عزيز عزت باشا

مظلوم من الطبيعة، ومظلوم من الحكومة، ومظلوم من الناس، ومظلوم من نفسه. شاع فيه المرض أو توهم المرض «أو ما تراه أعظمًا وجلودًا؟» فهو يخشى الطعام لئلا يدركه البَشَم، ويخشى الشراب لئلا يلح عليه السقم، ويخشى المشي خوف تعب القلب وخفقانه، والتلفت اتقاء وجع الجنب وضرباته، والحديث فإنه يرهف العصب، والكتابة فإنها مدعاة للكد والنصب. ولا بد له من أن يطعم ليعيش، فإذا قربوا إليه الطعام دفع صحاف اللحم أبيضه وأحمره، لأن أضراسه لا تقوى على قضمه، ومعدته لا تضطلع بهضمه، وإذا جاءوه بالخضر صدف عن هذا ففيه حديد، وهذا لكثرة ما يحوي من «الأسيد»، وهذا لأنه وشيك التحجر، وهذا لأنه سريع التخمر، وهذا لأنه يستحيل في الأمعاء غازًا، وهذا لأنه لا يجد في «الاثنى عشري» مجازًا، ثم مد يده في خوف ووهل١ فتحيف من إحدى الصحاف قطعة من «البطاطس» مسلوقة مدقوقة، قد بالغوا في عركها، وألحوا في فركها، ولم يعالجوها بدهن ولا مرق، حتى إذا أساغها بعد طول مضغ وهرس وترديد على كل ثنية وكل ضرس، مضى يطلب لهضمها من العقاقير كل ما أخرج أطباء الإنجليز والألمان، والفرنسيين والأمريكان مما يدر عصير المعدة، ويحرك الأمعاء، ويشد المصران، ويقوي «الضفيرة الشمسية» ويمنع التخمر، ويشتف الغازات، ويجتاز «الحجاب الحاجز» فلا يضغط القلب، ثم راح يشكو هؤلاء جميعًا!
figure
لا يغرنك سهولة المرتقى إذا كان المنحدر وعرا.

وعزيز باشا عزت كبير الرأس، له وجه شاحب طويل على جسم رفيع طويل، لو وقف أمامك ولم يتحرك لخلته عصى خيزرانة ركب عليها مقبض من العاج!

وقد نجم من بيت حسب وغنى، وتعلم في صدر شبابه في مدارس مصر، ثم شخص إلى إنجلترا فتلقى العلم في مدارسها، ثم دخل في جامعة «ولش» العسكرية حتى إذا طوى فيها سنين طالبًا مجدًّا متفوقًا، خرج منها ضابطًا في الجيش البريطاني، ثم استقال وعاد إلى مصر، فانتظم في خدمة الحكومة المصرية حتى قلد وكالة الخارجية إلى أن كانت وزارة محمد باشا سعيد الأولى، فلم ير أن يبقى في وزارة الخارجية وكيلًا، فنزح بأهله إلى لندن وأقام فيها كل هذه السنين.

وهو رجل وافر الذكاء، غزير العلم، جم الأدب، صادق النبل، وبهذه السجايا استطاع أن يحرز في بلاد الإنجليز مكانًا رفيعًا.

ولما جاء دور اختيار السفراء قلدته حكومة جلالة الملك فؤاد الأول سفارة لندن، وكان اختيارًا موفقًا من ناحية ما للرجل من سعة العلم وصدق النبل ووفرة الغنى والمنزلة في عظماء الإنجليز، إلا أن الرجل، مع الأسف، كما أسلفت عليك مريض، ولعل المرض هو الذي شغله عن متابعة الحركة المصرية ومدارسة قضيتها، وتفهم ظواهرها وخوافيها، فلم يكن ذلك المعوان الذي يتكئ عليه رجال السياسة في معالجة القضية المصرية كلما جدت عظيمات الأمور.

وفي الحق، إن عزت باشا في خطبه البديعة الرائعة عن السودان إنما كان رجلًا وطنيًّا أكثر منه رجلًا سياسيًّا، فإن مهمة السفير أن يخاطب الرجال الرسميين لا يتخطاهم إلى خطاب الشعوب. ولعل ظرفنا الخاص هو الذي بعث حرارة عزت باشا وأطلقه في الشعب الإنجليزي بتلك الخطب السوابغ. وكثيرًا ما يغتفر في أمثال تلك الرجات القومية تجاوز ما يدعونه بالتقاليد.

ولقد أخذوا عزيز باشا عزت بطول إجازاته، وتركه مثوى عمله الأشهر الطوال إلى سويسرا للتداوي وتاراتٍ إلى مصر. والرجل لم يكن متجنيًا ولا متبطرًا، فإنه وأهله كليهما مريض، وقد حدثتك أن الطبيعة ظلمته، وأي ظلم أشنع من ظلم المرض، وحدثتك أن الحكومة ظلمته إذ قلدته بادئ الرأي منصبًا لا تضطلع صحته بأعبائه، وإنه ليقدم إليها الاستقالة بعد الاستقالة، وهي تأبى إلا أن تردها إليه وأن تمسكه في مركزه رغم أنفه، والناس له في هذا كذلك ظالمون.

ويجمل في هذا الموضوع أن نذكر أن الرجل لم يُدَلِّ يده إلى تناول راتبه طول مدة إجازته، فهو يردها على خزانة الحكومة ردًّا.

وأنت تعلم من مناقشات مجلسي البرلمان أنه لم يدخل في شأن «بيوت هوس» بيد ولا رجل. بل لقد أنكر هذه الصفقة أول الأمر وقضاها زيور باشا آخره في سر منه إذ هو في سويسرا.

وإن من الغَبن أن يقال إن عزيز باشا عزت «يشتغل» سفيرًا لمصر في لندن، ولو سألتني عن وظيفته الحقيقية، لقلت لك إنه «يشتغل عيان»، نسأل الله أن يلقيه العافية.

وبعد، فإذا كان لنا سفير في باريس وسفير في روما وسفير في الآستانة، وحتى لنا سفير في طهران! أفلا يصح أن يكون لنا سفير أيضًا في لندن؟! وإذا كانت لنا صلات ببلاد فارس، ولفارس في أسواقنا سجاجيد، «وشيلان كشمير»، وسبح «كهرمان»، فإنني أتخيل أن لإنجلترا في أسواقنا شيئًا يدعى الفحم، وآخر يدعى الحديد، وثالثًا يدعى الأقمشة على اختلاف أنواعها، ورابعًا وخامسًا، فإذا لم يكن بيننا وبين إنجلترا مسائل سياسية تستدعي أن نبعث لها سفيرًا، فلا أقل من أن نبعثه لما بيننا وبينها من وسائل تجارية!

وإذا لم يكن في مقدور حكومتنا أن تقبل من عزت باشا ما يقدمه لها من الاستعفاء، فإن في مقدورها أن تعجل له الشفاء!

١  الوهل: الضعف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤