شوقي

لو بعث الله الناس كلامًا ما عدا أن يكون شوقي نفسه قطعة شعرية جميلة نظمت في الحب والرحمة. دقيق الجرم، لطيف الحجم، متناسق الأعضاء، مستدير الوجه، لا تزال عليه أثارة من ملاحة الصبا وإن تكرشت بعض معارفه بقضاء ما فوق الخمسين. إذا أقبل عليك يحدثك مالت حدقتاه عنك إلى ما على يمينك أو شمالك أو ظلتا تضطربان بينهما، حتى لتحس أنه يوجه على غيرك الحديث. ولقد ينقطع عن المجلس، وهو فيه، المرتين والثلاث، فلا يسمع ولا يرى ما يدور بين يديه، فإذا كان على هذه الحال ورأيت رأسه يختلج، وقد رشق ظفر إبهامه بين ثنيتيه وراح يهمس بالتناغيم يسلخها سلخًا، فإياك أن تقتحم عليه شأنه؛ فإنه إنما يتلقى وحي القريض.

وهو خفيف الروح، رفيق النفس، نبيل الخلق واللسان، ترى فيه غبطة العصفور، وترى فيه وداعة الحمام. وهو، كما قلت لك، قطعة من الحب والرحمة، وإذا كان الحب ضعفًا، وإذا كانت الرحمة ضعفًا، فلا شك في أن شوقي أضعف الخلق أجمعين. ولم أره يومًا غاضبًا ولا ممهدًا سبيلًا للقسوة إلى قلبه أو يده أو لسانه، ذلك أن الله طبعه على أن يتناول بما فيه من الحب كل ما يجري في هذا العالم من الخير، وأن يتناول بما فيه من الرحمة كل ما يجري في هذه الدنيا من أذًى وشر. ومن هنا تدرك كيف يشيع ذكر السيد المسيح في شعر شوقي، وكيف يتغزل بأفتن الغزل في سجاياه العذاب!

وما الدهرُ إلا من رُواة قصائدي
إذا قلتُ شعرًا أصبحَ الدهرُ مُنْشِدا

مفرط في حب نفسه، شديد الولع بها، مفرط في حب بنيه، شديد الولع بهم، وإنه بعد ذلك لشديد الرقة للناس جميعًا، أضعفه الحب وفَلَّ من عزمه، فلا يستطيع أن يشهد مشهدًا مؤلمًا، ولا يستطيع أن يسمع قصة حزينة. ولو قد عرض لسمعه أو لبصره شيء من هذا لولى منه فرارًا ولملئ منه رعبًا. ولوع بنفسه هيوب من أن تعتريها الأيام بمكروه، وذلك الوجه فيما ترى من دوام رضاه وارتياحه، فلا تلقاه يومًا شاكيًا ولا برمًا بالحياة مهما تكدر العيش وتنكر وجه الزمان، فإنه إذا أصابه الخير هش له وفرح به، وإن أصاب المكروه سببًا من أسبابه أطار خياله كل مطير، فراح يلتمس له في الضير خيرًا وفي المكروه نعمة، ثم جاءك يحدثك بمنة الله عليه وعنايته به، فهو رجل يستخرج الرضا، ويستكره سبب الغبطة على كل حال! وإنه ليسرف في هذا إسرافًا شديدًا لقد يصل بك أحيانًا إلى العجب من أمير الشعراء!

•••

وبعد، فلكم عالجت القلم على أن يقول في «شاعرية» شوقي فعصى، ولكم بعثته بالبيان عنها فتعذر وأبى، وإن ظلمًا أن تريدني «السياسة الأسبوعية» على هذا وأن تقضي به علي اليوم قضاء لزامًا!

وليت البيان يعار فأستعير بيان شوقي ليصف شعر شوقي، فليس يتعلق بهذا إلا ذاك. وإني لآخذ في شعر هذا الرجل فما يزال يشفني ويرفعني، حتى أراني استحلت روحًا محضًا يطير بي عند السِّماك، ويحلق محلق الأملاك، فإذا أتيت عليه وعدت إلى نفسي، فإذا أنا ما زلت جسدًا رابضًا على هذه الأرض. وإذا شعر شوقي ما يزال نورًا يترقرق في تلك السماء!

صائد لا يخطئ سهمه، وإنه ليصيب أرفع المعاني من أول رمية، وإنه ليترفع بك إليها أو ينزل بها إليك فتسيغها في غير عسر ولا عناء، وإن كنت حقَّ شاعرٍ بأنه إنما جاءك بما يجاوز تفكيرك ويعلو على مدى تخييلك.

ولقد ضرب في كل قصد، وجال في كل غرض، فبرع وبذ وأتى بالطريف لا تدرك آثاره، ولا يلحق غباره. ومن عجب الزمان أن يخرج شوقي في هذا الزمان! ولا أدري كيف فر هذا الشاعر من شاطئ دجلة إلى شاطئ النيل، ولا كيف تسلل من جيل أبي نُوَاسٍ إلى هذا الجيل؟!

ولقد عارض الفحول من متقدمي الشعراء في أجل قصيدهم، فما قصر عن مداهم، ولا انخذل عن اللحاق بهم، بل لقد زاد عليهم من كل ما فتق العصر في فنون المعاني يرسلها في الكلام الناصح، فلا يَنْبُو عنها الطبع العربي ولا يجد لها عليه نشوزًا.

وشوقي هو شوقي من يوم شدن، ومن يوم تحرك بالشعر لسانه، آية من آيات البيان يدوي بها السهل والجبل. ولقد يكون التقدم في السن، والتبسط في العلم، وتجارب الأيام، وطول التمرين على نظم الكلام، قد بسطت في أغراضه وبصرته بكثير من مضارب القلم، إلا أنها لم تزد، وهيهات لها أن تزيد في «شاعريته» كثيرًا ولا قليلًا، ذلك أن هذه العبقريات إنما تُخلق مع المرءِ خلقًا، فلا تُنال بكسب ولا تعليم، فإذا كان لشيء من ذلك فضل، ففي مجرد الصقل والتهذيب.

وليس بدعًا في سنة الله أن ينتضح طبع شوقي بكل هذا البيان العربي، وهو فتى لا يتصل من أبناء العرب، من أمه وأبيه بسبب، ولا كان محصوله من لغتهم وأشعارهم ومحاضراتهم ومظاهر بلاغاتهم بأوفر من محصول من نشأ فيهم من أهل البيان، فوثب دونهم ورد بيان بني العباس عليهم، وإلا فمن علم البدر كيف يتألق، ومن علم الغدير كيف يترقرق، ومن علم السحر الجفون، ومن علم الغمامة كيف تسح بالعارض الهتون، ومن علم الوردة كيف تتنفس بالأرج، ومن علم البلبل كيف يتغنى بالرمل والهزج؟ ألا ذلك تقدير العزيز العليم!

وإن طبع شوقي ليجود بالشعر يصيب به أعلى المعاني ما أحسبه يرتصد لها أو يعالجها بالمطاولة والتفكير. ولقد تراجعه في بعض شعره وما يطلب به فيروح يتفهمه معك بمجاهدة الفكر، وطول الشد على العصب، حتى إذا فر هذا الشعر واحتدت فيه الأذهان خرج للناس فيه من وجوه المعاني ما يحير العقول ويذهب بالألباب. فإذا رأيت بعد هذا شوقي ولم تستطع التوفيق بين مجلسه وحديثه في الأسباب الدائرة بين الناس، وبين شعره الذي يُنِيف بك كلما قرأته، على السِّماك، فاعلم أن هناك موهبة أو ما يدعونه «عبقرية» ليس من الحتم أن تتَّسق دائمًا لسائر غرائز الإنسان!

وإذا رأيت أثر النعمة باديًا على شعر شوقي، فلا يتعاظمنك هذا ممن لاغاه إسماعيل طفلًا، ورباه توفيق يافعًا، وخرجه عباس رجلًا، وعاش عمره متقلب الأعطاف في الترف والنعيم.

وقيل يومًا لابن الرومي: كيف يسبقك هذا الغلام «عبد الله بن المعتز» إذا وصف، فلا تلحقه أنت ولا أضرابك من مشيخة الشعراء؟ فقال: لأنه إذا تكلم فإنما يصف آنية بيته!

وشوقي لا يحفل كثيرًا بنسج الكلام، وتزوير اللفظ، وتزويق الديباجة، فإن طبعه قد انصرف أكثره إلى المعاني، حتى إنه ليحمل اللفظ أحيانًا ما يثقله ويبهظه ويكد ذهن القارئ في التماسه وتبيينه، بل إنه في سبيل الوفاء بما قصد له من المعنى ليأتي أحيانًا بالغريب الشامس من اللفظ، لا تدرك معناه إلا بعد مراجعة وطول استخبار!

على أنني في هذه المرآة بسبيل تحليل نفس شوقي لا تحليل شعره، فمن كان لم يزل في حاجة إلى التهدي لفاخر شعره، وعيون قصائده، وهي فوق أن يتناولها العدد، فليطلب بعضها في قصيدة صديقه شاعر النيل التي أعدها للحفل الكبير، فليس أقدر على الدلالة على فاخر شعر شوقي من حافظ إبراهيم.

وقد يُسِفُّ شوقي كما كان يسف بشار وأبو نواس وأبو تمام والبحتري والمتنبي والمعري، ومن دخل في خِللهم من جِلَّة الشعراء، ولا بد للطائر المحلِّق أن يستريح هُنيهة بالإسفاف، وإنك لو وازنت بينهم في نصاحة شعرهم وحَبْك قريضهم وارتفاع معانيهم، وفي إسفافهم ذاك وتزايل ألفاظهم وفسولة معانيهم؛ لخلتهم إنما يعتمدون هذا اعتمادًا استجمامًا بالعبث أو تجنيًا على ما أمكنهم الله من نواصي البيان!

وقلت لك إنني لست بسبيل تحليل شعر شوقي حتى أضرب على ما تقدم به القول مختلف الأمثال.

وشوقي فنان كل الفنان، يَكْلَف بفنه ويُغرم بآثاره غرامًا شديدًا، وليس يؤذيه شيء كما يؤذيه أن تَتِره حقه وتتَحَيَّف من قدر صنعته.

ولقد قلت لك إنه ضرب بالشعر في كل قصد، وجال به في كل غرض، فبذ وبرع — أستغفر الله إلا الهجاء فما أحصي عليه فيه بيت واحد، اللهم إلا أن يتندر ويلاعب بالشعر لا يبلغ به الإقذاع ولا يتردى به إلى داعر الكلام، ولا أدري أكان ذلك ترفعًا من نبل النفس وكرم النشأة. والنزاهة عن التدسس إلى مكاره الناس؟ أم أنه يرجع أيضًا إلى تلك الطبيعة الغريرة والنفس الحلوة. فهيهات للعصفور أن يكون بازيًا، وللحمل الوادع أن يستحيل ذئبًا عاديًا!

وللكُتَّاب شعر تعرفه بجفافه وجَريانه في مثل أقيسة المنطق، وللشعراء نثر تعرفه بتزابل لفظه، وانقطاع جمله، وعدم استرسال معانيه. إذا عرفت هذه القاعدة تهيأ لك أن تعرف كيف يكون نثر أمير الشعراء! على أنك واجد لنثر شوقي حلاوة، برغم ما يقيده من أسجاع الكهان، ولكنها حلاوة شعر لا حلاوة كلام مرسل، وكأني به إذا اعتزم الكتابة في بعض الأغراض نظمها أولًا في شعر مقفى موزون، ثم كسره تكسيرًا وبذره على القرطاس بذرًا.

ولسان شوقي لا يفي بمطالب أدبه ولا خياله، وإن فيه فوق هذا لخجلًا يمسكه عن الكلام أحيانًا في مواطن الكلام، وقل أن تراه يتبسط في حديث إلا إذا خلا إلى نفر من صفوة خلانه، على أنك إذا شهدت مجلسه، ولم يسر إليك أحد بأنه شوقي، لما سهل عليك أن تدرك أن هذا شوقي الذي ملأ طباق الأرض بيانًا!

•••

وليس جديدًا أن أنبئك بأن العبقرية كثيرًا ما تضخم في المرء على حساب ما فيه من الغرائز، وكأني بها تملك عنها قدرًا من غذائها حتى ما تدع لبعضها قوامًا. وتلك العلة، لا شك، فيما تراه وتسمعه من شذوذ جميع العبقريين في العالم، فإذا كنت منكرًا على شوقي شيئًا من الشذوذ فإنك منكر، من حيث لا تريد ولا تجرؤ، تلك العبقرية الفحلة. وحسبه أن أصبح بها ملء الأرض، وحسبه أن أضحى بها حديثًا للتاريخ طويلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤