الدكتور علي بك إبراهيم

رقيق الجسم، أدنى إلى أن يكون هزيله، أسمر اللون، مستطيل الوجه، غليظ الشفتين في غير قبح، واضح الثنايا، لعينيه بريق وفيهما جمال. متفخم اللفظ، تاؤه بين التاء والطاء، وزايه بين الزاي والظاء، وادع النفس، هادئ السعي، خفيف الروح، ظريف المجلس، لا يجد العنف إلى عواطفه سبيلًا، يقصد في طربه، كما يقصد في غضبه.

فيه حَدُّ الفتى وحِلم المزكَّى
وحِجَى الكهل وارتياح الغلام

ولعل هذا الهدوء العجيب من أبلغ العناصر في نجاحه في عمله المرعب الدقيق، وشأنه كشأن جميع النوابغ في الدنيا: ليس لهم من مظاهرهم ما يدل على أخطارهم، إلا أنك لا تستطيع ألا تلحظ أن لهذا الرجل أصابع ليست من جنس أصابع سائر الناس، فإنها تسترعيك بطولها وسراحتها وانسجام خلقها، على أنه إذا تحدث رأيته يستعين دائمًا بسبابته ووسطاه، فما تزالان كالمقص في انفراج والتئام إلى أن يفرغ من حديثه، حتى إنك لتعرفه من أصابعه كما تعرفه من وجهه، ولو قدر لمصور أن يرسم أصابعه وحدها لدلت عليه إلى غاية الزمان.

لقد تسنم غارب المجد، وبلغ من الشهرة ما تتقطع دونه علائق الآمال، وهو مع هذا لا يحفل قط بما كان ولا بما سيكون ولا بما سوف يكون، ولا تحسبه يطمع في أكثر من أن يعيش في غمر الناس كسائر الناس.

figure
فيه شفاء للناس.

يا له من رجل! لقد تكون في مجلسه معه غيرك، ولقد تكون معه وحدك وأنت مفيض أسبابه ومطلع سره، فتعرض ذكرى فلان الجراح فيقول لك: «بالك فلان ده، ويومئ لك بأصبعيه سالفتي الذكر، ده والله جراح ما له مثيل! ده شيء من فوق التصور! لو كان للجدع ده بخت ماكانش حد زيه في الدنيا!» يقول هذا في رضا وصدق نفس وراحة أعصاب! … والواقع أنني لا أدري أكان هذا كله قد جاءه من طبيعة صفَّاها الله من كل ما يتداخل أرباب الفنون، أم أنه تمكن من نفسه واستوثق من أنه لن يتعلق أحد بغباره مهما افتنَّ لإخوانه الجراحين في ألوان الشهادات!

ثم هو شديد العطف على إخوانه الأطباء عامة، عظيم العون لجماعتهم، رطب اللسان فيهم.

ومن أظرف نوادره، أن رجلًا من كبار الأغنياء قدم إليه يشكو علة لا تتصل بالجراحة، فقال له: يا عم لا شأن لي بمرضك، فاذهب إلى الدكتور فلان أو الدكتور فلان أو الدكتور فلان، فهم الذين يحسنون «تشخيص» علتك، ويقدرون على علاجك. فقال الرجل: بل إنما قصدت إليك أنت ولست أرضى أحدًا يداويني غيرك، وجئت معي بكذا وكذا من الأموال فخذ مني، على أن تعالجني، ما تشاء! فقال له الدكتور: وأنت إذا أعطيتني ما تشاء فلن أداوي علتك؛ لأنها ليست من عملي ولا تتصل بفني، إنما أنا رجل جراح. فألح الرجل وتضرع، فلما أعياه أمره قال له: اسمع يا عم، لو تلف «كالون» بيتك، هل تجيء له بنجار أم بكواليني؟ فقال: بل بالكواليني. فقال له: مرضك هذا أنا لا أعرف فيه. قال الرجل: فماذا تصنع إذن؟ قال له: أنا أفتح لك كرشك، أكسر رجلك، أقطع رقبتك! وهذا الذي أعرفه. فانصرف الرجل مقتنعًا راضيًا!

ولست أحاول أن أصف لك قدر الدكتور علي إبراهيم ولا نبوغ مبضعه، فحسبه أن سلم الناس إجماعهم له بأنه مفخرة من مفاخر هذه البلاد. ولقد قلت لأحد الأطباء يومًا: صف لي براعة الدكتور علي إبراهيم، فقال لي: أعرف أنك تحب الغناء وتهوى الموسيقى، ولو كان لك عرق في فن الجراحة وقدر لك أن تشهد «عملياته»، لوجدت لأنامله من الطرب ما لا تجده لأنامل «العقاد» وهي منطلقة في أوتار قانونه الحنان الطروب.

على أن نبوغه لم ينته إلى حذق الطب، والمهارة البارعة في فن الجراحة، بل إن له في كثير من «العمليات» ابتكارات من ذلك النوع الذي يؤثر ويدرس ويحدث في نظريات الفن أحداثًا.

وإنهم ليروون عنه جهدًا عظيمًا في متابعة الحركة الطبية في العالم، فهو كثير القراءة والنظر فيما يخرج في هذا الباب من المجلات والكتب والرسائل، حتى إذا وقعت له نظرية حديثة فاستوت لذهنه، أقدم على تطبيقها بنفسه، فكان نجاحه دائمًا كعزمه قويًّا جليلًا.

•••

وبعد، فإن جهلًا أن يظن امرؤ أن للعبقريات في العالم أسبابًا معينة معروفة، فما كان هؤلاء العبقريون أصح من غيرهم أبدانًا، ولا أكثر قراءة، ولا أعكف من سواهم على الدرس والتجريب وتقليب النظر، ولا أطلب ممن عداهم لتلك الأسباب المفروضة للبراعة والتبريز، فلقد كان البحتري شاعرًا في سن العشرين كما كان شاعرًا في سن السبعين، وكان ابن المقفع كاتبًا وهو ابن الثماني عشرة كما كان كاتبًا حين قبض وهو في الثامنة والعشرين، وكان رفاييل مصورًا رائعًا يوم جالت يده بالنقش كما كان مصورًا في غاية عمره. وكذلك كان علي إبراهيم جراحًا أول منجمه كما هو جراح اليوم، إنما هي مواهب من الله تعالى يتخير لها من يشاء من عباده، لم يتكشف العلم عن كنهها ولا سببها إلى اليوم.

وإنك لتجد الطبيب يصيب دائمًا في تشخيص العلة إلا قليلًا، وإنك لتجد الآخر يخطئ دائمًا في تشخيصها إلا قليلًا، ووسائلهما في الفن واحدة، وحظهما من العقل والعلم وسائر الأسباب متكافئة!

ذلك أن هنالك حسًّا دقيقًا غير تلك الأحساس المعروفة يكاد يتفطن به من آثره الله به إلى مطاوي الغيب، فيقع الشيء في نفسه يحسبه إلهامًا؛ لأنه لا يعرف له علة ولا يحيط منه بسبب، ومن هؤلاء الذين اصطنعهم الله لهذه الموهبة الدكتور علي بك إبراهيم.

ومما يذكر له أنه في سنة ١٩٠٢ لوحظت كثرة الوفيات في قرية موشة، من أعمال مديرية أسيوط، فندبه مدير الصحة، وكانت له به ثقة عظيمة، ليحقق الأمر، وكان بعد فتى ناشئًا، فأدرك أنها الكوليرا، فكتب إلى الصحة بهذا، وأرسل رجيع بعض المصابين لتحلله، فلم يره «التحليل» أثرًا للكوليرا، فراجعها وأرسل غيره، فكان الأمر كذلك. فصمم الفتى واستبد من ناحية، وصمم أطباء مصلحة الصحة وكيماويوها من ناحية أخرى، ثم أبى العلم وأبى «التحليل» الصحيح إلا أن يظهر رأي علي إبراهيم على تلك الآراء جميعًا، وكانت الكوليرا التي عصفت سنة ١٩٠٢ بالبلاد عصفًا شنيعًا، والتي أبلى هو فيها، حتى تقلص ظلها، بلاءً عظيمًا.

•••

وسبحان من يقرن قضاءه باللطف، فإنه في الوقت الذي بث فيه هذا الترام في شوارع البلد وأزقته يدك الرءوس، ويحصد النفوس. وأطلقت آلاف الأوتومبيلات، واللوريات، والموتوسيكلات، تقد المتون، وتبعج البطون، وتأبى «الشفقة» على سائقها أن يرسلوها على خلق الله قبل أن يحشوا معاطسهم بالكوكايين، والهارويين، وغيرهما من البلاء المبين، حتى «يغيبوا» عن مشاهدة ما تنسف سياراتهم من الهام، وما تفري من الأجسام، وما ترسل على الناس من الموت الزؤام! ولا تنس، جعل الله لك في كل خطوة ألف سلامة، تلك السيارات العاصفة، ما لها من دون الله كاشفة. وتيك التي يتخذها أبناء الذوات ومن انحدرت إليهم النعمة، وهي تنطلق انطلاق السهام، في أجساد الأنام، كان مهمتها في هذا البلد صنع أرامل وتخريج أيتام — سبحان الذي حين يبتلي البلد بكل هذا، يرسل فيه الدكتور علي إبراهيم، يجمع من أعضاء الناس ما تفرق، ويرم من أحشائهم ما تخرق، ويضم من أشلائهم ما تمزق، حتى أوشك أن يقطع على عزريل، رزقه من فنه الوبيل!

ولقد رأيت صديقًا لي من أهل الأخطار، لا يرى الدكتور علي إبراهيم يجوز في طريق أو يغشى ناديًا إلا صف قدميه، ووقف «زنهار»، ورفع يده بالسلام العسكري، فقلت له في هذا، فقال: «علشان ياخد باله مني يوم أحمل إليه»، فقلت له: يا لك من رجل مبالغ، فكان جوابه: على كيفك، لك ترمواي يترد عليه!

•••

وجل من تعالى على النقص وتنزه عن العيب، فإن جراح الشرق كله لا يملك مستشفى يليق بجلالة محله، ولا بآلاف «المجاريح» الذين يطلبون مستشفاه من كل مكان، فقد سلطت عليه شهوة اقتناء «السجاجيد»، وألوان الطرف، وإحراز ما أبدعت يد كل فنان، وما افتن فيه كل صنع حسان، ومن كل ما رثت فيه العصور ونصل عليه لون الزمان، من دمى وتماثيل، وتصاوير وتهاويل، ونمارق ووسائد، ومعاضد وقلائد، وخشب منجورة، وأحجار محفورة، ومزاليج أبواب، وسروج دواب، وشرفات دور، و«شواهد» قبور، وضباب مصبرة، وجرار مكسرة … إلخ، ولو نفض عنه بعض ما يحرزه من ذاك؛ لابتنى مستشفى يليق حقًّا بشيخ الجراحين! على أننا نترك الكلمة في هذا للمجلس الحسبي!

وبعد، فإن حقًّا على أهل مصر جميعًا، ومياسيرهم بنوع خاص، أن يسجدوا لله تعالى سجدة الشكر كلما أطلت شمس الصباح عليهم؛ اغتباطًا بأن علي إبراهيم غير ولوع بجمع المال، فلو كانت لغيره تلك الأصابع التي «تسرق الكحل من العين»، لآثر أن يكون «نشالًا»، إذن والله لسلَّ الآلاف، ولأحرز أكثر مما تجدي «الجراحة» أضعاف الأضعاف، ولما أبقى في جيب على كيس، ولا هنئ الناس بكريم ولا نفيس، ولكن قدر فكان، وسبحان من «يعطي الحلقة للي بلا ودان!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤