الفصل السادس والعشرون

على بساط الريح للشاعر اللبناني فوزي المعلوف

قضى شابًّا لم يتجاوز الثلاثين، ولو قد عمر، لكان له في حياة الشعر العربي الحديث شأن أي شأن، ولكان له بين الشعراء المحدثين مكان أي مكان، وكثير من الشعراء يمرون بالأرض سراعًا، ولكنهم يتركون فيها آثارًا باقية طويلة البقاء، ومنهم من يطبع جيله بطابعه الخاص، ومنهم من ينشئ مذهبًا في الشعر يبقى ما بقي الشعر، ولا يتأثر باختلاف الظروف، وتباعد العهد، وتتابع الأيام، وكان «أبو تمام» من هؤلاء الشعراء، مر بالأرض مرًّا سريعًا، كما يمر السحاب، ولكنه غرس في الأرض حدائق لن يجد الذواء والذبول إليها سبيلًا، وكان «أندريه شينيه» من هؤلاء الشعراء، مر بالأرض مرًّا سريعًا، كما يمر السحاب، واختطفته الثورة الفرنسية اختطافًا ولما يبلغ رسالته كاملة، ولكن الشعر الفرنسي لم ينسَ غناءه بعد، ويظهر أنه لن ينساه ما دام في الشعر الفرنسي غناء.

وفوزي المعلوف بعيد كل البعد عن أنْ يشبه بأبي تمام، أو يقاس إلى أندريه شينيه، ولكنه قريب كل القرب من أنْ يذكر معهما، ويفكر فيه إذا فكر فيهما، ويتحدث عنه المتحدثون إذا تحدثوا عنهما، مر بالأرض مرًّا سريعًا، كما تمر النسمة الهادئة، الحلوة الوديعة، التي تحمل على هدوئها وحلاوتها وعلى دعتها وعذوبتها خصبًا كثيرًا، فيه حياة للنفوس، وفيه شفاء للقلوب، وفيه مادة لتفكير العقول، فتُلقي ما تحمل، ثم تمضي في طريقها هادئة وادعة، إلى هذا العالم الذي لا يرجع من يذهب إليه، أو قل: إنه مر بالأرض مسرعًا كما تمر نغمة الغناء، أو كما يمر لحن الموسيقى، فمضى إلى حيث لا يعلم أحد، ولكنه ترك في النفوس صدى يتردد فيها حلوًا لاذعًا محرقًا معًا، لا أعرف أني تأثرت بشاعر كما تأثرت بهذا الشاعر الشاب، حين قرأت قصيدته على «بساط الريح» أمس، فاهتزت لها نفسي اهتزازًا، وأشفق لها قلبي إشفاقًا، ثم قرأتها اليوم فوجدت لقراءتها مثل ما وجدت أمس، أو أكثر مما وجدت أمس، وما أرى إلا أني سأقرؤها وأقرؤها، وسأجد في قراءتها هذه اللذة المرة التي يحبها الأديب حين يقرأ الشعر الجيد الرائع الجميل، بل أذكر أني وجدت هذا الأثر مرة، حين قرأت منذ أعوام مقطوعات من الشعر الفرنسي نشرتها «الالستراسيون» لشاب أمريكي أحب فرنسا، وتطوع للدفاع عنها أثناء الحرب، وتغنى في شعره الفرنسي الحلو بجمال تلك الأرض التي كان يدافع عنها، والتي تنبت خير ما ينبت في فرنسا من الكَرْم، وتؤتي خير ما تؤتيه كروم فرنسا من الخمر، وكان ذلك الشاعر الأمريكي الشاب يحس أنه سيموت، وكان يقدر أنَّ جسمه سيمتزج بثرى ذلك الإقليم الفرنسي، إقليم «شمبانيا»، وسيغذو ما سينبته ذلك الثرى من الكَرْم، وسيشيع فيما ستؤتيه تلك الكروم من الخمر، وكان يسبق الزمان فيمزج نفسه بالفرنسيين، وكان يسبق الزمان فيمزج نفسه بما سيلقاه الفرنسيون من النشوة والفرح، ومن البهجة والسرور، حين يشربون ما سيؤتيه ثرى «شمبانيا» من النبيذ.

وكنت أقرأ هذا الغناء الحزين اللاذع، فأجد لنغمته لذة حزينة لاذعة، كهذه اللذة التي وجدتها أمس، ووجدتها اليوم حين قرأت قصيدة ذلك الشاعر اللبناني الشاب، ولست أعرف من أمر هذا الشاعر شيئًا إلا أني سمعت اسمه من أبيه الحزين حين كان في مصر أثناء الشتاء، ثم حدثني عنه المحدثون في هذه الأيام، حين أخذت في درس الشعر العربي الحديث، ثم حمل إليَّ بعض الأصدقاء قصيدته هذه، ثم قرأت هذه المقدمة الطويلة الغريبة، التي قدمها بين يديها بعض المستشرقين، ثم أعرضت عن هذا كله، وأخذت أقرأ القصيدة نفسها، فأي روح عذب، وأي فن رائع، وأي موسيقى خليقة بالبقاء!

وقد قرأت في المقدمة، وقال لي الناس: إنَّ لهذا الشاعر مجموعات أخرى من الشعر. وأنا أرجو أنْ أوفق لقراءتها أو للنظر فيها، فإن من الخير بل من الواجب على الذين يُعْنَوْنَ بالشعر العربي الحديث، أنْ يدرسوا شاعرية هذا الفتى درسًا مفصلًا دقيقًا؛ ليروا كيف نشأت وكيف تطورت، وكيف انتهت بصاحبها إلى هذا الخطر العظيم من الإجادة والإتقان، ولا بدَّ من أنْ أكبح هذه العواطف التي تثير في نفسي عواطف الحب والحزن، والرحمة والإشفاق، لا أستطيع أنْ أتحدث عن هذه القصيدة حديث الناقد الذي لا يتأثر بالعواطف والميول إلا بمقدار، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ القصيدة كلها حزن، وكلها إثارة لهذه العواطف، بل كيف السبيل إلى ذلك والشيء القليل الذي انتهى إليَّ من أمر هذا الشاب، كله حزن، وكله إثارة للعواطف، فقد نشأ هذا الفتى في لبنان، حيث هذه الطبيعة الرائعة التي نحبها ونكبرها ونكلف بها، ونعجب بما تفيض على أهلها من دعةٍ وشدة، وكرم يقوِّم النفس، ويصفي الطبع، ويبعث في المزاج حدة كلها شعر، وكلها تأثر بالجمال، ولم يكد هذا الفتى يبلغ الشباب حتى هاجر — كما يهاجر أبناء وطنه — إلى طرفٍ بعيد من أطراف الأرض، هناك في أمريكا الجنوبية حيث الحياة سهلة، ولكنها لا تخلو من نشاط، وحيث الحياة عاملة، ولكنها لا تدفع إلى المادية التي تفسد القلب والذوق، وحيث يعيش المهاجرون عيشة قوامها الأمل والذكرى، ومزاجها الحنين الذي يؤلف بين الأمل والذكرى، هناك حيث تتفتح أمام اللبناني والسوري أبواب الأمل الذي لا حدَّ له أيضًا، ولكن حيث لا يستطيع اللبناني والسوري أنْ ينسى في لحظة من لحظات حياته أنه ابن لبنان، أو ابن سوريا، وأنَّ له في لبنان أمًّا وأبًا وإخوة صغارًا، وقومًا ينتظرون منه الخير، ويرجون له الخير، ويبعثون الرسائل تحملها إليه السفن، ويبعثون نفوسهم وآمالهم تحملها إليه الريح، يذكرونه إذا أشرقت الشمس، ويذكرهم إذا أشرقت الشمس، يذكرونه إذا أقبل الليل، ويذكرهم إذا أقبل الليل، يناجونه في الأحلام، ويناجيهم هو أيضًا في الأحلام، فتتكون له حياة عربية خالصة، ترده إلى بداوته الأولى، وإنْ كان في بيئة كلها حضارة كأحدث ما تكون الحضارة، وهل حياة العربي إذا حللتها ورجعت بها إلى أصولها الأولى إلا حنين يختصره هذا البيت:

عُوجَا على الطلل القديم لعلنا
نبكي الديار كما بكى ابن حزام

أو يختصره هذان البيتان:

هوَى ناقتي خلفي وقُدَّامي الهوى
وإني وإياها لمختلفان
تحن فتبدي ما بها من صبابة
وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني

حياة العربي كلها حنين تفيض به نفسه إنْ سكت، ويفيض به كلامه إنْ تكلم، ويفيض به شعره إنْ كان من الشعراء، ودع ما يقوله مؤرخو الآداب في تحليل الوقوف على الأطلال، وبكاء الديار، وتذكر الأحباب في أول الشعر، على اختلاف العصور والمنازل، فليس لهذا كله علة إلا هذا الحنين الذي امتزج بنفس العربي فقوَّمها تقويمًا.

عاش هذا الشاب بين الأمل والذكرى والحنين، ومات هذا الشاب بين الأمل والذكرى والحنين، وتغنى هذا الشاب في قصيدته هذه يأسًا مهلكًا، وحزنًا محرقًا، لا مصدر لهما إلا الأمل والذكرى والحنين:

وارحمتا للغريب في البلد النا
زح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابَه فما انتفعوا
بالعيش من بعده ولا انتفعا

والقصيدة التي أريد أنْ أتحدث عنها قصة يسيرة، ولكنها رائعة في يسرها، قصيرة ولكنها بارعة على قصرها، تلخيصها سهل، ولكنها لا تحتمل التلخيص؛ لأن جمالها لا يأتي من جملتها، وإنما يأتي من تفصيلها، وهو لا يأتي من خلاصتها، وإنما يأتي من هذا الشرح الذي بسطت به هذه الخلاصة تبسيطًا، وعرضت فيه عرضًا جميلًا، فالشاعر قد طار في الجو دقائق، ثم هبط الأرض، هذا كل شيء، هذه هي الفكرة التي أوحت القصيدة إليه، فكرة من أيسر ما يخطر للناس، ولكن انظر في الوحي الذي صدر عنها فستراه رائعًا حقًّا، والغريب أنَّ الشاعر لم يطل في وصف الطيارة التي صعد بها الجو، ولم يغرب في هذا الوصف، ولم يأتِ فيه بشيءٍ يمكن أنْ يوصف بأنه جديد، ولعله كان عربيًّا بدويًّا، حين خيل إليه أنَّ في صدر الطيارة جنًّا تحث الخيل، ولكن جمال القصيدة لا يأتي من الوصف، وإنما يأتي من هذا الخيال الفلسفي الساذج الذي يرقى بالإنسان في فلسفة مألوفة قديمة، ليس فيها ابتكار إلى روحيته العليا في غير تكلفٍ، ولا احتمال لجهد في التصعيد الطويل.

وقد قسمت القصيدة أقسامًا ورتبت أناشيد، وألف بين هذه الأقسام والأناشيد تأليفًا طبيعيًّا منطقيًّا يكون وحدة منسقة بديعة التنسيق، وبُثَّتْ في هذه الوحدة حياة قوية جدًّا، وحركات تلائم ما في هذه الحياة من القوة، ثم بثت بين هذه الحياة والحركات نجوى هادئة وديعة مؤثرة تصور روح الشاعر الهادئ الوادع على ما يحطم نفسه من اليأس، بدأ قصيدته بتصوير الشاعر الذي سيقص علينا قصته، فجعله ملكًا في الهواء، ثم وصف روحه الحر، وجسمه العبد في الأناشيد الثلاث الأولى، فانظر كيف ابتدأ، ونلاحظ قبل كل شيء أنه اختار البحر الخفيف من أوزان الشعر لقصيدته، لم يغير فيه طول القصيدة، ولكنه غير القوافي بتغيير الأناشيد، والتزم في البيت الأول من كل أنشودة نوعًا من الموسيقى، يهب له ظرفًا وجمالًا موسيقيًّا خاصًّا، فيضيف أو قل يقحم بين شطري هذا البيت مقطعيْنِ من مقاطع البحر الخفيف، هما «فاعلانن مستفعلن»، ثم يضيف نفس هذين المقطعين بعد هذا الشطر الثاني، فيتمان المعنى ويضمان موسيقى الأنشودة أجمل وضع وأروعه، فانظر كيف بدأ أنشودته الأولى:

في عباب الفضاء فوق غيومه
فوق نسره
ونجمته
حيث بث الهوى بثغر نسيمه
كل عطره
ورقته
موطن الشاعر المحلق منذ الـ
ـبدء لكن بروحه لا بجسمه
أنزلته فيه عروس قوافيـ
ـه بعيدًا عن الوجود وظلمه
مَلِكٌ قبة السماء له قصـ
ـر وقلب الأثير مسرح حكمه
ضارب في الفضاء موكبه النو
ر وأتباعه عرائس حلمه

فانظر إلى هذين المقطعين القصيرين اللذين أحاط بهما الشطر الثاني من البيت الأول، وكيف يتمان معناه، ويجملان لفظه، وينسقان موسيقاه تنسيقًا حلوًا ظريفًا.

ثم انظر إلى هذه الموسيقى التي تنبث في الأنشودة كلها، مؤلفة من الألفاظ والمعاني ومن هذه الصور الغريبة التي يعرضها عليك في جرأة، كأنها الأصوات النابية التي يفرضها الموسيقي عليك فرضًا لأمرٍ يريده هو، ولا تفطن له أنت، وإنما تتذوقه وتحبه وتطمئن إليه، فهذا الشاعر الملك الذي اتخذ قبة السماء قصرًا، وأديم السحاب عرشًا، ودجى الليل طيلسانًا، والثريا صولجانًا، مَلِك رائع، لا لأنه ممكن، ولا لأنه مستحيل؛ بل لأنه غريب نتخيله ولا نتصوره، نلمحه ولا نكاد نتبينه، وهذا الملك غريب في الأرض قد أكره على أنْ ينشأ فيها ويعيش عليها، ولكنه يفلت منها بين حينٍ وحين، فيصعد إلى قصره في قبة السماء، ويجلس على عرشه من أديم السحاب، ويتصرف في ملكه بأمر الخيال، وباسم الخيال، حتى إذا رُدَّ إلى موطنه السفلي نظر فإذا هو عبد لكل شيء، عبد لقلبه، وعقله، وشعوره، وحسه، عبد للناس وعبد لما يضعون من نظام وقوانين، عبد للطبيعة، عبد لكل ما يحيط به، لا يخلص من هذا الرق إلا حين يعطف عليه روحه، فيحمله على جناح خياله، وينقله إلى ملكه الرفيع.

كل ذلك يؤدَّى في ألفاظٍ سهلة، ومعانٍ قريبة، وصور منها المألوف ومنها الغريب، ولكنها كلها جميلة؛ لأنها مألوفة حينًا، ولأنها غريبة حينًا آخر، هذا الشاعر الحر، العبد، المقيد، المطلق، الملك، الراعي، حلم ولكن في اليقظة لا في النوم، رأى نفسه يصعد في السماء على طيارة، انظر كيف وصفها الشاعر:

هي طير من الجماد كأن الـ
ـجنَّ في صدرها تحث خيولا
حمحمت تضرب الرياح بنعليـ
ـها فشقت إلى السماء سبيلا
ثم مدت إلى النجوم جناحيـ
ـن وجرَّت على السحاب ذيولا
غرقت في الأصيل حينًا وعامت
بعد حين تعلو قليلًا قليلا
ترتدي من دخانها بردة الليـ
ـل وتلقي عن منكبيها الأصيلا
وعليها من الشرار نجوم
عقدت حول رأسها إكليلا
حَلِّقي، حلقي، وألقي على الأفـ
ـلاك رعبًا وروعة وفضولا

فلم تكد هذه الطيارة ترقى به في الجو حتى أحسته الطير، فارتاعت له ثم ائتمرت به، ثم هجمت عليه؛ لأنها ظنته مستعمرًا يريد أنْ يملك الجو، كما تعود أنْ يغير على الأرض، وهل يستطيع الشاعر العربي الشرقي أنْ ينسى الاستعمار إنْ أقام في وطنه! أليس طريد الاستعمار إنْ هاجر عن وطنه! ولكن الشاعر يؤمِّن الطير ويأمن إليها، ويطلب عندها الراحة من التعب والعناء، فهو شقيٌّ في الأرض، متعبٌ بما فيها ومن فيها.

ثم انظر إلى أنشودته التي سماها «رمز الألم»، كيف صور فيها شقاء الإنسان وتعسه، وسوء حظه، وحاجته إلى أنْ يفلت من هذه الحياة من حينٍ إلى حين؛ ليرفه على نفسه، حتى تتاح له الراحة الكبرى، ولكن الحلم ما زال متصلًا، والطيارة ما زالت تصعد بصاحبها، وهو قد بلغ الطير فأخافها ثم صالحها، ولكنه عاقل يعيش في القرن المتم العشرين، ويركب الطيارة وهو في الوقت نفسه شاعر يهيم في فضاءٍ لا حدَّ له، فهو يدنو من النجوم ولكنه لا يبلغها، يدنو منها بقوة الخيال، ولا يبلغها لأن العلم ما زال قاصرًا عن أنْ يُبْلِغَه إياها، وقد أحبته النجوم، فبعضها يشفق منه، وبعضها يهزأ به، والطيارة تصعد به دائمًا، والحلم متصل لا ينقطع، وإذا هو يحس من حوله حياة لم يعرفها، وأشباحًا لا يتبينها، وأصواتًا يتذوقها ولا يكاد يسمعها، وإذا هي الأرواح تنكره ويأتمر به بعضها، أليس هو حفنة من تراب قد طفت على الجو، وسمت إلى حيث لا ينبغي أنْ تسمو، فيجب أنْ تُرَدَّ إلى أصلها، وأنْ تمتزج بمعدنها من الأرض، ولكن روح الشاعر يواتيه فيحميه ويعطف عليه كل هذا الكون الذي ينكره ويثور به، وإذا الشاعر يقضي على بساط الريح مع خير ما في الكون من المعاني والروح والمثل العليا، لحظاتٍ لا سبيل إلى أنْ تقدر ولا إلى أنْ توصف، وإنما هي لحظات النعيم الذي يذوقه الشعراء، ويبدع في تصويره الشعر، ثم يعجز برغم هذا الإبداع عن أنْ يؤدي صورته كما كان يريد أنْ تكون صادقة صافية ملائمة لما رأى ولما أحس.

ثم ينقطع الحلم وتهبط الطيارة الأرض، وينظر الشاعر فإذا هو قد رُدَّ إلى موطن الرق، وهوى إلى حيث الشقاء والألم والذل، وما شئت مما يجعل حياة الناس تعسًا كلها، وإذا هو لا يجد معزيًا ولا معينًا إلا قلمه، أليس هو الذي يتلقى عنه وحي الشعر؟ أليس هو الذي يسطر عنه هذا الوحي؟ أليس هو الذي يحمل شكاته المتصلة الخالدة إلى الأجيال المتصلة الخالدة؟ نعم، ليس للشعراء صديق يعدل رواتهم حين كانوا لا يكتبون، ولولا الأقلام ما عرفنا — أستغفر الله — ما عرف شعراؤنا المحدثين أحد من هؤلاء الذين سيعرفونهم بعد أنْ تمضي القرون والقرون، فيَرْثون لهم، ويعطفون عليهم، ولعلهم أنْ يجدوا عندهم ما يسر ويرضي، كما نجد نحن السرور والرضا عند القدماء.

لو طاوعت نفسي لنقلت لك القصيدة كلها، فليس فيها بيت واحد يستحق الإهمال، وأعيد الآن ما قلته من أنَّ القصيدة لا تمتاز بالابتكار، فليس فيها أو لا يكاد يكون فيها شيء مبتكر، وإنما تمتاز بهذا الروح الحلو القوي الوادع، الذي تكوَّن من جمال الشعر والموسيقى، وانبثَّ في القصيدة كلها فجعلها كلها خليقة أنْ تقرأ وتقرأ، ولا يزهد فيها القارئ، ولا يمل من قراءتها مهما يعدها، بل يرغب القارئ أشد الرغبة في أنْ يستريح إلى هذه القصيدة حين يثقل الهم على نفسه، ويضطرب الحزن في صدره، ويضيق بالحياة والأحياء؛ لأنه يجد في هذه القصيدة شريكًا له في الهم، ومشاطرًا له في الحزن، ومعينًا له على الضيق، ثم لأنه لا يكره أنْ يحلم مع الشاعر وهو يقظان، وأنْ يتخفف من جسمه ويدع الأرض وأثقالها، ويلم بهذا الشاعر الملك في قبة السماء التي اتخذها له قصرًا، وعلى أديم السحاب الذي اتخذه له عرشًا، ومن هذا القصر الشاهق، ومن هذا العرش العالي ينظر مع الشاعر إلى الأرض، ومن عليها وما عليها نظرة بريئة من الكبرياء، ولكنها مملوءة بالرحمة والحب والإشفاق، ولست أزعم أنَّ القصيدة تخلو من بعض الألفاظ التي كان الشاعر يحسن لو غيَّرها وأعرض عنها، ولكن أين تكون هذه الألفاظ القليلة النادرة من هذا الجمال الذي لا حدَّ له ولا نهاية!

لقد خسر الشعر العربي بموت هذا الشاعر الذي لم يكد يتجاوز الثلاثين، ولكن الشعر العربي الحديث قد ربح بهذه الحياة القصيرة ما أحسبه يقدره إلى الآن، ولعل مما يعزي أنْ يكون بعض الشعراء المصريين قد عرف لهذا الشاعر قدره، ووصف قبره هذا الوصف المؤثر الرائع الذي تقرؤه في ديوان «الملاح التائه»، والذي يقول فيه الأستاذ علي محمود طه قصيدته «قبر شاعر» المنشورة في غير هذا المكان.

ومن الحق أنْ نسجل هنا ما سجله الشاعر نفسه من أنَّ هذه القصيدة إنما هي من وحي فوزي المعلوف، فقد قالها الشاعر بعد أنْ سمع شيئًا من هذه القصيدة التي تحدثت إليك عنها الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤