حافظ إبراهيم بك

وجاءت نوبة صديقي حافظ في «المرآة»، ولم تغن عني المطاولة، ولا كثرة الدفاع، كذلك حتم أصحاب «السياسة الأسبوعية»، وبذلك جزم القضاء:

فإنك كالليل الذي هو مُدرِكي
وإن خِلْتُ أن المنتأى عنك واسِعُ

إذن، سأجلو حافظًا في هذه «المرآة»، وأرمي فيه بالقول، وإذن سأدخل في الورطة وتحق علي الكلمة في كل حال! ويح نفسي من عنت أهل العنت من القراء، فإنني إن قلت فيه خيرًا قالوا: شهادة صديق لصديق، فهي متهمة مهدرة، وإن قلت شرًّا قالوا: ما أنكره للود وما أكفره!

وما لي لا أعوذ من ألسن هؤلاء بالحق، فالحق أجدى من مصانعة هؤلاء. وعلى هذا، فإني سأطلق كلمة الحق في صديقي حافظ، وأعوذ بالله تعالى أن يلحقني فيه قول ذلك الحكيم: «إن قول الحق لم يدع لي صديقًا.» ولا تنس بعد هذا يا سيدي القارئ مبلغ ما يضحي به الكاتب المسكين في سبيل رسالة يؤديها قلمه إليك لتلهو بها خمس دقائق أو ستًّا، وهو لا يطمع منك في أكثر من أن تقصد في حكمك، وتترفق في نقدك وشتمك، والتضحية في هذه المرة ليست بجسم يتعب، ولا بمال يغصب، ولا بقلم يغلب، ولا بسب يُجْلَب، إنما هي باستهداف ودٍّ دام إحدى وعشرين سنة للجلجلة بَلْهَ الزوال، وهي كانت متن الصبا، وهي كانت نضرة العمر، وهي هي الذكرى الباقية لحلو الحياة لمن أبرمه مر الحياة!

فإن لم تك «المرآة» أبدت وسامة
فقد أبدت «المرآة» جبهة ضيغم

ما لي قد غشيني من هذه العواطف المحزونة الوالهة، حين عرض لي اسم حافظ ما لم يغشني قبل لاسم إنسان؟ وفيم كل هذا ولعلي لا أصيب في صديقي إلا خيرًا! حقًّا، إني لأخشى أن أكون اليوم مريضًا، وأن الأمر كله من لوثة الأعصاب. فإن كنت معافًى صادق الوزن، فإنني أرجو أن يكون صديقي حين تقع له هذه المقالة معافًى، متزن الأعصاب.

•••

حافظ إبراهيم شاعر، فهو يحب الجمال ويجتمع له، ويكره القبح وينعى على أهله، يجابه بذاك مجابهة، لا يتقي في القول ولا يتحرف، وما إن طلع عليه فتى دميم الخلق، غير مستوي معارف الوجه إلا قال له: يا فتى، ليس الوزر عليك بل على أبيك لأنه لم يؤد مهرًا! وإذا اطردت نظرية حافظ، فلا شك في أن المرحوم والده تزوج على الطريقة الإفرنجية فلم «يدفع» مهرًا، بل هو الذي أخذ «الدوطة».

جهم الصوت، جهم الخلق، جهم الجسم، كأنما قدَّ من صخرة في فلاة موحشة، ثم فكر في آخر ساعة في أن يكون إنسانًا، فكان «والسلام»! أما ما يُدعى فمه فكأنما شق بعد الخلق شقًّا، وأما عيناه، فكأنما دقتا بمسمارين دقًّا. وأما لون بشرته، والعياذ بالله، فكأنما عهد به إلى «نقاش» مبتدئ تشابهت عليه الأصباغ والألوان، فداف أصفرها في أخضرها في أبيضها في «بنفسجيها»، فخرج مزجًا من هذا كله لا يرتبط من واحد بسبب، ولا يتصل بنسب. وإنك لو نَضَوْتَ عنه ثيابه وألبسته دُرَّاعة من دونها سراويل، وأفرغت عليه من فوقها جبة ضافية، وتوجته بعمامة عظيمة متخالفة الطيات، لخلته من فورك دهقانًا من دهاقين الفرس الأقدمين! فإذا جردته كله وأطلقته في البر حسبته فيلًا، أو أرسلته في البحر ظننته درفيلًا! ولكن! ولكن اكشف بعد هذا عن نفسه التي يحتويها كل ذلك، فلا والله ما النور بعد الظلام، ولا العافية بعد السقام، ولا الغنى بعد البؤس، ولا إدراك المنى بعد طول اليأس، بأشهى إليك، ولا أدخل للسرور عليك من هذا حافظ إبراهيم!

خفيف الظل، عذب الروح، حلو الحديث، حاضر البديهة، رائع النكتة، بديع المحاضرة، إذا كتب لك يومًا أن تشهد مجلسه، أخذك عن نفسك، حتى ليخيل إليك أنك في بستان تعطفت جداوله، وهتفت على أغصانه بلابله، وأشرق نرجسه وتألق ورده، فأذكراك طلعة الحب: تانك عيناه وهذا خده! وتنفس فيه النسيم بسحر هاروت، فأعجب لمن ينشره هذا النسيم كيف يموت! والبدر في مُلكه بين المجرة والجوزاء، يخلع على الروض حلة فضية بيضاء، فلا تدري أأمست السماء في الروض، أم أمسى الروض في السماء؟

ولم أر قط رجلًا أسرع منه حفظًا ولا أثبت حافظة، ولقد تقع له المقالة الطويلة أو القصيدة الضافية، فترى نظره يثب فيها وثبًا حتى يأتي على غايتها، وإذا هو قد استظهر أكثر جملها، أو أبياتها إن كانت قصيدًا، وإذا هي ثابتة على قلبه على تطاول السنين. كذلك لم أر قط رجلًا اجتمع له من متخير القول ومصطفى الكلام مرسلًا ومقفًّى مثل ما اجتمع لحافظ إبراهيم، فكان حقًّا له من اسمه أوفر نصيب. وإذا كنت ممن يجري في صناعة الكلام على عرق وهيئ لك أن يحاضرك حافظ في الأدب، لصب على سمعك عصارة الشعر العربي، وأبدع ما انتضحت به القرائح من عهد امرئ القيس إلى الآن. ويمكنك أن تعد بحق حافظًا أجمع وأكفى كتاب لمتخير الشعر العربي عرف إلى اليوم. وليتهم، إذ يشرف على السن، بدل إحالته على المعاش يحيلونه على أحد «دواليب» القسم الأدبي في دار الكتب، إذن لعصموا عليها ذخيرة هيهات أن تعوض على وجه الزمان.

وإذا أردت أن تتعرف لون شعره، وإلى أي وادٍ من أودية الكلام ينتسب، فارجع إلى أكثر ما يهتف به ويردده من شعر من قبله من الشعراء، وإنه في هذا الباب ليؤمن قبل كل شيء بالصنعة والديباجة ونسج الكلام، وما بعد هذا عنده ففضل. وهو يرى، ولقد يرى معه كثير، أن جلال الشعر وبهاءه ليسا في التعليق بدقائق المعاني وإن تزايلت من دونها الألفاظ، وأن أدق المعاني وأجلها لقد تقع للدهماء في حوارهم ومنازع كلامهم، أما إشراق الديباجة وفصاحة القول وتلاحم النسج ورصانة القافية فذلك الشعر. أليس يبهرك ويروعك ويشيع فيك كل الطرب قول البحتري مثلًا:

ذاك وادي الأراك فاحبس قليلًا
مُقصِرًا في ملامةٍ أو مُطِيلًا
لم يكن يومُنا طويلًا بنعما
نَ ولكن كان البكاءُ طويلًا

وقوله:

وقفة بالعقيق نطرح ثقلًا
من دموع بوقفة في العقيق

وقول الشاعر:

يا ليت ماء الفرات يخبرنا
أين تولت بأهلها السفن

وقول الشاعر العربي:

فسائل بني جَرْم إذا ما لقيتهم
وسعدًا إذا حَجَّت عليك بنو سعد
فإن يخبروك الحق عني تجدهم
يقولون أبلى صاحب الفرَس الوَرْدِ

وغير هذا من رائع الشعر ما لا يتناوله الحصر.

وبعد، فأي معنى في مثل هذا يرتفع على ما تبتذل به العامة في أحاديثهم وأسمارهم وفنون مناقلاتهم! إنما خطره كله في لطف الصياغة وشدة القول وقوة الأسلوب، ولو قد ذهبت تؤدي بلغة أخرى أفخر ما نظم البحتري وأبو تمام وأضرابهما من أعيان الشعراء ما خرجت من ذاك بجليل، بل لو أنك تعمدت أبلغ ما قالوا فنقضت غزله ونثرت نظمه، ما عدا أن يكون كلامًا من أوسط ما اعتاده الناس من الكلام!

هذا رأي حافظ في الشعر، وتلك أيضًا صورة من شعره! مشرق الديباجة، جزل اللفظ، صافي القول، محكم النسج، رصين القافية، ترى معناه في ظاهر لفظه، فإذا أقبل عليك ينشدك من شعره، أبصرت البيت يستشرف وحده للقافية استشرافًا حتى لتقبض عليها بذهنك قبل أن ينطق بها حافظ إبراهيم.

وحافظ، كما أسلفت عليك، مؤمن كل الإيمان بالصنعة، ولقد يسنح له المعنى الدقيق فيحاول أن يشكه بالقريض، فإن أصابه في غير قلق ولا إعنات للفظ أو إخلال بقوة النظم، وإلا صرف لغيره وجه القريض، ولربما أصاب المعنى الرفيع فيسره للنظم تيسيرًا، حتى يخيل لك، إذ تتلوه، أنك في كلام من جنس سائر الكلام!

وهو، كما حدثتك، حاضر البديهة، رائع «النكتة»، يتعلق فيها بأدق المعاني في جميع فنون القول، فلا يحتويه مجلس إلا رأيته يتَنَزَّى تَنَزِّيًا من ضَحِكٍ ومن طرب ومن إعجاب، وهو كذلك شديد الفطنة، حُلو الملاحظة، لا يكاد يَعْرِض لسمعه أو لبصره شيء إلا وجه عليه رأيًا طريفًا يصوغه في «نكتة» عجيبة قد تستقر على سطوح الأشياء، وأحيانًا تتغلغل إلى الصميم حتى تتكشف الأيام منها لا عن طُرْفة مُتَطِّرف ولكن عن رأي حكيم! وهو لا يتحامى في تطرفه ولا يتحرج، فتراه يقتحم عليك بتندره كل مداخلك أنى سنحت له اقتحامًا، فيصيب من خلقك ومن ثيابك ومن أثاث بيتك ومن طعامك، على أنه في كل هذا مرضيك ومؤنسك وباسط أسارير وجهك إن لم يفرج بالضحك من ثناياك، فأما إذا كنت رجلًا ضيق العطن متزمت النفس، فلا خير لك في مجلس حافظ إبراهيم.

وهو أجود من الريح المرسلة، ولو أنه ادخر قسطًا مما أصابت يده من الأموال لكان اليوم من أهل الثراء، على أنه ما فتئ طوال أيامه يشكو البؤس حتى إذا طالت يده الألف جن جنونه، أو ينفقها في يوم إن استطاع، فإذا استغلقت عليه أحيانًا وجوه السبل لإتلاف الأموال، عد هذا أيضًا من معاكسة الأقدار! ولعل هذا من أنه نضجت شاعريته في باب «شكوى الزمان»، وقال فيه ما لم يتعلق بغباره شاعر، فهو ما يبرح يطلب البؤس طلبًا ويتفقده تفقدًا؛ إيثارًا لتجويد الصنعة والتبريز في صياغة الكلام، وتلك دعوة كانت للمرحوم الشيخ محمد عبده أحسب حافظًا يحققها بيده إذا قصرت في تحقيقها الأيام. وإنه لفنان Artiste حقًّا، وإنَّ فيه لَكُلَّ أخلاق الفنانين، تَوَلَّه بالطعن من جميع أقطاره، فقد يسامحك ويتراخى بالصفح عنك، أما أن تتولى فنه وتسلك بالطعن صنعته، فذلك الكسر الذي لا يُجبر، وذلك الذنب الذي لا يُغفر، وذلك مُثار الدمع ما يزال هاميًا، وذلك مُتنزى الجُرح ما يفتأ على الزمان داميًا.

والعجب أن حافظًا نفسه ضيق العطن، قليل الصبر، سريع الغضب، ويا ويل الأرض منه والسماء إذا تعجل أمرًا فألبث دونه دقيقة واحدة، إذن لهاج هياج الصبي، فما يجدي فيه التصبير ولا التعليل، وما أبدع غضبته وما أحلاها ساعة يهم بركوب مركبة في الطريق، فيرى الخيل قد خُلعت عنها أرسانُها، وهناك تسمع منه وهو يكاد يَتَمَيَّزُ من الغَيْظ، أبدع النكات وأدقها، وقد عجلت إليه الشيخوخة قبل السن، وضربته أعراض السبعين، إذ هو لم يذرف كثيرًا على الخمسين، ففاض من أنسه غير قليل، وشغل بالمرض أو بتوهم المرض، فما يلقاك إلا أبثك علة طارئة وطالعك بشَكاةٍ جديدة، وتتقسم أوهامه مراجعة الأطباء والمتطببين، وترديد النظر في كتب الصحة والأقرباذين، فما سمع بعلة إلا أحس أعراضها، ولا وقع على عقار من العقاقير إلا اتخذه وتداوى به!

ومن أظرف نوادره، أن صديقًا له لقيه مرة في الطريق، وهو منقبض النفس متربد الوجه، فسأله ما به، فقال له: إن المصران الأعور عندي ملتهب، فقال له صاحبه: وبماذا تشعر؟ فقال: أشعر بوجع شديد هاهنا، وأشار بيده إلى جنبه الأيسر، فقال له: إن المصران الأعور إنما يكون في الجنب الأيمن لا الأيسر! فأجابه حافظ من فوره: يمكن أكون أنا يا سيدي أعور شمال!

•••

ولا أحسب شاعرًا يجيد الإنشاد كما يجيده حافظ، وإن له لصوتًا جهيرًا، فخمًا، رائع المقاطع، فإذا هو وقف ينشد الجماهير هزها هزًّا، ورفع بالترتيل حظ الكلام درجات على درجات.

ولا ننس لحافظ يدًا جليلة على اللغة العربية بما نظم وما نثر إنشاءً وترجمةً، فلقد طالما استخرج من مَجْفُوِّها صيغًا طريفة بليغة أدت كثيرًا من الأسباب الدائرة بين الناس، مما تتحرك معانيه في الأنفس ويعيي أداؤه على الأقلام.

وحافظ إبراهيم — ولا شك — من مفاخر هذا العصر ومن مباهجه معًا. أسأل الله أن يبسط في عمره، وأن يرزقه العافية، على أن يقتنع هو أنه في عافية!

وبعد، فإذا كنت يا صديقي قد وترتك بعض حقك ولم أعرض جميع مزاياك؛ فلكيلا أجعل لأحد سبيلًا إلى الاتهام، وإذا ظن بي شانئ أني لم أتسقَّط كل هَنَاتِك، إن كانت لك هَنَاتٌ أخرى، فما كان الود ليريني إلا الخير في أصدقائي، على أنني أعتذر إليك في الأولى، وأعتذر إلى القراء في الثانية، وأستغفر الله في الحالين، وأسأله تعالى أن يصرف عني محنة الكتابة، ويتوب علي من فن الكلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤