هدى هانم شعراوي

لقد تعرف أن العرب إنما أخذوا علم المنطق عن اليونان وعربوه تعريبًا، ودونوا فيه الكتب، وأشاعوا البحوث وضربوا الأمثلة، على أنهم في كل ذلك لم يخرجوا عن الأفق الذي رسمه اليونان حدًّا للمنطق تدور فيه قضاياه، وتتكيف أقيسته في أشكاله المقسومة، وكل أولئك مرده عندهم إلى العقل، وإلى العقل وحده. فأما القضايا الوجدانية، وأما الأقيسة الشعرية، فلا اعتبار لها ولا اعتداد بها في معرض الاحتجاج.

وبهذا أضحى المنطق شبيهًا بالرياضة إن لم يكن شعبة منها. وأما الفلسفة الحديثة، فلسفة الغرب، فقد تبسطت قواعدها حتى تناولت نجوى القلب وحديث الوجدان! وأدخلت هذا في جملة الأقيسة التي تعتبر نتائجها، ولقد يكون هذا من الحق، فإن شعور النفس أحيانًا لا يقل صوابًا عن حساب الذهن، بل لقد يسبق الوجدانُ أحيانًا، ويستشرف إلى ما لا يهتدي إليه العقلُ، وينقطع من دونه جُهد التفكير، فليس عدلًا وليس حقًّا أن يسقط الإنسان هذه الأداة القوية النافذة من أسباب تعرفه واستكناهه لحقائق الأشياء!

على أن هذا أيضًا لا يسلم من الخطل، فكثيرًا ما يكون موقع الرأي في الوجدان أثرًا من آثار الهوى، أو حكم البيئة، أو الظرف الخاص، أو طول الاعتياد أو نحو ذلك مما تتجه به نزعات النفس دون أن يكون للحقائق في نفسها أي اعتبار.

وإنما سقت هذه المقدمة الطويلة، المملة أيضًا، لأقرر أنني، في مسألة المرأة، رجل رجعي، لا أرد هذا إلى قياس منطقي عقلي، على الطراز القديم، إنما مرد الأمر كله إلى قياس وجداني على الطراز الحديث. نعم، لا أدعي أنني حركت في الأمر عقلي فأثبت لي بعد ترتيب الأقيسة المنطقية، أن «نهضة المرأة المصرية» غير ميسورة أو غير صالحة، إنما هي نزوة الوجدان لا تلهمني من هذا إلا أسًى وتطيُّرًا!

•••

وأهاب بي صديق: «فيما تقصر مراياك على الرجال، وفي النساء من هن أفضل من كثير؟» وأول من تنظرت لي من سيدات العصر، من غير تردد، هدى هانم شعراوي، ولكن! سُرعان ما مثل لي تداعي المعاني أيضًا مسألة «النهضة النسوية»، إذن، سأكتب في السيدة هدى هانم شعراوي، وإذن، سأعرض برغمي لحديث «النهضة النسوية».

على أنني لم أر السيدة النبيلة، ولا بد لي قبل أن أريها مرآتي أن أراها، ولا بد لي قبل أن أتحدث عنها أن أتحدث إليها، فكيف السبيل إلى كل ذلك؟ ذلك أن أتشفع إليها بصديق لأسألها في مسألة خيرية.

وهمها في العلا والمجد ناشئة
وهم أترابها في اللهو واللعب

ولقد تفضلت السيدة الكريمة وأذنت لي في التمثل لها في قصرها الفخم القائم بإزاء دار الآثار، أو القائمة بإزائه دار الآثار.

مضيت إلى الموعد ورأسي يزدحم بجلائل الأفكار عن هذه السيدة النبيلة، المزدحم تاريخها بجلائل الأعمال، ولقد ثار المصريون في صدر سنة ١٩١٩ يطلبون نصيبهم في الحياة، وأبت كرائم السيدات أن يتخلفن في الخدور، فنفرن في خفة إلى الجهاد، وفي طليعتهن كانت السيدة هدى هانم شعراوي. ولقد يسيغ الرجل الرجعي «مثلي» هذا؛ لأننا كنا في جهاد، وهل خلا جهاد من أثر للسيدات عظيم؟ وهادننا الإنجليز وهادناهم، وسكت المدفع وتكلمت السياسة، وآبت أكثر العقائل إلى خدورهن تاركات ذاك للرجال، فذلك، في رأيي، من شأن الرجال وحدهم. وأبت هدى هانم، في سرب من ربات الحجال، إلا أن تجول في السياسة مجالًا، ولعله عز على بنت سلطان باشا الذي مثل خديو مصر في البلاد يوم حاصر العرابيون الخديو في الإسكندرية وكفوه عن ولاية الحكم، والذي جرد عليه بعض الثائرين السيف فلم يتتعتع عن التشبث بما اعتقده منجاة للوطن، ولعله عز على زوجة علي شعراوي باشا الذي كان ثالث ثلاثة خاضوا، في يوم الروع، مدافع السلطة وأسنتها، وراحوا يقولون لعميدها في شمم وقوة: إن مصر تريد حريتها لأنها لا تطيق حياة الرق، فإذا كنتم ترومون أن تتصلوا بها، فلتكن صلة الأكفاء بالأكفاء لا السادة بالعبيد، لعله عز على هذه السيدة التي خاضت المجد من كل أطرافه أن تسكن أو تبلغ مصر غاية مناها من الحرية والاستقلال.

على أنها ما لبثت في ميدان السياسة أن فطنت إلى أن لها مهمة أخرى لو حررت لها مواهبها العظيمة، لكان ذلك أزد على بني وطنها، بل على قضية هذا الوطن، ولقد اجتمع للسيدة هدى هانم ما لم يجتمع لكثيرات في هذه البلاد، اجتمع لها الحسب، والغنى، والذكاء، والنشاط، والغيرة الشديدة على النفع العام.

وشاء الله لهدى هانم، أو على الصحيح، شاء لحظ مصر أن تقبل هذه السيدة بكل مواهبها على ما هو أخلق بها، فرأت أن المرأة المصرية مظلومة فحق أن تنصف، محرومة فحق أن تعطى، جاهلة فحق أن تتعلم، وأنفقت ما شاء الله من مالها وجاهها ومساعيها حتى شرعت الحكومة قانونًا لسن زواج البنت، وحتى فرضت من عنايتها نصيبًا عظيمًا لتعليم البنات. وما زالت السيدة تلح بمساعيها على الحكومة في شأن المرأة، وما زالت عناية الحكومة تتسع لهذا الإلحاح الكريم.

أما من جهتها هي، فقد راحت تعمل على تهذيب المرأة المصرية وتعليمها، ورفع شأنها بكل دخل في إمكانها من الذرائع: فمن إنشاء مدرسة، إلى إقامة ملجأ، إلى تشييد مشغل، إلى نشر مجلة، إلى إلقاء المحاضرات العامة في شئون التربية والتعليم.

ولم تقنع بكل ذلك، فأقامت مصنعًا للخزف؛ تحيي به صناعة وطنية قديمة من جهة، وتعصم به من جهة أخرى طائفة كبيرة من الفتيان المتبطلين من التشرد والاطراد في طرق الشر والإجرام، ويضيق العمل في داخل البلاد عن مساحة همتها، فتهاجر كل عام إلى ديار الغرب؛ لتهتف باسم مصر وتعلي من قدر المرأة المصرية هناك.

وأظن السيدة هدى هانم شعراوي أول سيدة مصرية مثلت بنات جنسها في بلاد الغرب، فقد وفدت على روما من بضع سنين وانتظمت عضوًا في المؤتمر النسوي الذي عقد هناك، وألقت بين أهله خطابًا نفيسًا دل القوم على أنهم كانوا في عقيدتهم في السيدة المصرية جد مخطئين.

ووفدت صيف هذا العام على باريس، ودخلت عضوًا تنوب عن نساء مصر في المؤتمر النسوي الذي حضره رئيس الوزارة ووزير المعارف كلاهما، ومما يذكر لها بالإعجاب، أنها لاحظت أنه قد رفعت في قاعة المؤتمر أعلام الدول التي ينتمي إليها الأعضاء جميعًا ما خلا مصر، فلم تتوان عن الجهر بما لاحظت، فاعتذر إليها القائمون بشأن المؤتمر، وأكدوا لها جهد قواهم أن الأمر لا يمكن أن يصرف إلا على مجرد السهو، وبادروا إلى العلم المصري فرفعوه بين التحية والتصفيق، ولما انتخب أعضاء لجنة المؤتمر التنفيذية كان بينهن، ولا فخر، ممثلة نساء مصر هدى هانم شعراوي.

كل هذه الأفكار كانت تساورني في طريقي إلى قصر السيدة هدى هانم شعراوي، إلا أنني، كما أسلفت إليك، في مسألة «النهضة النسوية» رجعي، وإذا كنت أخاف شيئًا من وفادتي تلك، فهو أن تغير السيدة هدى هانم رأيي في المرأة، والمرأة المصرية على وجه الخصوص!

وأنت إذا جددت في التفكير، انتهيت إلى أن أكثر ما يستريح إليه الناس وما يختمون عليه قلوبهم في معاقد آرائهم مدين لهذا النوع من الأنانية في الإنسان، وإن المرء ليؤمن بالرأي حتى ليقاتل في سبيله ويبذل مهجته من دونه، وما كان هذا الرأي نتيجة منطق سليم، ولا وليد تفكير صحيح، بل لقد يكون أثرًا من آثار التقليد، أو طول الاعتياد، أو حكم الظرف الخاص، أو غير ذلك من مختلف الأسباب، وإن الزمن ليعقد بين المرء ورأيه أُلفًا ومودة، وتلك العلة في نفورك من كل من يكشف لك عن مواقع الخطأ في رأيك، ويحاول أن يزعجك عنه إلى ما ربما كان الصواب. ولقد لمس المتنبي هذا المعنى في قوله:

خُلِقت أَلُوفًا لو رجعتُ إلى الصِّبا
لفارقت شيبي موجَع القلب باكيا

•••

وبلغت قصر السيدة الفخم، وقادني الخادم إلى غرفة صنعت على «الطراز العربي»، وقد افتنَّت اليد الصَّنَاع في سقفها وجدرانها ومحاريبها وأثاثها وثرياتها وصورها وتهاويلها، حتى خيل إلي أنني إنما أعيش في القرن الرابع عشر لا العشرين. وجاء شاب من قرابة السيدة، فدعاني وسار بي، فخضنا بهوًا عظيمًا هائلًا يتحير الطرف في بدائع أثاثه ورائعة تحفه، حتى أفضى بي إلى غرفة مبسوطة الجنبات، أثثت بفراش من طراز لويس السادس عشر، وزينت جوانبها بغوالي الطرف، كما زينت جدرها بأبدع ما جالت به أيدي المصورين. والواقع أن عينك لا تقع، أنى دارت، إلا على مظهر من مظاهر الغنى، إلا أن ذهنك سرعان ما يستغرقه شعورك بما في ذلك النظام من دقة ذوق وروعة جمال. وهناك استقبلتني السيدة النبيلة مرحبة، وأومأت إلى كرسي كبير — فوتيل — فجلست وجلست.

ولست أعالج من وصف سيدة ما أعالج من وصف الرجال في هذه «المرآة»، إلا أنني لا أكتم القارئ أن هذه السيدة تحيط بها هالة من جلال تحسر النظر عن تصفح ما في معارف وجهها من قسامة وجمال، وذلك البريق في عينيها قل أن يقع على محدثها، بل إنها لتشرد به في ناحية أخرى في فتور طرف، على أنك لو استطعت أن «تنشل» منه في غفلة منها نظرة واحدة، أقنعتك تمام الإقناع بأن نظرها إنما يتجاوز المحيط الذي أنتما فيه ببعيد. والواقع أنها سيدة مفكرة، والظاهر أنها لا تنقطع عن تفكير عميق، محتشمة الثوب، محتشمة المجلس، محتشمة القول، محتشمة الابتسام.

وانتهى دور التحية، ولم يبق لي بد من الكلام، فقلت لها: يا ستي، إنما جئت لأسألك في بعض ما تعانين من الأعمال، فأجابتني في دهشة قد تنطوي على شيء من الإنكار: لقد أخبروني يا سيدي أنك آت لتسألني في مسألة خيرية!

– وهل ثم خير أبلغ وأجمع مما تعالجين يا سيدتي من وجوه الأعمال؟

– تفضل فسل عما شئت.

– قبل كل شيء لا أكتمك أنني رجل لا أقول بالسفور، ولا أذهب مذهب السفوريين، بل إني أعترف بأكثر من هذا! أعترف بأنني في مسألة «النهضة النسوية» ما زلت رجعيًّا.

– رجعي! ولماذا؟ وما حجتك على هذا الخلاف لجماعة السفوريين؟

– لست أتكلف لهذا حجة، بل لعله رأي طبعتني عليه البيئة بحكم نشأتي في بيت محافظ.

وهنا ابتسمت السيدة النبيلة ودارت ببصرها دورة سريعة، وقالت في بطء يتداخله شيء من العجب: وأين نشأت أنا؟! وكأنها بهذه الكلمة الصغيرة تقول لي بأبلغ البيان: وهل نسيت أنني نشأت في أكبر بيت في الصعيد له كل تقاليده المأثورة، وعاداته القاسية الموروثة؟ فأجبتها من فوري: وهذا يا سيدتي مما يزيد في العجب!

– ليس الأمر بدعًا كما تظن، فإن أمة تريد أن تحيا وأن تأخذ مكانها تحت الشمس، إنما تعبث بعقلها وكرامة تفكيرها إذا ظنت أنها بالغة من ذلك ونصفها أشل! وكيف يرقى الرجال إذا لم يرق النساء؟ وكيف ينتظم حال بيت تديره امرأة جاهلة، لا رأي لها في الحياة ولا كرامة ولا خطر؟ وكيف تريد للأمة رجالًا صالحين أَكْفاء للحياة المجيدة القوية، إذا كان يتولاهم في بدء نشأتهم ويطبع تفكيرهم أمهات جاهلات وضيعات التفكير؟

– يلاحظ يا سيدتي أنه في هذا الوقت الذي قويت فيه الدعوة إلى السفور، خرجت كثيرات من السيدات عن آفاقهن سواء في ملبسهن وفي غير الملبس من مطالب الحياة! وترى هل هناك صلة بين الأمرين؟

– إن دعوة السفور ما كانت يومًا لتنطوي على هذا التبرج، وهذا السلوك الذي تنكره وننكره كلنا معك. فإذا ظن ظان أن من السفور ما تفعل بعض سيداتنا، مع كثير من الأسف، من الابتذال في مجالس الرجال والرقص ونحوه فهو في أشد الضلال. وإذا كان بعض السيدات قد تطرفن في سلوكهن، فما كان ذلك إلا نتيجة «التطور» الاجتماعي، ونحن إذا دعونا إلى السفور، وعملنا بجهدنا على تحقيقه، فإنما نفعل ذلك لنكبح جماح هذا «التطور»، ونسير بالمرأة الشرقية في الطريق النافع المأمون.

– وإنك يا سيدتي لتجاهدين كثيرًا في أعمال البر، فهل لك أن تصوري لي شعورك كلما أدركت من عملك نجاحًا؟

– إنني إذا كان قدر لي في مساعي نجاح كما تقول، فإن شعوري مشغول عنه بمعالجة ما لم يتهيأ بعد له النجاح، ثم قالت في تواضع عظيم: إن خطانا ما زالت بطاء، وخطى الأيام سراع!

– لعلك يا سيدتي لا تزنين تمام الوزن أثر المجهود العظيم الذي بذلتِهِ على الأيام، لأن أقل الناس إدراكًا لنمو الطفل هما أبواه.

– على كل حال، فإنه ما زال بيننا وبين الغاية التي نطلبها بون بعيد، فإذا لم ندركها نحن رجونا أن يدركها من بعدنا من الأجيال.

•••

وهنا، استأذنتها داعيًا لها بالصحة وطول العمر، وانصرفت لا أدري، أبقيت على رأيي «الرجعي» في النساء أم لا؟ إلا أنني رأيت لساني يردد قول المتنبي:

ولو كان النساء كمن رأينا
لفضلت النساء على الرجال

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤