العين أم تكسرها، فأنت إنْ ضممت أرضيت القافية وأغضبت النحو، وأنت إنْ كسرت أغضبت سيبويه وأرضيت الخليل!

ومثل هذا الخطأ ومثل هذا التكلف كثير جدًّا في الديوان، وكان الشاعر يستطيع أنْ يتقيه، وأنْ يبرأ منه لو أنه لم يخرج نفسه عن طورها، ولم يعرض لما لا ينبغي له أنْ يعالجه من الموضوعات، ولو أنه عني باللغة والنحو، وهذه النواحي التي يهملها المحدثون حين يكتبون أو ينظمون، يحسبون أنهم يجددون، وأنَّ التجديد يبيح لهم أنْ يعذبوا اللغة وأنْ يمسخوها، ويجهلون أو يتجاهلون أنَّ أجمل المعاني وأروعها يفسد أقبح الفساد إذا لم يُؤَدَّ في لفظٍ مستقيم جميل، وما أشد ما كنت أحب للشاعر أنْ يعرض عن هذه الفكرة الغريبة التي لا تستقيم للعقل، وهي أنَّ الحنان قد يعظم حتى يتجسم ويصبح شخصًا، في هذا المعنى الغريب نظم الشاعر قصيدة لا أريد أنْ أعرض لها؛ لأني أرى هذا المعنى نفسه يفسدها إفسادًا، فالحنان يعظم حتى يملأ القلب ويغمر النفس، ويؤثر في حياة الإنسان، فأما أنه يتجسم فيصبح شخصًا، فهذا كلام قد يفهمه الشعراء، ولكن فهمه عسير على النقاد.

وهناك أبيات يهمل الشاعر فيها المعاني إهمالًا قبيحًا يضطره إلى التناقض في اللفظ، ويلقي في أنفسنا أنَّ الشاعر لا يحفل بمعاني الكلمات، فانظر إلى قوله: «تخطر والأنظار تحدو الركاب.» فكيف تخطر على حين أنها راكبة! ولنلاحظ أنَّ كل شيء بعد هذا صريح في أنها كانت ماشية، إنما أراد الشاعر أنْ يقول: إنها تخطر والأنظار تتبعها، فجاء بكلمة «الركاب» هذه ليقيم بها الوزن والقافية، حتى إذا بلغ مأربه منها نسيها نسيانًا تامًّا ومشى مع صاحبته الماشية، وهو في قصيدة أخرى يقول: «ورسا رحلي على أرض الوطن.» والرحل لا يرسو، وإنما يحط، وقد حطه الشاعر نفسه في مكان آخر، إنما ترسو السفن. وأظن أنَّ الملاح التائه يعرف ذلك، وإنْ كانت سفينته لم ترسُ بعد.

وانظر إلى قوله:

مرت الساعة والليل دنا
والهوى الصامت يغدو ويروح

فنحن في الليل، أو نحن في المساء غير بعيد من الليل، ولكن الهوى الصامت يغدو ويروح، والغدو لا يكون إلا في الغداة، لا في الليل ولا قريبًا من أول الليل، وإنما أراد الشاعر؛ يذهب ويجيء، فظن أنَّ الغدو والرواح يؤديان معنى الذهاب والمجيء، وكان يستطيع أنْ يقول: يمضي ويجيء، ولكنه محتاج إلى «يروح» لمكان القافية في البيت الذي يأتي بعد ذلك، وهو قوله:

وتلاشت واختفت أجسادنا
واعتنقنا في الدجى روحًا بروح

ولنلاحظ أنَّ كلمة «تلاشت» هذه ليست من كلمات الشعر، وأنها على كل حال أقوى من «اختفت»، فكان ينبغي أنْ تأتي بعدها، لا قبلها، وأنَّ للشاعر وحبيبه جسدين اثنين، لا أجسادًا، ولكن البيت يجب أنْ يقام على كل حال!

أما بعد، فقد كنت أحب أنْ أعرف للشاعر إجادة رائعة في وصف القبر، كهذه الإجادة الرائعة التي وفق لها صاحبه المهندس، ولكن الدكتور إبراهيم ناجي — كما قلت — شاعر هادئ، قوي الجناح إلى حدٍّ بعيد، ولكنه لا يروع.

أما بعد مرة أخرى، فإني آسف أشد الأسف لهذا الإلحاح، ولكني مضطر إليه، فشاعرنا في حاجةٍ إلى أنْ يُعنى بلغته، ولو أني ذهبت أحصي ما لاحظته من الضعف أو الخطأ، لتجاوزت الحد الذي يطيقه هذا الحديث، وأنا بعد هذا كله أتمنى للشاعر توفيقًا ونجاحًا في ديوانه الذي سيهديه إلينا بعد هذا الديوان أكثر مما ظفر به في هذا الديوان الأول، وأحب في آخر هذا الحديث أنْ أسأل عن شيئين: أولهما عنوان الديوان لم أفهمه إلى الآن! وأخشى أنْ يكون العنوان متكلفًا، كما أنَّ كثيرًا من المعاني والألفاظ ومن الأوزان والقوافي متكلف أيضًا.

أما الشيء الثاني الذي أسأل عنه فإني أسوقه إلى صديقنا الصاوي الذي قدم الديوان إلى القراء، فإن في مقدمته جملة قد اختلط أمر النحو فيها اختلاطًا غريبًا، ولعل لصديقنا الأديب مذهبًا جديدًا في تغلب المؤنث على المذكر إذا اجتمعا، فالذوق الحديث يقتضي هذا فيما يقال، ولكن صديقنا لم يراعِ هذا أيضًا، وإنما ترك الأمر فوضى بين المذكر والمؤنث في هذه الجملة التي أرويها لك:

وكأني بإلاهة الحب «الزهرة» وإله الشعر «أبولو» سارا جنبًا إلى جنبٍ يقطعان الأفلاك والأجيال باحثتين عن رجلٍ يعيش بالحب والشعر ويعيش لهما ومن أجلهما، فهو دائمًا المحب الشاعر حتى تجلى لهما من وراء الغمام، وعندئذ تنازعتا عليه.

فالإهة الحب تدعيه لنفسها خالصًا، وإله الشعر ينسبه إلى ملكوته خالصًا، وكيف لي أنْ أنسب ناجي إلى هذه دون تلك.

أرأيت إلى أنَّ صديقنا الصاوي قد جرى مع طبعه أول الأمر ومع طبيعة اللغة فغلب المذكر على المؤنث، ثم لم يلبث أنْ غلبه الذوق الأوروبي الحديث فغلب المؤنث على المذكر، ثم لم يكفه هذا فجعل أبولو مؤنثًا وأشار إليه بتلك! أليس من حق اللغة على الشاعر، ومقدم ديوانه أنْ يعتذرا إليها من بعض ما تورطا فيه من التقصير! وهل يأذن لي صديقي الصاوي في أنْ أذكره بأن «أبولو» لم يكن يحب الزهرة، وإنما كان يحب غيرها من أخواته الإلاهات القديمات!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤