الفصل الثالث والعشرون

أخلاق الأدباء

أما اليوم فأريد أنْ أدع الأدب شعره ونثره؛ لأتحدث قليلًا عن الأدباء، وعن أخلاقهم خاصة، وواضح أني لن أعرض، وما ينبغي لي في هذا الفصل أنْ أعرض لهذه الأخلاق الخاصة، التي تقوم عليها حياة الأدباء إذا خلوا إلى أنفسهم أو اتصلوا بأصحاب مودتهم وحبهم، فهذا شيء قد أعرض له حين يحتاج نقد بعض الآثار الأدبية إلى ذلك، إنما أريد أنْ أعرض لأخلاق الأدباء من حيث هم أدباء، أو لأخلاقهم الأدبية — إنْ صح هذا التعبير — أو لهذه الأخلاق التي تقوم عليها الصلة بينهم وبين قرائهم من ناحية، وبينهم وبين نقادهم من ناحيةٍ أخرى، وبينهم وبين أنصارهم ومنافسيهم من ناحية ثالثة، فقد يظهر أنَّ هذا اللون من ألوان الأخلاق الأدبية عندنا، لا يخلو من طرافة تحتاج إلى أنْ تسجل، وإلى أنْ تفهم، وإلى أنْ يحفظها التاريخ الأدبي للذين سيدرسون حياتنا الأدبية بعد أعوام.

وأخص ما نلاحظه في أخلاق الأدباء هذه طائفة من الخصال لا تسر ولا ترضي، وما نظن الذين سيكتبون عن حياتنا الأدبية، سيعرضون لها إلا مع شيءٍ من الابتسام الذي يصور الإشفاق والرحمة، وشيء غير قليل من الازدراء، فأدباؤنا المحدثون ضعاف، ولا أريد ضعفهم في الأدب، ولا ضعفهم في اللغة، ولا ضعفهم في الشعور، ولا قصورهم عن التصوير، إنما أريد ضعفهم عن احتمال النقد، وعجزهم عن الثبات للنقاد، لا تكاد تمس أحدهم مسًّا رفيقًا حتى تأخذه رعدة كهربائية تضطرب لها أعصابه كلها، ويفسد لها مزاجه فسادًا قبيحًا، ثم تظهر آثار هذا الفساد وذلك الاضطراب فيما يصدر عنه من الأحاديث حين يتحدث إلى أصدقائه في نادٍ من الأندية، وفيما يصدر عنه من الفصول التي يكتبها ويذيعها في الناس، وفيما يصدر عنه من هذا الوحي الخبيث الذي يلقيه في رُوع جماعة من المنتصرين له والمحيطين به، يدفعهم إلى أنْ يذيعوا ما استطاعوا الإذاعة، ويكتبوا ما أطاقوا الكتابة، ويقولوا ما وسعهم القول، كل هذا؛ لأن ناقدًا من النقاد قد مسهم مسًّا رفيقًا، فأخذهم بقصورٍ في الشعور أو قصورٍ في التعبير والتصوير، كأنهم قد أخذوا على أنفسهم، وعلى الحياة، وعلى النقاد عهدًا بأنهم أكبر من الخطأ، وأرقى من الزلل، وأعلى من النقد، وأرفع من أنْ يرقى إليهم ناقد مهما يكن.

ومن يضع نفسه هذا الموضع، ويرى في نفسه هذا الرأي خليق ألا يتصل بالحياة العامة من قريبٍ أو من بعيد، فهذا العهد لا يمكن أنْ يؤخذ على الحياة، ولا على الناس، ولا على النقاد، ومهما يكن الكاتب والشاعر مجيدًا متقنًا أو نابغة فذًّا، فهو إنسان، وهو معرض للنقص، وهو بعيد عن الكمال، وهبه قد بلغ الكمال أو داناه، فالناس لن يؤمنوا له بذلك، لا لأنهم أشرار يحسدونه أو ينفسون عليه؛ بل لأن الطبائع مختلفة، واختلاف الطبائع يستتبع من أجل هذا كله اختلاف الأحكام على الناس، وما يصدر عنهم من الآثار والأعمال.

فمن السخف أنْ يزعم الأديب لنفسه أنه خليق أنْ يظفر برضا الناس جميعًا، أو بحمدهم وثنائهم جميعًا، أو يبرأ من سخط الساخطين ونقد الناقدين ولوم اللائمين، وأظن أنَّ من أوليات الحياة العامة — إنْ صح هذا التعبير — أنْ يوطن الرجل نفسه فيها على أنْ يكون حظه من سخط الناس أعظم جدًّا من حظه من رضا الناس، وعلى أنْ يكون قسطه من النقد أعظم جدًّا من قسطه من التقريظ، ولكن انظر إلى أدبائنا حين يعرض لهم ناقد بما لا يحبون، وأكثرهم لا يحب إلا الثناء، انظر إليهم كيف يستقبلون هذا النقد ضيقين به ثائرين بصاحبه، ثم كيف تفسد له حياتهم فسادًا، وتضطرب له أمورهم اضطرابًا، فإذا هم يشغلون عن الإنتاج، وعن تقويم المعوج من آثارهم بالدفاع عن أنفسهم، كأنهم هوجموا مهاجمة تعرضهم للخطر الذي ليس بعده خطر، وللموت الذي ليس بعده نشور، ومع ذلك فالأمر أيسر جدًّا مما يظنون، وإنما آثار الكاتب والشاعر ملك للجمهور إذا ألقيت إليه، يرى فيها ما يحب من رأي، يرضى عنها إنْ أثارت في نفسه الرضا، ويسخط عليها إنْ أثارت في نفسه السخط، يحبها فيقبل عليها، ويبغضها فينصرف عنها، ما ينبغي لأحدٍ أنْ يجادله في ذلك أو ينكره عليه، والكاتب حر في أنْ يُكبر الجمهور أو لا يكبره، وفي أنْ يرضى عن إقبال الجمهور عليه أو يزدري هذا الإقبال، وفي أنْ يضيق بانصراف الجمهور عنه أو لا يحفل بهذا الانصراف، ولكن الشيء الذي لا ينبغي أنْ يطمع فيه الكاتب أو أنْ تسمو إليه نفسه؛ لأن الطمع فيه إثم، والسمو إليه اعتداء على الحرية المقدسة، هو إكراه الناس على أنْ يقبلوا عليك ويرضوا عنك، وعقاب الناس إنْ هم سخطوا عليك أو انصرفوا عما تقدم إليهم من الآثار، والغريب أنَّ الكُتَّاب والشعراء لا يهدون كتبهم ودواوينهم إلى الناس إهداء، إنما هم يبيعون هذه الكتب بيعًا، ثم هم بعد ذلك يأبون إلا أنْ يدفع الناس لهم الثمن نقدًا وحمدًا، ولا يتحرجون من أنْ يأخذوا الثمن مرتين، ثمنًا يدفعه المشتري عن رضا وهو المال، وثمنًا آخر يجب أنْ يدفعه عن كره وهو الحمد والثناء، وأغرب من هذا أنَّ الكُتَّاب والشعراء يهدون كتبهم ودواوينهم إلى النقاد أو لا يهدونها إليهم، ثم يضيقون بالنقاد أشد الضيق إنْ سكتوا عنهم، ويسخطون على النقاد أقبح السخط إنْ قالوا في كتبهم ودواوينهم ما لا يحبون، وهنا يتعقد خلق الأدباء بعض الشيء، فلا يصبح ضعفًا فحسب، وإنما يصبح ضعفًا واعتداء معًا، هو ضعف؛ لأنهم لا يستطيعون أنْ يصبروا على الحق أو على ما يراه غيرهم حقًّا، وهو اعتداء وطغيان؛ لأنهم يزعمون لأنفسهم على النقاد سلطانًا لم يمنحوه ولا يمكن أنْ يمنحوه، فالناقد كالكاتب والشاعر حر فيما يقول، لا ينبغي لأحدٍ أنْ ينتقص من حريته، أو يفرض عليه ما لا يريد.

وخلقٌ آخر من أخلاق الأدباء في هذه الأيام لا ندري كيف نسميه، ولكن أخص ما يمكن أنْ يوصف به أنَّ أصحابه يحتاجون إلى شيءٍ من الحياء، فهم يهدون إليك الكتاب حتى إذا استيقنوا أنَّ الهدية قد وصلت إليك واستقرت في يدك لم يريحوا ولم يستريحوا حتى تعلن إليهم — أستغفر الله — بل إلى الناس رأيك في هذا الكتاب، فإن لم تفعل نالوك بما استطاعوا من القدح والذم، وأخذوك بما في وسعهم من اللوم والتشهير، وإنْ أعلنت رأيك فلم يعجبهم، أو لم يوافق أهواءهم، فويلٌ لك منهم وويلٌ لهم من أنفسهم.

ويلٌ لك منهم؛ لأنهم ساخطون عليك يحرقونك بنار سخطهم تحريقًا، وويلٌ لهم من أنفسهم؛ لأنهم مشغولون بك وبالنيل منك والنعي عليك عن أنفسهم، وعن أدبهم، وهم كذلك لا يهدون إليك الكتاب وإنما يبيعونه منك بيعًا، وهم لا يبيعونك الكتاب بثمنه الذي يباع به للناس، إنما يبيعونك الكتاب بثمنٍ مستحيل، يبيعونه بحريتك وبإخلاصك وبأخلاقك، يهدون إليك الكتاب، فيحسبون أنهم قد اشتروك بهذه الهدية، يهدون إليك الكتاب، فيحسبون أنهم قد اشتروا رأيك، وخلقك، وصراحتك، وفرضوا عليك أنْ تصبح لهم مادحًا، وعليهم مثنيًا، ألست ترى أنَّ هذا الخلق خطر على الحياة الأدبية حقًّا؟ وأين يكون الحياء إذا لم يكن عند الأدباء؟! وأين يكون الظرف إذا لم يكن عند الكُتَّاب والشعراء؟! وأين يكون اعتدال المزاج واستقامة الخلق الاجتماعي، وهذه الدقة في المعاملة التي ترفع صاحبها عن أنْ يكون مشعوذًا أو عن أنْ يكون سَئُولًا ملحًّا، أو عن أنْ يكون طالب صدقة، أو عن أنْ يكون صاحب عدوان وجور، أين يكون هذا كله إذا لم يكن عند الأدباء؟!

•••

أكتب هذا كله وقد وصلت إليَّ الأنباء بأن جماعات أدبائنا المحدثين ثائرة فائرة، وهائجة مائجة، وقاعدة قائمة، في هذه الأسابيع منذ أخذ بعضهم ينقد بعضًا، ومنذ أخذت آراء بعض في الشعر والنثر تبدو لبعض، ولعلك تقرأ هذا الفصل الطريف الذي أرسله إليَّ صديقنا حسن محمود فترى فيه كيف يفسد ما بين الأصدقاء، وكيف يستحيل الحب إلى بغض، والود إلى عداء، والإخلاص إلى كيد، لا لشيءٍ إلَّا أنَّ فلانًا أظهر كتابًا أو ديوانًا، فلم يحسن فيه رأي فلان، أو ظهر فيه رأي فلان، ولكنه لم يكن مُرضيًا للكاتب أو الشاعر؛ لأنه لم يكن ثناءً كله ولا رضاءً كله، أأخلاق أدباء هذه أم أخلاق صبيان يحتاجون إلى التربية والتنشيء! إني أكره لأدبائنا أنْ يطغى الغرور على نفوسهم، فيفقدها ما يقوم النفس الكريمة من اعتدال المزاج وصفاء الطبع، واستقامة الخلق، والتواضع الذي لا سبيل إلى الكمال من دونه.

وأكثر من هذا كله أنْ يعظم التنافس بينهم، وأنْ ينكر بعضهم بعضًا، ويزدري بعضهم بعضًا، ويبلغ بهم هذا أنْ تنقد اثنين منهم في فصلٍ واحد، فإذا أحدهما ساخط عليك ضيق بك، يقطع ما بينك وبينه من صلة، لا لأنك ظلمته، ولا لأنك أسأت إليه في كتابه، ولا لأنك استكشفت عن عيوبه ما لم يكن يعلم؛ بل لأنك قرنته إلى صاحبه، وما ينبغي أنْ يكون له قرين، وذكرته مع غيره وما ينبغي أنْ يكون له شريك، وإنما حقه عليك إذا كتبت عنه أنْ تفرده بالكتابة وتختصه بالنقد، وأنْ ترقى إليه في سمائه التي يسكنها أو نجمه الذي يستقر فيه، حتى إذا قدمت إليه القربان وحرقت بين يديه البخور، هويت من السماء أو هبطت من النجم، ونظرت بعد ذلك إلى غيره من الكتاب.

هذه أخلاق لا ينبغي أنْ تكون للشبان فضلًا عن أنْ تكون للشبان الأدباء الذين يرون أنهم نابهون وأنهم قادة الرأي وزعماء الأدب غدًا أو بعد غد، أمر الأدب أهون من هذا كله — أيها السادة — إنْ كنتم أدباء حقًّا، فأنتم إنما تنتجون؛ لأنكم مكرهون على الإذاعة، وآثاركم حينما تنتجونها وتذيعونها تخرج عن ملككم إلى ملك غيركم من القراء والنقاد، ليس لكم عليها سبيل، ولقرائكم ونقادكم عليها كل سبيل، إنْ كنتم متواضعين فقوموا ما يظهر لكم من عوج، وأصلحوا ما يظهر لكم من فساد، فإن كنتم مغرورين فاستمتعوا بغروركم وانظروا إلى أنفسكم في المرآة، ثم امتلئوا بها عجبًا وتيهًا، ولكن لا تعدو هذا ولا تتجاوزوه إلى أخذ الناس بما تحبون أنتم ولا يحبون هم، فذلك ليس لكم، ولن يقركم أحد على أنْ تتطلبوه وتطمعوا فيه.

ويسألني صديقنا حسن محمود عن علاج هذه العلة، ودواء هذا الداء، وغريب أنْ يلقي الصديق مثل هذا السؤال، وغريب أنْ يحتاج مثل هذا السؤال إلى جواب، فليس لهذه العلة علاج إلا مقاومتها، وهي لا تقاوم إلا بالمضي في النقد الحر الصريح الذي لا أثر فيه للميل ولا الهوى، بمقدار ما يستطيع الإنسان أنْ يبرأ من الميل والهوى، والذي لا أثر فيه للخوف ولا الإشفاق، فليس رجلًا من يكتم رأيه لخوفٍ أو إشفاق، فكيف إذا كان مصدر هذا الخوف والإشفاق أديبًا لا يستطيع أنْ يبسط فيك لسانه أو أنْ يبسط عليك يده، إنْ كان من «الفتوات»، هذا سخف لا ينبغي لصاحب الجد من الأدب والنقد أنْ يقف عنده أو يفكر فيه إلا بمقدار ما يقوم معوجه، ويصلح فاسده، ويحاول أنْ يبرئ منه أدباءنا، فقد أحب أنْ يكون برؤهم من هذه العلل ممكنًا يسيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤