الفصل الثلاثون

النقد وأصول الحكم

ما يزال صديقي الأستاذ عوض حريصًا على أنْ ينظِّم النقد تنظيمًا، ويقيده تقييدًا، ويجعل له صورة واضحة الشكل مرسومة الحدود، فالذين قرءوا فصله القيِّم الذي كتبه في هذا العدد من «الوادي» يرون أنه أخضع النقد لأصول الحكم، وصور الحكومات، فجعل نفسه ديمقراطيًّا، وجعل الطناحي أرستقراطيًّا، وجعلني أنا من أصحاب الفوضى في الأدب، وأنا حريص كل الحرص على أنْ أكون من أصحاب الفوضى في الأدب؛ لأني لا أستطيع أنْ أتصور الأدب على غير هذا النحو، ولا أستطيع أنْ أنتظر منه خيرًا، ولا أن أرجو له خصبًا، إلا إذا اعتمد على الحرية المطلقة التي لا تعرف حدًّا ولا قيدًا، ولا تخضع لنظامٍ ولا قانون، ولكني في حاجةٍ إلى أن أفهم الديمقراطية الأدبية على وجهها، كما أني في حاجةٍ إلى أن أفهم الأرستقراطية الأدبية على وجهها أيضًا، فقد يخيل إليَّ أنَّ إطلاق مثل هذه الألفاظ على مثل هذا النحو يفسد معانيها إفسادًا، ويلقي في عقول الناس صورًا مشوهة مختلطة من الأدب والنقد والديمقراطية والأرستقراطية جميعًا.

وأكبر الظن أنَّ هذه الألفاظ العامة المبهمة تُلقى في نفوس الناس في هذه الصور المختلطة المشوهة، هي التي تدعو الناس إلى الكسل وتغريهم بالتقصير؛ لأنها تثير أمامهم مصاعب وعقبات، لا يقدرون على تذليلها ولا يبلغون ما وراءها، فيكتفون بالنظر إليها، ويحفظونها كما هي، ثم يجرون بها أقلامهم، ويطلقون بها ألسنتهم، ويرسلونها في الأندية والمجالس إرسالًا، فإذا سألتهم عما وراءها لم تجد طائلًا ولا غناء، ولو أنَّ الكُتَّاب والنقاد والأدباء عامة حرصوا على تحديد الألفاظ والتدقيق في اختيارها، والكشف الجلي الواضح عن معانيها لأراحوا القرَّاء من عناءٍ كثير وَهَمٍّ ثقيل، وما أظن أنَّ الأدباء الذين ينشئون النثر في أي فنٍّ من فنون الأدب وفي النقد خاصة، ينفعون أو ينتفعون حين يرسلون الألفاظ إرسالًا في غير تحديد ولا تحقيق، إنما يُقْبَل هذا من الشعراء ومن بعض الكُتَّاب الذين يذهبون مذاهب الشعراء؛ لأن هذا النحو من إطلاق الألفاظ العامة المبهمة، يثير نوعًا من الجمال يلذ السمع والقلب والشعور، فيه لذة لا يحفل بها العقل، ولا يقف عندها، فضلًا عن أن يسعى إليها.

فلندع إذن للشعراء وأمثال الشعراء هذه الألفاظ العامة المبهمة، ولنذهب مذهب الدقة والتحقيق حين نكتب في النقد وما يتصل به من فنون القول، وإذن فكيف تكون الأرستقراطية أو الديمقراطية في الأدب؟ وأين تكون الأرستقراطية والديمقراطية في الأدب؟ أتكون عند الأدباء الذين ينتجون؟ أم تكون عند القرَّاء الذين يستهلكون؟ أم تكون عند الناشرين الذين يسعون ويتوسطون بين أولئك وهؤلاء؟

فأما الأدباء الذين ينتجون، فلست أعرف كيف ينظمون أنفسهم، أو كيف ينظمون غيرهم على نحوٍ من هذه النظم المعروفة في السياسة؛ ذلك أنَّ الأديب بطبعه حرٌّ، حرٌّ حتى بإزاء إرادته الخاصة، فهو لا يستطيع أنْ ينتج متى شاء، وهو لا يستطيع أنْ ينتج كيف شاء، وهو لا يستطيع أنْ ينتج ما يشاء، وإنما هو رجل قوي الذهن، واسع العقل، خصب الخيال، يحس ما حوله من الأشياء ويتأثر بها، وإذا بعض ما يحس يملك عليه نفسه، ويثير فيه آثارًا قوية تضطره إلى أنْ يكتب أو ينظم أو يصور ما أحس على كل حال، ولست أزعم أنَّ إرادة الأديب ملغاة في إنتاجه إلغاءً تامًّا، ولكني أزعم أنَّ تأثير الإرادة في هذا الإنتاج ضئيل جدًّا لا يكاد يذكر، وأنَّ المقدار اللاشعوري في إنتاج الأدب أعظم جدًّا من المقدار الشعوري، وقد يكون من السهل أو من الصعب أنْ تحلل حياة الأديب تحليلًا، وأن ترد آثاره إلى مصادرها الأولى من مزاج الأديب وطبيعته ومن البيئة التي أحاطت به والعصر الذي عاش فيه، ولكن هذا التحليل نفسه إن أتيح للباحثين من مؤرخي الآداب؛ فهو دليل واضح على أنَّ الأديب، إلى أن يكون مجبرًا في الأدب أقرب منه إلى أن يكون مختارًا، فالأديب إذن حرٌّ بالقياس إلى الناس، وهو حرٌّ بالقياس إلى نفسه أو إلى إرادته إنْ شئت التدقيق، وهو حرٌّ إلى أبعد غايات الحرية، وهو من هذه الناحية متمرد لا يستطيع أنْ يخضع لنظام ولا أن يذعن لسلطان، إلا سلطان هذا الشيطان الذي يلهمه ويوحي إليه ويدفعه إلى الإنتاج، قد يكون الأديب ديمقراطي المذهب ديمقراطي المزاج، ديمقراطي البيئة، ديمقراطي الوراثة، فتصدر عنه آثار ديمقراطية أيضًا؛ لأنها لا تستطيع إلا أنْ تكون ملائمة لمصدرها، وقد يكون الأديب أرستقراطيًّا في هذا كله، فتصدر عنه آثار أرستقراطية، وإذا اتصلت حياة «الفاشزم» وأثرت في الأجيال، كما اتصلت حياة الأرستقراطية والديمقراطية، فلا بد من أنْ يوجد أدباء تصدر عنهم آثار تلائم هذا المذهب الجديد من مذاهب الحياة، وإذن فكيف يستطيع كاتب من الكتاب أو ناقد من النقاد أو صاحب سلطان مهما يكن أن يجعل النقد أو الأدب ديمقراطيًّا أو أرستقراطيًّا أو فاشيًّا أو بلشفيًّا كله؟! ليس إلى ذلك سبيل، وإنما السبيل إلى ذلك هي الفوضى، هي هذه الحرية المطلقة، الحرية التي لا تعرف الطبيعة غيرها، ولا ترضى الطبيعة سواها، الحرية التي تستمتع بها الشمس حين تضيء، والنسيم حين يهب، والزهرة حين تتأرج، والريح حين تعصف، والرعد حين يقصف، والبرق حين يضطرب في السماء، هذه الحرية هي سبيل الأدب ليس إلى تقييدها من سبيل، وإذن فكيف يمكن أن ينظم النقد كله على أنه ديمقراطي أو على أنه أرستقراطي، أو على أنه ما شئت من هذه المذاهب التي يلهج بها أصحاب السياسة، ويكثرون فيها الجدال والحوار!

ليكن صديقي عوض إذن ديمقراطيًّا في أدبه، وليكن الأستاذ الطناحي أرستقراطيًّا، فقد يكون مزاجها يلزمهما ذلك إلزامًا، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه أنهما لن يستطيعا أنْ يفرضا ديمقراطيتهما أو أرستقراطيتهما على الأدب والأدباء، ولن يستطيعا أنْ يخرجا الأدب نفسه من أن يكون حرًّا طليقًا، يعتمد على الفوضى أكثر مما يعتمد على النظام، بل تصلحه الفوضى وتملؤه خصبًا ونفعًا، ويفسده النظام، ويضطره إلى العقم والجمود.

والقرَّاء كيف يمكن أنْ يكونوا ديمقراطيين أو أرستقراطيين في الأدب والنقد؟ أما أن كل قارئ يجب أن يستمتع بحريته المطلقة الخالصة التي لا حدَّ لها فيما يقرأ أو قل في اختيار ما يقرأ من الكتب والصحف والمجلات، فهذا شيء لا شك فيه، ولكن الحق المقرر شيء، والحق الواقع شيء آخر، فالأصل أنَّ حرية القارئ مطلقة، والواقع أنَّ حريته مقيدة محدودة بقيودٍ كثيرة وحدودٍ ضيقة، أيسرها وأظهرها أنه لا يستطيع أنْ يقرأ إلا ما ينشر له ويصل إليه، وهو بعد بعد ذلك حر في أن يختار بين ما ينشر له ويصل إليه، ولكن حريته هذه نفسها محدودة أيضًا بحدودٍ كثيرة شديدة الضيق، أيسرها وأظهرها أنه إنسان يتأثر بما يتأثر به الناس، والإعلان من أشد الأشياء تأثيرًا في نفوس الناس مهما يكونوا، وإذن فالقارئ مقيد بالإعلان، يكفي ألا يخرج من داره حتى يرى الإعلان عن كتاب ينشر أو قصة تمثل، وألا ينظر في صحيفة حتى يرى الإعلان عن كتاب ينشر أو قصة تمثل؛ ليرى أنه مدفوع دفعًا قويًّا إلى أنْ يقرأ هذا الكتاب أو يشهد هذه القصة، وكلما كان الإعلان ملحًّا كان اندفاع القارئ شديدًا، فإذا كان الإعلان صادرًا من قومٍ يحسنونه ويفتنون فيه كان اندفاع القارئ أشد، فإذا كان الإعلان صادرًا عن رجل له مكانة بين الناس أو للناس به ثقة وحسن ظن كان اندفاعه لا حد له، وإذن فهذه الحرية المطلقة التي يقررها الحق للقارئ، والتي نحلم بها جميعًا ليست في حقيقة الأمر مطلقة ولا بريئة من كل قيد.

وكما أنَّ القارئ مقيد في اختيار ما يقرأ بهذه القيود، فهو كذلك مقيد في الحكم على ما يقرأ، فاملأ الصحف ولوحات الإعلانات بالثناء على كتاب من الكتب، وألح فيه ما وسعك الإلحاح، وأنفق في ذلك ما استطعت إنفاقه من المال، وثق بأن كثيرًا من الناس سيسرعون إلى الكتاب، وسيشترونه وسيقرءونه وسيرضى أكثرهم عنه، وسيشفق الذين لا يرضون عن الكتاب من أنْ يعلنوا سخطهم مخافة أنْ يتهموا بالجهل أو بالغباء، أو بالتحذق والغرور، فإذا استطعت أنْ تضيف إلى هذا الإعلان العنيف فصولًا من كبار الكتاب الذين يحبهم القرَّاء، ويثقون بهم، فأنت مطمئن إلى أنَّ كتابك سيظفر بالفوز والتأييد إلى حينٍ على أقل تقدير، وقد يظهر الرأي الصحيح في هذا الكتاب بعد أن تهدأ عاصفة النقد والإعلان، ولكن هذا لا يؤثر فيما نحن بسبيله من أنَّ القارئ لا يستطيع أن يكون ديمقراطيًّا في القراءة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، وإنما هو خاضع أشد الخضوع لطغيان الإعلان، ولعمري إني لأوثر إذا لم يكن بد من خضوع القارئ أن يخضع لطغيان ناقد أديب مثقف ممتاز الثقافة لا يطلب الطغيان، ولا يتكلفه ولا يلح فيه، على أن يخضع لهذا الطغيان المرذول الذي يفرضه الإعلان، وما ينفق عليه من مال في غير صدق ولا نصح ولا إخلاص للقراء.

فديمقراطية القرَّاء إذن من هذه الناحية حلم من الأحلام، كما أنَّ أرستقراطيتهم وَهْم من الأوهام، وإذن فأين تكون الديمقراطية والأرستقراطية في الأدب؟! أو أين يكون النظام الدقيق في الأدب ما دام لا يمكن تحقيقه عند الأدباء، وما دام لا يمكن تحقيقه عند القراء؟! إنما يكون النظام الدقيق عند الناشرين الذين يتوسطون بين الأدباء والقراء، ولست أدري، بل ليس يعنيني أنْ يكون هذا النظام ديمقراطيًّا أو أرستقراطيًّا، أو شيوعيًّا؛ لأن الحق الواقع أنه نظام دقيق، وأنه يقوم قبل كل شيء على رعاية مصلحة الناشر ورأس المال الذي يعتمد عليه، وعلى إهمال الأديب والقارئ التضحية بهما في سبيل التنمية المسرفة الآثمة لرأس المال، ولكنا نبعد عن الموضوع الذي أردنا أنْ نكتب فيه إنْ أطلنا الوقوف عند الناشرين واستبدادهم بالمنتجين والمستهلكين جميعًا، فلندعهم وما هم فيه من سلب ونهب ومن تضحية بالأديب المنتج وعبث بالقارئ المستهلك، ولنرجع إلى النقد والأدب، ولنسأل كيف يمكن أن يخضعا خضوعًا عامًّا شاملًا لنظام من نظم الحكم أو لصورة من صور الحكومات؟ كيف يمكن أنْ يكونا ديمقراطيين أو أرستقراطيين؟ أو بعبارةٍ أدق: كيف يمكن أنْ يحكم فيهما الفن أو أنْ يحكم فيهما القرَّاء؟ ما زلت أنتظر أن ينبئني أصحاب الفن عن حكم الفن هذا كيف يكون، بل عن الفن نفسه كيف يقرأ وكيف يلاحظ، وكيف يقضى، وما زلت أنتظر أن ينبئني أصحاب الجمهور كيف يمكن حكم الجمهور في الأدب؟ من هو هذا الجمهور؟ وكيف يصدر عنه حكم متفق مع أنه هو مختلف أشد الاختلاف في الطبقة والبيئة والثقافة؟

صدقوني أيها الزملاء، إنَّ من الإسراف أنْ تفرضوا النظام على كل شيء، فدعوا الأدب حرًّا طليقًا، كما أراد الله له أن يكون، ليكتب من شاء ما يشاء، ولينتقد من شاء ما يشاء كما يشاء، فلا حياة للأدب إلا بهذا، ولندع للطبيعة نفسها الذهاب بما لا خير فيه واستبقاء ما ينفع الناس؛ فقد تكون الطبيعة أقدر من الفن، وأقدر من النقاد، وأقدر من الجمهور على هذه التصفية، وأنا أعلم أنك ستسألني عن الطبيعة ما هي؟ فأجيبك بأنها هي مجموعة من المؤثرات الظاهرة والخفية التي نعرفها والتي لا نعرفها، والتي تعمل سواء أردنا أم لم نرد على تحقيق ما قال الله عز وجل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤