عاصفة … وموت!

اندفع الشياطين خارجِينَ من البيت الجليدي على صياح «إلهام»، واندفع «نانو» خلفهم، ووقف الجميع يُحدِّقُون في ذهولٍ في الرماد المُحترِق.

وتلاقت أنظار الشياطين، وقد استنتجوا ما حدث، الأطباق الطائرة!

وهتف «نانو» في فزع: كلابي! ماذا حدث لها؟ لا يمكن أن تكون صاعقة قد أصابتها وأحرقتها، فحتى الصواعق لا تحوِّل الأشياء إلى رماد، هذا مستحيل! إنني لا أكاد أصدق عيني!

أحمد: سوف نعوِّضك عن فقد كلابك، سنُعطيك من المال ما تشتري به أفضل منها.

قال «نانو» ذاهلًا: أنتم لا تفهمون حقيقة الأمر، المسألة ليست في المال، فبدون الكلاب التي تجر الزَّحَّافات فلن نستطيع التحرُّك بعيدًا، إنَّنا أشبه بمَن وقع في مصيدة جليدية، سوف نموت من البرد والصقيع، إننا حتى لا نملك جهازًا لا سلكيًّا نطلب به النجدة.

ترامقَ الشياطين في قلق، كان «نانو» على حق، وطرأَتْ فكرةٌ في ذهن «ريما»، فقالت له: «نانو» … إنَّك تستطيع أن تأخذنا إلى أقرب محطة جوية، فهل تبعد كثيرًا؟

نانو: حوالي ثلاثين كيلومترًا، وسيستغرق وصولنا إليها ليس أقل من أسبوع، هذا إذا لم تهب العواصف فتؤخرنا، إن بعض العواصف يستمر هبوبها أسابيع كاملة ويستحيل التحرُّك فيها.

أحمد: سوف نعتمد على حظِّنا الحَسَن في ذلك.

رمق «نانو» الشياطين في دهشة وشَكٍّ، وقال: إنَّكم تبدون متمالِكِينَ لأعصابكم بصورة تدعو للدهشة! كأنَّ ما حدث لا يدهشكم، أو كأنَّكم تتوقعونه.

عثمان: إنها مجرد صاعقة أصابَتِ الكلاب لسوء حظها.

نانو: ليس هذا صحيحًا؛ إنَّ الصواعق لا تحدث هكذا، ولو كانت مُجرَّد صاعقة لأحدثَتِ انهيارًا جليديًّا في المكان، وما نجونا منه، إنَّ المسألة تبدو لي كما لو كانت …

وصمت «نانو» ولم يُكمِل، وهو يحدق في الشياطين بعينَينِ كلهما ريبة، وسأله «أحمد»: كما لو كانت ماذا؟

– لا شيء.

وجمدت ملامح «نانو» وأكمل: سوف أقوم بتوصيلكم إلى أقرب محطة أرصاد جوية، وبعدها سأترككم وأعود إلى وطني، ولا أريد منكم أيَّ مال.

وحمل «نانو» متاعه القليل وسار في المقدمة، ووضع الشياطين أشياءهم على الزَّحَّافتَينِ وساروا وهم يجرونهما خلف «نانو».

وكانت عقول الشياطين تبدو مشحونة بمئات الأفكار والتساؤلات، وهمسَتْ «إلهام» ﻟ «أحمد»: إن «نانو» على حق؛ إنَّها ليست صاعقة تلك التي قضَتْ على الكلاب.

أحمد: أظنُّ ذلك، ليس هناك غير احتمال وحيد، طلقات إشعاعية من الأطباق الطائرة، فهي التي يمكن أنْ تحوِّل الكلاب إلى رمادٍ مُحترِقٍ بهذه الصورة.

إلهام: ولكن لماذا هاجمت الأطباق الطائرة الكلاب وأحرقتها؟

أحمد: لا شك أنَّ وجود زحَّافتَينِ بكلابهما في هذا المكان المُقفر الذي لا يخاطر بالسير فيه إنسان، لا شك أنَّ ذلك استلفتَ انتباه الأطباق الطائرة فهاجمَتِ الكلاب.

إلهام: لو كان ذلك صحيحًا لهاجمتنا الأطباق الطائرة ونحن نيام في الكوخ الجليدي، ولأحرقتنا في غمضة عين، فلماذا هاجمت الكلاب ولم تُهاجمنا نحن؟

أحمد: لعلهم كانوا متأكِّدِينَ من استحالة بقائنا أحياءً بعد موت الكلاب.

ظهر القلق في عينَيْ «إلهام» وقالَتْ في بطءٍ: هل … هل تظنُّ أنَّ هذه الأطباق الطائرة اكتشفَتْ حقيقة مهمتنا؟

– مَن يدري؟! إنَّ هجومهم المفاجئ على الكلاب يضع أمامنا تساؤلات عديدة لا يملك أحدٌ إجابتها.

– و«نانو» … هل تظنُّ أنَّه يشك في حقيقتنا؟

– أظنُّ ذلك، إنَّ رد فعله يؤكد ذلك، خاصةً وهو ينوي تركنا عند أقرب محطة أرصاد جوية.

ولمعَتْ عينا «أحمد» وقال: يبدو أنَّنا أخطأنا؛ كان يجب علينا منذ البداية إخبار «نانو» بمهمتنا، فربما اتخذ مزيدًا من الاحتياطات، وما كنَّا قد وقعنا في هذا المأزق.

إلهام: أشك في أنَّه كان سيوافق على مرافقتنا لو علم حقيقة مهمتنا منذ البداية، فهو برغم شجاعته يبدو الآن خائفًا.

أحمد: سأحاول أن أتناقش معه وأكتشف ما يفكر فيه.

واقترب «أحمد» من «نانو»، فتطلَّع إليه «نانو» بعينَينِ متجهمتَينِ غاضبتَينِ، وقال بصوت بارد: لقد خدعتموني، إنكم لستم علماء للأرصاد الجوية.

أحمد: هذا حقيقي، ولا بد أنَّك قد اهتديتَ إلى مهمتنا الحقيقية.

– لقد دلَّني ما حدث للكلاب على الحقيقة، كان من الممكن أن نتحول إلى رماد مُحترِق نحن أيضًا، لقد حدث هذا للكثيرِينَ.

قال «أحمد» بدهشة: ماذا تقول؟

تطلَّع «نانو» إلى السماء الملبدة بالغيوم وقال: إنَّهم لا يحبون مَن يسعى في مطاردتهم، وهناك الكثيرون من رجال «الإسكيمو» الشجعان حاولوا تقفِّي أثَر هذه الأطباق الطائرة ومعرفة مكانها، ولكنَّهم ذهبوا جميعًا بلا عودة، ولم يَعُد منهم أحدٌ، لقد عاد أجدادنا، ولكنهم هذه المرة يبدون مشغولِينَ عنَّا ولا يُرحِّبون بتطفُّلنا.

أحمد: إنَّ هذا يُفسر سرَّ تلك الأغنية التي سمعتُ الأطفال يترنمون بها بجوار المعسكر، إذن فأنتم تعرفون بأمر هذه الأطباق الطائرة؟

نانو: لقد شاهدناها كثيرًا، خاصة في الليالي الصافية، وفي أيام كثيرة كانوا يلقون إلينا بصناديق الطعام والحلوى والملابس الجديدة، ولكنَّهم لا يحبون محاولة الاتصال بهم على الإطلاق.

وساد صمتٌ طويل، و«أحمد» يفكر مندهشًا فيما قاله «نانو»: «إذن، فتلك الأطباق الطائرة تتخذ لها من القطب الشمالي مقرًّا، وتُسقِط الهدايا والأطعمة لسكان المكان من قبائل «الإسكيمو»، ولكنَّها لا تحاول الاتصال بهم، أو عقد أي نوع من الصداقة، تُرى لماذا؟

وتطلع «نانو» إلى السماء بقلقٍ، وقال: إنَّ هناك عاصفة في الطريق؛ فالسماء قد بدأَتْ تمتلئ بنتف الثلج والجليد، علينا أن نسرع في سيرنا للاحتماء بأقرب جبل جليدي.

وأشار «أحمد» للشياطين، واندفعوا جميعًا بسرعةٍ باتجاه جبل جليدي قريب، ومن الخلف جاءهم صوت هائل يُدَوِّي عاليًا، ثم بدأت العاصفة تهبُ كوحشٍ كاسرٍ.

وصاح «أحمد» في الباقِينَ: لن نستطيع الوصول إلى الجبل، فلنُسرعْ ببناء بيت جليدي.

صاح «نانو»: لن يتسع الوقت لذلك.

أحمد: فلنحاول، فليسَتْ أمامنا فرصة غير ذلك.

واندفع الشياطين بسكاكينهم يُقطعون ألواح الثلج، ويحاولون رصَّها في شكل دائري لصنع البيت الجليدي، ولكنَّ العاصفة لم تُمهِلْهم.

واندفعَتِ الرياح بسرعة هائلة وهي تسوق كرات ثلج صغيرة، وتُطلقها مثل طلقات الرَّصاص لتصطدم بالشياطين، وسقطَتْ «ريما» من شدة الرياح وتدحرجت بعيدًا، فأسرع «عثمان» يُلقي بنفسه خلفها محاولًا الإمساك بها، وصاح «أحمد» بأعلى صوته: تماسكوا جميعًا لنصمدَ في وجه العاصفة.

ولكنَّ صوته ضاع وسط زفير العاصفة الجنوني، وتعذَّرَت الرؤية، حتى إنَّ أحدًا من الشياطين لم يكن قادرًا على رؤية يده، أو حتى على فتح عينَيهِ.

وسمع «أحمد» صراخًا خافتًا مختلِطًا بعويل الرياح، وكان الصوتُ أقرب إلى صوت «إلهام»، واندفع «أحمد» في جنون صائحًا: «إلهام» أين أنتِ؟

ولكنَّه لم يرْ شيئًا، واندفعَتِ الرياح القارسة البرودة إلى عينَيهِ، فلم يحتملها «أحمد» وأغمض عينَيهِ، وتحرَّك زاحفًا فوق يدَيهِ وقدمَيهِ باحثًا عن «إلهام»، ولكنَّه لم يستطع حتى التماسُك، ودفعته الرياح بعنف، فتدحرج بقوة فوق الجليد، وأحسَّ بنفسه يتهاوى ويتهاوى.

وتشبَّث أخيرًا بنتوء جليدي بارز، واحتمى خلفه. ومضى الوقت بطيئًا قاتلًا، وقتٌ لم يشهد الشياطين مثله من قبلُ، وطقسٌ لم يجابهوا ضراوته من قبلُ أبدًا، مئاتٌ من المجرمِينَ واجهوهم من قبل، وعشراتٌ من العصابات هزموها بعد مواجهات ومعارك عنيفة، ولكن ها هي الطبيعة تُثبت أنَّها الأقوى، أقوى من أيِّ إنسان، ولو كان من الشياطين أنفسهم.

وأخيرًا خَفَّت العاصفة وهدأت، ونهض «أحمد» واندفع نحو مكان الشياطين.

كان «عثمان» و«ريما» راقدَينِ على الأرض، وقد تماسكا بقوة وغطتهما الثلوج، فأسرع «أحمد» يساعدهما على النهوض، واندفعوا ثلاثتهم يبحثون عن الباقِينَ، وكان «مصباح» و«فهد» قد دُفنا في الثلج، ولم يظهر منهما غيرُ رأسَيْهما؛ فاندفع «عثمان» و«أحمد» يخرجانهما من مكانهما ويدفئان أيديهما.

بينما لم يكن هناك أي أثر ﻟ «إلهام» أو «نانو».

تطلَّع «أحمد» حوله في قلق شديد، واندفع يجري فوق الجليد بكل اتجاه، وعلى مسافة بعيدة شاهد شيئًا يشبه غطاء الفراء الذي كانت ترتديه «إلهام»، وأسرع «أحمد» نحو الغطاء فشاهد «إلهام» راقدةً بداخل الجليد الذي غطاها، ولم يظهر منها غيرُ رأسها، فأزاح الجليد عنها، وأسرعت «ريما» تدعك أيدي «إلهام» ووجهها محاولة دفع الحرارة إليها.

وأخيرًا تحرَّكَتْ «إلهام» وفتحَتْ عينَيْها، وتنفس الشياطين في ارتياح، وهمس «أحمد»: الحمد لله.

واغرورقَتْ عيناه بالدموع، فقالت «إلهام» بوجه شاحبٍ: لا مكان للدموع هنا. هل نسيتَ؟

ابتسم «أحمد» وقال: لنبحث عن «نانو»، فلا بد أنَّ العاصفة لم تجرِفْه بعيدًا، فهو أكثر منا خبرة.

واندفع الشياطين يبحثون عن «نانو» بلا فائدة … حتى الزَّحَّافتان وأشياء الشياطين لم يكن لها أي أثر، تساءل «أحمد» بقلق: هذا غريب! أين ذهبَتِ الزَّحَّافتان وأشياؤنا، وكذلك «نانو»؟

عثمان: لعل الجليد غطَّاهم.

أحمد: لو كان ذلك صحيحًا لعثرنا على أثر لهم.

صاح «فهد» من بعيد: انظروا هناك!

واندفع الشياطين حيث أشار «فهد» لاهثِينَ، وأمام عيونهم ظهرَتْ فردةُ حذاء «نانو» المصنوعة من جلد عجل البحر. وكان بجوار فردة الحذاء بقعة محترقة من الرماد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤