الفصل الخامس والعشرون

عود إلى أخلاق الأدباء

لنبتسم، ففي أخلاق أدبائنا ما يدعو إلى الابتسام، ولنغتبط، ففي أخلاقهم ما يدعو إلى الاغتباط، ولنرضَ على كل حال، فالنظر في أخلاقهم على علاتها يملأ القلوب رضًا واطمئنانًا، فهم ليسوا جميعًا مسرفين في الاعتداد بأنفسهم، وهم ليسوا جميعًا مسرفين في الارتفاع على النقد والتعالي على النقاد، وهم ليسوا جميعًا ضيقي الصدر، ولا سيئي الخلق، ولا طوال الألسنة يبسطونها في الناس بالشر حين ينبغي أنْ يبسطوها بالشكر والحمد والثناء، نعم! لنبتسم، ولنغتبط، ولنرضَ، ففي أخلاق أدبائنا عوج، ولكن في أخلاقهم استقامة، وفي حياة أدبائنا شر، ولكن في حياتهم خيرًا كثيرًا، وأكبر الظن أنَّ الذين يثيرون الحزن في النفوس ويدفعون إلى الرحمة والرثاء، وقد يدفعون أحيانًا إلى السخط والضيق، ليسوا إلا قلة، لا ينبغي أنْ يحفل بها، ولا أنْ يفكر فيها عندما يراد تأريخ الأدب وتصوير حياة الأدباء في هذا العصر، الذي فسد فيه كل شيء إلا أخلاق جماعة من الأدباء والمثقفين أراد حسن الحظ أنْ تستعصي على الفساد.

قوم مسهم النقد الرفيق، فثاروا وحاولوا أنْ يثيروا غيرهم من الناس، وفسدت أعصابهم واضطرب مزاجهم، فحاولوا أنْ يفسدوا الأعصاب كلها، ويشيعوا الاضطراب في الأمزجة كلها، ولكنهم لم يبلغوا مما كانوا يريدون شيئًا، ولم يظفروا مما كانوا يحاولون إلا بكلامٍ قليل ضئيل لا يقدم ولا يؤخر.

وأكبر الظن أنَّ تبعة ما يضطرب فيه هؤلاء الناس من ضعف الأعصاب، واضطراب الأمزجة، وسوء الخلق، إنما تقع على الأدباء الذين يسمونهم شيوخًا، وإنْ كان الأمد بينهم وبين الشيخوخة ما يزال بعيدًا، وهذه التبعة تقع على هؤلاء الأدباء؛ لأنهم أعرضوا عن النقد وأهملوه أعوامًا غير قصار، فنشأ جيل من الكُتَّاب والشعراء ينشئون وينظمون ويذيعون ما ينشئون وما ينظمون، فتنشره الصحف، ويقرؤه الناس أو لا يقرءونه، ولا يعرض النقاد له بخيرٍ ولا بشر، ومضت على ذلك الأيام، وطال على ذلك العهد، حتى خيل إلى هؤلاء الكُتَّاب والشعراء أنهم كُتَّاب وشعراء حقًّا، وأنَّ النقد إنْ كان لم يصبهم، ولم يمسسهم مسًّا رفيقًا أو عنيفًا، فذلك لأنهم فوق النقد، أو لأن النقد لم يجد إليهم سبيلًا، أو لأنهم بلغوا من الإجادة والإتقان ما ينبغي أنْ يجعلهم بمأمنٍ من أنْ تصل إليهم أقلام الناقدين، وكذلك سيطر عليهم الغرور فملأ قلوبهم وعقولهم، وصرفهم عن العناية بالفن، والحرص على الإجادة والرغبة في الإتقان، وخيل إليهم أنهم قد بلغوا الكمال أو تجاوزوا إلى ما هو فوق الكمال.

هناك آمنوا بأنفسهم، واستيقن كل واحد منهم أنه نابغة، وأنه آية بين أترابه، وأنه مظلوم في هذا العصر الذي يعيش فيه، ويعجب الناس به، ولكنهم لا يوفونه حقه من الإعجاب، ويؤمن الناس له ولكنهم لا يوفونه نصيبه من الإيمان، ثم أخذوا يبحثون عما يحول بينهم وبين ما يرون أنهم أهل له من الإكبار والإعجاب، فلم يتهموا أنفسهم بضعف، ولم يظنوا بأنفسهم قصورًا أو تقصيرًا؛ لأنهم فوق الضعف وفوق القصور والتقصير عند أنفسهم على أقل تقدير.

ولم يشكوا في أنَّ الناس يقرءونهم، وكيف يستطيع الناس ألا يقرءونهم وهم ينزلون عليهم الآيات إذا أصبحوا وإذا أمسوا، ولم يشكوا في أنَّ الناس يرضون عنهم، وهل وصل الناس من الجحود والغفلة إلى حيث لا يرضون عن هذا البيان المعجز، والسحر الذي ليس إلى تقليده من سبيل! إنما العقبات التي تحول بينهم وبين حقهم من الشهرة هم هؤلاء الأدباء الذين سبقوهم في الزمان، وظهروا قبلهم في ميدان الحياة الأدبية، فاستأثروا بالشهرة وبعد الصيت، واحتكروا ما يملكه الناس من الإعجاب والحب، ثم ضنوا بما ظفروا به فلم يقبلوا فيه شركة، ولم ينزلوا منه للشباب الناهض عن جزء يسير، وكان حق هؤلاء الأدباء الذين يسمون بالشيوخ على هؤلاء الأدباء الذين يسمون بالشباب أنْ يشكروا لهم صمتهم عنهم وإعراضهم عما يكتبون، وانصرافهم إلى الإنتاج عن النقد، فهذا الصمت والإعراض والانصراف هي الخصال التي هيأت لهم أنْ يظهروا، وأتاحت لهم أنْ يعرفوا، ومكنت لهم بين من يقرؤهم ويرضى عنهم من الناس، ولكن هؤلاء الأدباء الذين يسمون بالشيوخ لم يلقوا من هؤلاء الشباب إلا جحودًا وعقوقًا، وإلا بغضًا ونفورًا، فقد ظن الشباب أنَّ سكوت الأدباء عنهم حسد لهم، وبخل عليهم بما هم أهل له من الشهرة وحسن الحديث، وما جزاء البخلاء إلا أنْ يلاموا على البخل، وما جزاء الحساد إلا أنْ يعابوا على الحسد، وما جزاء المنافسين إلا أنْ يصلوا منافسيهم حربًا شعواء تقصمهم قصمًا، وتهدمهم هدمًا، وتجعلهم أحاديث، وكذلك ظنت الزرازير أنها صارت شواهين — كما يقول الشاعر القديم — وكذلك أرادت الضفدع أنْ تكون ثورًا، فأخذت تنتفخ وتنتفخ حتى انفجرت — كما تقول الأساطير — وكذلك اندفع هؤلاء المحنقون في كلامٍ كثير وهذيان لا حد له، فكلفوا أنفسهم عناءً سخيفًا، وكلفوا الناس عناءً سخيفًا، وكادوا يفسدون الحياة على أنفسهم وعلى الناس …

أما أنا فألوم الأدباء الذين يسمون بالشيوخ، وألوم نفسي قبل أنْ ألوم أحدًا غيري، على إهمال النقد والإعراض عن هؤلاء الشباب، فلو أننا مضينا فيما كنا فيه نُقوِّم المعوج وندل المفسدين على وجوه الإصلاح، لاستقامت لهؤلاء الشباب، أو لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم شبابًا، حياة أدبية صالحة لا يشوبها الغرور، ولا يفسدها الادعاء العريض، ولكان لهم إنتاج أدبي أقوم من هذا الذي يملئون به الأسواق، ويفسدون به الأذواق، ويسيئون به إلى القراء، فالتبعة التي نحتملها ثقيلة حقًّا، وما أظن أننا نستطيع أنْ نخلص منها إلا بالرجوع عن هذا الخطأ الذي تورطنا فيه، والإثم الذي دفعنا إليه، واستئناف النقد كما بدأناه، حين كانت الحياة الأدبية غضة نضرة، وحين كان النشاط الأدبي خصبًا منتجًا، وحين كانت الإجادة الأدبية هي التي يقصد إليها الأدباء والشعراء دون الشهرة الفارغة، والصيت الذي لا ينفع ولا يفيد، على أني أعود فأغتبط بأن هؤلاء الشباب الذين ساء ظنهم بأنفسهم وساء ظنهم بالناس، ليسوا إلا قلة لا يحفل بها ولا يؤبه لها، وأنَّ كثرة الذين يكتبون من الشباب أو ممن يسمون أنفسهم شبابًا لا يزالون يحبون التواضع، ويكرهون الغرور، وينتفعون بالنقد، ويشكرون للنقاد عنايتهم بهم، ولا يفرضون عليهم لونًا من النقد دون لون، ولا يغضبون منهم أنْ لم يقدموا لهم من الثناء ما يتحرقون ظمأ إليه.

ولا بدَّ من أنْ أذكر بعض الأسماء، ومن أنْ أذكرها في الخير لا في الشر، فقد يكون من الرفق بالمفسدين ألا نسجل عليهم ميلهم إلى الفساد وإمعانهم فيه، وقد يكون من الرفق بهم أيضًا أنْ نعرض عليهم من المثل ما ينتفعون بالنظر إليه والتفكير فيه، ومن هؤلاء الذين نذكرهم بالثناء «ملاحنا التائه» فقد تناولنا ديوانه بالنقد، ولم نصطنع في هذا النقد رفقًا ولا إيثارًا، ولم نتردد في أنْ نقول لصاحبه ما رأينا أنه الحق، وكان بعض الذين يعرفون ما لم نكن نعرف من أخلاق أدبائنا الذين يسمون أنفسهم شبابًا، يقدرون أنَّ «الملاح التائه» سيغضب أشد الغضب، وسيسخط أقبح السخط، وسينكر علينا أنْ نقول فيه كلمة الحق، ولكن الرجل لم يكد يقرأ النقد حتى انتهت إلينا عنه أحاديث الرضا، ثم أقبل بنفسه يتحدث إلينا بهذه الأحاديث، ويقبل من نقدنا ما أقنعه، ويناقشنا فيما لم يقنعه، وانصرف عنا كخير ما ينصرف الأديب عن الناقد، ليس في صدره غل ولا حقد، وليس في نفسه لوم ولا موجدة، وإنما هي المودة التي يجب أنْ تكون بين الرجال حين يعرض بعضهم لآثار بعض بالنقد الخالص الذي لا ميل فيه مع الهوى، ولا انحياز فيه إلى الشهوات.

أما الأستاذ فكري أباظة فلست أدري أشابٌّ هو أم شيخ، أو قل لست أدري أيرى نفسه شابًّا أم شيخًا! أما أنا فأعترف له ولقرائه جميعًا وللذين يعجبون به أني أراه شابًّا، وأراه شابًّا قوي الشباب موفور النشاط، وأراه شابًّا مبتدئ الشباب لم يقطع في طريقه إلا خطوات قصارًا، فأمد الحياة الحلوة الرخية المملوءة بالآمال واللذات ما يزال أمامه بعيدًا كما يشتهي بل أبعد مما يشتهي، وإذن فهو من خير المثل التي يجب أنْ تقدم للشباب من الأدباء، وأنْ تقدم لهم من بين أنفسهم لا من بين الشيوخ، فالقراء قد رأوا ما كتبته في الأسبوع الماضي عن كتاب «الضاحك الباكي» للأستاذ فكري أباظة، وهم قد رأوا أني لم أكن فيه رفيقًا ولا لينًا، وهم قد رأوا أني قد أخذت الأستاذ بطائفةٍ من العيوب لم أتردد في إظهارها، ولم أصطنع المجاملة في تصويرها، وتمنيت آخر الأمر أنْ تبرأ منها كتبه المقبلة، فلست أدري كيف أشكر للأستاذ فكري أباظة كتابه العذب الرقيق الذي أرسله إليَّ، يشكر لي ما كتبت في «حديث الأربعاء الماضي»، ويشكر لي بنوعٍ خاص ما أظهرت من العيوب التي رأيت إظهارها في كتابه، ويقر منها ما يرى إقراره، وينكر منها ما يرى إنكاره — أستغفر الله — فكلمة الإنكار أقوى مما أراد الأستاذ أنْ يسطر في كتابه حين نبهني إلى أنه لم يسرف ولم يبالغ، وإلى أنَّ الحقائق أقوى وأشد مما صور في كتابه، وإلى أنه إنْ كان قد أسرف أو بالغ، فإسرافه ومبالغته لا يتجاوزان الصورة والشكل، فأما جوهر الوقائع وحقيقتها، فليس عليها بأس من مبالغةٍ أو إسراف.

هذا المثل الذي يقدمه الأستاذ فكري أباظة لشباب الأدباء خليق أنْ يعرض عليهم، وخليق أنْ يظفر بما هو أهل له من تفكيرهم وتقديرهم، فكثير منهم في حاجةٍ إلى أنْ يتعلموا منه التواضع وحسن الذوق، وإلى أنْ يعلموا أنَّ النقاد ليسوا مدينين لهم بشيء، وأنهم هم مدينون للنقاد بكل شيء، وأنَّ الذين لا يؤمنون بهذه الحقيقة خليقون ألا يعرضوا للحياة الأدبية ولا يخوضوا غمارها، فليست الحياة الأدبية لعبًا ولا لهوًا، وإنما هي جد كل الجد، والجد مر في أكثر الأحيان، وإذا حلا فإنما حلاوته شيء عارض، لا ينبغي أنْ يطمع فيه الأديب، ولا أنْ يتخذه لسيرته الأدبية أصلًا ومقياسًا، ولولا أني أكبر تواضع الأستاذ فكري أباظة وأشفق على الأستاذ منه، لنشرت كتابه لهؤلاء الشباب الذين تفتنهم أنفسهم ويصرفهم الغرور عن أنْ يروا فنَّهم كما هو، إذن لعرفوا كيف يقرأ النقد، وكيف يعرف للنقاد بلاؤهم عند الأدباء.

وأديب آخر لا بدَّ من ذكره وإنْ كنت لم أعرض له بعد، ولكني أذكره على كل حال، وهو الدكتور أبو شادي، فقد بلغه أني أريد أنْ أعرض لشعره في بعض حديث الأربعاء، فتفضل وأرسل إليَّ بعض دواوينه، وكتب إليَّ يسبق النقد بالشكر مسجلًا على نفسه أنه شاكر لهذا النقد مهما يتكشف عنه من الآراء، ومهما يكن هذا النقد مرضيًا له أو غير مرض، هذا حسن، هذا خليق أنْ ينتفع به الشبان أيضًا، هذا عهد يجب أنْ يكون بين المنتجين والنقاد؛ على المنتجين أنْ ينتجوا مخلصين، وعلى النقاد أنْ ينقدوا مخلصين، لا ينظم الصلة بينهم في هذا إلا الصدق والإخلاص، وابتغاء الحق من حيث هو حق لا من حيث إنه يسرُّ أو لا يسر هؤلاء.

وقد نشرت «مجلة الأسبوع»، فصلًا لكاتب أديب زعم أنه يريد أنْ يستكشف أسرار هذه الحركة الأدبية العنيفة التي أثيرت في هذه الأيام، وأنَّ هذه الأسرار لا ترضي ولا تشرف الأدباء، وأنها ليست خالصة للنقد أو للأدب، وإنما هي أشياء قوامها ما يكون بين الأدباء الشيوخ أو الذين يسمون بالشيوخ، من تنافس وحسد ومن ضغينة وحقد، إلى آخر هذه الأوهام التي ذهب فيها الكاتب الأديب كل مذهب، ولست أدري أوفق الكاتب للحق حين تحدث عن الأستاذين العقاد والمازني، أم أخطأه، وأكبر الظن أنه أخطأه، ولكن الذي لا شك فيه ولا أحب للكاتب الأديب أنْ يشك فيه هو أنه لم يوفق للصواب حين ظن بي أني أتأثر فيما أكتب بمنافسة أو ضغينة أو حقد، فالله يشهد أني أبعد الناس عن هذه المؤثرات، وأنآهم عن هذه الخصال، وأني لا أستطيع أنْ أعرض لكتابٍ من الكتب أو ديوانٍ من الدواوين قبل أنْ أستوثق بمقدار ما يستطيع الإنسان أنْ يستوثق من أني قد طرحت وراء ظهري كل ما يمكن أنْ يكون بيني وبين صاحب الكتاب أو الديوان من صلات الخير والشر، وقصدت إلى الكتاب أو إلى الديوان لا أبتغي غيرهما، ولا أفكر في غيرهما، ولست أزعم أني أوفق من هذا لما أريد، ولكن الذي أحققه هو أني أحاول هذا ما وجدت إلى محاولته سبيلًا، والكاتب الأديب يخطئ كل الخطأ، ويتبرع بالإساءة إليَّ حين يظن أني خبيث على رغم ما أظهر من الطيبة، فلست أدري أطيبٌ أنا أم خبيث، ولكن الذي أعرفه ولا أحب للكاتب أنْ ينكره عليَّ، هو أني لا أحب الخبث ولا أتخذه سبيلًا فيما أكتب من هذه الفصول التي أنقد فيها آثار الأدباء، فليحسن الكاتب الأديب ظنه، حتى تقوم له ولأصحابه البينة على أني قد أردت بهم سوءًا، واتخذت الخبث سبيلًا إلى نقدهم، أما قبل أنْ تقوم هذه البينة فهم متجنون، وقد يحسن التجني من بعض الناس، ولكنه لا يحسن من الأدباء.

•••

وفصل آخر من أخلاق الأدباء أريد أنْ أعرض له في آخر هذا الحديث، الذي آسف أشد الأسف؛ لأني صرفته عما بين يدي من الكتب والدواوين إلى هذه الأشياء التي ما كان ينبغي أنْ نحتاج إلى أنْ نجعلها موضوعًا للحديث، وهذا الفصل الآخر من أخلاق الأدباء هو هذا الذي ظهر منذ أسبوع بين الرسالة وبيني من خلافٍ، ما أظن أنَّ كثيرًا من الناس قد فطنوا له أو وقفوا عنده، وأنا مع ذلك أعرضه عليهم عرضًا ليعلموا أنَّ أخلاق الأدباء في حاجةٍ إلى شيء غير قليل من التقويم، والخلاف الآن لا يقع بين الشيوخ والشباب، وإنما هو يقع بين الشيوخ، أو بين من يسمونهم شيوخًا، فالقراء يعرفون ما كان من قصة الأستاذ توفيق الحكيم، وهم يذكرون أنَّ هذه القصة نشرت في «الوادي» ذات يوم، ثم لم يمضِ يومان حتى رد عليها الأستاذ توفيق الحكيم بما أصلح الأمر، وأقر الأشياء في نصابها، ورد الصلات بينه وبيني إلى خير ما كانت عليه، ولست أنكر أنَّ هذه الخصومة بين صديقين تقوم صداقتهما على الأدب خليقة بعناية الأدباء، خليقة بأن تصورها الرسالة لقرائها كما تحب لا تتجاوز في ذلك قصدًا ولا حقًّا، ولكن الذي لا أشك فيه أيضًا هو أنَّ للصديقين اللذين وقعت بينهما هذه الخصومة على «الرسالة» بعض الحق، فهما من كتاب الرسالة في وقتٍ من الأوقات، وأحدهما من المؤسسين للرسالة الذين أقاموها على أعناقهم، وأعانوها على مقاومة الخطوب، وعلى أنْ تشق طريقها بين الصحف الأدبية — كما يقولون — وأيسر ما لهذين الصديقين على الرسالة من حق، هو أنْ تعرض الرسالة لهذه الخصومة بينهما من طريق لا تفسد صالحًا ولا تكدر صافيًا، ولا ترد الأمر بينهما إلى الخلاف بعد أنْ كان قد انتهى إلى الوفاق.

وأيسر ما لهما على الرسالة من حق أنْ تنشر هذه الخصومة بعد أنْ تتحدث إليهما أو إلى أحدهما في هذا النشر، ولكن الرسالة لم تتحدث إليهما ولا إلى أحدهما، وإنما نقلت الفصل الذي كتبته ولم تُشِرْ إلى أنها نقلته، بل أعلنت في الصحف قبل صدورها أنها تنشر فصلًا ممتعًا للدكتور طه حسين، لم تبين عنوانه للقراء مع أنها تعودت أنْ تبين عنوان ما يكتب فيها هو أو غيره من الكتاب، ولست أخفي على الرسالة وقرائها أني لما رأيت هذا الإعلان عجبت أشد العجب، ودهشت أعظم الدهش، ولبثت ساعات أرقب الرسالة لأعرف هذا الفصل الممتع الذي كتبته، فقد كنت أعلم أني لم أكتب للرسالة شيئًا في ذلك الأسبوع، فلما وصلت إليَّ الرسالة التمست هذا الفصل الممتع الذي كتبته عن غير علم، فإذا هو قصة الخصومة بين الأستاذ توفيق الحكيم وبيني، تنشره غير مشيرة إلى مصدره، كأني قد كتبته لها، أو كأني أرسلته إليها.

دع تقصير الرسالة فيما ينبغي من المجاملة بين الصحف مهما يكن بينها من سبيل، وقف عند تقصير الرسالة فيما ينبغي من المجاملة بين الأصدقاء، وفيما ينبغي من الجد في الإصلاح بين المختصمين لا في الإفساد بين الذين صلحت بينهم الأمور، والواقع الذي لا شك فيه هو أنَّ قومًا يقرءون الرسالة ولا يقرءون الوادي، قد قرءوا هذه القصة فاستيقنوا أنَّ الأمر بين الأستاذ توفيق الحكيم وبيني قد فسد، وكلمني في ذلك منهم من كلمني، وكتب إليَّ في ذلك منهم من كتب إليَّ، وكان أيسر آداب المودة والسعي بين الناس بالخير يقضي على الرسالة أنْ تنشر القصة كاملة إذا لم يكن من نشرها بد؛ ليعلم الناس أننا اختصمنا، ولكن الصلح قد استقر بيننا، وأننا اختلفنا ولكننا عدنا إلى الوفاق، بل أكثر من هذا أنَّ الأستاذ توفيق الحكيم نفسه ظن أنَّ رده لم يقنعني، وأني نشرت هذا الرد لأسجله عليه، ثم عمدت إلى مقالي فأعدت نشره في الرسالة، وهذا شيء تعلم الرسالة حق العلم أنه لا يلائم أخلاقي، ولا يلائم سيرتي، ولا ينبغي لها أنْ تدفعني إليه، أو تدفع الناس أنْ يظنوه بي، رأيت مسلك الرسالة هذا فكتبت في الوادي كلمة عتاب، يظهر أنها أغضبت صديقي «الزيات»، فهو يرد عليَّ في العدد الأخير من الرسالة بكلمةٍ قصيرة جدًّا، ولكنها ثقيلة جدًّا أظن أنه لا يستطيع حملها وإنْ كان قويًّا شديد البأس، وأظن أنه لو فكر فيها وتدبر معانيها، لأشفق في كتابتها، ولكنه أديب فتنه السجع، وخلبه الإيجاز، فخطا ولم يقدر لرجله قبل الخطو موضعها، واندفع ولم يتدبر عاقبة الاندفاع، فالزيات يتهمني بأني أستغل حياء الحيي، ووفاء الوفي، وتسامح الأصدقاء، أستغفر الله العظيم، وأستغفر حياء الزيات ووفاءه وتسامحه من هذا الاستغلال، الذي لم أحس أني أقدمت عليه في يومٍ من الأيام، وأني أقدمت عليه بالقياس إلى الزيات خاصة، وإذا لم يكن بد من الاستغلال والمستغلين، فإني أرجو ألا يكون الزيات حييًّا وفيًّا متسامحًا فحسب، بل أنْ يكون مخلصًا صادقًا أمينًا أيضًا.

وإذن فأنا أسأله أين يكون الاستغلال، وأين يكون المستغلون؟ وأنا أسأله وألح عليه في السؤال أنْ يبين لي في صراحة لا تحتمل الشك، ولا اللبس، ولا الغموض؛ متى استغللت حياءه ووفاءه وتسامحه؟ أحين كنت أكلف نفسي ما أطيق وما لا أطيق، وأحمل نفسي من الجهد ما أحتمل وما لا أحتمل؛ لأرضيه ولأرضي الناس عن الرسالة، أم حين كنت أجدُّ النهار كله في عملي الخاص، حتى إذا كان الليل وطمعت في شيءٍ من الراحة لم أظفر بها ولم أفكر فيها، وإنما فرغت للرسالة أكتب لها الفصول، أو أترجم لها الكتب؛ لأنها في حاجةٍ إلى ما يكتب أو يترجم، ولأن الزيات يريدني على أنْ أكتب أو أترجم، ولأن الأصدقاء لا يريدون أنْ تظهر الرسالة وليس لي فيها أثر مترجم أو مكتوب، أم حين كنت أفرغ من عملي الخاص، وأعود بعد الظهر لأتغدى وأستريح، ولكن الزيات ينتظر مني فصلًا للرسالة يجب أنْ يصل إليه آخر الساعة الخامسة أو آخر الساعة السادسة، فلا أفرغ من الغداء إلا لأمضي في الكتابة حتى ترضى الرسالة ويرضى الزيات؟ أكنت في هذا كله أستغل حياء الزيات الحيي، أو وفاء الزيات الوفي، وتسامح الزيات الصديق، أم كان الذي يستغل حياء الحيي ووفاء الوفي وتسامح الصديق شخصًا آخر لا يحمل اسمي، ولا يتصف بما أتصف به من الخصال؟ عفا الله عن الأدباء! فما أشد ما تحتاج إليه أخلاقهم من التقويم، وما أشد ما تحتاج إليه أقلامهم من الكبح، فهي تجمح أحيانًا فتسرف في الجموح!

أما بعد، فإن هذه الخصومة الأخيرة التي يثيرها الزيات، وهو صديق الصبا وأخو الشباب، خليقة أنْ تدعو إلى التفكير في هذا العهد الذي فسدت فيه الصلة بين الناس حتى ما يرعون لمودة حرمة، ولا يعرفون لصديق حقًّا، ولا يرجون لإخلاص وقارًا، ولا يرفعون أنفسهم عن أنْ تقول غير الحق، وتتورط في غير الصواب، وتتهم الناس بما ليس فيهم من عيب، لا لشيءٍ إلا لأن السجع يستقيم، والإيجاز يحسن وقعه في السمع ومجراه على اللسان، إنَّ مودة الأصدقاء يجب أنْ تكون أغلى من سجعة، وأنفس من إيجاز، وإنَّ احترام الرجل لنفسه، وحرصه على ألا يقول غير الحق، ورغبته في ألا يُرَدَّ الشر إليه حين يصدر عنه، كل ذلك خليق أنْ يدعو الزيات إلى أنْ يفكر فيما كتب، وإلى أنْ يعتذر مما قال، وهو على كل حال خليق أنْ يقطع ما بين الرسالة وبيني من صلة، حتى يعرف أصدقاؤنا الذين نهضوا معنا بتأسيس الرسالة أنَّ لصديقهم عليهم حقًّا يجب أنْ يؤدوه إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤