إبراهيم الهلباوي بك

ما صدق أولئك النفر من العلماء حين زعموا أن هناك تشابهًا بين النفس والجسم، وتشاكلًا بين الروح والهيكل الذي يحتويه، وإلا كان الهلباوي هذا من أحلى الناس وجهًا وأبهاهم طلعة؛ فإنه ولا مرية من ألطف خلق الله نفسًا وأخفهم روحًا.

شيخ يتزاحف على السبعين إن لم يكن قد اقتحمها فعلًا. لم توجه الطبيعة أية عناية في تكوينه إلى شكله ودله، فإذا أنت جلست إليه مع هذا خلبك بلطفه، وشعرت بأنه تسرب في كل نواحي قلبك حتى أصبح قطعة من نفسك. وإنه ليذكرك بخفة روحه التي تكاد تطير، أثناء حديثه، بأطراف جسمه — قول أبي تمام:

ماذا تقولينَ في شيخ فتًى أبدا
وقد يكون شبابٌ غيرُ فِتْيان

وأنا إذا تحدثت عن الهلباوي أشعر ويشعر الناس معي، برغم أنفي وأنف غيري، أننا في رجل غير عادي، أو بعبارة أخرى: في رجل عبقري.

ولعله لم يفترق الناس في هوى امرئ — إذا استثنينا إسماعيل باشا صدقي — افتراقهم في الهلباوي، فقد عاش مدى عمره يحبه الناس أشد الحب، ويبغضه ناس أشد البغض، إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعًا إلا التسليم بأنه رجل عبقري، بل لعله لم يجتمع له في القلوب كل هذا الحب وكل هذا البغض، إلا لأنه رجل عبقري!

figure
ثورة في هيكل رجل!
طويل القامة، عظيم الهامة، بائن الطول، مفتول العضل، شديد المُنَّة،١ قوي البنية. رأيته يخطب الناس عصر يوم قدم في صباحه من أعلى الصعيد. والهلباوي إذا خطب خطب بكله: بلسانه، وبعقله، وبنخاعه، وبعصبه، وبرأسه، وبيديه، وبرجليه أيضًا! وله صياح يَقُدُّ أصفَقَ الحناجر. ثم تدلَّى عن المنبر بعد أربع ساعات كاملات في كل هذا البلاء وهو أشد وأفتى من أكثر من سمعوه إن لم يكن أفتى ممن سمعوه جميعًا. وما شاء الله كان! …

شديد العقل، حاضر البديهة، قوي الذاكرة، ملتهب الذكاء، على أنني لا أدري أتفي كل هذه بحاجات لسانه أم لا؟! …

محام أي محام، وخطيب أي خطيب! لقد يقف في الجمهرة والناس أكثرهم على غير رأيه فيما يجول فيه، فما يزال يدور على مواطن إحساسهم يجسها من ههنا ومن ههنا في رشاقة وخفة قول، ولطف شاهد، وبراعة نكتة، حتى إذا آنس من الآذان تطامنًا من جماح، واسترخاء بعد عصيان، هجم منها بكله على النفوس، فظل يهزها هزًّا، ويرجها رجًّا. فما الفحل إذا هدر، ولا الليث إذا زأر، ولا البحر إذا زخر، بأشد صولة على الأسماع من الهلباوي يتدفق في الكلام، فما يروعك من هذه الجماهير الواجمة إلا أن تراها، برغمها، قد أرسلت حناجرها بالهتاف، وبعثت أكفها بالتصفيق!

والهلباوي خطيبًا يشتري هوى سامعيه بأي ثمن: فهو يجد ويهزل، ويثب ويحجل، ويضحك ويبكي، ويعلو ويسف، ويثقل ويخف، ويكثف ويشف، وينظم الدرر، ثم يرمي بالشرر. وبينا تراه في وداعة العصفور، إذا به في شراسة النمور. كذلك يتشكل هذا الشيخ في خطبه ويتلون لكل مواقع الكلام!

وإذا كان الهلباوي خطيبًا عظيمًا فهو ممثل أعظم!

•••

نجم الهلباوي من أسرة في الغربية كريمة العرق، إلا أنها رقيقة الحال، فلما يفع قذفت به إلى الأزهر، فعكف على مدارسة علومه، وقد عرف بين لداته، من صدر أيام الطلب، بالفطنة وحدة الذهن والإكباب على تحصيل الدرس. وعلوم الأزهر، كما تعرف، تقوم على الجدل والمكاثرة بألوان التدليل، وكان الهلباوي فوق «أزهريته» تيك، عنيدًا في رأيه، ملحًّا حتى على أشياخه في حواره، جريئًا على مخاصمتهم في كثير مما تسقط عليه أفهامهم في مذاهب الكلام.

وهبط المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني مصر، فاتصل به الهلباوي كما اتصل به كثير من أهل المواهب والذكاء، وكان يعلمهم مسائل من الحكمة، ويلقنهم فصولًا من فلسفة اليونان كما نقلها العرب عنهم. وقد مد السيد الأفغاني أذهان طلبته إلى كثير مما يحيط بهم، ففجر عقولهم، وجرأ قلوبهم، ودرب ألسنتهم على المنطق والمغالبة بفنون الجدل، وعودهم الجهر بالرأي دون الخوف من أحد. وفي ثنايا هذا كله كان يبعث في نفوسهم دعوة سياسية جريئة.

وخرج الهلباوي بعد هذا إلى ميدان العمل، فاتصل اتصالًا أوفى بالبيئات التي تفهمت حياة الغرب، وتروت علومه الحديثة، وأخذت أحلامها بمنطقه الطريف. وهكذا أصبح الهلباوي خليطًا من كل ما تقلب فيه من أطوار الحياة!

وما اجتمعت هذه الأسباب كلها في نفس إلا اضطرمت وثارت، فلا تعود تستريح إلى قرار. فلا عجب إذا كان الهلباوي ثورة دائمة في هيكل رجل، والبركان دائم الفوران، فهو ينفجر من حين إلى حين وإن احتقن إلى حين.

ولقد يكون ما يظنه كثير من الناس ترددًا في الهلباوي أثرًا من آثار هذه الثورة النفسية، فإن الثورة لا تعرف نظامًا ولا تستوي في شبوبها لطريق.

ولعل موقفه يوم دنشواي كان مظهرًا من مظاهر هذه الثورة، على أنها هذه المرة كانت أدنى إلى تحدي الجمهور منها إلى ما اعتاد من تحدي السلطاء من أهل الحكم، وفي كل حال فقد كانت منه كبيرة، ولعلها كانت سقطة الرجل العظيم.

على أن أحدًا لم يجرؤ على أن يحيل تردد الهلباوي، الذي قالوا، على طلب منفعة شخصية من منصب أو جاه أو مال.

•••

وقد صحب القضاء المصري الحديث، ودارجه من أول نشأته إلى اليوم، فلم تكد تقع قضية ذات شأن في البلاد إلا دعي لها الهلباوي، فافْتَن وأبدع، وله في هذا الباب جولات معدودة له على وجه الزمان. فلا عجب إذا عد صحيفة من أحفل صحف القضاء المصري وأظهرها حواشي ومتونًا.

وقضى هذا الزمن الطويل محاميًا واضحًا أمينًا مجدًا في عمله، حريصًا على أداء واجبه، لم تحص عليه كرة واحدة مما يخمش وجه المحاماة.

ثم هو في علاقاته الشخصية شديد التوافي لأصدقائه، حريص على مودتهم، لا يقصر في أداء أي واجب لأي كان منهم. ولا أحسب الهلباوي قد عادى أحدًا أو عاداه من الناس أحد إلا في شأن عام.

وإني كلما جاش في نفسي الحقد على الهلباوي بك، هرولت إلى مجلس النواب فشفيت صدري برؤيته، بعد كل ذلك! وقد امتثل حقًّا لحكم النظام، فهو يرفع إصبعه بطلب الإذن كلما أراد القعود أو القيام، وكلما أراد السكوت أو الكلام، وكلما طلع أو نزل، وكلما عطس أو سعل، وكلما تحرف أو تخطى، وكلما تثاءب أو تمطى، وكلما دلك أكارعه، أو فتل أصابعه. ولا بد من الخضوع والطاعة لكل من ينتظم في سلك الجماعة، وإلا ساء النظام، واضطرب حبل الأحكام!

وكذلك أخمدت الحياة النيابية هذه الثورة الشيخة الفتية.

وإني إذا لم أصفه في موقفه الجديد بأنه أصبح «كالوحش يستدنيه للقنص المحل»، فإني أقول له: «ولا بد دون الشهد من إبر النحل!»

١  المنة: القوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤