الفصل الثالث

القديم والحديث
قرأت في الأسبوع الماضي وفي صحيفتنا الأدبية كتاب العتاب الذي بعث به الأستاذ مصطفى صادق الرافعي إلى أديبٍ من أدباء الشام ثم اصطفى السياسة لتذيعه في الجمهور، ثم قرأت رأينا في هذا الأسلوب ورد الأستاذ علينا في هذا الرد، وتقرأ اليوم١ رد كاتبين على الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، ثم تقرأ رسالة أخرى في هذه الصحيفة نفسها عنوانها «بين الجمال والحب» للكاتب الأديب طه عبد الحميد الوكيل، وأعتقد أنك إذا قرأت كتاب الأستاذ الرافعي ورسالة الأستاذ طه عبد الحميد الوكيل رأيت أسلوبين في الكتابة الأدبية مختلفين أشد الاختلاف: أحدهما قديم جدًّا، والآخر حديث جدًّا، وكلاهما فيما أعتقد بعيد كل البعد عن ملاءمة الحياة التي نحياها والعصر الذي نعيش فيه.

لو أني كنت أريد أن أذكر الكاتبين الأديبين لذكرت ما يمتاز به أحدهما من حسن رأيه في نفسه، وما يمتاز به الآخر من التواضع بل الغلو في التواضع، ولكني أعدل عن الكاتبين إلى الأسلوبين، فقد يخيل إليَّ أن من الخير أن يتفق الأدباء على أن لهذا العصر الذي نعيش فيه حاجات وضروبًا من الحس والشعور تقتضي أسلوبًا كتابيًّا يُحسن وصفها ويجيد التعبير عنها دون أن يسرف في القدم أو يغلو في الجدة، ولست أدري لم لا يتفق الأدباء على هذه القضية، ونحن في حياتنا المادية إنما نلائم بين حاجاتنا وبين الأدوات التي نستخدمها لنرضي هذه الحاجات، فما لنا إذا أردنا أن نتكلم لندل على هذه الحاجات لا نلائم بين لغتنا وبين حاجتنا، أو بعبارة أصح: ما لنا لا نلائم بين اللغة وبين الحياة؟

لسنا نعيش عيشة الجاهليين، فمن الحمق أن نصطنع لغة الجاهليين، ولسنا نعيش عيشة الأمويين ولا العباسيين ولا المماليك، بل لسنا نعيش عيشة المصريين في أوائل القرن الماضي، فمن الإسراف أن نستعير لغات هذه الأجيال وأساليبها لنصف بها أشياء لم يعرفوها، وضروبًا من الحس والشعور لم يحسوها ولم يشعروا بها، إذا كنا لا نعيش في الخيام ولا نتخذ هذه الأدوات المختلفة الحضرية أو البدوية التي اتخذها الجاهليون أو أهل بغداد؛ فليس من سبيل إلى أن نشعر كما كان يشعر الجاهليون وأهل بغداد، وإذن فليس من سبيلٍ إلى أن نكون صادقين حين نتكلم أو نكتب كما كان يتكلم الجاهليون أو كما كان يكتب أهل بغداد، وإذن فالغلو في اصطناع الأساليب الجاهلية أو العباسية على أنه مخالف لطبيعة الحياة التي تقتضي أن يكون اللفظ ملائمًا للمعنى، وأن تكون اللغة مرآة الأطوار المختلفة التي يتقلب فيها المتكلمون، أقول: إن اتخاذ هذه الأساليب عيب خُلقي في نفسه؛ لأنه يدل على أن الكاتب أو المتكلم يعيش في تناقض متصل مع حياته الواقعة، فهو يحس شيئًا ويقول شيئًا آخر، وهو يشعر بشيءٍ وينطق بشيءٍ آخر.

اتخاذ هذه الأساليب نقص أدبي؛ لأن الكمال الأدبي يستلزم أن تكون اللغة ملائمة للحياة، وهو نقص خلقي، لأنه كذب للكاتب على نفسه وعلى معاصريه، وهو نقض من جهة أخرى، لأنه لا يدل على أقل من أن الكاتب ينكر شخصيته ولا يعترف لها بالوجود، وأي إنكار للشخصية أشد من أن تحس وتشعر ثم تستحيي أن تصف إحساسك وشعورك كما تجدهما، فتستعير لهذا الوصف أساليب لا تلائمه وضروبًا لا تؤديه!

لنا حياة خاصة، ولنا لغة خاصة تلائم هذه الحياة، فما لنا نفرق بين الأشياء المؤتلفة؟ وما لنا نقطع الأسباب المتصلة؟ وما لنا نعيش في عصرٍ ونتكلم في عصرٍ آخر؟

أعرف أن الأسلوب الذي اتخذه الأستاذ الرافعي كان مستعذبًا في عصر من العصور، ولكني أعرف أنه إنما كان مستعذبًا؛ لأنه كان يلائم هذا العصر، فإذا انقضى هذا العصر وانقضى معه ما ألف الناس من ضروب الحياة فيه، فيجب أن ينقضي معه أيضًا أسلوب التعبير الذي كان الناس قد اتخذوه وسيلة لوصف ما يجدون في أنفسهم.

ومهما يقل الأستاذ الرافعي وأنصاره — إن كان له أنصار — فليس من شكٍّ في أنه يشعر كما كتب، ولم يفكر كما كتب، وإنما شعر بطريقة، وكتب بطريقةٍ أخرى، فلسنا نراه هو في كتابه، وإنما نرى في هذا الكتاب تكلفه ومحاولته الإجادة، ولا تنسَ أن الأستاذ يعاتب صديقًا، وأن العتاب يحتاج فيما يظهر إلى أن يظهر الصديق لصديقه دخيلة قلبه وخلاصة نفسه، لا أن ينسج له نسجًا ليس بينه وبينه صلة.

أسلوب الأستاذ الرافعي قديم جدًّا لا يلائم العصر الذي نعيش فيه، وأسلوب الأديب طه عبد الحميد الوكيل حديث جدًّا لا يلائم العصر الذي نعيش فيه أيضًا، وآية ذلك أني لا أشك في أن كثيرًا من القراء سيشعرون حين يقرءون رسالته بشيءٍ من الغموض كثير، وبأنهم أمام أشياء لا يشعرون بها ولا يحسونها، لا لأن الله قد اختص بها الكاتب وحده، فكثير من الناس يحب، وكثير من الناس يلذ الجمال، ولكن لأن الكاتب قد اتخذ في وصف الحب والجمال أسلوبًا لا يلائم ما ألف الناس حين يحبون وحين يلذون، وحين يحاولون أن يصفوا الحب أو اللذة.

ويغلو قوم منا في إيثار القديم فيضيِّقون وفي الحياة سعة، ويغلو قوم منا في إيثار الجديد فيرتفعون عما ألف الناس، ومع ذلك فالقصد أساس الخير في كل شيء. لسنا أبناء القرن الخامس للهجرة، ولسنا أبناء القرن السادس عشر للهجرة، وإنما نحن أبناء القرن الرابع عشر للهجرة. بيننا وبين الماضي أسباب متصلة، وبيننا وبين المستقبل أسباب ستتصل، فما لنا لا نحتفظ بهذه المكانة التي وضعتنا فيها الطبيعة، فلا نسرف في التقدم، ولا نسرف في التأخر؟! لا أمقت القديم ولا آنف من الحديث، وإنما أرى أني وسط بين القديم والحديث، وأرى أن لغتي يجب أن تكون مرآة صادقة لنفسي، ولن تكون لغتي مرآة صادقة لنفسي إذا كانت قديمة جدًّا أو حديثة جدًّا، وإنما هي مرآة صادقة لنفسي إذا كانت مثلي وسطًا بين القديم والحديث.

سيقولون: فلننصرف إذن عن اللغة العربية الفصحى، فهي قديمة جدًّا لا تلائمنا ولا تؤدي ما نحسه ونشعر به، كلا! ليس هذا حقًّا، فإن اللغة العربية الفصحى ليست من الموت والجمود بحيث تظنون، وإنما هي كغيرها من اللغات الحية مستحيلة إذا تكلفها أحياء يخضعون لنظام الاستحالة والتطور، حية مستحيلة لأننا نفهمها ونتخذها وسيلة للتخاطب وتبادل الآراء، فيفهم بعضنا بعضًا دون تكلف ولا عناء، وكل ما نريده لهذه اللغة هو أن تسلك سبيلها في الحياة والاستحالة، دون أن يحول بينها وبين ذلك أسلوب قديم كأسلوب الأستاذ الرافعي، ودون أن يفسد عليها هذه الحياة أسلوب حديث جدًّا كأسلوب الأديب طه عبد الحميد الوكيل، لا نكره أن يصطنع الأدباء في دقةٍ واحتياط ألفاظ اللغة العربية الفصحى التي جلاها الاستعمال وصقلتها الألسنة، وأن يؤثروا هذه الألفاظ على الألفاظ الساقطة المبتذلة، كما لا نكره أن يستعير الكتاب في قصد وحسن اختيار من اللغات الحديثة الأوروبية معاني وأساليب وألفاظًا دون أن يفسد ذلك جمال اللغة العربية وروعتها، وعلى الجملة نريد أن تكون لغتنا مرآة لحياتنا، لا قديمة خالصة، ولا أوروبية خالصة، فأي شيء في هذا؟ وماذا يمكن أن ينكر علينا الأستاذ الرافعي وأصحابه من هذا؟ ومتى كان القصد إلى الصدق وحسن الملاءمة بين ما نجد وبين ما نصطنع في وصف ما نجد ذنبًا ينكر أو شيئًا يعاب؟ على أننا نود لو كتب الكاتبون في هذا الموضوع وأعلن كل منهم رأيه فيه، فقد تنتهي المناقشة بنا إلى الاتفاق على قاعدة يحسن أن نتفق عليها منذ الآن، فنتقي هذا الاضطراب الذي نشهده في النثر والشعر وأساليبهما، ونتقي شيئًا آخر ثقيلًا منكرًا هو سخط الأدباء والكتاب إذا نقدهم ناقد أو أخذهم كاتب بما لا يحبون.

طه حسين
١  راجع صفحة الأدب في السياسة بتاريخ ٤ يونيو سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤