الفصل الحادي عشر

من عادات أكابر الفرنسيس وخاصةً منهم أكابر الطبقة الوسطى طبقة اﻟ «بورجوازي» أنهم يستخدمون في بيوتهم لتربية أولادهم المربيات الأجنبيات، وقد أمست العادة هذه زيًّا تجري عليه ربات البيوت ويُغرقن فيه، حتى إن الواحدة منهن لتفاخر أترابَها بتعدد أولئك المعلمات في بيتها، فتذكر مس جسي مثلًا مربية ابنها الإنكليزية إذا ذكرت سيَّارتها الجديدة، وتشير ازدهاءً إلى رأي السنيورا كارولينا معلمة ابنتها الموسيقى إذا تكلمت عن الرواية الأخيرة في اﻟ «أبرا» وتثني على فرولن شمت المعلمة الألمانية إذا ذكرت المناوشة الأخيرة بين الألمان والفرنسيس في ننسي أو في متز، ولا تنسى مس — الله أعلم — الأميريكية معلمة أولادها اﻟ «جمنستيك» والرقص إذا كان الحديث في المال والأزياء الأخيرة، وفي أكثر الأحايين تدور على الأولاد من كثرة المعلمات الدوائر، وتدور على السيدة ربة البيت أيضًا إذا كان زوجها ضجرًا ملولًا وكانت المعلمة قد خصت بشيء غير العلم.

أما مدام لامار فأرملة لا زوج لها غير الإحسان، هي من السيدات الإفرنسيات المتدينات اللواتي يُوقِفنَ على المستشفيات والأديرة في الشرق الأموال الطائلة ويُحسنَّ إلى رجال الدين عندنا إحسانًا جمًّا متواصلًا، وهي تحب سوريا خاصةً وأبناءها، وتحب أن تقيم فيها وابنها الوحيد، لذلك شاءت أن تعلمه اللغة العربية، ولما جمعتها الصدفة بمريم وعلمت أنها يتيمة وأنها تحسن اللغتين العربية والإفرنسية ماجت في صدرها ثلاث عواطف متباينة، فقالت في نفسها أولًا: «مسكينة هذه الفتاة.» والشفقة في ذوي الإحسان عاطفة مطبوخة حاضرة، ثم قالت: «نعم المعلمة لفرنسوا.» ثم همست في قلبها: «وسأفاخر أترابي بمعلمة شرقية سورية.»

ولقد أحبت مدام لامار مريم وأعجبت بذكائها، ولما وصلت إلى الإسكندرية مكثت فيها بضعة أيام تنتظر الباخرة الإفرنسية وابتاعت للفتاة من حاجات اللبس والسفر ما يجعلها أهلًا لرفقتها، فلبست مريم المشد والقبعة ذات الريش والحذاء العالي الكعب، وسُرَّت سيدتها بشكلها الجديد وأعجبت بارتياحها في الزيِّ الإفرنجي كأنها اعتادته صغيرة، وبينا كانت وإياها في السوق دخلت إلى مكتبة تبتاع بعض الجرائد الإفرنسية والمجلات، فسألتها إذا كانت تحب المطالعة؟ فأجابت بالإيجاب، فاشترت لها روايةً تأليف فرنسوا كبه ورسائل مدام دي ستال وكتاب «سياحة في الشرق» للامرتين، فتناولت مريم الرزمة من صاحب المكتبة وسألته قائلة: «وهل عندك كتب عربية؟» فهزَّ رأسه بازدراء، فتعجبت مريم، فقالت مدام لامار: يظهر أن الكتب العربية لا تباع في البلاد الإنكليزية.

– وأين تباع؟ في فرنسا؟

– أصبتِ، فقد اشترينا الكتب الإفرنسية في مصر، وسنشتري الكتب العربية في باريس.

فلم يعجب مريم ذا التهكم من سيدتها، وبينا هما سائرتان في شارع شريف باشا، ومريم — وقد استفزتها الغيرة الوطنية — تحدق في شبابيك المخازن علَّها ترى هناك كتابًا عربيًّا ترفع به شأن وطنها في نظر السيدة الإفرنسية، لاح لها في أحد الأزقة إلى جانب الشارع الكبير جرنالٌ عربيٌّ معلَّق بشريطة تحت صفٍّ من الزجاجات، وفيها التبغ والسكاير وعلب الكبريت وأنواع الأبازير، فطرقت وسيدتَها تلك الناحيةَ فإذا هناك دكَّةٌ أو بالحري دكانٌ فيه شابٌ يكاد من ضيق ما هو فيه لا يستطيع حراكًا، وراءه رفرف بعض الكتب مرصوصة بين صناديق من الكرتون عهدها أقدم من «العهد القديم».

فقالت مريم مستبشرةً: وهل عندك كتاب عربيٌّ؟

– نعم، عندي.

وسحب الشاب رِزْمَةً من خلال تلك الصناديق ونفض عنها الحديث من الغبار وفكَّها يعرض الأجزاء، فاستوقف نظرَ مريم عنوانُ أحد الكتب فأخذته تقلِّب في صفحاته، فقال الشابُّ: ذوقك سليم والله، ذوقك جميل، أهم كتاب طبع في هذه الأيام، وقد أحدث ضجةً في العالم العربيِّ، وأقام العالم الإسلاميَّ وأقعده، مؤلفه من نوابغ الزمان، كتاب نفيس والله، ينبغي أن تطالعه كلُّ امرأة شرقية، جاءني منه نسختان في الشهر الماضي ولم يبق غير هذه التي بين يديك، خذيها، فلا تندمي، طالعيها تستفيدي.

فاشترت مريم كتاب «تحرير المرأة» وراحت تترجم لسيدتها ما قاله الشابُّ فيه، فضحكت مدام لامار لسذاجة الشرقيين، أو ما يظنه الإفرنج سذاجةً فينا، وهي تفكر بكتاب وصف هذا الوصف وما بيع منه في شهرين سوى نسختين.

– يحق لك أن تفرحي، فقد ظفرت بكتاب عربي.

– نعم.

ووقفت مريم إذ ذاك تنظر وراءها كأنها رأت بين العابرين من تعرفه ثم توارى في مزدحم الناس، فسألتها سيدتها: ما بالك؟ فاضطُربَ عليها. ومشت ترافقها إلى شركة البواخر الإفرنسية، فقضت مدام لامار حاجتها هناك، وركبت العربة تعود إلى النزل، ولم تكد مريم تستقر فيها إلى جنب سيدتها حتى رأت الشابَّ ثانيةً وهو داخل إلى مكتب الشركة، فصاحت على الفور: «مدام مدام!» كأنها تنادي أحد رجال الشحنة، فأوقفت مدام لامار العربة تقول: هل نسيتِ شيئًا؟ فقالت مريم: لا لا، وراحت تردد في نفسها: ما أشبهه به يا ربي ما أشبهه به!

المصائب إذا تعددت ينسخ بعضها بعضًا، يزيل اللاحق منها السابق أو يخفف أهواله. والفرح الشديد ينسي أجلَّ الخطوب، لما فجعت مريم في ولدها نست عارفًا، ولما جدَّ في حالها ما جدَّ من سفرها مع السيدة الإفرنسية نست القس جبرائيل وما قاسته في الناصرة وعلى شاطئ البحيرة من الشدة والعذاب، وما كان النسيان فيها غير ضربٍ من الرقاد يزول إذا لمسته الصدف بقضيب سحرها، ولما أمست في الباخرة في اليوم الثاني هبَّت العاصفة في صدرها؛ عاصفة الحب والذكرى لمجرد وجهٍ رأته في مزدحم يموج بالألوف من الوجوه البشرية، فندمت لأنها لم تكلِّم ذاك الغريب لتحقق ظنها، ووقفت عند الغروب في مؤخر الباخرة تتكئ على الحافة وتنظر كئيبة حزينة إلى زبد الأمواج تحتها، ثم أخذت من صدرها الذخيرة التي أعطاها إياها القس جبرائيل، ففاح منها أريج مروج الجليل وأسمعتها هديل حمام البحيرة فطفقت تقبلها وتبكي، وبين هي كذلك كان أحد المسافرين يتمشى على ظهر الباخرة ويراقبها خلسةً، وكان قد رآها أصيل ذاك النهار تصعد إلى الباخرة فراقه جمالها وأشكل عليه أمرها.

وقرع إذ ذاك جرس المائدة فمسحت مريم دموعها وما كادت تميل بوجهها حتى تراءى لها الوجه الذي أبصرته في المدينة؛ وجه من كان يراقبها، فاعترتها رعدة أغشت بصيرتها فهتفت قائلة: هل هو بعينه يا ربي أم أنا واهمة؟ ولكنها حينما جلست إلى المائدة رأته جالسًا أمامها فزالت دهشتها؛ [فقد كان] غير الشاب الذي رأته في الإسكندرية.

وفي اليوم الثاني بينما كانت جالسةً في كرسيها على ظهر الباخرة تطالع في كتاب «تحرير المرأة» اقترب منها فخاطبها بلهجة لا يجسر أن يخاطب بها سيدة إفرنجية، فقال دون ديباجة أو اعتذار: أظنك من مصر؟

– فدهشت مريم لهذه المبادرة وأجابته بصوت شجيٍّ تتمازج فيه أنفة مع لطف ومعروف: لا يا خواجا، لست من مصر.

– من لبنان إذن.

– ولا من لبنان، بل من فلسطين.

– ولماذا كنت تبكين مساء البارح؟ هل من حاجة لكِ أقضيها؟

– لا حاجة، كثَّر الله خيرك.

وقالت في نفسها: ما ألطف هذا الشابَّ، وما أجملَ معروفَه! ولكنها لم تدرك شيئًا من وراء ذينك اللطف والمعروف.

نجيب أفندي مراد من أسرة كريمة غنية في بيروت شبيه صيتها بصيت بيت مبارك في فلسطين، وهو من الشبان الأغنياء الذين يسافرون كلَّ عام إلى باريس ليذوقوا الحديث من لذاتها، ولكنه سئم ما اعتاده هناك وملَّه وصارت نفسه تصبو إلى كل مستغرب جديد، ولما علم أنَّ مريم مسافرة والسيدة الإفرنسية إلى باريس ازدادت رغبته بها ووطن النفس على أعلاقها، فرمى الشبكة على عادته في مثل ذي المواقف وطفق يعالجها بلطف يتخلله المبتذل من التغرير وببراعة تتراوح بين الأدب والتمويه، ومعشر النساء قلما يدركن كنه الاثنين إذا كان الصائد دقيق الحيل، وقلَّما يميزن بين معروفٍ هو أرجوحة للنفس منشأه كرم الأخلاق ومعروفٍ هو أحبولة للجسد، فكيف بفتاة قروية ساذجة.

على أن مريم، وإن تكن من البنات اللواتي لا يطيب لهنَّ عيش مجرد من الحب بعد أن يعرفنه فيعدن إليه راغبات مستهلكات رغم ما يقاسين منه، وإن تكن من الشرقيات اللواتي يتلجلج في أنفسهن روح النساء البابليات، بل تحتدم في عروقهن شعلة من تلك النار التي كانت تضرم في الهياكل السورية قديمًا، فقد قاست من سذاجتها واستهتارها ما علَّمها شيئًا من «صرف» الحب، فصارت تعرف بعض مفرداته وتراكيبها، وتدرك بعض أفعاله وأوزانها، وتستطيع فوق ذلك أن تصرف في بعض الأحايين ما لا ينصرف منها، فلو عاشت مريم في قديم الزمان؛ زمان الآلهة، زمان الشعر والجمال والعهارة الدينية، لكانت من ربات الهيكل — هيكل الغرام — تعبد فيه وتقدم على مذبحه ضحية ذكية، ولكن الزمان هدم الهيكل وحفظ المرأة، فهل يجعلها أسيرة الوراثة اليوم وكانت قديمًا أسيرة الدعارة؟ جواب الدين على ذا السؤال سؤال آخر معروف، وهو: وهل ينبت العوسج تينًا؟ أما العلم فيقول: وإن كان العوسج لا ينبت تينًا فقد ينبت تدريجًا بواسطة التربية نبتًا أرقى من العوسج فيثمر ثمرًا أحسن من التين، وأعجب ما في نشوء الأخلاق وأطوارها أن الخلة الموروثة قد تضعف فتصير كالخلق المكتسب، والخلق المكتسب قد يتوطد فيصير كالخلة الموروثة، ولعمري إن إفراطًا في الحب يقرن إلى سذاجة في الخلق ليكسب صاحبه من التجارب ما يجعله سيدًا على الموروث فيه من الطباع والمكتسب، هذا إذا كان فطنًا نبيهًا، عزومًا طموحًا، حافظًا ذاكرًا، فلا ينسى اليوم حساب الأمس، ولا يرضى من الغد بما رضي به اليوم.

إذا كانت مريم قد استأنست بنجيب أفندي مراد الذي استمرَّ أثناء السفر يحدثها ويناعمها، ويتقرَّب منها، فقد كانت تزن كلماتِه وسلوكَه بالميزان الذي اصطنعه لها القدر في بيت يوسف مبارك بالناصرة؛ هذا أديب ولكنه رجل، حسن الوجه، حسن السلوك، حسن الحديث ولكنه رجل، يرف حولي كطير الحمام، حفيف جنحيه كالنغم الرخيم في قلبي ولكنه رجل، ثم قالت مستشهدة على عادتها: ولا بأس به وإن كان رجلًا.

وجعلت تباحثه في موضوع الكتاب الذي تطالعه فتزعجه تارةً وتارةً تدهشه وتضحكه.

– إذا كانت المرأة أضعف عقلًا من الرجل فالسياج ينفعها ولا يضرها والحجاب نوع من السياج.

– وهل تفادين بحريتك خوفًا من عواقبها؟

– لا، ولكنني لا أركب الفرس الشموس قبل أن أسرجها وألجمها، الحرية فرس شموس ذللها الرجل ولم تذللها المرأة، أوَليس خيرًا للمرأة الشرقية في حالتها اليوم أن تركب لغايتها جحشة سهلة الانقياد، لا ترعبها إذا كبت وإذا سقطت لا تضرها.

– ولكن المرأة التي استعبدها الرجل أحقابًا من الزمن …

– أراك تردد كلام هذا المؤلف الذي يكثر في كتابه من ذكر العبودية؛ عبودية المرأة، ما هي يا ترى العبودية؟ أنا لا أعرفها، إذا خدمت فأخدم راغبةً، وإذا أحببت فأحب راغبةً، وإذا جننت فأجنُّ راغبة — أعمل دائمًا ما أريد، وما عرفت هذه العبودية التي …

– ستعرفينها عندما تتزوجين.

– وهل العبودية في الزواج؟ إذن لا أتزوج، والمرأة التي تعرف وتؤكد أن الزواج عبودية وتتزوج راضيةً لا يحق لها أن تشكو العبودية، والرجل الذي يتولى الدفاع عنها وهي قانعة بما هي فيه راضية، فإمَّا أن يكون قليل الأدب طفيليًّا، وإما أن يكون منافقًا.

– أجدٌّ هذا منك أم مزاح؟

– وهل في مثل ذا الموضوع باب للمزاح؟ أقصى العجب من امرأة تلبس الحجاب رغم أنفها، وترضى بظلم الرجل كرهًا منها.

– وماذا كنت تفعلين لو كنتِ من أولئك البائسات السجينات؟

– أمزِّق الحجاب بيدي ولا أكلف رجلًا الدفاع عني والرثاء لحالتي، عشر نساء يسرين سافرات الوجوه في شوارع المدينة خير من مائة كتاب يكتب في سبيل تحريرهن.

وجاءت إذ ذاك مدام لامار فرأت مريم تحدث الشاب الغريب، فاستدعتها إليها تسألها عنه: لا يجب أن تحدثي أحدًا لا تعرفينه يا مريم.

– ولكنه عرَّفني بنفسه وهو شاب أديب من بيروت؛ نجيب أفندي تفضلي مدام أعرِّفك به.

فدهشت السيدة الإفرنسية وانقبضت لذي الحرية في الفتاة وذي السذاجة، وأفهمتها بعدئذٍ أن السيدات لا يُعرَّفنَ بالرجال، وإنما الرجال يُقدمون إلى السيدات.

– كان ينبغي لكِ أن تستأذني أولًا، فإذا أذنت تُعرِّفينَ الشاب قائلة: اسمحي لي، مدام، أن أقدم إليك فلانًا.

فاعتذرت مريم إليها ووعدت أن تعمل في المستقبل بإشارتها.

وجعل نجيب مراد يتقرَّب من السيدة ويجاذبها أطراف الحديث، فراقها منه كياسة تكاد تكون إفرنسية، وعلمت من أحد المأمورين في الباخرة أن الشاب من أسرة سورية كريمة، كثير المال، كثير التجوال، ولم تنته مدة السفر حتى تدرج نجيب إلى قلب مريم وإلى إكرام سيدتها، فلما رست الباخرة في مرسيليا كان فرنسوى لامار على الرصيف ينتظر أمه، وفرنسوى شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من سنه، قصير، لحيم، ناصع البياض، بليد البادرة، وبعد أن حيته أمه وعانقته قدمت مريم إليه تقول: جئتك بمن يعلمك اللغة العربية، فرنسوى ابني يا مريم.

ثم عرَّفت ابنها برفيق السفرة أحد أعيان سوريا نجيب أفندي مراد، فتصافح الاثنان وتبادلا المبتذل من عبارات السلام والسوري يتأمل الشاب ويفكر بمريم، فقال في نفسه: لا خطر في وجه سمين ويد باردة، ثم أعطته مدام لامار بطاقتها.

– ينبغي أن تزورنا في باريس.

– أتشرف مدام.

وودعهم نجيب مراد مطمئن البال يهنئ نفسه بنجاح الدور الأول من مشروعه، وبعد أسبوعين زار مدام لامار في بيتها وجالس مريم برهةً يسألها عن حالها.

– وهل أنتِ راضية بمهنتك مسرورة؟

فهزت مريم كتفها.

– وهل علمت سيدك قام زيد؟ وضرب عمرو زيدًا؟

فابتسمت ابتسامة الضجر.

– وهل تأذن لكِ سيدتك بالخروج إلى المدينة؟

– يومًا واحدًا في الأسبوع؛ يوم الجمعة.

– وهل خرجتِ تتفرجين على باريس.

– آذنتني مدام أن أرافق الخادمة شرلت إلى البلد، فأخذتني إلى قصر فخم يدخل إليه الناس واحدًا واحدًا مثل المعزى بين قضيبين من الحديد، والبوليس مثل الراعي يراقبهم ويعدهم، ولكن القصر من داخل جميل غريب، رأيته غاصًّا بالناس وله مصطبة يحجبها ستار من المحمل كبير، أمامه أناس يصوتون بآلات من النحاس كبيرة ويضربون على الدف والطبل، وقد انتصب بينهم رجل بيده قضيب يرقص ويهول به كالمجنون، ثم رفع الستار عن بنات يرقصن ويغنين ويلعبن والرجالَ، لم أفهم من لفظهم ورطاناتهم شيئًا، ولكن رقص البنات أعجبني، الله ما أبرعهن وما أليقهن! تقف الواحدة منهن على رءوس أصابعها هكذا (وخلعت مريم حذاءها وحاولت التقليد) فتنتقل كالعصفور وتدور مسرعة كالبلبل دون أن تقع.

فضحك نجيب لهذا الوصف وسألها إذا كانت تحب أن ترافقه يوم الجمعة القادم ليفرجها على المدينة.

– مؤكد أكون ممنونتك.

فاستأذن مدام لامار بذلك فأذنت، وجاء في اليوم المضروب يبر بوعده، فأخذ مريم في السيارة إلى الحرج وتناولا طعام الظهر في قهوة هناك، وعاد بها إلى المدينة بعد الظهر ففرجها على قصر اللوفر وقبر نابوليون، ثم تناولا العشاء في قهوة في البوليفار الكبير وأخذها بعدئذٍ إلى تياترو تشاهد الرقص الذي أعجبت به، ولما ودعها عند الباب وعدها بيوم آخر مثل هذا بل أحسن منه الأسبوع القادم، فباتت مريم تلك الليلة فرحة مدهوشة، كأن ما شاهدته من غرائب المدينة وعجائب آثارها ملأ فؤادها فصرفه عن رفيقها، بل مضيفها، بل عشيقها، ولم يخطر نجيب في بالها ذاك اليوم إلا في صفة الدليل.

ولما جاء المرة الثانية قالت له مدام لامار: يجب عليَّ أن أشكرك عن مريم، فقد أثنت عليك ثناءً كبيرًا ونوهت بكرمك وشرف أخلاقك.

– هذا تعطف منكِ جميل، مدام.

– واليوم إلى أين؟

– إلى فرساي، وإذا عدنا باكرًا نزور الكسنبور.

– حسن، حسن، تحذري يا مريم عند اجتيازك الشوارع، وعسى أن تعجبك قصورنا وآثار بلادنا، وا أسفاه! أين هي من آثار بلادكم المقدسة؟

خرت السيارة وعجت وراحت تلتهم الطريق التهامًا، وعمد التلغراف إلى جانبيها تعلو وتهبط كأنها صفوف من رواقص الجن أو أشباح من عالم الخيال، والأشجار تهوي فوق حقول خضراء تمر مسرعة كصور السنماتوغراف، والبيوت هنا وهناك تبدو كالغيوم البيضاء والسوداء، ثم تدنو كالجبال فتولي كالخيال، ومريم، وقد اعتراها الخوف، جامدة ساكتة كأنها تقبض على قلبها بيدها، ونجيب يحدثها هازئًا ضاحكًا، وهي لا تكترث.

ولما وصلا إلى فرساي دارا في القصر ساعة يتفرجان على الصور فيه والتحف والآثار، ثم تناولا الغداء في قهوة هناك فخمة، وخرجا يتنزهان في جنينة القصر المنقطعة النظير، وبينما هما جالسان أمام نوفرة من النوافر المتعددة هناك، أعطى نجيب مريم علبة خضراء صغيرة، ففتحتها فإذا فيها سلسلة من الذهب ذات أيقونة في شكل ورقة الحندقوق فيها ثلاثة حجارة من الماس.

– يا ربي! لا أقبلها منك هذه ثمينة جدًّا ولا تليق بي.

– ما يليق بالإمبراطورة أوجيني يليق بكِ، خرج نابوليون الثالث صباح ذات يوم من هذا القصر يتنزه وخطيبته الأميرة أوجيني، فرأت ثلاث نقط من الندى على ورقة من الحندقوق فأعجبت بها جدًّا، فبعث الإمبراطور إلى صائغ القصر في باريس يأمره بصنع أيقونة في هذا الشكل، فأهداها إياها.

– القصة جميلة، ولكنها لا تناسب، فلا أنت نابوليون، ولا أنا أوجيني.

– الحب يا مريم يتوج المحبين ويجعلهم ملوكًا.

فوقفت مريم إذ ذاك وأحنت رأسها أمام نجيب تقول: أحييك يا صاحب الجلالة، مريم معلمة المسيو فرنسوى لامار تحييك.

ثم قالت وقد غيَّرت لهجتها: لا، لا، إذا كنت تقصد أن تخطبني بهذه الهدية فأنت واهم، لا يا أفندي لا، فقد قلت لي: إن الزواج عبودية.

– عند الإسلام يا مريم لا عندنا.

– إنما المرأة مرأة، والرجل رجل، إن كان عند الإسلام، أو عند النصارى، أو عند اليهود، أقبل هديتك وأقبِّلها، ولكن لا تحرمني نعيمًا أنا فيه، خلني عند مدام لامار أعلِّم سيدي المسيو فرنسوى اللغة العربية — وجعلت تقلده — واهد، اتنين، أربا، كمسه، سبا، تامانيه، يخزي العين ما رأيت أذكى منه، بعد شهرين يصير أستاذًا عربيًّا، قم بنا نرجع إلى البلد، فقد اشتقت إلى سواد عينيه.

– عيناه زرقاوان.

– لا تؤاخذني، ولكنهما يظهران أحيانًا كلون البحر إذا هاج أو كلون ثياب العرب إذا «باخت».

وكأنها انتبهت إذ ذاك إلى شيء ففتحت كيسًا من الحرير تحمله بيدها وجعلت تفتش فيه.

– ما لك؟

– نسيت لائحة الطعام، ولا أرجع إلى البلاد بلاها، فعرَّج نجيب على القهوة وجاءها بها، فقلبت فيها عينيها وتنهدت.

– أكثر من مائة لون، يا ربي! ما أجشع هؤلاء الإفرنج، ومن يقدر أن يحفظ أسماءها كلها، سأبذل جهدي، فلا أطيق الخادمَ آمِرًا ناصِحًا يعلمني ما ينبغي أن آكل وأشرب، عيب، عيب، إذا عزمتني في الأسبوع القادم أعدك أني أطلب الغداء دون أن أستشيرك أو ألجأ إلى الخادم وأقسم أن اختياري يعجبك، امشِ.

وبعد العشاء في المدينة تلك الليلة سألها قائلًا: وهل تزوريني الآن في بيتي؟

– في بيتك؟ أتخطب العصر وتتزوج المساء، أوَلم أقل لك إنني لا أقبل هديتك كخطبة؟ لا.

فضحك نجيب، ثم سألها: أتحبين أن تسمعي الغناء الإفرنجي؟

– لا، لا، يمزق أذني.

– التمثيل إذن؟

– لا أفهم منه شيئًا.

– الرقص؟

– عليك نور، كما يقول ابن مصر.

فذهبا إلى تياترو ترقص فيها راقصة مشهورة رقصًا شرقيًّا جديدًا، فسرت مريم به أكثر من سواه، وقالت لنجيب: رقص أولئك البنات اللواتي يقفن على أصابعهن رقص يدهش، ولكن رقص هذه الامرأة يسكر كالخمر، الله ما أجمل فنها وما أبدع حركاتها!

وبعد أيام ذهبت مريم والخادمة شرلت إلى المخزن الكبير فابتاعت قميصًا من الحرير صفراء، وبعض قطع من الحرير الهندي وأحرامًا من السندس الأحمر القاني، وآخر أبيض.

– ما غرضك يا مريم؟

– سترينني، أدعوك غدًا مساءً إلى غرفتي.

في ذاك المساء خلعت مريم ثيابها حتى جواربها ولبست تلك القميص وشدت الأحرام حول خصرها منبسطًا على حقويها معقودًا تحت بطنها ورفعت الأحرام الأبيض بيديها أمام وجهها فبدت كالراقصة الشرقية وأخذت ترقص رقصها، ثم دعت شرلت فدهشت إذ رأتها في ذاك الزي وراحت تستدعي سيدتها، فجاءت مدام لامار يتبعها المسيو فرنسوى، وأغرق الجميع في الضحك والاستغراب، ثم أخذت مريم تقلد الراقصة المشهورة فضجت الغرفة؛ غرفتها بالتصفيق والهتاف …

Tres bien! Tres bien.
C’est excellent!
C’est epatent!
Encore encore!

وهذا أول ظهور مريم راقصة، غرفتها المسرح وغرفتها التياترو وسيدتها وسيدها والخادمة شرلت الحضور، وقد فازت بظهورها فوزًا مبينًا، فتشجعت واستمرت تتمرن على الرقص، وفي تلك الليلة بعد انتهاء الرواية عاد المسيو فرنسوى يطرق باب الراقصة الشرقية التي افتتن بها، ففتحت مريم الباب فرأته واقفًا يفرك يديه ويردد أمثولته مبتسمًا: واهد، اتنين، أهُبِك.

فقالت مريم وقد لاح الغيظ في جبينها: اعذرني يا مسيو فرنسوى، فقد قلت لك: إنني لا أُعلِّم في الليل.

– أهبك، أهبك! أهبك!

– ولكني «أهب» أن أنام، اعذرني.

وأقفلت إذ ذاك الباب، فنقم فرنسوى لامار منها وكمن لها في قلب حبه البارد شيء من العداء، على أنه كان يسألها دائمًا أن ترقص فتفعل؛ لأن مريم وقد شغفت بالرقص استمرَّت تمارسه في غرفتها أمام المرآة فتخترع من الحركات والإشارات والسكتات والوقفات فوق ما كانت تشاهده على مسارح باريس، فازداد جسمها مرونة وازداد سيدها هيامًا بها، وبدأت تشعر بوحدة في باريس شبيهة بوحدتها على شاطئ البحيرة.

– ما بالك اليوم كئيبة؟ هل حفظت أمثولتك؟ عليك أن تطلبي العشاء الليلة حسب وعدك.

– لم أحفظ من تلك اللائحة شيئًا، كنت مشغولة عنها بالرقص، وبالتعليم، وبالضجر.

– أبدأت تضجرين في باريس؟ هذه خطيئة مميتة.

– لا أعرف ما هي الخطيئة المميتة، ولكني عرفت الضجر، والقرف، والسأم، فاعلم يا نور العيون أن سيدي وتلميذي يريد أن يكون سيدي وزوجي، ثروة طائلة وعينان «بائختان».

قصر فخم، ووجه لحيم، كِنٌّ دافئ، ويد باردة، أفلا تهنئني، أولست ممن يُغبطن من النساء؟

– ويشقين في غبطتهن، نعم.

– لله من عاشق، يجثو أمامي على ركبتيه ويبسط ذراعيه، ويحني رأسه ويشخص بعينيه، ثم يلطم صدره بيده البيضاء الباردة ويتلو أمثولته عليَّ — أهبك! أهبك! أهبك! ثم يأخذ يدي فيقبل رءوس أناملي قبلات «نار الجحيم أبردها».

الله، الله! أهكذا يحب الإفرنج؟ أهبك! أهبك! أهبك! قرف قرف قرف! — لا تشرب زجاجة الشمبانيا وحدك.

– لا تؤاخذيني، فقد شُغلت عنك بلذيذ حديثك.

– هذا سر بلادي، لم أزل أذكر بيتًا من الشعر:

شربنا على ذكر الحبيب مدامةً

– ومن هو الحبيب؟

– أترى أغني في الطاحون؟ سيدي وتلميذي المسيو فرنسوى لامار.

– أرفع كأسي على صحة المسيو فرنسوى وصحتك.

– أف عليك!

ورمته مريم بشيء من لب الخبز كانت تعجنه ناقمة بين أناملها.

فرفع نجيب يده إلى شفتيه وأشار بها إليها شاكرًا.

– قل للخادم أن يعجل بالقهوة، هذه الأنغام تحزنني جدًّا.

– إذن لا تريدين أن نقضي السهرة في اﻟ «أبرا».

– بلى، أحب أن أرى ما تسميه «بالِه» فأحتمل الموسيقى والغناء أو بالحري الضجيج والصياح من أجل الرقص؛ رقص «البالِه».

ولكنها لم تعجب بهذا النوع من الرقص كثيرًا، فقالت وهي خارجة من اﻟ «أُبرا»: يقدر الإنسان أن يعلم الدب والسعدان الرقص، رقص هؤلاء البنات علمه أكبر من فنه، أما رقص تلك الراقصة المشهورة فالفن فيه أكبر من العلم، فيه حركة خصوصية وما يدعوه الشعراء ارتجالًا، ابتكارًا.

– سنزور الآن أكبر قاعة عمومية للرقص في باريس فتشاهدين فيها ما لم تشاهديه بعد من أنواع هذا الفن، وركب وإياها سيارة سارت بها إلى ناحية اﻟ «أبزرفاتور» ووقفت أمام صرح كبير فخم كأنه من صروح الحكومة أو من قصور الملوك الأقدمين، فقالت مريم وهي داخلة: يظهر أن لا شغل لهؤلاء الإفرنج غير الأكل والشرب والرقص.

– وتوابعها، لا تنسي توابعها.

– السكر والموت؟

– بين الاثنين فترة لا يزدري نعيمها بشر، إنما هي الحياة.

– لا أعرفها.

– ستعرفينها، ما قولك بهذا النوع من الرقص؟

– مليح، ولكن في رقص العرب رجالًا ونساءً أدب، ولا أدب في هذه الست من رأيي؟ بلى، الرجل الذي يخاصر امرأة في قاعة عمومية على هذا الشكل مثلًا، وذاك — وأشارت إلى بعض الرجال الذين لا يكتفون بالمخاصرة على ما يظهر — هذا حيوان لا بشر، قم بنا، مثل ذي المشاهد تغيظني، تزعجني.

وخرجت مريم من تلك القاعة وقد ضاقت فيها صدرًا.

فشيعها نجيب إلى البيت وودعها حسب عادته عند الباب، وكانت إذ ذاك الساعة الثالثة بعد نصف الليل.

رمت مريم بنفسها على الفراش تلك الليلة وهي تضحك ضحكة اليأس، وتقول: هل هو يا ترى مثل القس جبرائيل؟ هل هو مثله؟ ثم صرَّت بأسنانها، ولعنت حظها، وما نامت إلا قليلًا فنهضت على عادتها باكرًا وهي خامدة الذهن، بطيئة الحركة، ثقيلة القلب، سيئة الخلق، حردة ناقمة، فجاءت سيدتها تؤنبها وقد علمت أنها تأخرت ليلة البارحة في عودتها إلى البيت.

– هذا مضر بصحتك يا بنتي ومشين بسمعتك.

– ليس أمري في يدي مدام.

– أنا مسئولة عنكِ، جئت بك إلى باريس.

– وندمتِ؟ دعيني إذن أرجع إلى بلادي.

– هل أنت مريضة يا مريم هل تشكين ألمًا ما؟

– لا مدام، أنا حزينة، ولدت شقية، وسأعيش شقية، وأموت شقية، ولا أقدر أن أعلم المسيو فرنسوى ولا … ولا … أحسنتِ إليَّ مدام فلا أسيء إليكِ، ولا أقبل ما لا ينعمني ويشقيك، ابنك مدام ابنك …

– فهمت يا مريم، طيبي نفسًا يا بنتي، سأنظر في أمرك وأمره.

وكانت مدام لامار قد علمت بمكنونات ابنها ولواعج قلبه من الخادمة شرلت ومنها أيضًا، فاحتالت عليه في إبعاده عن مريم إلى أن تنظر ما تصنع في أمرها، بعثته ليتفقد شئون كروم لها في أواسط فرنسا، فسافر المسيو فرنسوى وهو لا يدري ما وراء سياسة أمه، ودع معلمته آسفًا متأوهًا ووعدها أن يعود بعد أسبوعين.

وجعلت مدام لامار تفكر في مصير مريم، ليس من العدل أن تطردها من البيت، وليس من الحكمة والرحمة أن ترمي بها إلى البحر في باريس، بلا قيد ولا شراع، أتعطي اسمها إلى سمسار الخدم في المدينة فيدخلها بيتًا تخدم فيه؟ أتبعثها إلى كرومها فتخدم هناك مع الأجراء؟ أتقدمها إلى صديقة لها سألتها عما إذا كانت تعرف أحدًا يعلمها العربية؟ أو ترجعها إلى بلادها، لقد حارت مدام لامار في أي من هاته الطرق تتبع.

وقد مر الأسبوع ومريم تفكر تارةً في اتخاذ الرقص مهنة لها وتارةً في نجيب مراد، وفي كلتا الحالين وطنت النفس على الخروج من بيت مدام لامار، ومن طباع مريم أنها إذا ملَّت أمرًا فلا تقيم عليه، وإذا كانت غير راضية في بيت فتهجره، وشدَّ ما كان غيظها لما مرَّ يوم الجمعة ولم تر فيه ابن بلدها، فقالت في نفسها: هل ملَّني فهجرني؟ حفظه الله! سأبقى في باريس وسأصير من راقصاتها المشهورات.

ولكن نجيبًا كان في لندرا يقضي بعض حاجات تختص بأشغالهم المالية بسوريا، فأقام هناك أسبوعًا وعاد إلى باريس.

وفي صباح الجمعة من الأسبوع الثاني بعد سفر المسيو لامار كانت مريم خارجة من البيت قصدها التنزه فالتقت بنجيب في الباب وهو قادم إليها، فاستأنست به وفرحت للقائه.

– ظننتك سافرت من باريس.

– ظنك في محله، وقد كتبت إليك من لندرا.

– لم يصلني كتابك.

– عجيب! ولكن من حضر ما غاب، تفضلي.

– إلى أين؟

– إلى جنة عدن.

– جنة عدن؟ سمعت معلمتي في الدير تقول مرة: إن جنة عدن في بلادنا.

– في بلادنا أخبارها وفي باريس آثارها.

ولما استقر نجيب في مركزه وأقفل الباب أدار السائق دولابه ونفخ بوقه وسارت السيارة على رحمة الله تتخلل صفوفًا من العربات في شوارع يموج في جانبيها مزدحم من البشر لا نهاية له ولا بداية.

– قد شاهدت كل متاحف باريس وآثارها وأكبر مسارحها وأهم قهاويها وأغرب ما فيها، بقي عليَّ أن أريك ما لم تريه بعد وما لم يره إلا القليلون من السياح وأفراد من كبار الفرنسيس.

– وما هو يا ترى؟

– هو سر لا يفتحه غير هذا، واستخرج من جبيه مفتاحًا أصفر صغيرًا، ثم قال: هذا المفتاح عزيز عجيب، لا يظفر به إلا الأمراء والأعيان وكبار المأمورين والسياسيين، وبعض الأميركان المجانين الذين يتقيئون أموالهم أمام الأجانب، هذا المفتاح قد يكون حمله أحد رؤساء الجمهورية أو أحد أعضاء «الأكاديمي» أو أحد الوزراء أو أحد ملوك أميركا، فاعلمي أن في هذه المدينة — في بعض زواياها الشريفة — جنات لا يدخلها غير البله الأغنياء أو أبناء باريس الكبراء.

– ومن أي الطبقتين أنت أيها السيد الشرقي؟

– هذا يوم جد لا يوم مزح، ها قد وصلنا انزلي هاتي يدك.

وكانت قد وقفت السيارة في زقاق مظلم ضيق مهجور أمام بيت ظاهره حقير وبابه وشبابيكه مقفلة كلها.

– ويلي إلى أين تسير بي، أهذا بيتك يا نجيب؟

– بيتي في النزل الذي تعرفينه، وهل سقطت إلى هذه الدرجة في عينيك لتظني أني أقيم في مثل ذا البيت وفي هذه الناحية؟

– وكان قد فتح نجيب الباب بذاك المفتاح السري الصغير.

– ادخلي، ادخلي، ما بالك؟ أتخافين وأنا دليلك؟

فدخلت مريم وإذا هي بين بابين مقفلين في صفة مظلمة باردة، ففتح نجيب الباب الثاني وصعد وإياها درجًا سجاده الأحمر الثقيل يخسف تحت الأقدام، وعلى قاعدة درابزون البراق تمثال فتاة عارية تحمل قنديلًا كبيرًا بيديها المرتفعتين فوق رأسها، وفي زاويتي الصفة — صفة الدرج — تمثالان من الرخام يمثل الواحد منهما شابًّا رومانيًّا يحمل أكرة كان يريد رميها، ويمثل الثاني امرأة تخلع ثوبها وقد بدا نصف جسمها عاريًا من إحدى كتفيها إلى قدميها، وعلى رأس الدرج تمثال آخر يمثل كاهنًا يحرق بخورًا أمام إلهة من آلهات الأقدمين، وعلى الجدران المبطنة بورق فخم من لون السجاد صور شتى تمثل فصولًا من كتاب الحب الأبدي.

صعد نجيب الدرج ولم يحفل بهذه التحف والآثار كأنه ألفها، وأما مريم فلما شاهدت الصور وقفت خائفة واجفة.

– ما هذا، وما ذاك؟ لا، لا، لا أحب هذا البيت لا أحبه، دعني أخرج منه، دخيلك.

– أتروعك هذه الصور؟ ألم تشاهدي مثلها في قصر اللوفر؟

– ولكن ذاك محل عمومي آهل بالناس، وهذا البيت مهجور — ربي! أخاف من ذي السكينة، تذكرني بسكينة الدير، وسكينة القبور، أخاف من نفسي ومنك فيه، دخيلك، لنخرج من هنا.

– كما تريدين، إذا كانت الصور ترعبك فادخلي هذه القاعة الخالية منها.

ووقف أمام سجف أحمر عند رأس الدرج وفتح بابًا وهو الباب الوحيد هناك وأخذ مريم بيدها فأدخلها، فإذا هي في ردهة كبيرة كل جدرانها مبطنة بالمرايا من الأرض حتى السقف لها شباكان مقفولان عليهما ستارات من الخرج الثمين فوقها سجوف من المخمل الأزرق الفاتح، والفرش والسجاد من لون السجوف، والكراسي مذهبة الإطار محفورة عليها شارة أحد ملوك الفرنسيس، كأنها أثر من الآثار القديمة.

وقفت مريم في تلك الردهة المتلألأة تطوقها بنظرات مستغربة فتمثل لها من نفسها أشخاص لا تُعد منعكسة في المرايا أمامها ووراءها ورأت من نجيب مئات حولها يضحكون، ثم أخذت تدور فيها فتجس الجدران كالعمياء فلم تهتد إلى باب واحد، حتى إن الباب الذي دخلت منه اختفى أثره تمامًا.

– وسترين ما هو أعجب من هذا، فلا تجزعي، كوني ثابتة الجأش ليس في الأمر سحر، ولا في البيت جن، أترين هذه الطاولة؟ لا شيء عليها سوى هذه الأزاهر، عليكِ نور.

ثم تقدم نجيب إلى الحائط فكبس زرًّا في إطار من أطر المرايات يكاد لا يبدو للعيان، ثم نقل إلى الحائط المقابل له وكبس زرًّا آخر فانفتح إذ ذاك باب فأدخل مريم منه، يقول: أسرعي، أسرعي، ثم أغلق الباب وأقفله من جهته الخشبية لا من جهة المرآة، وأصبح ومريم في غرفة صغيرة اعتيادية مفروشة بديوان شرقي وثير حافل بمخدات الريش والوسائد السندسية، وعلى جدرانها صور من بعض إلاهات اليونان.

– هذه غرفة الانتظار، وهذا باب الحمام. وفتحه نجيب وكبس زرًّا فنورت أنوار الكهرباء في حمام من الرخام الأبيض يبرق كالمرآة المصقولة.

– وهذا باب آخر ظاهر، لا شيء سري في هذه الغرفة الصغيرة، تفضلي ادخلي إلى هذه الردهة، فدخلت مريم فإذا هي في ردهة أخرى كبيرة أبوابها سرية، ومخارجها خفية، وفرشها وسجادها وسجوفها والآنية فيها من اللون الأصفر الغامق أو الذهبي القديم، في وسطها ديوان شرقي قباله على الجدران الثلاثة مرايا طويلة بينها صور تمثل أطوارًا من مشاهد الحب، وفي إحدى زواياها سرير أميري ذهبي العمد سندسي القبة.

– مريم هذه جنة عدن، ولكن الجنة الخالية من العاشقين إنما هي كالقفر السبب أو كالطلل الدارس، اخلعي برنيطتك، اخلعيها.

فامتثلت مريم أمره، ثم وقف باسطًا ذراعيه ينظر إليها مستعطفًا فوقعت على صدره جائشة باكية.

– أتبكين ونحن في الجنة؟ تعالي أريك الآن الأعجوبة.

فكبس في موضع تحت صورة من الصور فانفتح الباب فخرجا فإذا هما في غرفة الانتظار ثم فتح الباب الثاني فإذا هما في ردهة المرايا بل في ردهة المائدة، فوقفت مريم أمام الطاولة وهي حافلة بآنية الفضة والصحون والزجاجات.

– قلت لي أنْ لا جن في هذا المنزل، فمن جاء بهذه الأشياء كلها؟

– إله الحب، رب العاشقين، اجلسي.

ورفع نجيب أغطية الفضة عن صحون يتصاعد منها البخار وتفوح بروائح اللحوم والبذورات الطيبة، وإذا هناك غذاء أو ما يدعوه الفرنسيس ترويقة مؤلفة من أربعة ألوان ومعها الحلوى والجبن والثمار وركوة من القهوة على سراج له صفيحة من الحديد أشعل نجيب النار تحته لتظل القهوة فيها حامية.

وإلى جنب المائدة عروسها، بل بيت شعرها، ذات الفم الذهبي غائصة في الثلج في دلو من الفضة، ولما فرغت زجاجة الشمبانيا سكب نجيب القهوة ونهض يعمد إلى زر في الحائط.

– هذه الأزرار تخيفني، كأنها جراب الكردي أو خاتم سليمان.

– بل هي جراب الكردي، تعالي انظري!

جاءت مريم واجفة فإذا هي أمام خزانة فيها أنواع اللحوم الباردة تحت أغطية من الزجاج، وزجاجات شتى من الخمر ومن المشروبات الروحية.

– أمن هذه الزجاجة أسكب لك أم من هذه؟ أم من تلك؟

شرترز، بيندكتين، كريم دي منت، كنياك.

– كريم دي منت.

– والآن وقد وفينا الغذاء حقه نعود إلى غرفة الانتظار فأريك بعدئذٍ أعجوبة ثانية.

فدخلت مريم ودخل نجيب وراءها بعد أن كبس الزر في الحائط فانفتح الباب المقابل لتلك الغرفة ودخل خادمان لا صوت لوقع أقدامها ولا لحركاتهما ينقلان الصحون وأواني المائدة، ويعيدان إلى القاعة ترتيبها المألوف، وما هي إلا برهة حتى انتهيا من عملهما فغلق الخادم الباب إذ خرج فأقفل من الداخل؛ أي من قاعة المرايا.

– استلقي على الديوان ترتاحي، وقد تريدين أن تنامي قليلًا، ودخل نجيب إذ ذاك غرفة النوم فخلع ثيابه وكبس زرًّا في الحائط فانفتح باب فإذا بخزانة فيها بعض ثياب النوم، فارتدى نجيب قميصًا واضطجع قليلًا للراحة، ثم نهض بعد فترة وراح يستيقظ مريم فوجدها جالسة على الديوان تسند رأسها بيدها، فقال لها: تعالي أريك الآن الأعجوبة في غرفة المائدة.

فخرج وإياها إلى غرفة الانتظار بعد أن كبس الزر فدخلت الخادمة من باب خفي تلبي الدعوة فرتبت الردهة وعادت من حيث أتت، فأغلقت الباب فأقفل من الداخل.

– أين المائدة الآن؟ قلت لي أنْ لا جنَّ في البيت؟

فأطلعها نجيب على السر في هذه الحركات الخفية كلها.

– لو كنت قيصرة روسيا وكنت أنا عاهل الألمان وجئنا هذا المنزل السلطاني، بل الجني نقضي به شهرًا كاملًا نأكل ونشرب وننام محفوفين بخدم لا نراهم ولا يروننا مثل آلهة الحب التي تحرسنا فأكدي أن لا أحد في العالم يدري بوجودنا هنا إلا صاحب البيت، نعم، ولكن صاحب البيت يعرف أن بيته مأجور، ولا يعرف لمن من الناس.

فقالت مريم وصوتها يرتجف: وهل تنوي أن نقيم هنا شهرًا.

– ليكن ذلك إذا شئت، فنقول بعدئذٍ: «على ثروة مراد السلام!»

– لا، لا، سيدتي توبخني إن لم أعد الليلة، ولا أطيق توبيخها، وقد تطردني من البيت.

– ستعودين إن شاء الله.

وفي تلك الليلة أكثرت مريم من الشمبانيا وأغراها نجيب فوق ذلك بسيكارة من الحشيش فنست الفتاة سيدتها ونست حالها، فرقصت رقصة بنات الهيكل وقدمت نفسها على مذبحه ضحية ذكية.

وفي صباح اليوم الثاني قال لها نجيب: «أنتِ الآن ضيفتي ونحن عرب تقاليدنا عزيزة عندنا مقدسة، وحق الضيافة ثلاثة أيام.» ومريم وقد تخدرت مفاصلها ولم تعد تملك إرادتها أحنت رأسها ساكتة.

ثلاثة أيام أقاما في ذلك المنزل الجِنِّيِّ لا يريان من النور غير نور الكهرباء، ولا يسمعان من الأصوات غير أصوات الغرام.

ولما خرجا أصيل يوم الاثنين ركبا سيارة إلى الحرج.

– ساعة في الهواء النقيِّ قبل أن تعودي إلى البيت.

– ويلي وماذا أقول لمدام لامار.

– قولي لها: إنكِ التقيت بسيدة سورية تعرفينها فعزمتك إلى بيتها خارج باريس تقضين عندها بضعة أيام.

– ولا تنسَ أن تقابل مدير اﻟ «التياترو».

– سأقابله غدًا وستظفرين بما تريدين إن شاء الله.

– ومتى أراك؟

– الأسبوع القادم حسب العادة.

أما مدام لامار فقلقت جدًّا لتغيب مريم وبعثت إلى إدارة الشحنة باسمها تسألهم التفتيش عنها، وعوَّلت إذا عادت الفتاة أن تسفرها إلى بلادها حالًا، فلما دخلت مريم مساء ذاك اليوم بهتت مدام لامار لرؤيتها على تلك الحال، مشحوبة الوجه، غائرة العين، خامدة الذهن، بطيئة الحركة.

– ماذا دهاكِ يا مريم، هل أنتِ مريضة؟ هل تشكين ألمًا ما؟

– لا مدام.

– وأين كنتِ؟ أشغلت بالي جدًّا، أين كنتِ متغيبة؟ فسكتت مريم. فأعادت عليها مدام لامار السؤال فأجابتها بصوت شجيٍّ خافت: ليس أمري في يدي مدام، لم أعد أليق أن أكون خادمة لكِ ولا أن أقيم في بيتكِ.

فأظلم وجه السيدة الإفرنسية، فقالت مناعمةً: حسنٌ يا بنتي، فقد عوَّلت أن أعيدك إلى وطنك.

– لا أعود إلى وطني، لا أعود إلى فلسطين.

فأطرقت مدام لامار مفكرة وتركتها تلك الليلة وشأنها، وفي صباح اليوم الثاني جاءت تقول لها: تعرفين يا مريم أنني أريد صلاحك، وأظن أن مصر توافقك ويكون لك فيها مستقبل حسن، وسأعطيك كتاب توصية إلى أحد أصدقائي هناك، فينبغي أن تسافري حالًا، الباخرة الإفرنسية تبحر من مرسيليا بعد يومين، اجمعي ثيابك وأغراضك، وسأبعث إلى الشركة أبتاع لك تذكرة السفر.

وفي اليوم التالي تناولت مريم من يد سيدتها تذكرة سفر إلى مرسيليا وأخرى إلى مصر في الدرجة الثانية، وكتاب توصية إلى جمال الدين باشا أحد مدراء البنك الإفرنسي هناك، وغلافًا فيه عشرون ذهبًا أجرتها.

ودخلت شرلت إذ ذاك تقول: العربة في انتظار.

– وهل أنزل الصندوق؟

– نعم.

– الله يوفقك يا مريم، شيعي مريم إلى المحطة يا شرلت.

– لا لزوم لذلك مدام، لا لزوم، أنا أقدر أن أعتني بنفسي.

– حسنٌ، بُن فويَّاج — قولي للحوذي يا شرلت أن يوصلها إلى محطة «ليون».

ولكن مريم لا تحب أن تسافر إلى بلادها، بل لا تريد أن تترك باريس، فإن لها من يعينها فيها على رغبتها، وينبغي أن تراه، ما العمل؟ ما التدبير؟ أطرقت الفتاة مفكرة بينا العربة تسير بها إلى المحطة، فلاح لها فكر بعث الأمل في عينيها، ولما وقفت هناك، أنزل الحوذي صندوقها وحقيبتها فاستلمهما أحد الحمالين، ولبث ينتظر أمر السيدة المسافرة.

صرفت مريم الحوذيَّ ووقفت على الرصيف حائرة بائرة كأنها نسيت أمرًا أو أضاعت شيئًا، ثم استدعت حوذيًّا آخر وأمرت الحمَّال أن يعيد أمتعتها إلى العربة.

– لا أقدر أن أسافر الليلة.

ونفحت الحمال بقطعة من النقود وأعطت الحوذيَّ اسم النزل المقيم فيه نجيب مراد.

ولما وصلت إلى ذاك النزل الفخم في قلب المدينة استأجرت غرفة فيه وسألت عن ابن بلدها فقيل لها: إنه سافر.

– متى سافر؟

– مساء البارح مدام.

– وإلى أين؟

فعمد الكاتب إلى سجل يقلب في صفحاته، ثم قال: لا نعلم مدام، لم يعطنا المسيو مراد عنوانه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤