الفصل الثاني والثلاثون

بين الدين والعلم والأدب والإحسان

وما رأيك — أيها القارئ الكريم — في هذا العنوان الطويل الذي لا يكاد ينقضي، وفي هذا العنوان الطويل يصدر عن كاتب تعوَّد أنْ يختار عنوانه قصيرًا ممعنًا في القصر، لا يتجاوز به الكلمة في أكثر الأحيان، ولو استطاع أنْ ينزل به عن الكلمة لفعل، ولو استطاع أنْ يجعل عنوانه رمزًا يحس ولا يقرأ لكان بذلك مغتبطًا وله مؤثرًا، ولكنه مع ذلك قد آثر في هذا اليوم أنْ يكون عنوان حديثه طويلًا كليل الشتاء، أو كشهر الصوم، أو كعرقوب تلك الفتاة التي أنشد فيها بعض العلماء:

نُبِّئْتُ أن فتاة كنت أخطبها
عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول

والعنوان ليس طويلًا فحسب، ولكنه مختلف شديد الاختلاف، مركب شديد التركيب، فيه الدين، وفيه العلم، وفيه الأدب، وفيه الإحسان، وهو بهذا كله يخيل إلى من يقرؤه أني سأعرض لموضوعاتٍ شائكة معضلة لها خطرها الذي لا يشبهه خطر، وهو يثير في نفس من يقرؤه شوقًا إلى القراءة واستعدادًا للجدال والنضال، وتأهبًا للحرب والقتال، فما ينبغي أنْ يتحدث كاتب هذا الفصل عن الدين والعلم، إلا إذا كان يريد أنْ يقول شيئًا عظيمًا، أو يحدث حدثًا خطيرًا، أو يُقْدِم على أمرٍ ذي بال، وما ينبغي أنْ يتحدث كاتب هذا الفصل عن العلم والأدب إلا وهو يريد أن يعرض لموضوعٍ سيحفظ قومًا، وسيرضي قومًا، وسيثير بين أولئك وهؤلاء حرب شعواء، والإحسان ما موقعه من الأدب؟ وما موقعه من العلم إنْ فهم موقعه من الدين؟ أيريد كاتب هذا الفصل أنْ يكون ناقدًا؟ أيريد أنْ يكون واعظًا؟ أيريد أنْ يكون فيلسوفًا؟ أم يريد ماذا؟ أسئلة سيثيرها هذا العنوان الطويل المركب في نفوس كثير من الناس إذا قرءوه، وأنا حريص على ألا يطول انتظارهم للجواب، فلأسرع إليه إذن، ولأنبئهم بأني لا أريد ثورة ولا أبتغي انقلابًا، وحسب مصر أنْ يثور فيها «صدقي» وأتباعه، وحسب مصر أنْ يحدث فيها الانقلاب السياسي إثر الانقلاب السياسي. وخير للأدباء في هذه الأيام أنْ يرفقوا بالناس، وهم مع الأسف ومع السرور يرفقون بهم، فلا ينتجون أو لا يكادون ينتجون شيئًا خليقًا أنْ يحدث ثورة أو اضطرابًا، لا أريد إذن أنْ أقدم على أمرٍ عظيم، ولكني مع ذلك اخترت هذا العنوان؛ لأني لم أجد من اختياره بُدًّا، فموضوعه يقتضي هذا الاختيار، ولأفرض أني تلميذ يهيئ موضوعًا من موضوعات الإنشاء؛ فهو يريد أنْ يبين عناصر هذا الموضوع — كما يقولون — ليكون ما يكتبه منظمًا يصور عقلًا منظمًا أو آخذًا في سبيل النظام، فلأبين إذن عناصر هذا الموضوع الإنشائي الذي أردت أنْ يكون حديث الأربعاء في هذا اليوم.

فالجمعية الخيرية الإسلامية هي العنصر الأول من عناصر هذا الموضوع، والمصريون جميعًا يعرفون الجمعية الخيرية الإسلامية، يعرفها الفقراء لأنها تعينهم أنواعًا مختلفة من المعونة: تُعلِّم أبناءهم ألوانًا من العلم، وتتيح للمحرومين منهم أن يحتملوا الحياة. ويعرفها الأغنياء؛ لأن كثيرًا منهم يعينها على مروءتها، يعينها بالمال ويعينها بالجهد، ويعينها بالإخلاص، ويعينها بهذا الجزء الذي يكمل به نفسه الإنسانية، وهو حب الإحسان. ويعرفها التلاميذ الذين يختلفون إلى مدارسها، ويعرفها المعلمون الذين يؤدبون هؤلاء التلاميذ، ويعرفها المعوزون الذين يستعينون بها على استقبال رمضان، ويستعينون بها على التهيؤ لاستقبال الأعياد، ويستعينون بها على الدفء إذا كان الشتاء، وعلى التبلغ إذا تراءت لهم أشباح الجوع، ثم يعرفها هؤلاء الذين كانوا أغنياء فأدركهم الفقر، ولكنهم يريدون أنْ يكونوا كرامًا، فتعينهم على أنْ يكونوا كرامًا، ثم يعرفها الطلاب في الجامعة وفي المدارس العليا؛ لأنها تعين بعضهم على استكمال حظه من التعليم العالي، ثم يعرفها سكان مصر جميعًا من المصريين والأجانب؛ لأنها قديمة العهد بالوجود، قد كادت تبلغ عيدها الفضي، وهي تظهر للناس في كل عام في أقوى مظهر وأرقاه وأروعه حين تقيم حفلها السنوي الذي ستقيمه غدًا، ويقال: إنَّ دار المندوب السامي تعرفها أيضًا، ويقال: إنها تبرعت لاحتفال الغد بشيءٍ من المال؛ لأن الإحسان فضيلة تزدان بها الديانات جميعًا، وتزدان بها الوطنيات جميعًا، وتجعل الإنسان إنسانًا، فهذا هو العنصر الأول من عناصر موضوع الإنشاء. وأظنني قد بينته في غير لبسٍ ولا غموض.

وأما العنصر الثاني فهو علماء الدين، وعلماء الدين الإسلامي الكريم الذي لا يعرف الناس دينًا يشبهه في العطف على الفقير وإيثار البائس بالرحمة والبر، وجعل الصدقة ركنًا من أركانه فرضها على القادرين فرضًا، واتخاذها أداة صالحة منتجة لتحقيق عدل الله في الأرض، ولتحقيق التوازن بين الطبقات، ولتحقيق الحب بين الأغنياء المحرومين، ولصيانة النظام الاجتماعي من الاضطراب والفساد، ولتطهير النفس الإنسانية من أدران الأثرة والحرص والتهالك على المنفعة، وعلماء الإسلام هم حماته ودعاته، وهم حفظته وناشروه، وهم قدوة الناس في الائتمار بما يأمر به من معروف، والانتهاء عما ينهى عنه من منكر، وفيهم الأسوة لمن أراد الأسوة، وفيهم المثال لمن ابتغى المثال، وهم مصابيح الظلام، وهم الهداة إلى الحق والدعاة إلى الخير، وهم أزهد الناس في أنفسهم، وأحب الناس للناس، وهم أبغض الناس لأعراض الدنيا، وأحب الناس لثواب الآخرة، وهم رسل الرحمة في الأرض، وهم قادة الناس إلى السماء.

فهذا هو العنصر الثاني من عناصر الموضوع الإنشائي، فأما العنصر الثالث فهذه البطاقات التي توزعها الجمعية الخيرية في كل عام على الناس، تدعوهم بها إلى أنْ يشهدوا حفلها العام، أو قل تدعوهم بها إلى أن يدفعوا ثمنها صدقة تطهرهم وتزكيهم، وتعين الفقراء على احتمال الفقر، وتعين المحسنين على المضي في الإحسان، والأصل فيمن انتهت إليه هذه البطاقة أنْ يؤدي ثمنها مضاعفًا إنْ كان غنيًّا، وغير مضاعف إنْ لم يكن غنيًّا، فإذا أدى هذا الثمن فالأصل أنْ يشهد الحفل إنْ استطاع شهوده؛ فإن لم يستطع فليس عليه من ذلك بأس، والناس جميعًا يعلمون هذا ولا يختلفون فيه، وهذه البطاقات توزع في كل عام على أفراد الناس وجماعاتهم، وعلى مصالح الدولة ودواوينها، وأهل الخير يتطوعون بالتوزيع كما يتطوعون بالبذل، فهذا هو العنصر الثالث من عناصر الموضوع.

ولهذه البطاقات قصة يجب أنْ تُقَصَّ، ولكن لا أقصها إلا لتفكر فيها وتنتفع بها، وسترى أنها خليقة بالتفكير قادرة على النفع، فقد صدرت خمس بطاقات عن لجنة الحفل، أو قل عن رئيس هذه اللجنة، وهو رجل كريم من كبار الموظفين، وقيل لهذه البطاقات: اذهبي راشدة إلى صندوق البريد، ثم اذهبي راشدة إلى الإسكندرية، ثم اذهبي راشدة إلى المعهد الديني في المدينة، ثم استقري هناك، وأرسلي إلى الجمعية ثمنك يسيرًا ولكنه مبارك، فليس الجنيه الذي يجمع من علماء الدين على قلته وضآلته كمئات الجنيهات التي تجمع من غير رجال الدين على كثرتها وضخامتها، هو جنيه كله خير وبر، فيه البركة كلها، وفيه الخصب والنماء، اذهبي — أيتها البطاقات الخمس — راشدة إلى شيخ العلماء في الإسكندرية، فاقرئي عليه تحية الفقراء، وألقي إليه سلام البائسين، وقولي له: إنهم ينتظرون. وخرجت البطاقات من عند رئيس اللجنة الكريم نشيطة شديدة النشاط، فرحة عظيمة الفرح، تكاد تنطق لتبين عما يملؤها من الفخر، وما بالك ببطاقات خمس تذهب إلى شيخٍ من شيوخ الدين لتأخذ منه الصدقة لفقراء المسلمين! ثم أصبح رئيس اللجنة الكريم ذات يوم، وإذا غلاف يدفع إليه، فيفضه فيرى، ويا شر ما يرى! يرى البطاقات الخمس قد عادت إليه حزينة كئيبة كاسفة البال، تريد أنْ تشكو فلا تستطيع أنْ تشكو، لا لأنها بطاقات لا تبين، بل لأن الحزن قد حال بينها وبين الشكوى، فأفعم قلبها إن كان للبطاقات قلوب، وعقد لسانها إنْ كان للبطاقات ألسنة، لقد طرقت باب الشيخ فلم يُفْتَحْ لها، وألحت في الطرق، وصبرت وصابرت، وتمثلت قول الشاعر الكريم:

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
ولكن صبرها لم يغنِ عنها، ولكن إدمانها للقرع لم يجد عليها، وإنما رُدَّتْ ردًّا عنيفًا، وانتهرت انتهارًا قبيحًا، وقال لها القائلون: عودي من حيث أتيت، فإنا عنك مشغولون بالعلم والدين، حاولت البطاقات أنْ تقنع فلم تقنع أحدًا، وحاولت البطاقات أنْ تُسْمع فلم تسمع أحدًا، وحاولت البطاقات أنْ تمس القلوب فحيل بينها وبين القلوب، وحاولت البطاقات أنْ تثير الحياء، فحيل بينها وبين الحياء، قالت البطاقات: فإني أستحيي أنْ أنبئ الفقراء بهذه الخيبة، وأن أعتذر إليهم من هذا الإخفاق، قال القائلون: لا بأس عليك، فسنعفيك من هذا الحياء، وسنريحك من هذا الاعتذار، احملي إلى مرسلك عنا هذا الكتاب:

حضرة صاحب السعادة المفضال

نعيد لسعادتكم مع هذا التذاكر الخمس الواردة بكتاب الجمعية رقم ٤١ و١٢ برسم صاحب الفضيلة الشيخ محمد الشافعي الظواهري، للعلم بأن فضيلته مشغول والعلماء بأعمال الدراسة في ليلة حفلة الجمعية، ولا يمكنهم التخلف عنها في ذلك التاريخ. وتفضلوا …

سكرتير المعهد

وأقبلت البطاقات الخمس تسعى على استحياء، تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، ثم رفعت الكتاب مستخذية إلى رئيس اللجنة، فلما قرأه رق لها وعطف عليها، وتحدث إليها بحديثٍ طويل طيب خاطرها — كما يقول الناس — ثم قال لها: اذهبي راشدة — أيتها البطاقات الخمس — إلى دار الفقراء مبتسمة راضية، واحملي إليهم ثمنك هذا يسيرًا ولكنه مبارك؛ لأنه يصدر عن قلب مخلص للفقراء، يحبهم ويعطف عليهم، ويريد لهم الأمن والدعة والأمل الواسع العريض.

اذهبي راشدة — أيتها البطاقات الخمس — إلى دار الفقراء، فاحملي إليهم هذا الجنيه الذي لم تمسسه يد شيخ مبارك، ولم يخرج من مال عالم من علماء الدين، ولم يفكر في إرساله رأس عليه العمامة الضخمة، ولم يأمر بإرساله لسان يتردد بهذه الألفاظ التي تتردد بها ألسنة رجال الدين، وإنما هو جنيه متواضع يسير، يهديه إلى الفقراء رجل متواضع يتخذ الطربوش، ولا يختلف إلى المقابر والأضرحة، ولا يطيل الكم، ولا يتحرج في القول، ولا يتحرج في الحركة، ولا يتحذق في الغيرة على الدين، إنما هو رجل مؤمن قد أخلص دينه لله، واتخذ رضا الفقراء وسيلة إلى رضاه.

قال ذلك ثم وضع البطاقات في غلافٍ ووضع معها جنيهًا، وقال لها: اذهبي راشدة ولا تحزني، فمن يدري! لعلك بعد أنْ تؤدي ثمنك هذا إلى الفقراء أنْ تُدْفَعي إلى قوم مخلصين فيؤدوا ثمنك مرة أخرى، فيكون الله — عز وجل — قد ضاعف بك فضله على الفقراء، وعزاك عن خيبة الأمل أحسن العزاء.

فهذا عنصر آخر من عناصر الموضوع، أتريد أنْ أمضي في بيان هذه العناصر، أم يكفيك ما قرأت؟ أما أنا فإن الحزن يملأ قلبي، ويصرفني عن التفكير والإملاء، ولكني أسأل نفسي وأريد أنْ تسأل نفسك، وأظن أنَّ البطاقات قد سألت نفسها: أكان ردها خائبة من الإسكندرية ناشئًا عن اشتغال رجال الدين بالعلم والدين، أم كان ناشئًا عن إيثار رجال الدين للمال، أم كان ناشئًا عن مذهب سياسي يجعل معونة الجمعية الخيرية الإسلامية شيئًا لا ينبغي لرجال الدين أنْ يخفوا له أو يقبلوا عليه؟ فقد يقال: إنَّ بطاقات أخرى أرسلت إلى المعاهد الدينية الأخرى فعادت خائبة!

أفنلمح في هذا أيضًا آثار الإبراشي باشا؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤