إبراهيم وجيه باشا

طويل، ضافي الجسم، متراخي الأطراف، تتسرَّح العين منه في منظر غير مُؤتَلف ولا متَّسِق، وبعبارة أخرى إن عينك لا تكاد تسقط عليه حتى تشعر بما بين خَلقه وبين «قيافته» من سوء التفاهم! فهو شديد العناية بهذه «القيافة». وهو لا يُعنَى بشيء من مظاهر الدنيا عنايتَه بها. وإنه لَيُخَيَّلُ إليَّ أنه يطوي عامة ليله وصدرًا من نهاره في مطالعة مجلات «المُودَة» ونشرات «الشيك»، وكلما سقط فيها على طريف أسرع إليه فتجمَّل به وتأنَّق، وتحلَّى به وتألَّق: فمن خواتيم تلمع في الخناصر والبناصر، من شتَّى الألوان في شتَّى الجواهر. ومن رباط للرقبة — كرافات — تحتار العين في أزرقه وأسوده وأحمره، وأبيضه وأخضره وأصفره؛ حتى كأنما قُدَّ من أنوار بستان، ففيه من كل زهرة زوجان، تجري كلها في مذاهبها حتى تلتقي عند لؤلؤة بيضاء، أو زمرُّدة خضراء، أو ياقوتة حمراء، فكأن هذا «الدبوس» من تلك الألوان، ملتقى العشاق ومجتمع الخُلان. ومن حلة محبوكة؛ «محذَّقة» مسبوكة؛ كأنما مَوَّه بها جلدَه تمويهًا، فإذا تبدَّى لك فيها حسبته عاريًا وهو كاسٍ! إلى حذاء، وناهيك بهذا الحذاء! ليس يتخذ الباشا حذاءه من مصر كلها، ولا من أفريقيا أجمعها، ولا من كل ما يُدَلَّى من سِلَع الغرب إلى الشرق، بل إنه ليُفصَّل له تفصيلًا من مصنع Lob الشهير في لندن، وثمنُ الزوج، على ما يروي الباشا نفسه، تسعة جنيهات إنجليزية «طبعًا». أما الحذاء نفسه، كما شهدناه، فدقيقٌ لطيف، رقيقٌ خفيف، قاسٍ، على نعومته، شديدُ القسوة حتى لَيَأْبَى إلا أن يُخرج أَسِيرَتَه — رِجْلَ الباشا — صغيرةً دقيقة هيفاء!

فإذا أنت ارتفعتَ بالنظر إلى طَرَفِه الآخر رأيت على رأسه طربوشًا طويلًا ضيقًا أيضًا، على أنه — ولله الحمد — على رأسه مُتَّسِقٌ مسبوك!

وهو يميله دائمًا إلى ناحية من رأسه فيصوِّر لك من فضل جبينه زاويةً لا أدري مقدار حظها من الهيبة أو الجمال!

ولو تمثَّلْتَه وقد بَعُدَ ما بين كتفيه، وتقارب ما بين كشحَيْه، وما يزال يتقارب في منازله إلى مُسْتَدَقِّ حذائيه، لرأيت منه مخروطًا معكوسًا، أو على الأصح قِمعًا مكفوءًا!

figure
على مُفوَّضِينا وقناصِلنا في جميع أقطار العالَم مُوافاتنا تلغرافيًّا بآخِر «مودة»!

قلت لك في صدر هذا الحديث إن بين خَلْق وجيه باشا وبين «قيافته» افتراقًا وسوء تفاهم، وأَكُرُّ على هذا الآن فأقول لك: إنه مع كل هذا التأنق، وكل هذا التجمُّل، وكل هذه النفقات، وكل هذه التكاليف، لا يزيدك في مَرْآهُ على أميرالاي في المعاش!

•••

وإبراهيم وجيه باشا رجل طيب القلب لا يَصْدُر عن أذى ولا يصدر عنه أذى، متواضع النفس، متواضع التفكير. لقد أصبح في الواقع وكيلًا لوزارة الخارجية في الدولة، ولكن أدبه وتواضعه لا يطاوعانه قط على الترافع إلى هذا المعنى؛ وإنهما لَيَغُضَّانِ حتى من تفكيره في مقتضيات ذلك المنصب الرفيع!

إنه لرجل متواضعٌ حقًّا في كل شيء! ولو أنك داخلته مهما داخلته، ولابسته مهما لابسته، لا يمكنك أن تُحِسَّ منه أيَّ اعتداد بالنفس يشعرك أنه أصبح وكيلًا لدائرة، فضلًا عن أنه أصبح وكيلًا لوزارة خارجية الدولة نفسها. وأيسرُ الدلائل على هذا موقفه العتيد في مجلس النواب يوم ثار حديث «بيوت هوس» وما اقتضى خزينة الدولة من نفقات جِسام.

وهو كذلك رجل متواضع الحديث، لقد يستغرق المجلس بالحديث عن نفسه لا عن مركزه في الحكومة، ولا عما يعتري الدولة من مشاكل ومتاعب في جغبوب، ولا مما يراد من فرض امتيازات لإخواننا الشوام أيضًا في مصر، بَلْهَ المفاوضات المقبلة في تقرير مصير الدولة — بل إنما يحدِّثك عن المفاوضات المقبلة بينه وبين طاهيه. وإن له لطاهيًا عظيمًا، وإن طاهيه لعبقري؛ يَصْدَع بعبقريته حدود الفن، أليس الطُّهاة جميعًا يُقَرِّبون، يوم الوليمة إلى الضيفان، «البامية» بعد رأس الطعام «الحَمَل أو الدندي أو السمك؟»

ولكن طاهيه قرَّب مرة لضِيفانه بعد رأس الطعام صَفْحَة من الفاصوليا الخضراء مباشرةً! أليس هذا عبقريةً تستحق كل إعجاب وإطراء؟!

سبحان من أودع كلَّ قلب ما شَغَله، وإذا كان قلب وجيه باشا مشغولًا بأشياء وأشياء، فإن قلبه من شئون الدولة كلِّها هواء.

يُهَرْوِلُ في الصغير إذا رآه
وتُعْجِزُه مُهِمَّات كِبَارُ

وقد نسيت أن أذكر لك أن للباشا شاربًا لبِقًا هو الآخر، ظريفًا، دائم التشكل والتكيُّف بحسب «آخر مودة» فتراه مرفوعًا ومرة مخفوضًا، وتارةً مفتولًا وتارةً منقوضًا، وآنًا مرسلًا وآنًا «مكويًّا»، وحينًا مستقيمًا وحينًا ملويًّا، وأسودَ يومًا ويومًا أغبرَ، وأصفرَ طورًا وطورًا أحمرَ.

ولا نُحب أن نَتِرَ الرجلَ حقه، فقد أحرز إجازة الحقوق — ليسانس — في غير عسر ولا تأخُّرٍ في الطلب، ثم دَلَفَ إلى مناصب القضاء فرقيَ في درجها واحدة بعد واحدة معروفًا بالاستقامة والنزاهة والنشاط وعدم الميل مع الهوى، وزامل ثروت باشا في نشأته كما زامله في بعض المناصب التي تولَّاها، وفي النهاية عُيِّنَ مستشارًا في محكمة الاستئناف المختلطة. فكان خير مثال للكفاية والاستقامة؛ فمستشارًا ملكيًّا. وهنا بدأ القلق يَدِبُّ إلى حظه من التوفيق في مناصبه الحكوميَّة.

وإذا كان قد نُفِضَ عن القضاء جملةً وقُلِّد منصبًا سياسيًّا «وكالة الخارجية» وبخاصة في العهد الحاضر — عهد المسئوليات الكبرى — فلم يتمكَّنْ منه تَمَكُّنَه من منصب القضاء فليس الوِزر عليه هو، ولكن على من أخطأَهم فيه التوفيق!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤