سعد زغلول باشا

رزقه الله بسطة في الرزق والجاه، فهو ملء العيون، ملء الصدور. بلغ في دنياه ما دون التحية،١ وأدرك ما وراء الأمنية. إذا غشي مجلسًا وفيه قوم جلوس، رأى القوم أنفسهم وقوفًا ولم يريدوا، وتنحوا عن الصدر ولم يقصدوا، وخاطبوه بالرياسة ولم يتعمدوا، ورأى سعد نفسه رئيسًا ولم يتطلع. فما جلس سعد مجلسًا فأقيم عنه لغيره. وكذلك كان يقول الأحنف عن نفسه. فسعد طالب العلم الخامل الذي لا يعرفه غير شُجَرائه، وسعد الزعيم النابه الذي تعرفه الأعاظم والعظائم سواء.

إذا وقف سعد يخطب الناس، وثبت الألفاظ من مكامنها، وأسفرت المعاني عن وجوهها، وتغايرت في السبق إلى ذهنه ولسانه، فلو أن كاتبًا كتب ما يرتجله ذلك الخطيب؛ لوقعت منه على أسلوب سري رائع ينقطع دونه تنميق الأقلام. فإذا جلس سعد إلى الإنشاء، وقعت منه على أسلوب لا يغبط عليه كاتبه، فلو أن حالفًا حلف أن سعدًا الخطيب هو غير سعد الكاتب لبرت يمينه.

يطلع سعد على الناس وهم يرتقبون طلعته ارتقاب المُدْلج٢ الحائر طلوع القمر، فيدانيهم وهو يكاد يتهدم ضعفًا، على وجهه تجاعيد من أثر السنين، فلا يكادون يتلقونه بالتهليل والتصفيق حتى ترى ذلك الشيخ وقد طوى ماضيه القهقرى فالتقى بشبابه وكأنما وثب من الشيخوخة إلى الصبا، وإذا بتلك التجاعيد وقدِ امَّحَتْ، وتلك الأسارير وقد أشرقت، فيخطبهم ما يشاء، حتى إذا أفاق من سكرة ضعفه وأسكر سامعيه بخمر فصاحته، انكفأ بين التصفيق والهتاف إلى داره، فقضى فيها ساعة أو ساعتين من ساع الشباب، ثم عاوده الضعف شيئًا فشيئًا حتى يدخل في شيخوخته كما كان. ومن لم يعرف ذلك الرجل العظيم الذي علت سنه وتكامل تمييزه ولم يلابسه في أطوار حياته، لا يشك في أنه إنما كان يتمارض «أو يتصنع المرض كما يقولون.»

ارتاح سعد لمهنة المحاماة لأجل الخطابة، وارتاح للزعامة لأجل الخطابة، وهو يرتاح لكل ما فيه منفذ للخطابة. ولا غرو، فقد مَنَّ الله عليه بموهبة عظيمة لا يمن بها على كثير من عباده، فهي لا تفتأ تتطلع للظهور فأنى أصابت منفذًا أطلت منه، فلو أنك عرضت على سعد ملك الرشيد على أن يهجر الخطابة لنأى عنه بجانبه، ولرجع مهرولًا إلى الزعامة، فإن أفلتته فإلى المحاماة.

نقل إلي بعض خاصته الذين يحجبون بابه أنه استأذن يومًا لوفد من الوفود، وكان سعد في ذلك اليوم لَقِسَ٣ النفس، متبرمًا بالناس لكثرة ما لاقى منهم، فقال له: اعتذر، فقال إنهم يلحون، قال: فَأْذَنْ لهم على أن يسلموا وقوفًا وينصرفوا، فأدى إليهم الرسالة ودخلوا، وأقسم لي الحاجب أنهم لبثوا في حضرته ساعة وبعض ساعة وهو لا ينقطع عن الخطابة.

كنت بحضرته يومًا، وقد مثل أمامه وفد من الوفود فمد بصره إليهم، وقال: من خطيبكم؟ فلما لم يصب فيهم خطيبًا كاد يعرض عنهم لولا حاجته إلى مناصرتهم.

لذلك تقربت إليه الوفود بالخطباء، وشاع في نفوس النشء حب الخطابة تشبهًا بسعد، فكثرت الخطباء، وفي كثرتهم مظهر من مظاهر النهضة الوطنية المباركة، فسعد مدرسة لا تقفل أبوابها، يؤمها الطلاب من أنحاء القطر.

إنه يتشدد في الحق ولا يترخص فيما يعتقد أنه حق، ذلك كان شأنه قبل الزعامة، فلما ملك يومه وأصبح الزعيم الأكبر، أبت عليه طبيعة السياسة أن يأخذ دائمًا بذلك التشدد، فهو إذا وقفت به الحربية بين الصواب وبين هوى العامة، لا يلبث أن يعدل إلى الثانية تمكينًا لسلطانه عليهم. يفعل ذلك، وهو يعدها في نفسه على نفسه قبل أن يعدها خصومه عليه.

ودعاك حسدك الرئيس وأمسكوا
ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه
كالخط يملأ مسمعي من أبصرا

نزل سعد إلى ميدان السياسة وهو يظن أنها كالقضاء سبيلها الحق والعدل، فلما خاض غمارها ورأى ما راعه فيها من أساليب المداجاة وأفانين الخداع هم بالنكوص. لولا أن إيمانًا رسخ في قلبه ويقينًا ملأ أنحاء نفسه، أن صاحب الحق هو صاحب الغلب، حملاه على الثبات فتدرع بهما، ووطن نفسه على الكفاح، وقصاراه أن يشهد بعينه دستور مصر وقد سلم لمصر، وأن يرى وطنه مستقلًّا تحت ظل الله، فهو يعمل لهذا المقصد الأسمى. ولشد ما يتكئ في هذا العمل على نفسه، وما كان ذلك لضعف في ثقته بمن حوله، ولكنه رجل قد بني على الجد والعمل.

أبت الناس إلا أن سعدًا ضيق الصدر. وكيف لا يضيق صدره وإن كان رحيبًا وهو مدفوع بحكم الزعامة أن يقابل كل من يصبه عليه أفق السياسة من الزائرين والقاصدين. وفيهم ثقيل الظل جامد النسيم، والملح الذي يكاد يستل بإلحاحه خيط النخاع، والمتربح بزيارته، وذلك الذي تخرج من حديثه ركضًا إلى طبيب الآذان، وذلك الذي يقتلع الكلام من فمه اقتلاعًا حتى لكأن نفسك تطلع منه على حشرجة، لا على استماع حديث. دع الجاهل المتصدر، والأمي الذي يدعي فهم ما غاب عن بسمرك من السياسة، وما خفي على نابليون في تعبئة الجيوش من الكياسة. وإن جلسة واحدة إلى الشيخ «فا …» لتبغض الحلم إلى الأحنف، ولتزهد الزعيم في كرسي الزعامة. ولو أن أعداءنا فطنوا لذلك، لرموا سعدًا في كل يوم بمثل هذا البغيض حتى يفر من الميدان، ونخسر بفراره قضية الأوطان.

دخل عليه ذات يوم في داره بمسجد وصيف شاب من المفتونين، فسلم عليه سلام الأكفاء، وجلس معه على بساط المساواة، ولم يحتشم ذلك المفتون في جلسته، فقد جعل يصفر بفمه ويلاعب الجو بسلسلة ذهبية كانت في يده، ولما قضى شهوته من العبث بحضرة ذلك الشيخ الجليل، التفت إليه وقال: يقولون إنك خشن الملمس، قريب الغضب، ولا أرى فيك إلا حليمًا. فأجابه سعد وعلى فمه ابتسامة الكاظم لغيظه: وكأنك ما جشمت نفسك السفر وجئت لي إلا لتستثير غضبي! قم فلست هناك.

وزاره في بدء الحركة الوطنية أحد المتطرفين، فتجادل في أمر من الأمور وحمي الجدال، فأغلظ المتطرف القول، فقال له سعد: أتَجْبَهني بمثل هذا وأنت في بيتي! قال: لم أكن في بيتك! قال: ففي بيت مَن إذن؟ قال: في بيت الأمة. فسري عن سعد وقال له: صدقت إنه بيت الأمة! ومن ذلك الحين أصبح بيت سعد بيت الأمة.

وإن صدرًا يتسع لما يضيق عن بعضه صدر الدهر لخليق أن يسمى حامله حليمًا.

وهو كثير الذهاب بنفسه، ولم يجئه ذلك من ناحية الزهو كما يزعمون، ولكن جاءه من ناحية التمكن من النفس.

جلس إليه أحد أقرانه، وكانت بينهما وحشة لشيء قد بلغه عنه، فقال له سعد وهو يحاوره: اعلم يا هذا أنني معجب بنفسي، وكيف لا أعجب بنفسي وأنا لا أرى من يعمل غيري.

يسره أن يؤكل طعامه، وأن تغشى داره، ولكن قلما يسره أن يخالف رأيه، اللهم إلا إذا لمح بعين بصيرته أن من وراء تلك المخالفة إجماعًا.

يجلس سعد إلى مناظره وفي يد مناظره الحجة قائمة، فلا يزال به يستلها من يده شعرة شعرة، حتى تصير الحجة في يد سعد فيقيمها على مناظره.

يسوءه النقد إلا إذا كان نزيهًا، وأنى لهذا البلد بالنقد النزيه! إن سعدًا يكلف الناقدين شططًا، أنسي أن نصيبه من ذلك نصيب كل نابغة مشهور، وكل عظيم مذكور. وقد جاء في الأمثال: إذا قيل عنك إنك نابغة، فودع الراحة.

نشأ سعد وفي ثوبه عظيم، كان في المحاماة رأس المحامين، وكان في القضاء رأس القضاة، وكان في الوزارة رأس الوزراء، ولم يكن في كل أولئك بالرئيس الرسمي، اللهم إلا في وزارته الأخيرة.

فسعد عظيم وهو ابن عشرين، وفوق العظيم وهو ابن سبعين. وقد قال أديب من صفوة أدباء مصر:

عظماء الرجال أمثال الجبال، لا تنتقص الكهوف ما لها من العظمة والجلال.

حافظ إبراهيم
١  الخلود.
٢  السائر بالليل.
٣  لقست نفسه من الشيء: غثت وتضايقت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤