الفصل الحادي والثلاثون

في الضمير الأدبي

جذوة مضطرمة يختلف عليها الليل والنهار، وتتعاقب عليها الفصول، وتثور من حولها العواصف، وتتباين من حولها الظروف، وهي متوقدة متوجهة، لا يعرف الخمود ولا الضعف إليها سبيلًا، هذه الجذوة الخالدة القوية التي لا يخمدها إلا الموت، إنْ كان الموت يستطيع أنْ يخمدها — وأكبر الظن أنه لا يستطيع ذلك؛ لأن الموت لا يفني شيئًا، وأن هذه الجذوة، تنتقل من حيزٍ إلى حيز ومن مكانٍ إلى مكان — هذه الجذوة الخالدة التي تستعصي على الفناء هي عندي الصورة الصادقة لضمير الأديب الذي يستحق هذا الاسم، هي قوية لا تعرف الضعف مهما تكن الظروف التي تكتنفها، والخطوب التي تلم بها، والهموم التي تصب عليها صبًّا، خذ أديبًا خليقًا بهذا الاسم، وادرس حياته الأدبية وحياته المادية والظروف التي أحاطت بهذه وتلك، فسترى أنَّ جذوته هذه قد ثبتت للخطوب جميعًا، واستعصت على الأحداث جميعًا، واستغلت الظروف جميعًا في سبيل بقائها وتوقدها وصفائها وإنتاجها المتصل.

تلين الحياة لهذا الأديب، وتواتيه الظروف ويتاح له خفض العيش، وتبسم له الأيام، فإذا هو ناعم راضٍ مبتهج قوي الأمل، ولكن شيئًا من هذا كله لا يبطره ولا يطغيه، ولا يصرفه عن الأدب ولا عن الإنتاج فيه، إنما هو الأديب دائمًا، المختلف دائمًا إلى معبد «أبُلون» المستخرج دائمًا من هذا المعبد خير ما فيه من آيات الأدب والحكمة والفن، لا ينخدع بزخرف الحياة، ولا يطمئن إلى لين العيش، ولا يكتفي بما أتيح له من نعيم، وإنما يتخذ هذا كله وسيلة إلى إذكاء جذوته وتصفيتها وتنقيتها وتمكينها من أن تنتج، ومن أن تمس أكبر عدد ممكن من الناس، ومن أن تتعمق أكبر عدد ممكن من مشكلات الحياة، وقد تقسو الحياة عليه وتتنكر له، وتنصب الظروف له أشنع الحرب، وتُعرض الآمال عنه إعراضًا، وتنسج الدنيا له من الكيد والمكر والعدوان شباكًا تأخذه من كل مكان، فلا يتقدم إلا رأى شرًّا، ولا يتأخر إلا رأى شرًّا، ولا يسكن إلا أحس همًّا، ولا يتحرك إلا أحس همًّا، وهو مع ذلك أديب لا يصرفه الشر المتصل والنكر الذي لا ينقطع، ولا الخطوب المتلاحقة، ولا الهموم الثقال عن أدبه ولا عن جذوته هذه، إنما هو دائم العكوف عليها، مستمر التذكية لها، يستغل قسوة الحياة لذلك كما يستغل لينها، ويستفيد من البؤس كما استفاد من النعيم، وينتفع بالشقاء كما انتفع بالسعادة، ويبلغ بجذوته هذه أنْ تمس أكبر عدد ممكن من الناس، وأن تتعمق أكبر عدد ممكن من مسائل الحياة، وأن تثير أكبر عدد ممكن من هذه العواطف الخفية التي ينطوي عليها قلب الإنسان الأديب الخليق بهذا الاسم. حركة دائمة وحياة متصلة وإنتاج لا ينقطع، ينتج حين تمسه السراء، وينتج حين تمسه الضراء، ينتج حين يكون قويًّا في ظاهر الحياة، وينتج حين يكون ضعيفًا في ظاهر الحياة؛ لأنه قوي دائمًا، ينتج وهو حيٌّ وينتج بعد أن يموت؛ لأن جسمه هو الذي يموت، ولأن ملكاته المتصلة هي التي تموت، فأما حياة ضميره الأدبي، فأما جذوته المتقدة، فأما حياة عقله وقلبه ونفسه، فهي باقية أبدًا، لا يموت حتى يسلم اللواء إلى من يحمله، وحتى يلقي في الآفاق من آرائه ومعانيه وخواطره ومذاهبه ما يؤتي أثمارًا تتبعها أثمار، ويحيي نفوسًا تنتقل منها الحياة إلى نفوس، وهو كذلك حيٌّ دائمًا ما عاش الناس، باقٍ دائمًا ما بقي في الأرض قلب يشعر وعقل يفكر، وإنسان قادر على الفهم والذوق والإنتاج.

خذ من شئت من الأدباء الذين يستحقون هذا الاسم على اختلاف آجالهم وبيئاتهم وأزمانهم، وادْرُس حياتهم قبل أنْ يموتوا، وادْرُس حياتهم بعد أن ماتوا، فهم أحياء بعد الموت، وحدثني أترى في هذه الحياة ضعفًا، أم ترى في هذه الحياة فتورًا، أم ترى فيها ذبولًا واستعدادًا للفناء؟ كلَّا، إنما هي القوة المتصلة، والخصب المتصل، والإنتاج الذي ليس إلى انقطاعه سبيل، كم مضى على هوميروس، أو على الهوميريين من قرون، وكم اختلفت على آثارهم الظروف والأمم والأجيال، وهذه الآثار مع ذلك باقية تقرأ وتُحيي النفوس، وتُثير العواطف، وتدعو إلى الإنتاج القيم، الذي يختلف في صوره وأشكاله وفي أغراضه وآياته وفي موضوعاته أيضًا، ولكنه ينتهي دائمًا إلى أصل واحد، هو هذه الجذوة القوية المُضطرمة التي لم تخمد بعد، والتي أنتجت الإلياذة والأوديسا، أو ما يتصل بهما من القصص والأساطير، وخذ من شئت غير الهوميريين من أدباء الرومان أو من أدباء العرب أو من أدباء الفرنجة في العصور الوسطى وفي هذا العصر الحديث، فستراهم أحياء، وسترى أنَّ حياتهم أقوى وأنفع ألف مرة ومرة من حياة أمثالك وأمثالي من الذين يضطربون في الأرض، ويتحدثون إلى الناس، ويجادلون فيما يثور من المشكلات، فليس من شكٍّ في أنَّ انتفاع الناس الآن بآثار هوميروس وأمثاله، وتحدثهم عن هذه الآثار، واستغلالهم لها، واستعانتهم بها على إنشاء النثر ونظم الشعر، أكثر ألف مرة ومرة من انتفاعهم بما ينتج الأدباء الأحياء، مهما يكن شأنهم مرتفعًا، ومهما يكن صوتهم بعيدًا، ومهما يكن استعدادهم للخلود قويًّا، فالجذوة الأدبية إذن تمتاز بقدرتها على البقاء، وبأن طول العهد بها لا يزيدها إلا قوة، وبأن اختلاف الأحداث عليها لا يزيدها إلا اضطرامًا وانتشارًا.

إذن فليس أديبًا حقًّا من يزعم أنه قادر على أنْ يفارق الأدب، ويخمد جذوته في نفسه، أو هو أديب، ولكنه لا يعرف نفسه، ولا يقدر طاقته، ولا يفرق بين ما يستطيع وما لا يستطيع، وإذا رأيت رجلًا يتحدث الناس عنه أنه أديب، ويتحدث هو عن نفسه أنه أديب، ثم يتخلف فجأة عن حياة الأدباء وعن الإنتاج الأدبي، وينصرف إلى أشياء ليست من الأدب في شيء، فاعلم أنه ليس أديبًا، وإنما خدع عن نفسه، أو خدع الناس عنه، ثم تَبَيَّنَ له الحق، أو تَبَيَّنَ للناس الحق في أمره، فعاد إلى ما يلائمه، وعاد الناس في أمره إلى الصواب.

وإذا رأيت أديبًا ينتج ما استقامت له الحياة، وواتته الظروف، واتصل عليه النعيم، فإذا اعوجت به الطريق، أو نَبَتْ به الظروف، أو سلط عليه البؤس، لم يصنع شيئًا، وإنما ضعف وأدركه الوهن، وحيل بينه وبين الخصب المنتج المفيد؛ فهو ليس أديبًا خليقًا بهذا الاسم، تستطيع أنْ تسميه بما شئت من الأسماء، وأن تخلع عليه ما أحببت من الأوصاف، إلا أن تزعم له أنه أديب.

أتعرف هؤلاء الشعراء الذين يستمتعون بالحرية فيتغنون، ويُزَجُّون في أعماق السجون فيتغنون، والذين يستمتعون بالنعيم فيتغنون، ويضطرون إلى البؤس والجوع والحرمان فيتغنون؟ هؤلاء شعراء حقًّا وأدباء حقًّا! لأن أخص ما يمتاز به الشاعر أو الأديب هو أنَّ جذوته مضطرمة دائمًا، وضميره حيٌّ دائمًا، وقلبه مرآة لكل شيء، وملكته الإنشائية مصورة دائمًا لكل ما يرتسم في هذه المرآة، فإذا رأيت رجلًا تعجبه الحياة فيتغنى، فإذا ساءته آثر الصمت أو اضطر إليه؛ فهو أديب منقوص، أو شاعر منقوص، فكيف بك إذا رأيت هذا الرجل الذي يسلط إرادته على أدبه، فينتج حين يريد، ويكف عن الإنتاج حين يريد، ويتصرف في الأدب كما يتصرف في غيره من هذه الأشياء التي يتصرف الناس فيها أحرارًا؟ هذا الرجل ليس أديبًا، وإنما هو صانع، وإنما هو متكلف، وإنما هو عامل من العمال، ومن العمال الذين يتخذون العمل وسيلة إلى الحياة، لا وسيلة إلى إرضاء طبيعتهم المشغوفة بالفن، المفطورة على حبه، المكرهة على أنْ تتصل به، مهما تكن الظروف.

والأديب الذي يستحق هذا الاسم قد تختلف آراؤه وميوله، وقد تتباين عواطفه وأهواؤه، وهو قد يرضى، وقد يسخط، وقد يرضى عن شيء، ويسخط على هذا الشيء نفسه، وقد يحب إنسانًا ثم يبغضه، وقد يحب شيئًا ثم يكرهه، ولكن شيئًا من هذا لا يؤثر في ضميره الأدبي، ولا يؤثر في تقديسه للأدب، ورفعه فوق كل شيء، وفوق كل ظرف، وفوق كل عاطفة أو هوى، فالأدب عنده ليس وسيلة ولا أداة، وإنما هو الغاية والغرض، وهو الشيء الذي من أجله خلق، ومن أجله عاش، ومن أجله يجب أنْ يموت، فإذا رأيت رجلًا يبتذل الأدب ابتذالًا ويمتهنه امتهانًا، ويبيع مذهبه الأدبي في السوق، فيميل به إلى اليمين إنْ راجت السوق نحو اليمين، ويميل به إلى الشمال إنْ راجت السوق نحو الشمال، ويقف به موقف الحائر المنتظر حتى يتبين من أين تهب الريح وإلى أين تريد أنْ تمضي ليتبعها؛ فليس هذا الرجل أديبًا، وليس هذا الرجل مستمتعًا بهذا الضمير الأدبي الذي يتيح لأصحابه القوة والخلود، وإنما هو تاجر يحمل طائفة من السلع والعروض، يريد أنْ يفيد منها ما يتاح له من الربح، فيوفق حينًا، ويخطئه التوفيق في كثيرٍ من الأحيان.

والضمير الأدبي الصحيح صُلْبٌ لا يعرف المرونة، ماضٍ لا يعرف التردد، قاسٍ لا يعرف لينًا، ترى الأديب يتلون في أشياء كثيرة، ولكنه لا يتلون في الأدب، تراه يفرط في أشياء كثيرة، ولكنه لا يفرط في الأدب، تراه يساوم في أشياء كثيرة، ولكنه لا يساوم في الأدب؛ لأنه يستطيع أنْ يمس الأدب بتلون أو تفريط أو مساومة، انظر إلى هذا الشاعر قد اتخذ لنفسه هذا المذهب في الشعر، أو فرض هذا المذهب على نفسه فرضًا؛ فهو يتصور على هذا النحو دون ذاك، وينظم على هذا النحو دون ذاك، ويتغنى على هذا النحو دون ذاك، قد تختلف عليه الأحداث، وتلم به الملمات، ويمتحن في حياته ما شاء الله من ضروب الامتحان، ولكنه لن يغير مذهبه في الشعر، ولن يتحول عن أسلوبه في النظم، ولن يميل عن طريقته في الغناء، إلا أنْ يكون هذا التحول نتيجة طبيعية للتطور الفني الذي لا بد منه، فأما أنْ يبيع مذهبه بمذهبٍ آخر؛ لأن الناس يريدونه على ذلك، فأما أنْ يغير أسلوبه في النظم؛ لأن أسلوبه القديم لا يرضي الناس ولا يوافق أهواءهم، فأمَّا أنْ يميل عن طريقته في الغناء إلى طريقةٍ أخرى؛ لأن طريقته لا تلائم ذوق الناس، فهذا شيء لا سبيل إليه؛ لأن الأديب الخليق بهذا الاسم لا يفكر في الناس ولا يحفل بهم، ولا يقف عند ما يريدون وما لا يريدون، وإنما يفكر في الأدب وحده، ويحفل بالأدب وحده، ويقف عند ما يريد الأدب وحده.

الأديب هو أصدق صورة للرجل المجبر، الذي لا رأي له ولا إرادة ولا اختيار فيما ينتج من الآثار الأدبية الخالصة، هو أشبه شيء بالأداة التي تُوجَّه، وهي لا تعرف كيف تُوجَّه، وأشبه شيء بالمرآة التي تتلقى الصور وهي لا تعرف كيف تتلقاها، وأشبه شيء بالرجل الملهم الذي يأتيه الوحي، وهو لا يعرف كيف يأتيه ولا من أين يأتيه، هذا هو الضمير الأدبي الذي يتيح لأصحابه البقاء، ويتيح لهم أنْ يكونوا أئمة للناس وقادة للحضارة.

فأما هذه الضمائر الضعيفة الفاترة التي لا تعرف ثباتًا، ولا تقدر على مقاومة، ولا تحس استقرارًا ولا استمرارًا، فلست أدري ما هي، ولكني أعلم حق العلم أنها ليست ضمائر أدبية، وإنما هي ضمائر تستطيع أنْ تسميها بما شئت من الأسماء، وأن تصفها بما أحببت من الأوصاف.

ولعلك تسألني: فيم كل هذا الكلام؟ وفيم كل هذا التفصيل؟ وأظن أني لست في حاجةٍ إلى أنْ أجيب ولا أنْ أطيل الجواب، وإنما يكفي أنْ تنظر في الأدب المصري الحديث، وفي الأدباء المصريين المحدثين، وأن تسأل أين يكون الضمير الأدبي الصحيح من هذا الأدب ومن هؤلاء الأدباء؟ أين يكون هذا الأديب الذي يرفع أدبه عن الظروف، ويرقى به فوق الأحداث، ويمتنع به عن الضيم، ويأبى أنْ يجعله تجارة، وأن يساوم فيه كما يساوم التجار؟ أين يكون هذا الأديب الذي لا يفكر في الناس قبل أن ينشئ، ولا يسأل عما سيقول الناس قبل أنْ ينتج، ولا يقدر عواقب آثاره الأدبية قبل أنْ يذيعها في القرَّاء؟ أين يكون الأديب الذي لا يقوم أثره الأدبي بالدراهم والدنانير قبل أنْ يكتبه وقبل أنْ يخرجه؟ أين يكون هذا الأديب الذي لا يسعى إلى الشهرة إنما تسعى الشهرة إليه، والذي لا يطلب الرضا وإنما يطلبه الرضا، والذي لا يخاف الخمول ولا يكره الانزواء، ولا يشفق من الغضب والخطر؟ أين هذا الأديب الذي لا يرضى صحبة الأدب إلا أن يكون الأدب صاحبًا مأمونًا لا يعرض لخطر ولا يثير خوفًا، ولا يهيج غضب السلطان أو اتباع السلطان، ولا يحول عنه رضا الناس ولا يحول عنه قروش الناس بنوعٍ خاص؟ ثم أين هذا الأدب الذي ينتجه في مصر مثل هذا الأديب؟ تستطيع أنْ تبحث عن هذا الأدب، وأنْ تبحث عن ذلك الأديب، وأنْ تلتمس الضمير الأدبي الصحيح الذي يؤمن بالمبدأ الأدبي كما يؤمن الرجل النقي بمبدئه الديني، وأظنك لن تخالفني في أنَّ هؤلاء الأدباء في مصر قليلون جدًّا، وليسوا في حاجةٍ إلى الإحصاء؛ لأنهم يحصون أنفسهم بأنفسهم، وفي أنَّ الآثار الأدبية التي تصدر عن هذا الضمير الأدبي الحي قليلة جدًّا ليست في حاجةٍ إلى العد لأنها تعد نفسها، وفي أنَّ مصر ستظفر بالحياة الأدبية الصالحة التي ترفع مكانها بين الأمم الراقية بالأدب حقًّا يوم يقوى الضمير الأدبي في أدبائها، ويوم يستطيع أنْ يسيطر سيطرة صحيحة على نفوس كثيرٍ من الكُتَّاب وكثيرٍ من الشعراء، فلا ينشئون ولا ينظمون إلا عن يقينٍ وصدق وإيمان.

ولا تقل إني سيئ الرأي، ولا تقل إني متشائم، فقد يكون هذا حقًّا، ولكن ما رأيك في أنَّ سوء الرأي وفي أنَّ التشاؤم في مثل هذه الموضوعات أساس من أسس النهضة الصحيحة، وفي أنَّ حسن الرأي غرور، وفي أنَّ التفاؤل عجز، وفي أنَّ النقد والنقد الصارم الحازم، الذي لا يمهل ولا يهمل، ولا يجامل ولا يصانع هو من أجل هذا ضرورة من ضرورات الحياة الأدبية في مصر الآن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤