مختار «التمثال»

بيضة كبيرة ينتهي سنها بلحية دقيقة مرسلة على شكل مثلث متساوي الساقين. فإذا حسر الطربوش أو القبعة عن رأس «البيضة»، رأيت غديرًا في صفاء المرآة وهدوئها، يقوم على حِفَافَيْهِ نبت غزير، وتلك أيضًا رأس مختار المثال. وهو كذلك من الرجال الذين تعرفهم بصلعتهم إذا ولوا. وهو أبيض اللون، له تانك الحدقتان المتحيرتان في عيون أكثر نوابغ العالم. أما أنفه فبائن الطول والانتفاخ في غير كبر ولا تيه، يتدلى على فم لولا غلظ في شفتيه ما بان ولا انكشف. ثم هو بعد هذه «الزحمة» منتظم الجسم، متسق الجوارح، والحمد لله!

ومختار ضخم الصوت، فإذا ارتفع صوته تسلخت بعض شعبه، وإذا تحدث، سواء بالعربية أو الفرنسية، سمعت لفظ مجاور متحذلق في «تطجينة» عامل من سكان الخارطة بجوار سيدي أبو السعود!

والعجب أنه مع هذا كله رجل Moderne مطبوع في تفكيره، وذوقه، وأناقته أيضًا على آخر طراز، وهو ثائر عنيف الصولة على كل قديم، متعصب شديد الهوى إلى كل جديد. لا يعبأ في طلب هذا لنفسه ولقومه بعادة ولا بتقليد، ولا بما هو أشد من العادة والتقليد. وهو إذ نضا عنه الطربوش واتخذ القبعة، لم يكن مُفتاتًا على عيشه الذي يكاد يكون أوروبيًّا خالصًا، ومن العجب أيضًا أنك تراه مع ذلك يستريح إلى الحياة «البلدية» كلما تهيأت له، فيأكل بكل كفه، ويعلق أسنانه فلا يتعبها بمضغ ولا قضم. فإذا اتصل الحديث في المجلس بألوان المنادرات والمفاكهات، سمعت من مختار المطرب والمعجب من كل نادرة طريفة، «ونكتة» رائعة، حتى ليخيل لك أن سنه تكنز ستين سنة، قضى نهارها في «التربيعة»، وليلها في غشيان الأعراس «الوطنية»، وحضور مجالس «الشعراء» على حواشي القهوات «البلدية» واستماع ما يتطارح به جماعات المتظرفين من فنون النكات!

وهو صافي النفس، عظيم الشجاعة، وافر الذكاء، لا يعنيه شيء في الدنيا قدر عنايته بفنه الجليل.

figure
خلدت «نهضة مصر» فخلدني تمثالها.
وفي الحق، إن مختارًا مجموعة Assortimant تضم ألوانًا من الغرائب والمتناقضات. ولعل ذلك هو الذي هيأ له كل هذا النبوغ العظيم. وإن مثالًا — يتروى فنه في بلاد الغرب عن أكبر رجاله، ويظل السنين الطوال في ملابستهم ومحاكاتهم والتفطن إلى مداخل صنعتهم حتى يحذقه ويبرع فيه، ثم ينقلب إلى بلاده فإذا هو بصير بكل عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم ومحاضراتهم، وما جل ودق من شئونهم على تفرق طوائفهم واختلاف بيئاتهم — لهو جدير بأن يكون في فنه الحسان كل الحسان.

•••

وقد نجم مختار من أسرة كريمة، فلما يفع أخرجته على العادة، للتعليم في المدارس الابتدائية، فمضى في درسه غير وانٍ ولا متخلف، على أنه لم يكد يطوي في الطلب بضع سنين، حتى بدا ميله واضحًا للرسم والتصوير، فلا يرى مكبًّا على درس إكبابه عليه في «حصة» الرسم، ولا يكاد يرى هو نقشًا باديًا أو صورة معلقة إلا وقف يتصفح ويتأمل ويشيع كل حسه في تقاسيمها ومتخالف خطوطها وتعاريجها، ثم استل ريشته وأدوات رسمه الصغيرة وراح يحكيها بكل ما تهيأ للموهبة الناشئة في ذلك الجرم الصغير، وظل كذلك عدة سنين لا يعدو منه الاجتهاد في طلب العلم على الاجتهاد في تربية تلك الملكة ما استطاع إليها السبيل.

وكانت مدرسة الفنون الجميلة التي أنشأها سمو الأمير البار يوسف كمال، فنزعت إليها نفس مختار، ولعله لقي من أهله في دخولها عنتًا، وكيف لا تعنت إليها الأسر الطيبة، في مثل تلك الأيام، إذا رأت ولدها يميل عن طريق الحقوق أو الطب أو الهندسة، إلى طريق لا تنتهي بسالكها إلا أن يكون «مصوراتي» أو حفارًا أو نقاشًا؟! …

وعلى كل حال فقد تم لمحمود مختار ما أراد من دخول مدرسة الفنون الجميلة، أو بعبارة أحكم: لقد تم ما أراد الله لمصر من أن ترى نابغة من أبنائها يخلد نهضتها على تطاول الأعصار!

وفي هذه المدرسة جعلت موهبة مختار تتجلى، وجعل أساتيذه يخصونه بعنايتهم لما أنسوا فيه من مخايل تدل على مستقبل عظيم، وبقي هو، طول مدة الطلب، مجليًا لا يلحق: إكبابًا على الدرس، واجتهادًا في التمرين، وتوافيًا لكل دقيق من ملاحظات الأساتيذ، حتى إذا برع بقدر ما يمكن أن يبرع طالب في مدرسة الفنون الجميلة في مصر، رأى أن ظمأه للفن لا ينقعه إلا أن يغترفه من أصفى ينابيعه، فشخص من فوره إلى باريس وانتظم في أعظم معاهدها، أشخصه إليها كذلك سمو الأمير يوسف كمال، وظل يتعلم على أكبر أساتيذها عشر سنين متواليات ما أحسبه انحدر في خلالها إلى مصر مرة واحدة، واجتمعت شهادة أقطاب الفن هناك على أن هذا الفتى «المصري» ولا فخر ينبغي أن يكتب في جريدة كبار المثالين. ويعهد إليه في «معهد جريفان» بمنصب كبير، وما كان هذا ليسوغ لأجنبي قط لولا نبوغ مختار الذي أوفى على كل تقدير.

ويشاء الله لمصر أن تنبعث، ويشاء لها نهضة قوية يلتفت لها العالم كله، فتثور موهبة مختار هناك وتأبى ثورتها أن تهدأ إلا إذا كشف سر أبي الهول الذي ظل محقونًا في أطواء صدره المقبوض آلاف السنين، وإذا أبو الهول ناكس الرأس من وجد وأسى على مصر الأسيرة العالية، وإذا أبو الهول يرفع رأسه وينبعث؛ لأن مصر نهضت تفك أغلالها لتسعى في أرض الله سعي الأحرار.

وكذلك خرج تمثال «نهضة مصر» فتاة فلاحة تبعث أبا الهول فيتحفز للوثاب، ويتهيأ للغلاب.

وما كاد مختار يعرض تمثاله في «صالون باريس» حتى هرع إليه كبار رجال الفن، وأقبلوا على «المثال» المصري بأتم الهناء والإعجاب، وتطايرت الأخبار إلى مصر، فسرعان ما اجتمع من شبابها كل ندب وطني نجيد، وسرعان ما ندوا بالأموال واستندوا أبناء الوطن ليسجلوا «نهضة مصر» ويرفعوا تمثال مختار، ويرفعوا معه اسم مواطنهم النابغة مختار، فجمعوا آلافًا من الدنانير إذا لم تغن في العمل الجسيم، فقد مهدت السبيل لأن تتولاه حكومة الشعب، ومن حق حكومة الشعب أن تتولاه.

وقد مضى العمل في تمثال «نهضة مصر» جدًّا بمعونة الحكومة وعطف الأمة، وهو الآن يستشرف بفضل الله للتمام.

وإذا كان مختار قد لقي بادئ الرأي تجنيًا وعنتًا من الدهماء وأشباه الدهماء، فتلكم سنة الكون في هؤلاء، وهل قام في الدنيا مصلح إلا قاوموه واعترضوا سبيله؟ وهل نبغ فيهم نابغ إلا مَلَكهم الحسد من كل جانب فمضوا يتنقصونه بكل ما أحرزوا من جهل وتضليل؟

ولقد تظاهر الجهل والحسد جميعًا على تمثال مختار. أما الجهل فمن أولئك «العلماء الأقطاب» الذين تراهم يقضون بياض نهارهم وسواد ليلهم على متون القهوات العامة، أكفاء لأن يفهموا كل نظرية، ويبتوا في كل قضية، بحيث لا تخفى عليهم خافية من دقائق الفلك والطب والهندسة والسياسة وعلوم القانون وفن تعبئة الجيوش — التكتيك، وكل ما تنقطع دونه جهود فحول العلماء في جميع العالم! وأما الحسد فمن أولئك الذين يصابون بضعف الهمة وقوة الشهوة، وهم يأبون إلا أن يكونوا عظامًا، إذ لم تُعِدهم مداركُهم ولا مساعيهم في الحياة لعظيم.

تظاهر هؤلاء وأولئك على مختار وعلى تمثال مختار، فانطلقوا بكل ما فيهم من «ذكاء» و«إخلاص» ينتقصونه ويتحيفون من قدره، ومن الجهة «الفنية» ما شاء الله أيها «الجدعان»!

وسار هذا الروح الخبيث في البلد تعضده دسائسُ ممن أدلى إليهم الزمن «الخائر» بمناصب لها شأن في بعض الحكم، ولها جميع الشأن في أمر التمثال. فما زالوا يدافعونه ويعترضونه بألوان العواثير، ومختار ساكن سكون الواثق بأن عبقريته وحدها كُفْءٌ لما أعد الحسدة وتَفَيْهَقَ الجهال!

وشاء الله أن تقدر هذه العبقرية قدرها، وأن يقرر مجلس النواب، بين التهليل والتصفيق، فرض المال الضخم لإتمام تمثال «نهضة مصر»، وكذلك تم الانتصار لمختار، وإن شئت قلت تم الانتصار للعبقرية الفخمة على حسد الحسدة وعلى جهل الجهال.

وتظفر مصر أخيرًا بمثال نابغة من بَنيها، وأولئك الذين لا يطيقون أن يسمعوا مقالة الخير في أحد من مواطنيهم، قد أمست أنوفهم في الرغام.

وفي الوقت الذي كان ينكر فيه عبقريُّو «القهوات» على مختار خطر فنه وخطر أثره، كانت تترادف عليه الدعوات من أكبر معاهد الفن في أوروبا لتستثمر موهبته في عملها الجليل، إذ يأبى مختار أن ينصرف عن تمثال «نهضة مصر» في سبيل المال، وما هو أعز من المال.

وحسبُه من الجزاء على هذا التمثال، أنه مخلد نهضة مصر على تطاول الأعصار والأجيال. فهناء ثم هناء «يا سي مخطار»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤