في أقصى الشمال … حيث لا شَمال!

ألقى «أحمد» نظرةً من نافذة الطائرة الصغيرة الخاصة، إلى أسفل، إلى الأمام، وبامتداد البصر، فرأى هناك لوحةً بيضاء متشابهة المعالم، حيث لا شيء سوى الجليد والبرد والصقيع. بينما نظرَتْ «إلهام» في ساعتها وقالت: لقد أوشكنا على الوصول إلى نهاية حدود بلاد «الإسكيمو».

وابتسمت وهي تكمل: أرجو أن يبدو منظرنا مثل موظفي الأرصاد الجوية؛ فلم تكن هناك صفة يمكن أن نأتي بها إلى هذا المكان غير هذه الصفة.

أحمد: لا أظنُّ أنَّ الأهالي هنا فضوليون بحيث سيسألوننا مَن نكون؟ وما الذي أتى بنا إلى هذا المكان؟

إلهام: هذا إذا صادفنا أي أناس، إنَّ هذه المنطقة الشاسعة يتناثر عليها عدد قليل من البشر، بحيث إنَّ كلًا منهم له عشرات الكيلومترات يعيش فيها وحده مع أسرته القليلة العدد، وكلاب زَحَّافاته، ولا شيء آخَر غير الجليد والشتاء الدائم.

ضحك «أحمد» قائلًا: لقد نسيتِ أهم مخلوق في هذا المكان، الدُّب «نانوك» العملاق.

فكَّرَتْ «إلهام» قائلةً: ولكن لماذا أراد لنا رقم «صفر» أن نبدأَ مهمتنا من حدود «ألاسكا» باتجاه مركز القطب الشمالي؟ إنَّ هذا معناه أنْ نقطع آلاف الكيلومترات من الجليد بزَحَّافاتنا وسط البرد القارس.

أحمد: تذكَّري أنه ليس هناك أي مكان مُحدَّد لهذه الأطباق الطائرة، إنَّها هنا في هذا المكان الشاسع، ولكن أين؟ هذا هو ما جئنا لنستكشفه.

ومن خارج نوافذ الطائرة بدأَتِ السماء تُظلِم تدريجيًّا، ويختفي قُرصُ الشمس وراء الأفق، وكانت الساعة لا تزال تشير للثانية ظهرًا!

راقبَتْ «إلهام» غروب الشمس، وقالت: يا له من منظر فريد! الشمس تغرب في منتصف النهار.

أحمد: وبعد أيامٍ قليلةٍ لن تكون هناك شمسٌ، حيث يسود ظلامٌ تامٌّ لشهور عديدة عندما يحل الشتاء، أما في الصيف فإنَّ الشمس تكون في قلب السماء لمدة أربع وعشرين ساعة، ولشهور عديدة أيضًا.

إلهام: ترى هل ستمتد مهمتنا إلى أن نشاهد شروق الشمس الدائم؟

نظر «أحمد» إلى الأفق البعيد، وقال: مَن يدري ماذا سيحدث؟ «إن مَن يصل إلى القطب الشمالي فعليه ألَّا يفكر إلَّا في اللحظة التي تواجهه» كما قال الرائد الأمريكي «روبرت بيري» — أوَّل مَن وصل إلى القطب الشمالي عام ١٩٠٩م — لقد صادف من الأهوال ما جعله يكتفي بالتفكير في كيفية مواجهة الأخطار المحيطة به، ولم يفكر في الأخطار التي تواجهه فيما بعد.

وأخيرًا، بدأت الطائرة هبوطها، واستقرَّتْ فوق ممرٍّ صغيرٍ من الجليد المصقول اللامع كمرآة، وظهر على مسافة قريبة عددٌ قليل من البيوت الخشبية الصغيرة المتجاورة، والتي تُكوِّن معسكرًا صغيرًا فيما بينها، حيث يُعتبَر مركزًا تجاريًّا تُباع فيه المُعلَّبات الغذائية، والوقود، والبنادق، وطلقات الرَّصاص، ويحتوي فندقًا صغيرًا، ومدرسة لتعليم الأطفال.

وكان هناك مرشدٌ شاب من أهالي «الإسكيمو» في انتظار الشياطين، وكان يرتدي زي «الإسكيمو» التقليدي، وهو رداء «الباركا» السميك المُبطَّن بفراء الدببة، وحذاء مصنوع من جلد سبع البحر، وتقدَّمَ الشَّاب مرحِّبًا بالشياطين (بالإنجليزية) قائلًا: أهلًا بكم في البلاد الباردة التي لا تُدفئها غير مشاعر سكانها.

تقدَّم الشياطين مصافِحِينَ الشَّاب الذي قدَّم نفسه لهم قائلًا: أنا «نانو»، وهو اسم مشتقٌ من دُبِّ هذه البلاد المدعو «نانوك»، والاسم يدل على الشجاعة كما ترون، فإنني أفضلُ دليل في هذه البلاد.

ابتسم الشياطين، وتعاونوا مع «نانو» في حمل معداتهم وأشيائهم التي كانت تُضفي عليهم صفة علماء الأرصاد، وكانت هناك زَحَّافةٌ صغيرةٌ يجرها ثمانية كلاب من صنف «الهسكي» التي تمتاز بقدرتها على الجَرِّ والتحمُّل لمسافات طويلة، ووضع الشياطين أشياءهم فوق الزَّحَّافة التي قادها «نانو» إلى أحد المباني الخشبية … وفي الداخل احتسوا شرابًا ساخنًا، وأحسُّوا بشيء من الدِّفْء لأول مرة.

قالت «ريما» وهي تفرك يديها: إنَّ الجو هنا قارسُ البرودة.

احتجَّ «نانو» قائلًا: مَن قال ذلك؟ بل إنَّ الجو حارٌّ جدًّا؛ فالحرارة لا تزيد على ثلاثين درجةً تحت الصفر.

ضحك «عثمان» قائلًا: معك حق يا «نانو»، إنَّ الشتاء الذي تتناقص فيه درجة الحرارة إلى ثمانين درجة تحت الصفر لا بدَّ وأن يكون حارًّا عندما تكون درجة الحرارة ثلاثين تحت الصفر.

تساءل «نانو»: متى ستبدءون رحلتكم؟

ترامق الشياطين، وقال «أحمد»: إنَّنا نُفضِّل أن نبدأ بالسفر غدًا صباحًا حتى نحصل على قسط أكبر من الراحةِ بعد ذلك السفر الطويل.

نانو: هذا أفضل، ويُوجد هنا ثلاث غرف محجوزة لكم، ولكنَّني لم أعرف حتى الآن الوجهة التي تريدون الذهاب إليها، إنَّني دليلكم، ويجب أن أعرف قبل أن أتحرك من هنا إلى أين نحن ذاهبون.

أحمد: سوف نتجه نحو الشمال.

نانو: ولكنَّنا في الشمال الآن، إنَّ كل ما يحيط بنا هو شمال، نحن في قِمة العالم، وهذه المنطقة بأكملها لا يوجد فيها جنوب أو شرق أو غرب، لا يوجد غير الشمال فقط.

عثمان: إنَّنا نعرف ذلك بالطبع، ولكن ما قصدناه أنَّنا سنرحل في اتجاه مركز القطب الشمالي، أي منتصف القطب الشمالي.

نظر «نانو» إلى الشياطين في صمتٍ، وظهر شيء من القلق على وجهه، وبعد قليل قال: ولكن هذه رحلة خَطِرة، خَطِرة جدًّا، وستتطلب منَّا السفر لأسابيع عديدة، وسنواجه مخاطرَ لا نهاية لها.

أحمد: سوف نضاعف أجرك.

نانو: ليست المسألة نقودًا؛ فإنَّ بطن المرء لا تمتلئ بأكثر من حجمها — كما تقول أمْثَالُنا — إنَّنا خلال هذه المسافة لن نجد أية مساعدة إذا ما طرأَتْ أيةُ مشكلة تواجهنا، مثل المرض أو … أو الإصابة …

إلهام: فلنترك ذلك للظروف، ولا داعيَ لأن نسبق الأحداث.

تساءل «نانو»: ولكنَّني لم أعرف مهمتكم بالضبط، لقد أخبرني مَن استأجرني أنَّكم مجموعة من علماء الأرصاد، ولكن هناك العشرات من رجال ووحدات الأرصاد في القطب الشمالي، فلماذا جئتم أنتم؟ ولماذا لا تتجهون إلى إحدى هذه الوحدات؟

ترامق الشياطين، وقال «أحمد»: إنَّنا في مهمة خاصة، وهذه المهمة تستدعي القيام ببعض التجارب خلال رحلتنا الطويلة، وهي مهمة متعلِّقة بتأثير تناقص طبقة الأوزون على الطقس المناخي للقطب … وهي مهمة سرِّية جدًّا؛ لأنَّ النتائج التي قد نتوصل إليها ستكون على درجة عالية من الخطورة، وربما تثير الفزع في أوساط العالم؛ لأنَّنا نعتقد أن تناقص طبقة الأوزون في الغلاف الجوي يسمح بنفاذ مزيد من أشعة الشمس إلى الأرض، وبالتالي ذوبان أكثر جليدِ هذه المنطقة، وهذا معناه على المدى الطويل فيضانٌ يكتسحُ العالم من القُطبَينِ، وهذه الأشياء العلمية لا نريد إعلانها الآن قبل الوثوق من نتائجها؛ وإلَّا أصابَ العالَمَ كلَّهُ الفزعُ من احتمال إغراقه، هل فهمْتَ الآن سبب سرِّية مهمتنا؟

نانو: لقد فهمتُ، وأعدكم أن أحتفظ بالسِّرِّ، سأذهب الآن وأعود غدًا صباحًا.

وغادر «نانو» المكان، وتناول الشياطين عشاءهم برغم أنَّ الساعة كانت لا تزال الرابعة ظهرًا، ولكنَّ السماء المظلمة في الخارج جعلتهم يُطلِقون على طعامهم عشاء لا غداء.

وعلَّق «عثمان» ضاحكًا: بعد قليلٍ ستنقلب وجباتنا إلى عشاء مستمر.

قال «فهد» باسمًا: مَن كان يسمع «أحمد» وهو يشرح المهمة السِّرِّية التي جئنا لأجلها ﻟ «نانو»، يظنُّ أنَّ ما قاله صحيح.

أحمد: إنَّ ما قلته ﻟ «نانو» مشكلة حقيقية تواجه العالم، ويعكف العلماء على بحثها.

ريما: هل يمكننا أن نحاول أن نستفسر من سكان هذا المكان، ونسألهم عن تلك الأطباق الطائرة؟

أجاب «أحمد» بسرعة: لا يا «ريما»، إننا لا نريد أن نلفت الأنظار إلينا، فمَن يدري؟ قد تكون هناك عيون لهؤلاء الفضائيِّينَ فيكتشفون حقيقة مهمتنا بسبب نوعية أسئلتنا، ونحن هنا بلا سلاح ولا نريد مواجهة غير متكافئة في بداية مهمتنا.

مصباح: ألهذا رفض رقم «صفر» أن نستعين بجهاز لا سلكي للاتصال به أو الاتصال ببعضنا؟

أحمد: إنَّ رقم «صفر» على حقٍ؛ فلا بدَّ أنَّ مثل تلك الرسائل ستلتقطها أجهزة الأطباق الطائرة، وتعرف محتواها مهما كانت نوعية شفرتها وسريتها … إننا نواجه كائنات لا حدود لذكائها وتقدُّمها العلمي، وعلينا أن نحترس أشد الاحتراس. إننا لا نملك هنا غير خرائطنا، وبعض الأجهزة العلمية والأدوات الدقيقة التي يمكن أن تتحول إلى قنابل موقوتة، وإن كانت تعليمات رقم «صفر» تحذرنا من استعمالها حتى لو كان في ذلك نجاتنا نحن، إن الشرط الوحيد لاستعمالها إذا كان في ذلك إنقاذ للكرة الأرضية من هؤلاء الغزاة.

وساد صمتٌ بعد كلمات «أحمد»، وأنهى الشياطين عشاءهم في هدوء، واتجه «عثمان» و«مصباح» و«فهد» إلى إحدى الحجرات المحجوزة لهم، واتجهَتْ «ريما» إلى الحجرة الثانية؛ ليحصلوا على أكبر قسط من الراحة، بينما ظل «أحمد» و«إلهام» على المائدة.

بعد قليل قام «أحمد» وهو يقول ﻟ «إلهام»: إنني لا أحسُّ برغبة في النوم سأذهب لأتجول قليلًا حول المعسكر.

إلهام: سآتي معك، فأنا أيضًا لن أذهب إلى حجرتي للنوم الآن.

وسار الاثنان إلى الخارج، وكانت السماء مظلمة، وليست هناك غير بعض النجوم اللامعة في السماء، كأنَّها مصابيح مضيئة في لوحة حالكة السواد، ورمقَتْ «إلهام» النجوم البعيدة وهي تتساءل بين نفسها: تُرى هل هناك كائنات عاقلة في أيٍّ من هذه الكواكب والنجوم؟ وهل جاء أصحاب الأطباق الطائرة من إحداها؟

وصاح «أحمد» في «إلهام»: حاذري يا «إلهام».

والتفتت «إلهام» على صياح «أحمد» فشاهدت ذئبًا كبيرًا، ذا لون أصفر، وهو يقفز باتجاهها مُكَشِّرًا عن أنيابه، وأسرعت «إلهام» تحمي وجهها بيدَيْها، في نفس الوقت الذي كاد الذئب أن ينشب مخالبه في وجهها، ولكنَّ ضربةً مُحكَمةً بقطعة جليد من «أحمد» أصابَتِ الذئب في وجهه، فسقط بعيدًا وهو يعوي، ثم انطلق هاربًا.

وتنفَّسَتْ «إلهام» الصُّعَدَاء، وأسرع «أحمد» إليها ليطمئن عليها، فقالت باسمةً: إنني بخير، يا له من ذئب جريء!

أحمد: هذا الذئب يُطلَق عليه ذئب المنطقة المتجمدة الشمالية، وهو مشهورٌ بجسارته لدرجة أنَّه قد يهاجم الدُّب القطبي الرهيب «نانوك» إذا عضَّهُ الجوعُ، وهو يستطيع أن يحمل بين أسنانه فريسةً تزيد عن حجمه، ويعدو بها بأقصى سرعة.

إلهام: كنت أظنُّ أنَّ الجليد والصقيع هما الخطر الوحيد هنا، ولكن يبدو أنَّ هناك أخطارًا أخرى.

أحمد: علينا أن نكون حَذِرِينَ تمامًا، إنَّ وجودنا هنا يتطلب منَّا أن نحارب الطبيعة أولًا، وقبل أي شيء آخَر.

وبدأ الجو يُزمجر حولهما، وتحرَّكَتْ رياحٌ قارسةُ البرودة، وهي تحمل كراتٍ من الجليد، أخذت تُلقيها بعنف في كل اتجاه، وغطَّتْ «إلهام» وجهها لتقيه من كرات الجليد المتدافعة، وقالت ﻟ «أحمد»: هيا بنا نعود إلى المعسكر.

وسار الاثنان بنشاط، والعاصفة الثلجية قد بدأت حولهما، وامتلأ المكان بكرات الثلج التي غطَّت وجه السماء.

وقبل أن يدخل «أحمد» و«إلهام» إلى المبنى الخشبي، استوقفهما بعضُ الأطفال الصغار الذين كانوا يلعبون بجوار المعسكر في أَرْدِيَتهم الثقيلة، غير عابئِينَ بالثلج والعاصفة، وكان الصغار يُغنُّون بالإنجليزية أغنيةً ذات إيقاع بطيء، في كلمات متعثرة، وكانت كلمات الأغنية تقول: إنَّ الأجداد الذين أتوا بالطيور الحديدية منذ آلاف السنين … قد عادوا مرةً ثانية في بيضة ذهبية؛ ليسكنوا وسط شعب «الإسكيمو».

تبادل «أحمد» و«إلهام» نظرةً ذاهلةً عميقةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤