الفصل الثاني عشر

صعدت مريم إلى غرفتها مساء ذاك النهار فخلعت ثياب السفر، ثم اغتسلت وصففت شعرها وجلت أظافرها، ثم ارتدت ثوبًا من الحرير الأحمر الغامق تحجبه وتظهره غلالة من الخرج الأسود الفخم وهو الثوب الوحيد من نوعه عندها، لبسته مرة واحدة فقط، وذلك ليلة زارت اﻟ «أُبرا» ونجيبَ مراد، فبدت فيه مكشوفة الأذرع والترائب وسلسلة الذهب ذات الأيقونة الحندقوقية في عنقها، وقد ظللت مؤخره ظلال خفيفة من ضفائر شعرها الأسود الكثِّ المضفور في شكل يزدري العناية والتكلف مسترخيًا مستمسكًا، تدخل الطية منه في الطية مائجة، كأنها حيات في أحجارها وقد بدت الرءوس من خلال ثنياتها.

وقفت مريم بانحراف أمام المرآة، وقد مالت بوجهها تنظر إلى الصورة المنعكسة هناك فأعجبها منها قدُّها، وأنيق جانبها، وانسلاك كتفها، والضفائر المسترخية فوق جيدها، ونزلت إلى البهو الكبير وهي كما يقال فتنة للعالمين تتناول العشاء، فاستقبلها رئيس الخدم في الباب محنيَّ الرأس باسمًا.

– هل مدام وحدها؟

– نعم.

فمشى قدامها إلى وسط القاعة والناس نساءً ورجالًا يحدجونها بالأنظار معجبين مستغربين، فقالت سيدة وقد رفعت المنظار الصغير إلى عينيها: أميرة هندية في زي باريسية، روح العصر! روح التمدن! فأجابها الرجل: وقد تكون مسلمة خرقت حجابها، جميلة فتانة.

وقف رئيس الخدم عند طاولة صغيرة يعد للسيدة الكرسي، فجلست مريم والتيه جالس بين عينيها والإباء يكلل جمالها، فقدم إليها قائمة الأطعمة ثم قائمة الخمر، فألقت هذه جانبًا وجعلت تقلب نظرها في تلك، وهي تفكر بالمرة الأولى التي رأت مثل هذه القائمة فهالها تعدد الألوان فيها وظنت أن على المرء أن يأكل منها كلها.

ثم جاء الخادم ينتظر أمرها، فأصدرته وهي سامدة الرأس والقائمة بيدها دون أن تنظر إليه: أن دبنه، أه دزوليف، أه بوي، سان جرمن، فيله دي سل، بوله إن كسرل، سالاد أنديف، ركفور، دَ مي تاس، أه أين دَمي بوتاي دي مم سك.

وترجمة ذلك في لغتنا الشريفة، ولكن الترجمة تذهب بلذة هذه الأطعمة الغربية الأسماء، وحسب القارئ أن يعرف أنها تبتدئ بفنجان من الخمر وتنتهي بزجاجة من الشمبانيا ليدرك بعض ما جال في نفس مريم تلك الليلة.

ولما عادت إلى غرفتها بعد العشاء عمدت إلى التلفون فطلبت علبة من السكاير المصرية وجرنال المساء، فجاءها الخادم بالعلبة على صينية من الفضة فتناولتها ووضعت مكانها قطعة من النقود فأحنى الخادم رأسه شاكرًا.

أشعلت مريم السيكارة تلو الأخرى وهي تتصفح الجريدة وتفكر في طريقة تحل بها لغز القضاء فيها، فأخذت السطر الأول من أول عمود في الصفحة الأولى من الجريدة والسطر الأخير من آخر عمود في صفحتها الأخيرة، فكتبتهما على ورقة وجمعت كلماتها فإذا هي ثماني عشرة كلمة، ثم جمعت حروفها فإذا هي خمسة وستون حرفًا، فضربت العدد الأول بالثاني، ثم قسمت الحاصل على تسعة؛ أي تاريخ ذاك اليوم، ثم على ثمانية عشر؛ أي عمرها فكان خارج القسمة عددًا مفردًا، ثم أسقطت منه أربعة، وهي عدد الحروف في اسمها فظلت النتيجة عددًا مفردًا.

فنهضت إذ ذاك ونزعت ثيابها ونامت مطمئنة البال، وذهبت في صباح اليوم الثاني إلى بيت الشركة؛ شركة البواخر، لتعيد تذكرتها، فقبلت التذكرة في الشركة وأعيد إلى مريم بعد إسقاط عشرة بالمائة من الثمن رعي الأصول ما تبقى من المال، فضمته إلى ما معها وعادت إلى النزل تحسب حسابها.

– هذه القيمة لا تقوم بنفقاتي في هذا النزل أسبوعًا كاملًا، عليَّ إذن أن أنقل منه.

وأخذت الجريدة تطالع في عمود الإعلانات منها، فكتبت على ورقة أسماء بعض النزل الخصوصية «بنسيون» وراحت تستكشف خبرها، فتوقفت إلى غرفة في واحد منها تدفع فيه لقاء الأكل والنوم في الأسبوع ما لا يقوم بنفقات يوم في النزل الكبير.

– حسنًا فعلت، غرفتي في بيت مبارك بالناصرة لم تكن أكبر من هذه والحمد لله أن لهذه شباكًا وإن كان صغيرًا، ربي! لا أظنه فُتح منذ شُيِّد البيت، وهذا المتراكم على زجاجه، لا غبار يعرف ولا دخان ولا صقيع، وقد يكون مزيجًا متجمدًا منها كلها، لا بأس، وكيف يفتحه، (طق طق طق طق!) وجعلت تدق إطار الشباك بكعب حذاءها.

فسمعت سيدة البيت الطقطقة فجاءت مسرعة.

– ما بالك مدموازل.

– أحاول فتح الشباك.

– لا لزوم لذلك مدموازل لا لزوم لذلك.

– بل لازم جدًّا هل أعيش بلا هواء؟

– الهواء يقتلك مدموازل، نحن في فرنسا لا نفتح الشبابيك قطعيًّا.

– ولماذا الشبابيك إذن؟

– للزينة مدموازل وللنور في بعض الأحايين.

– وهل تظنين النور يدخل من هذا الزجاج الأسود؟ أهذا حجابي، لا لا، (طق طق طق!)

– قد تكسرين الزجاج مدموازل، فتدفعي ثمنه.

– أدفع ثمنه وحبة مسك.

– ماذا تقولين، آبا موس؟

– قلت في لغتي مدام: إنني أدفع ثمن الزجاج إذا كسرته، (طق طق طق طق!) والحمد لله فتَّاح الأبواب والشبابيك، آه، ما أجمل هذا المشهد!

– وما أكثر المداخن أمامي، إذا بردت أنظر إليها والدخان يتصاعد منها فتدفئني، الهواء يقتل! الشباك إنما هو للزينة! هذا أعجب ما سمعت في هذه البلاد — بلاد الزينة — سبحان الله، والحمد لله فلا بأس بهذه الغرفة وقد فتحت شباكها، والخمسة أدوار تحتي بل المائة درجة إلى كوخي أصعدها راقصة أتمرن عليها.

وجلست مريم على سريرها تعد مالها ثم قالت: خمسة وثلاثون ذهبًا تعيشني هنا أربعة أشهر في الأقل، وإن لم أظفر بمنيتي أثناء ذلك فأقفل هذا الشباك وأستلقي على هذا السرير، وأموت! الله كريم!

ثم جلست إلى منضدة صغيرة في زاوية الغرفة وأخذت طلحية من الورق وكتبت عليها ما يلي:
  • (١)

    لقد ولى يا مريم يوم الخمر والسكاير واللهو.

  • (٢)

    اسعي منذ الآن سعيًا متواصلًا.

  • (٣)

    أعرضي عن الرجال واحترسي منهم.

  • (٤)

    مارسي الرقص ثلاث ساعات كل يوم في الأقل.

  • (٥)

    لا تسهري خارج بيتك إلا إذا كان في أحد اﻟ «تياترات» للمشاهدة والدرس.

  • (٦)

    لا تضيعي من وقتك ساعة في ما لا يعينك على نيل رغبتك.

  • (٧)

    لا تصرفي من مالك فرنكًا واحدًا إلا في ما يعينك على نيل رغبتك.

  • (٨)

    طالعي من الكتب ما استطعت وبالأخص ما هو منها في موضوع الرقص.

  • (٩)

    وأخيرًا، لا تقفلي الشباك إلا إذا خفقت في باريس سعيًا، وقطعت منها الرجاء.

من الجواذب الاجتماعية في المغرب اليوم، التي تجذب النساء فتبعدهنَّ من نعيم البيت وظل الأبوين، أو من قداسة المهد والأمومة، وتقذف بهنَّ إلى معترك الحياة كالرجال، جاذبان قويان لا مرد لهما ما زالت صحف الأخبار وما زالت المسارح في تلك الديار، فالتمثيل والتأليف — المسرح والقلم — يغريان فتيات شغفهنَّ بالظهور أكثر منه بالعلم والفنون، ولا غرو فقد أمسكت هذه الكأس عن المرأة أحقابًا من الزمان؛ أي الكأس التي تكمن العقرب في ثمالتها: كأس الشهرة والمجد الباطل، فالمرأة اليوم تشارك الرجل بها ولا تبالي بما تقاسي منها، والرجل هناك وإن بالغ في احترامه المرأةَ وإجلالها يشرب غالبًا الكأس ويقدم لها الثمالة وما كمن فيها، لذلك كان حظ النساء من المسرح والقلم قليلًا والقليل من السم كثير.

على أن منهنَّ من تبتغي غير الشهرة والمجد الباطل، ومنهنَّ من لا تبتغي غيرهما، ومنهنَّ وهنَّ الكثيرات يمسين من أدوات اﻟ «تياتر» مثل سائر العمال يحركهنَّ رجل لا ينبض فيه عرق من عروق الشرف والعطف والحنان، ويا لها من أجزاء صماء في آلة صماء دولابها في يد المدير وزيتها في مال المتفرجين من الناس، قلنا: إن منهنَّ من لا تبتغي الشهرة، وماذا إذن؟ إنها تبتغي التصعيد إلى سلم الاجتماع علَّها تفوز في الطبقات العالية فوقها بمن يكفل لها نعيمًا عماده الأمومة والمهد، وهذا حلم جميل إذا صح، هي رغبة شريفة إذا حققتها الليالي.

وشواذ القاعدة نذكره إنصافًا، هو أن من النساء من وهبن مثل الرجال مواهب سامية في الفنون الجميلة فيؤثرن الفن على الزواج، ولا يؤثرونه على الحب، يعشن، لا عاش أعداؤهن، كغزلان الفلاة يصدن ويُصتدن إلى أن يجيئهن «هادم اللذات ومفرِّق الجماعات».

أما مريم الناصرية فشغفها بالرقص شغف ذاتي ينحصر مثل توحيد الصوفي بالذات الباطنية، شغف مجرد لا تتصل أسبابه — أي في حالته الباطنية — بواحد من أسباب هذه العاجلة، وإن فتاة ذهنها خالٍ من خزعبلات الاجتماع لا تستهويها الشهرة ولا المجد يغريها، فهي لم تنشأ في وسط غربيٍّ تتراجع فيه صباح مساء وليل نهار أصداء البطولة الكاذبة والشهرة العازبة، أحبت الرقص كما يحب الناسك كوخه، والسالك ربه، والسكير كأسه، والشاعر عروس شعره، وصارت تود الظهور على المسرح لتقرب مما ظنته منتهى الكمالات، فعوَّلت على نجيب مراد فخانها، فنبذته من قلبها غير آسفة وتوكلت على الله، توكلت على الله بعد أن حفرت في لوح قلبها تلك الوصايا وعاهدت نفسها أن تقيم عليها وتحتفظ بها جهدها.

وفي اليوم الثاني بعد أن نقلت إلى تلك الغرفة العالية الصغيرة خرجت في ثوب بسيط أنيق من الجوخ الكحلي، فعرَّجت على بياع الزهور وابتاعت أضمامة من الياسمين فزينت بها صدرها وهي تقول: هذه لازمة في بلاد زينتها أهم ما فيها، والشبابيك في بيوتها تُعد من الزينات.

وراحت تقصد أول «تياتر» زارتها في باريس وشرلت الخادمة، فطلبت أن تقابل المدير فقال لها أحد الحجاب: المدير لا يقابل أحدًا اليوم.

– وهل يقابلني غدًا؟

– وما غرضك مدموازل؟

وفي عالم التمثيل حتى العجوز تُدعى آنسة.

– الرقص.

– طالبة؟

– نعم.

– تعالي غدًا بعد الظهر.

فعادت في الوقت المعين ولبثت تنتظر برهة فخرج المدير من مكتبه وقابلها واقفًا وصرفها موجزًا متلطفًا: لا فراغ عندنا اليوم مدموازل.

فراحت مريم تطلب مقابلة مدير آخر فصدَّها الحاجب: المدير مدموازل لا يقابل الطالبات. فصوَّبت خطواتها إلى «تياتر» أخرى فلم تفز برغبتها، وظلت مريم تبحث أسبوعين فأعياها البحث، ولكنه لم يثبط من عزمها وما أورثها القنوط.

أعادت الكَرَّةَ وقد اتخذت لنفسها خطةً جديدة، وقفت ذات يوم في باب إحدى التياترات الكبيرة ونور الأمل يبرق في جبينها وإضمامة الياسمين تؤنس قلبها.

– قل للمدير: إن راقصة من الشرق تروم مقابلته.

– وما الاسم مدموازل؟

– راقصة من الشرق ماذا يهمك اسمي؟

– قد يهم المدير مدموازل.

– الرقص لا الاسم يهم المدير، قل له: إن راقصة مصرية …

فأعجب الحاجب بلهجة الفتاة الغريبة وبحسنها وعاد بعد هنيهة يقول: إن المدير يقابلك غدًا بعد الظهر.

فراحت مريم تعلل نفسها بالآمال وعادت في اليوم الثاني فقابلها المدير بمكتبه، وبعد أن حدَّثها في ما تحسنه وفي ما تبتغيه قال: الراقصات اللواتي نستخدمهن مدموازل يتعلمن الرقص صغيراتٍ، يدخلن مدرسة اﻟ «أُبرا» وهنَّ في الرابعة أو الخامسة من سنهنَّ، فيتدرجن تدريجًا إلى كمالات الفن وإلى الشهرة، إني لآسف مدموازل، آسف جدًّا، نهارك سعيد.

خرجت مريم من المكتب وهي تقول: ما أقسى قلوب هؤلاء الناس! لم يسألني واحد منهم أن أرقص ليعرف ما إذا كنت أحسن الرقص. ووقفت ذات يوم في رواق اﻟ «تياتر فرنسه» حزينةً يائسةً تشخص بعينيها إلى تمثال الشاعر دي ميسه فخطر لها أن تطرق باب المدير، وقد كانت أحاطت علمًا بأهمية اﻟ «كوميدي» وبعلو مركزها في عالم التمثيل، ففتحت أحد الأبواب تقدم رِجلًا وتؤخر أخرى وإذا برَجل ذو إهابة وإجلال يتخلل الشيب لحيته ويبرق في عينيه نور الكرم والمعروف خارج من أحد المكاتب، فاستوقفته مريم تعتذر إليه، فرفع قبعته وسألها حاجتها، فأجابته أنها تحب أن تقابل المدير.

– وما غرضك مدموازل؟

– الرقص، أحب أن أكون من الراقصات.

فعلم الشيخ أن الفتاة غريبة وعطف عليها لسذاجتها.

– وهل تحسنين الرقص؟

– نعم.

– وأين تعلمتِ؟

فاضطرب على مريم.

– من أي بلاد أنتِ مدموازل؟

– من فلسطين.

فرفع الشيخ حاجبيه مدهوشًا: وهل رقصتِ مرَّةً على مسرح ما؟

– لا يا سيدي؟

فاستغرب أمرها ورثى لحالها وأشار بيده إلى باب أن ادخلي، فدخلت مريم إلى مكتب فخم حافل بالصور والتماثيل والكتب والجرائد والمجلات.

– اجلسي مدموازل، واعلمي أن الطريقة التي تسلكينها لنيل رغبتك لا تجديك في هذه المدينة نفعًا، فإن بين مدراء اﻟ «تياترات» والممثلين طلاب المراكز وهدة عظيمة قد احتلها فريق من الناس يدعون وكلاء وسماسرة، ولا يمكنك أن تفوزي بشيء من أحد المدراء إلا بواسطة أحد الوكلاء، سأعطيك كلمة إلى سيدة من هؤلاء قد تنفعك وقد لا تنفعك.

وكتب الشيخ سطرين على رقعة دون أن يسأل الفتاة اسمها، وسلمها الكتاب قائلًا: بُن شنس مدموازل، ثم شيعها إلى الخارج ودلها كيف تصل إلى مكتب تلك السيدة ورفع قبعته مودعًا، ومكررًا: بُن شنس مدموازل، وراح يقول في نفسه: ما أبعد أسبابك يا باريس وما أكثر أشراكك! حتى من فلسطين تجتذبينهن فريسات جمالك ومجدك وأضاليلك!

وصلت مريم إلى ذاك المكتب فإذا هو غاص بالممثلات والراقصات الطالبات عملًا، وهناك يُعنَى بأمرهن شاب يسجل اسم كل واحدة وعنوانها في سجل ثم يسألها: في أي مسرح لعبت أو رقصت أخيرًا؟ وأي نوع من الرقص رقصها؟ وماذا تطلب أجرة … إلخ، وإذا كانت الطالبة جديدة يصف الكاتب ملامح وجهها وشكلها وقدَّها حتى ووزنها كأنه يكتب لها تذكرة مرور، فتدفع إذ ذاك الامرأة رسم الوكالة وتعود إلى بيتها تنتظر جوابًا فيه باب مفتوح للارتزاق، وقد تنتظر شهرًا بل شهرين فيجيئها جواب لا باب فيه لأمل في صدرها سجين.

أعطت مريم الشاب الكتاب فلما قرأ على الغلاف اسم اﻟ «كوميدي فرنسه» أدخلها داخل الحاجز وقدَّم كرسيًّا فجلست، ثم دخل بالكتاب إلى غرفة أخرى وعاد يقول لها: ادخلي.

فدخلت مريم فرحة مستبشرة والطالبات المنتظرات يزلقنها بأنظارهن ويغبطنها على تيسير أمرها، وإذا هي في حضرة سيدة بيضاء الشعر زرقاء العين شاحبة الوجه غليظة اليد تتكلم دون أن تحرك شفتيها.

– أنت من فلسطين؟

– نعم مدام.

– وكيف وصلتِ إلى مدير اﻟ «كوميدي»؟

فأبرقت أسارير مريم سرورًا لعلمها أن من أعطاها كتاب التعريف هو المدير بعينه.

– رأيته خارجًا من مكتبه فكلمته.

فقطبت السيدة ما بين عينيها وزمت شفتيها.

– وما اسمك؟

– مريم، ثم ترددت ثم قالت: مريم.

فكتبت السيدة على طلحية أمامها مريم مريم ظنًّا منها أن اسم الفتاة الثاني مثل اسمها الأول.

– وأي متى جئت باريس؟

– منذ أربعة أشهر.

– ولم تظهري بعد على أحد مسارحها، ولم تتعلمي الرقص في إحدى مدارسها، فاعلمي إذن يا مدموازل أن عليك أن تبتدئ مثل سائر المبتدئات، وهن يعددن بالمئات وسأسعى في سبيلك جهدي؛ لأن مدير اﻟ «كوميدي» أوصاني بك.

ثم أفهمت مريم شروط الوكالة وكبست زرًّا، فجاء الكاتب فأعطته الورقة التي كتبت عليها اسم مريم وعنوانها.

– سجل هذا الاسم في السجل. ادفعي الرسم للكاتب مدموازل.

عادت مريم إلى غرفتها ذاك اليوم والسرور يجول في وجهها، ولبثت تنتظر البشرى من تلك السيدة، ولَّى الأسبوع يتلوه الأسبوع وكمل الشهر؛ شهر الانتظار ومريم تتجرع مرَّ الصبر وتتمرن أثناء ذلك على الرقص، ولكن كل آتٍ قريب، ففي صباح ذات يوم استلمت كتابًا من تلك الوكالة فعمدت لساعتها إلى قبعتها تلبسها وعرجت على بياع الزهور فزينت صدرها بإضمامة من الياسمين وراحت تلبي دعوة السيدة صاحبة الشعر الأبيض والوجه الشاحب القطوب، فأعطتها بطاقة إلى صاحب قهوة في «مُنمرتر»! وقالت: هذا جُلُّ ما تفوز به مثلك الآن، كوني في القهوة الساعة التاسعة صباحًا.

ولم تتخلف مريم، بل وصلت قبل الوقت المضروب، فلقيت هناك سربًا من البنات الباليات الأثواب، الشاحبات الوجوه، الغائرات العيون، كأن الواحدة منهن عصفور بلله القطر يلبثن منتظرات، ثم جاء رجل غليظ الجثة، سمين الوجه، كث اللحية، ضيق الجبين، جاحظ العين، فأمرهنَّ بالوقوف أمامه، فوقفن صفًّا وبينهن المسحاء والعجزاء والغرَّاء والدعجاء، والدعشوقة الرسحاء، فنشأ يقلب فيهن نظره ويفحصهن فردًا فردًا فتدور الواحدة كالتمثال على محورها فيجسُّها كما يجسُّ الغنَّام غنمًا يروم ابتياعها، إلى أن انتقى منهنَّ ستًّا من لون واحد، وقدٍّ واحد، ووزن واحد! وصرف الأخريات ومريم الناصرية منهنَّ، على أنه كلمها وهو يزلقها ببصره قائلًا: أنت حاملة هذه البطاقة من السيدة؟ فأحنت مريم رأسها، فشرق الرجل بريقه وهزَّ رأسه وكتفيه وراح يقول في نفسه: جمالها يخسف جمالهن، ولونها يجعلها وحدها محجة الأنظار، لا، لا، لا توافق.

عادت مريم إلى مكتب الوكالة كسيرة القلب، أسيرة الهم والغم، فوعدتها السيدة خيرًا، وبعد أسبوعين أعطتها بطاقة أخرى إلى مدير إحدى اﻟ «تياترات» الصغيرة، فراحت وهي تكاد تقطع الأمل تقف مع العشرات مثلها في الصف حسب العادة، فجاء المدير يفحص وينتقي، ووقف عند إحدى الطالبات يجس صدرها وأوراكها، ثم قال: ادخلي تلك الغرفة واخلعي ثيابك. فامتثلت الفتاة أمره ثم جاءت تمثل أمامه عاريةً، فدارت دورتين وهو يدقق النظر في تقاطيع جسمها، ثم قال: حسن، حسن، الْبَسي ثيابك، ثم أوعز إلى واحدة أخرى أن تعمل ذات العمل، فدخلت الغرفة عجزاء وخرجت منها عارية مسحاء، فضحك المدير وقال: لا حاجة لنا اليوم بالصبيان.

ثم وقف أمام مريم يقيسها بناظريه ويزنها.

– أنت من فلسطين الله! الله!

دوري يا «فلسطين»، دوري قليلًا، فدارت مريم وهي منكسة الرأس.

– عليك خلع ثيابك.

فلبثت مترددة ثم رفعت رأسها تهزه إباءً وامتناعًا، فضحكت البنات، فتركها المدير يفحص غيرها حتى أنجز الفحص والانتقاء، فأفرد ستًّا من الطالبات غير المناسبات ولم تكن مريم الناصرية منهنَّ، ثم كتب أسماء المختارات وخاطبهن قائلًا: الأجرة ثلاثون فرنكًا في الأسبوع، والتمرين الساعة العاشرة صباحًا وسنبتدئ غدًا، كنَّ هنا في الوقت المعين.

لم تسر مريم كثيرًا بهذا الفوز وما ملكتها منه الأحلام الجميلة، فجاءت في اليوم الثاني منقبضة النفس تباشر عملها، فتحققت بعد التمرين ما كانت تخشاه.

جاء المدير يقول: إلى العمل يا بنات، وطفق يجول في المسرح ويلوح بيديه؛ آمرًا ناهيًا، ناصحًا معلمًا، ناقمًا صاخبًا.

– أنت يا جولي خطوتك صغيرة، وأنت برشاقة، برشاقة، إلى الأمام، يديكن كالأجنحة ترفرف، رأسكن إلى الشمال، نظركن إلى اليمين، امشي مشيًا يا «فلسطين» ولا ترقصي سابرستي! امشي مشيًا، مثل رفيقاتك، لاحظي من إلى يمينك ووافقي بحركات يدك حركات يدها، رأسك إلى الشمال، نظرك إلى اليمين، لا تحركي صدرك، برافوا «فلسطين» برافو، خطوة، خطوتان، ثلاثة، إلى اليمين جولي، إلى الشمال لويز، قفي، قفن كلكنَّ، سابرستي! ليكن الصف مستقيمًا، حسن، حسن، راجعن ذلك.

فعادت البنات ست منهن إلى جهة الشمال خارج المسرح وست إلى جهة اليمين، ثم دخلن صفين على خط مستقيم فالتقت جولي بلويز ثم تقدمن صفين ثم افترقن، والمدير يعيد الأمثولة: خطوة خفيفة رشيقة، لا قصيرة ولا طويلة، حرِّكي يديك يا «فلسطين»، ثبتي صدرك، رأسك إلى الشمال، نظرك إلى اليمين، صفًّا صفًّا، إلى الأمام قليلًا، أنتِ، أنتِ، إلى الوراء.

وهذا هو الدور كله، تقف هؤلاء البنات في وسط المسرح وراء المغنية الشهيرة بينا تغني دورها وهنَّ يطيبن برءوسهن وبأيديهنَّ، ثم يجتمعن حولها ويدرن راقصاتٍ بل لاعبات كالبنات في الحقول في فصل الربيع، ثم يدخل اثنا عشر شابًّا فيرقصون حولهنَّ، وكل شاب يذارع فتاة ويرجع بها إلى مؤخر المسرح بينا المغني والمغنية يغنيان معًا دورهما المشهور.

ساعة من هذا التمرين، فعادت مريم إلى بيتها تقول: ثلاث خطوات على المسرح، وثلاث دورات حول المغنية، وساعة وقوف كالتمثال! أهذا ما سعيت من أجله؟ ورمت بنفسها على السرير أسيرة الهم بل طريدة الفشل، ولكنها لم تيأس، فعوَّلت أن تجرب بادئة علَّها تتدرج سريعًا.

وفي اليوم الرابع أوعز المدير إليهن أن يلبسن ثياب الرقص للتمرين الأخير، فدخلت البنات كل خمس منهن إلى غرفة صغيرة جدرانها مبطنة بصور الراقصات والممثلين مقصوصة من الجرائد والمجلات، وفيها بضع مرايا مكسرة، أمام كل واحدة منها رفرف عليه أصناف شتى من المساحيق والمعاجين والأدهان.

– لماذا لا تخلعين ثيابك يا «فلسطين»؟

– «فلسطين» حبيبتي، أتقربك «صالومي» ألا تعرفينها؟ تلك التي قطعت رأس يوحنا المعمدان، ورأسك! أنت أجمل منها.

– وما أبدع شعرها، وما أطوله، وما أجمل لونه ترالَّا لَّا! وحاولت الراقصة أن تحله فنفرت مريم منها.

– اخلعي ثيابك لنتفرج على معاطفك وارتدي هذه السرابيل الحريرية، ولا تستحي.

– لله من عينك، يا «فلسطين»، فيهن سحر المجدلية، دعيني أقبلهما. فتفلتت مريم منها حردة ناقمة، فتقدمت إليها راقصة أخرى تقول: اكشفي عن ساقك يا «فلسطين»؛ لنتفرج عليه، وجنبك، ترالَّا لَّا!

– إليك عنها لا تمسيها، هي مطهرة، هي من الهيكل هيكل عشتروت.

– الله! ورائحة شعرها كروائح الند والمسك والبخور.

– حلي شعرك، حليه.

– مريم المجدلية، ترالَّا لَّا! تعالي معي الليلة أجمعك بشاعر شعره مسترسل، ولحيته شقراء، وعيناه زرقاوان، شاعر يشبه المسيح، تعالي معي أيتها المجدلية أجمعك بسيدك.

وكانت مريم أثناء ذلك تخلع ثيابها والحنق من ذا التعذيب والتنكيد يملك نفسها، فتورمت أوداجها واحتدم الغيظ في ناظريها.

– لله ما أدق مفصلها الكعبي! أين خلخالك يا «فلسطين»؟

– ولكن ساقها لا يناسبه، ساقها غليظ.

ومرت الفتاة يدها عليه فرفستها مريم وهي تلعن بالعربية أباها، فوقعت مستلقية على ظهرها فضجت الغرفة بالضحك والصياح، فقالت إحداهنَّ: يحق «لصالومي» أن تقطع رأسك.

وقالت الأخرى: يحق «لفلسطين» أن تصلبك.

وقالت الثالثة: يحق للمجدلية أن تشرب دمك.

– سأصلب عظامها! سأقور عينيها! نجاسة فلسطين! ساكرنن دي بالاستين! سأدق عنقها، سأفقأ عينيها! وهجمت تلك الفتاة تستل دبوس قبعتها، فوقفت جولي تصدها وتحمي مريم.

– دعيني أقور عينيها، فقد أبت اللعينة أن أقبلها.

– ردي دبوسك إلى قبعتك، ليس الوقت وقت بِراز.

– يا للعار! يا للعار! إن هي إلا غريبة وإنكنَّ غليظات قاسيات، لا تحردي يا مريم ولا تغضبي، دعيها تقبل عينيك فهي تحبك، وتعجب بجمالك، تعالي، قبليها، سا سا! لتحيا «فلسطين»! فهتفت البنات بصوت واحد: لتحيا «فلسطين»!

ثم خاطبتها جولي مناعمة ملاطفة فقالت: دعيني أساعدك، أين سرابيلك الحريرية؟ مِرسي.

وأرتها سرابيل محكمة يلبسها اللاعبون على الحبال، والراقصات.

– أليس لديك واحد مثل هذا، أعيرك اليوم مما عندي، وبعد التمرين أذهب وإياك إلى حانوت تشترين سرابيل؛ لأنها للراقصة يا صديقتي ألزم من المجلة للفقيه، والعربة للطبيب، والخادمة للكاهن، السرابيل ألزم للراقصة من خبزها، بل هي خبزها، هي سرها، وهي سلاحها، وإذا ارتدت قميصها بدونها تهلك في السجن جوعًا، السرابيل شغاف الفن، شغاف الحب، شغاف العفاف، فإذا اختال الفن عاريًا دونها تحترق اﻟ «تياتر» وتحترق باريس وينتهي العالم.

– أحسنتِ يا جولي أحسنتِ، لست والله في مركزك هنا ينبغي أن تكوني في مجلس النواب.

– أحسنتِ، عهدناها لبيبة، فإذا هي خطيبة.

– بل عهدناها زمَّارة، فإذا هي ثرثارة.

– البسي يا مريم وما لنا وهذرهنَّ.

فلبست مريم ذاك اللباس المحكم، وانتعلت نعلًا رومانيًّا، وارتدت قميصًا من الحرير مهلهلًا، ثم وضعت جولي على رأسها إكليلًا من الزهر المصطنع، فنزعته مريم وضربت به عرض الحائط.

– ما بالك؟ أتأبين الإكليل؟

– إكليل الهذر والهذيان، إكليل الكذب إكليل السخافة! حرقت الأزاهر الاصطناعية في بلادي أفتلحقني إلى باريس؟

– ولكن لا بد منه يا عزيزتي، إذا لبسنا الثياب اليونانية ولم نلبس الإكليل تديننا اﻟ «أكاديمي» وتجازينا على فعلتنا اﻟ «كوميدي» ويشنقنا مدير اﻟ «أُبرا»، وإذا نجونا من الشنق، يضحك منا البوليس، وهذا شر العقوبة، الْبَسي الإكليل، الْبَسيه فها الجرس يقرع، والمدير ينتظر.

بدت مريم في سرابيلها اليونانية، كأنها ابنة آثينا أو عروس من روايات الشاعر بيرون، فسُرَّ المدير بها وبإتقانها دورها، ولكن الفتاة الناصرية لم تسر لا بالمدير ولا بالدور ولا بالراقصات رفيقاتها، لم ترضَ أن تكون هذه بداءة أمرها في الرقص، لم ترضَ أن تكون من التماثيل المعروضة على الناس صفًّا، لم ترضَ أن تكون صفرًا إلى الشمال أو كمالة عدد الإقبال، ولم ترضَ فوق ذلك أن تأخذ رفيقاتها من قلبها ونفسها هدفًا لسخرهن وهذرهن، على أنها حبًّا بالفن قبلت العذاب، وقدَّمت نفسها ضحية على مذبحه شهرًا كاملًا، فاضطر المدير بعدئذٍ أن يغير الرواية؛ لأنها لم تصادف إقبالًا فصرف بعض البنات وكانت مريم منهنَّ، أنقدها أجرتها بعد أن حسم منها عشرة بالمائة للوكالة؛ أي لتلك السيدة صاحبة الوجه الشاحب القطوب التي عادت مريم إليها تسألها السعي مرة أخرى في سبيلها، فدوَّن الكاتب اسمها في سجله ثانيةً، ثم أنقدته الرسم وراحت تنتظر.

ولى الأسبوع يتلوه الأسبوع ثم الشهر ثم أخوه، ومريم تنتظر صابرة واجلة وهي تنظر إلى كيسها من حين إلى حين كما ينظر المحكوم عليه بالإعدام إلى الساعة في يومه الأخير، دنى الأجل، نفد المال، فجاءت مريم تلح على السيدة فقالت هذه في نفسها متبرمة متأففة: ألا تكفينا بنات فرنسا بل بنات أوربا، يظنن أن مسارح باريس جنة عدن فيتهافتن عليها كالذباب على الحلوى، ثم قالت تخاطب مريم: إن الطالبات عملًا في اﻟ «تياترات» ألوف مثلك والمبتدئة تضحك في عبها إذا فازت بشبر على المسرح تقف فيه عارضة وجهها وساقيها؛ لأن ذلك خير لها من أن تعرض نفسها وجسمها في الشوارع.

وتيقني مدموازل أنني باذلة جهدي في سبيلك، ولكني لا أعدك خيرًا في المستقبل القريب، معظم اﻟ «تياترات» اليوم مقفولة والأشغال واقفة وسأبذل مع ذلك جهدي، لمَ لم تطلبي عملًا في أحد بيوت «المودة» عند إحدى الخياطات، قدُّك دقيق جميل وأية خياطة من الخياطات الشهيرات تستخدمك تمثالًا «مُدل» عندها.

فلما سمعت مريم ذا الكلام وبالأخص الإشارة إلى التمثال نهضت على الفور، فودعت تلك السيدة التي تتكلم دون أن تحرك شفتيها، وعادت إلى غرفتها وقد ساورها من الهم ما لا يحيا إلى جانبه أمل ولا تثبت أمامه عزيمة، أقفلت الباب؛ باب تلك الغرفة الحقيرة فإذا هي فيها وحيدة مخذولة يائسة، نظرت من الشباك إلى مداخن باريس أمامها فأحسَّت أنها واحدة منها، مدخنة بين ألوف المداخن، ليس في صدرها غير نار تتأجج فيتصاعد منها دخان الفشل والغم، ثم جلست على سريرها تسند رأسها بيدها وجعلت تفكر في مصيرها، ثم نهضت على الفور فأخذت سلسلة الذهب التي أهداها إياها نجيب مراد، فنزعت منها الأيقونة الحندقوقية المرصعة بالماس، ووضعت مكانها الذخيرة التي أهداها إياها القس جبرائيل وطفقت تقبلها وتبكي.

– آه ما أكرمك خلقًا يا قس جبرائيل! وما أعزك نفسًا! وما أشرفك قلبًا!

وفي اليوم الثاني ذهبت بالأيقونة إلى أحد الصاغة فباعتها بثلاثين ذهبًا، ثم صوَّبت خطواتها إلى شركة البواخر الإفرنسية وهي تقول: كسرتني اليوم يا باريس فلا بد من أن أكسرك غدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤