أحمد لطفي السيد بك

لا أدري، أعلمه أوفر من عقله، أم عقله أوفر من علمه؟ إلا أنه أوفى بهما كليهما على الغاية. وهو عالم واسع العلم، وعاقل واثق العقل، وذكي متسعِّر الذكاء. له عينان حديدتان كأنما تمدهما أشعة «إكس»، فلا يكاد يقوم بينهما وبين ما تريدان حجاب. وإنه ليحاول أن يستر عنك إدراك هذا منه بمنظاره الأسود، كما حاولت الطبيعة أن تكتمه على الناس بما ضيقت في محجريهما تضييقًا!

وأحمد لطفي السيد قد بان خطره من يوم نجم، فكان طالبًا في مدرسة الحقوق، لا تعنيه مدارسة القانون المدني، ولا يحتفل لقانون تحقيق الجنايات، ولا يهمه أين تقع «نمرته» من سلك التلاميذ في امتحان غاية العام قدر ما تعنيه مدارسة المنطق والفلسفة وعلوم الاجتماع، على أنه كان مُجَلِّيًا في الأولى كما كان مُجَلِّيًا في الثانية. وبهذا، خرج لطفي على غير ما يخرج سائر التلاميذ، خرج وله عرق في الحكمة والمنطق وسائر علوم النظر، لا يتسق في العادة لإخوانه «الحقوقيين».

درج مدرج نظرائه في الحياة العلمية حتى كان نائبًا أو رئيس نيابة، على أن خطبه في ذاك لم يكن جليلًا، فقد انصرف همه، إلا أقله، إلى تحصيل العلم والأدب، وأخذ العقل بالتدبير وصدق النظر، وأخذ اللسان والقلم بفصاحة القول وقوة البيان بالحديث والخطابة، وبالترجمة والتأليف، وتارة بالكتابة في الصحف في ألوان الموضوعات.

figure
من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معًا فعليه بالعلم.

ثم كان حزب الأمة وكانت «الجريدة»، وتهاوت الأنظار على من يقوم بها كفاءً لِمُهمِّها الجسام، فوقعت كلها عند لطفي السيد، وتولى الجريدة فكان كاتبًا لا يبارى كما كان صحفيًّا لا يضارع. وبانت له موهبة جديدة أحوج ما يكون إليها امرؤ يتولى تلك «الجريدة» في ذلك العصر، وهي شدة الطبع والصبر على الخصومة وطول الكفاح. وناهيك بمن يصمد للقتال إذ شيخ الكُتَّابِ علي يوسف يتولاه عن يمينه، وإذ فتى الوطنية مصطفى كامل ينقض عليه أحيانًا من شماله، وإذ أمامه، ولا أسمي، من لا يشق في الكيد غباره، ولا تُصطلى في الجُلَّى ناره، ومهما زعموا أن وراء حزب الأمة كانت قوة تعضده وتشد متنه، فما كان من شأن هذه القوة أن تقرب إلى هوى الناس جريدة، وكانت في الوقت نفسه تتحدث على أماني البلاد، وتطلب أن يسودها حكم الدستور، وإن طلبته دستورًا «متواضعًا» كما كان يهتف أستاذنا الجليل، ومع هذا فقد تهيأ لمقدرة لطفي أن تستدرج الخاصة وأشباه الخاصة في عامة البلاد، وأضحت دار «الجريدة» منتدى أهل العلم والأدب والرأي الصحيح ينتجعونها من كل مكان.

لم يكن لطفي في سنيه تيك صحفيًّا فحسب، بل كان أستاذًا يشرع في العلم والفلسفة وفنون الاجتماع، وكان له طلاب من الشباب أهل المواهب والذكاء، فما راقك اليوم من علم فلان، وما أعجبك من عقل فلان، وما راعك من أدب فلان، فأولئك، في الحق، أكثرهم من صنعة لطفي السيد في تلك الأيام.

وهو رجل له، أو كانت له، شخصية قوية: له نظره، وله تدليله، وله أسلوبه الكتابي، بل وله إيماءته وحديثه. وإن كثيرًا ممن كانوا يطوفون به ليقلدونه في كل ذلك، فمن أعيا عليه تفهم علمه وأدبه راح يقلده في شكله ودله، ويحاكيه في لهجته ومخرج حروفه.

ومن ظريف ما يروى في هذا الباب، أن فتى من أبناء الحكام أصحاب لطفي كان يعجب به هو الآخر طوعًا لإعجاب الناس، فكان جهد حيلته في بلوغ بعض شأو لطفي أن ينسل إلى حلاقه، فيسأله أن يسوي له رأسه كما يفعل بشعر الأستاذ سواء بسواء، ثم يغدو على الناس بعد ذلك يقبض صوته ويرسله، ويلويه ويعدله، ويفككه ويلحمه، ويرققه ويفخمه، ويثني عطفيه من زهو واستكبار، ويهز كتفيه من استنكاف واستنكار، ثم يعود إلى نفسه فيراها قد استوت «لطفي السيد» في غير جهد ولا عناء! … وما دام العلم والفلسفة كلها إنما تتصل «بالحلاقة»، فلماذا يقف صاحبنا عند هذا الحدِّ؟ وإني لأراه يُغِذُّ١ السيرَ فأسأله: إلى أين يا فلان؟ فيقول: إلى الحلاق فقد اعتزمت اليوم أن أحلق «مونتسكييه» أو «أوجست كونت» أو «جان جاك روسو» أو غير أولئك من ضخام الرجال. ومثل هذا عندنا، لو لاحظتَ الناسَ، كثيرٌ!
ونعود إلى الأستاذ لطفي، فقد ظل في كفاحه وجلاده؛ إذ خاصة الناس كل يوم عليه في إقبال، حتى ضعضعت أفاعيل السياسة حزبه فكان آخر من ألقى السلاح. ثم عاد إلى النيابة فلم يتصل شأنه فيها بجلالة شأنه حتى كانت سنة ١٩١٩، فضحى بالمنصب في سبيل الثورة، وانتظم في الوفد المصري عضوًا فكان فيه عنصرًا قويًّا. وكانت أداته في أكثر ما يُخرج للناس من بيان مكتوب. وانطلق مع الوفد إلى أوروبا ولبث معه عاملًا نافذًا، ما شاء الله أن يلبث، ثم عاد مع من عادوا أول الأمر. وتظهر بوادر الشقاق فيبدو له أن يتحفظ فيتحفظ، ثم يستفحل الخطب فيهديه عقله إلى أن يتسلل إلى داره في رفق فيفعل، فيبقى حِلْس٢ بيته سلمًا كله، حتى يطلب لما هو أليق به وأكرم، فيتولى دار الكتب المصرية ينظر في شأنها بعض اليوم، وينظر في شأن العلم سائره. وكان من حظ «نصف العزلة» هذه، أو من حظ العلم منها، أن أتم ترجمة كتاب الأخلاق لأرسطاطاليس «إلى نيقوماخوس»، وما كان الإبداع في ترجمة هذا الكتاب بأبلغ من الإبداع في الإقدام على إخراجه في مثل تلك الأيام!

ولقد فاتني أن أقول لك إن هذا الرجل الذي ضحى بالمنصب في سبيل الثورة، قد عاد فضحى بالثورة في سبيل المنصب، فأصبح كما يقول أصحاب الميسر «كيت»؛ لا له ولا عليه، وإلى هنا ينتهي عندي تاريخ ذلك الرجل العظيم!

وعساك تتحداني بأنه أصبح الأستاذ الأعظم الرسمي في كل البلاد من يوم أصبح «مدير الجامعة»، فأجيبك بأني «ماعنديش خبر» بشيء من هذا كله، وكيف تريدني على أن أصدق أن الأستاذ لطفي السيد كله أصبح مدير الجامعة المصرية، في حين لم أسمع بأنه أفاض على الطلاب درسًا أو ألقى محاضرة في العلم واحدة! فإن كنت تريد «بمدير الجامعة» ذلك الموظف الذي ينكسر همه على طلب كُسَى الحجاب والسعادة، و«تسوية» أجور البوابين والجناينية، و«العرض» لوزارة المعارف عمن يلزم ترقيتهم من جماعة الكتاب، فليس ذلك بالرجل الذي يعنينا في مثل هذا المقال.

الحق أن لطفي أستاذي، وإنه ليسوءني أن يختم حياته في هذه «الجامعة» من حيث يجب أن تبتدئ الحياة القوية لعظماء الرجال!

والواقع، أن الداء «الأجنبي» قد تغشى تلك الجامعة، في حين لم نر لذلك «الحكيم» قولًا ولا عملًا! ولو كان هذا المقام مقام تفصيل في هذا الباب لباديت أستاذي العظيم بكثير!

•••

ولطفي بك يجمع إلى عذوبة الروح عذوبة الحديث، وهو أديب تام يحفظ صدرًا عظيمًا من متخير شعر العرب ومأثور أقوالهم، إلى فقه في متن اللغة ورعاية لدقائقها، وبخاصة إذا كتب أو حاضر أو خطب. وله في أبواب البيان والترسل أسلوب خاص به، حاول كثير من الكتاب أن يتكلفوه فانقطعوا دونه. وهو شديد الحرص على أن يريك أنه لا يعبأ بتجويد العبارة ولا يتحرى اللفظ الرشيق إذ هو في الواقع يجهد في هذا، رغم عنايته بالمعاني والتكثر من إيراد مصطلح العلماء، ويتعمل له إلى ما دون التعسف.

وهذه الصفة في لطفي السيد، إنما تتصل بأخلاقه جملة، فهو رجل قد أخذ نفسه من كل أقطارها بألوان التكلف: يتكلف في مراح الشباب ثقل الشيوخ، ويتكلف في مجلس اللهو هيئة الجد، ويتكلف عدم الاكتراث لأعظم ما يكرثه من الأمر، بل إنه ليتكلف الكلام «بالجاف» إذ هو قد نجم في بيئة لم يعد يرتبطها بأهل الريف سبب!

نعم، لقد أخذ نفسه بهذا التكلف كله، حتى أصبح له طبعًا وسجية. وأكبر ظني أنه لو شاء يومًا أن يرسل نفسه على سجيتها لتكلف في هذا كثيرًا.

ولطفي بك أول من رفع راية «الديموقراطية» في مصر في هذا العهد الحديث، وهو الذي نفخها في روح الشباب وأجرى كلمتها على ألسنتهم، وعصارة الحزب الديموقراطي من تلاميذ لطفي ولا جدال، وإنك لتراه مع هذا أرستقراطي الفكر، شديد الأثرة للرأي! ولقد تخالفه إلى غير وجهه فيأبى إلا أن يغلبك، ولقد يغلبك بمحض الجدل يتحرف فيه تحرفًا. وهو رجل يملك حجته ويعرف كيف يصول بها عليك في الحوار. فإذا كنت أنت الآخر جدلًا متمكنًا من حجتك، وأحس منك السطوة برأيه، رأيت في وجهه تغيرًا، وآنست من نفسه عنك انقباضًا.

ولا أدري، أكان هذا من أثر تمكنه من نفسه وشدة إيمانه بحقه وكراهته أن تنزل من الرأي على باطل، أم أن للمسألة وجهًا آخر؟!

•••

وإذا كنت لم أقع من لطفي على أجل فضائله، فلعلي قد تهديت إلى أجل مكارهه إن كان ما هتفت به يعد في المكاره، وإني لأرجو بهذا أن أصيب رضاه كاملًا. ولقد دخل رجل من الناس على بعض الحكماء، فأقبل عليه يمدحه ويعدد محامده. فقال له الحكيم: «هذا أولى لك؟ وإن إكبارك لما ترى في من فضل لدليل على أنك لا تراني كفئًا له، فلو قد دللتني على هناتي! فتلك التي ليست بكفء لي.»

أسأل الله تعالى أن يعيننا على خدمة أساتيذنا وأحبابنا، فنحن في حقوقهم من هذه الناحية جد مقصرين!

١  يغذ السير: يسرع.
٢  يمكث فيه لا يبرحه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤