الفصل الثالث عشر

كان إبراهيم يخدش الأرض بمعوله حيث لا يصل إلى تربتها المحراث، وهو يخدش أذان الفجر والأطيار بأدوار من المواليا.

وكان الراهب الفلاح قد باشر الفلاحة، وثوبه الأسود، وقد شمَّره من الأمام يبدو كذنب الغراب من الوراء، وتبدو تحته سراويل زرقاء وجوارب بيضاء يقيها من الأرض حذاء ثقيل النعل مرأس الأطراف، وقلنسوته مسترخية بين كتفيه وليس على رأسه غير عرقية سوداء صغيرة.

– جز الحشيش يا إبراهيم، جز الحشيش، وأرح صوتك، صباح مبارك يا ابني، أعط المواليا فرصة ساعة، نفَّرت الأطيار، نكَّدت البقر، تعال إلى هنا، اترك الزوايا تنقبها بعدئذٍ، تعال جز الحشيش.

– بكرت اليوم يا معلمي.

– لتنفر الأطيار وتكدر صفا الأسحار، أوقف لسانك، وحرك يديك، ها قد تعالت الشمس ذراعين فوق الجبل ولم نحرث بعد ثلمين.

– لا خوف علينا يا معلمي، الجو صافٍ والنهار طويل، ولم يبق قدامنا للحراثة غير القليل.

وجاء إبراهيم يمشي الهوينا مشية البقر، ويهول بمنجله ويصيح: يا ظريف الطول يا سن الضحوك!

– إذا كنت لا تشفق على صوتك يا إبراهيم فأشفق على البقر، فإن للبقر آذانًا، تعال جز الحشيش واسكت، بحياة أبيك برحمة أجدادك أن تسكت، اسكت واشتغل.

وكبس الراهب على السكة برجله والمساس في يده كالرمح في يد فارس من فوارس الجاهلية وخطوته وقد هرولت البقر مذعورة تكاد تكون طول المساس.

– آهو! آهو! الله معك «كحلا» الله معك، يمينك «كحلا» يمينك، آهو! عنها «أبلق» عنها — هذا الفدان لا ينفع يا إبراهيم، فقد خُدع أبوك هذه المرة، «الأبلق» لا يستأهل علفه.

– «الأبلق» يا معلمي زينة البقر، أحسن فدان في البلاد، صيته ملأ المرج وبيسان، ولما اشتريناه واستلمت أنا رسنه جعلت ابنة صاحبه تبكي وتقول: خلوا لي «الأبلق» أو خذوني معه، والله يا معلمي جرحت قلبي وسلبت عقلي.

– لا تقدر أن تسلبك ما لا تملك يا إبراهيم.

– والله يا معلمي وجهها مثل القمر وشعرها مثل الليل وجبينها مثل نجمة الصبح. وشرق إبراهيم بريقه وهز رأسه وشخص إلى السماء بعينيه، ثم قال وهو يقطع بمنجله قضيبًا من البردي: حظي مثل شعرها يا معلمي، لو رضي أبي لسلمته رَسَن «الأبلق» وسلمتها رَسَني.

– كنا بالأبلق صرنا بنجمة الصبح، لا حول ولا! لسانك يا إبراهيم يلزمه رَسَنٌ، جز الحشيش يا ابني، ينبغي أن نطعم البقر. آهو! عنها! عنها «أبلق»، لعين هذا «الأبلق» لا أظنني أستطيع أن أفلح يومين عليه، هات الكمامة يا إبراهيم، كمه، كمه، أتخافه؟ يا لضيعة الطول، يا لضيعة العرض، خذه بقرنه ولا تخف، أمسكه بقرنه، يا لك من جبان، إليك عنه، رُح غني للقمر وسلم رَسَنك لنجمة الصبح، طَرَّ شاربُك ولا تحسن أن تكم الفدان.

– وأخذ الراهب الكمامة منه ومر كفه على رقبة الفدان يملسها ويطايبه ثم كمه كما لو كان نعجة حولية، ومسح الزبد الذي تساقط على يده من شدقيه وعمد إلى المحراث والمساس يستأنف الحراثة.

وبعد برهة عاد إبراهيم وبيده المنجل وباقة من الحشيش يقول: نسيت أخبرك يا معلمي أننا في رجوعنا من بيسان حيث اشترينا «الأبلق» مررنا بالحمامات فلمحت هنالك الفتاة التي بعثتها مرة إلى بيتنا برسالة إلى أبي كانت جالسة في القهوة تشارب رجلًا وتمازحه، فلما رأتني همست في أذنه كلمة ثم سألتني عنك.

فأوقف الراهب المحراث لساعته.

– وماذا قلت لها؟

– قلت لها: إن معلمي في البيت بالغوير.

فاكفهرَّ وجه الراهب.

– خزاك الله! ومن كلفك بذلك؟ ألم أقل لك ولأبيك ولأمك: إنني أروم العزلةَ هنا، ألم أفرض السكوت عليكم إذا سُئلتم عني؟

– وهل أكذب عليها؟ والرجل الذي كان يشاربها لحقني إلى الخارج وهمس في أذني قائلًا: قل لمعلمك إذا جاء إلى قهوة الحمام أية ليلة كانت هذا الأسبوع يشاهد صديقًا فيها ويسمع ما يسره.

– وغير ذلك يا إبراهيم.

– لا شيء يا معلمي.

– رُح إلى شغلك، رُح إلى شغلك، وألجم لسانك.

واستأنف الراهب الحراثة وقد علا وجهه غيمة اضطراب يتخللها بريق الهواجس المحرقة.

وساعة الظهر جاء أبو إبراهيم يحمل إلى سيده الغداء، فحلَّ عن الأبلق والكحلاء النير وربطهما أمام عرمة من الحشيش الأخضر.

ثم فرش عباءة في ظل شجرة عند ضفة الغدير جعلها خوانًا وصفَّ عليها الخبز والجبن والزيتون والبصل وبضع سمكات مشوية، فجلس الراهب بعد أن صلى صلاة الظهر وجلس حوله أبو إبراهيم وابنه يتناولون الغذاء، وكان سكوت إبراهيم أثناء الأكل مدهشًا ومستحبًّا، فجعل يقلب نظره في ما على العباءة، فيتناول اللقمة تلو اللقمة والرغيف تلو الرغيف وهو يقرض ويزدرد ويرتشف ولا يميل ببصره يمينًا أو شمالًا.

– بارك الله فيك يا إبراهيم، بارك الله فيك! أوَلم تعطش يا ابني؟ فهزَّ إبراهيم رأسَه واللقمة تملأ فمه، فقال أبوه: قم املأ الإبريق، لو كان يحسن الشغل كما يحسن الأكل.

– والثرثرة يا أبا إبراهيم، أصلحه الله.

عاد إبراهيم بالإبريق وقد ملأه من الغدير، فأوعز إليه أبوه أن يباشر نقب الزوايا، وقال: ووالله إذا لقيتك نائمًا أذبحك بهذا المنجل، ثم قام الأب فساق «الكحلاء» و«الأبلق» إلى الغدير ثم عاد بهما فكدنهما واستأنف الحراثة. فقال الراهب: سترى بعد الامتحان يا أبا إبراهيم أنك خُدعت بالأبلق، واستلقى في ظل الشجرة ينام القيلولة. ولما استفاق عمد إلى معول يساعد إبراهيم في نقب الزوايا، ثم جاء إلى ضفة الغدير يصلي صلاة العصر، وفتح كتابه الذي يحمله أبدًا في جيبه؛ كتاب الاقتداء بالمسيح يطالع فيه، وما هي إلا برهة حتى جاءت أم إبراهيم تقول: امرأة يا معلمي تطلبك في البيت.

– ومن هي؟ وماذا قلتِ لها؟

– قلت لها: إنك متغيب، فكذبتني بدون حياء قائلة: معلمي القس جبرائيل هنا، أحلف بالله إنه هنا، وأحب أن أقابله.

فقلت لها: إنه في رياضة لا يقابل أحدًا من الناس، فقالت مصرَّة: وقولي له لطيفة العشية التي كانت تطبخ في بيت أخيه بالناصرة تحب مقابلته.

فقال القس جبرائيل يخاطب نفسه: لطيفة، لطيفة، وما غرضها؟ ومن أخبرها يا ترى أنني مقيم هنا؟ لا بأس يا أم إبراهيم، قولي لها، أو بالحري دليها إلى هذا المكان.

وما هي إلا برهة حتى عادت أم إبراهيم تستصحب لطيفة، ولما رأت هذه القسَّ جبرائيل هرولت إليه تقبِّل أذياله ويديه وتبكي.

– حسبك يا لطيفة، اجلسي على هذه الصخرة، وامسحي دموعك، ما خبرك يا بنتي؟

– قصتي طويلة يا معلمي ومحزنة.

– أوجزي ولا تبكي.

– بعد خروج مريم من السجن طردتني معلمتي الست هند؛ لأنني لم أشهد في المحكمة كما أرادت، لم أقل: إن مريم قاتلة المرحوم أيوب، فضربتني وطردتني ولم تدفع من أجرتي إلا قسمًا يسيرًا، فأصبحت طريدة شريدة. وظللت في الناصرة شهرين أفتش عن عمل، فلم أفز بشيء، ثم سافرت إلى حيفا فتجشمت هنالك بضعة أشهر أخدم في أحد الخانات ثم عدت إلى الناصرة خائبة الأمل، فسمعت فيها من أناس أنك مقيم في بيتك بالغوير، فجئتك مستجيرة مسترحمة علَّك تدخلني في أحد البيوت بطبريا خادمة أو طابخة، هذه قصتي بالإيجاز.

– طيبي نفسًا، وقرِّي عينًا، وأي متى تركتِ الناصرة؟

– ظهر البارح.

– وكيف حال أخي يوسف؟

– لم أره يا معلمي ولكني سمعت أن عارفًا اليوم في حيفا يتعاطى التجارة.

– هل سمعتِ الخبر هذا وأنت في حيفا؟

– نعم.

– وهلَّا رأيتِ عارفًا؟

– لا يا معلمي، وأين مريم اليوم؟

– لا تسألي عما لا يعنيك.

فأشارت لطيفة بنظرها وقد حرَّكت به بين القسيس وأم إبراهيم أنها تروم مساررته، ففهم القس جبرائيل وقال مخاطبًا أجيرته: شمي الهواء بضع دقائق يا أم إبراهيم، ما الخبر يا لطيفة؟ عساه أن يكون خيرًا.

– عرفتُ يا معلمي بما حل بمريم بعد خروجها من السجن؛ بولادتها، بسرقة طفلها، بسفرها مع السيدة الإفرنسية إلى فرنسا، وليس ذلك بعجيب؛ لأن خبرها انتشر في الناصرة وفي حيفا، ولكن الغريب العجيب ما اطلعت عليه ليلة البارح، فإذا كنت مصيبة في ظني فمجيئي إليك إلهام من الله.

– وماذا رأيتِ؟

– وقفت مساء البارح وأنا قادمة من الناصرة أمام بيت خارج طبريا وقد أنهكني المشي، فقلت في نفسي: أن أسأل المبيتَ هنا خير لي من الدخول ليلًا إلى البلد وأنا غريبة، فوقفت في الباب وإذا بامرأة ترضع طفلًا وتضربه وتقول: ارضع ترضع السم، ارضع ترضع الطاعون، فخفت ورجعت أدراجي قائلةً في نفسي: إن امرأة هي أشبه بالجن منها بالبشر لا تأويني، ثم فطنت لشيء من المال معي قعدت أسألها حاجتي وأعرض عليها الغرشين كل ما كنت أملك، فأبرقت عيناها لذكر المال واختطفت الغرشين من يدي قائلة وهي تشير إلى الزاوية: نامي هناك، فرميت بنفسي إلى الأرض وقد كدني التعب ونمت من ساعتي، ثم استيقظت في الليل فسمعت الامرأة تكلم فتاة عندها وتسبها، فتناومت أسترق حديثهما، فسمعت الامرأة تقول: تكاد تتم السنة ولم يسأل أحد عنه الله يلعن أباه وأمه، لو كانت أمه امرأة لفتَّشَتْ عنه ولكنها جنية غولة، لعنها الله. فقالت الفتاة: بعثنا إلى الرجل خبرًا وهو الآن مقيم في بيته بالغوير، وقد اتخذ أحمد الأمر على عاتقه، ليطمئن بالك. فصاحت الامرأة: ليطمئن بالي؟ كلفنا ابن الخنا حتى الآن خمسة ذهبات، وأهلكني، لم أعد أستطيع أن أرضعه، نفد حليبي وصار واجبًا أن نشتري له حليبًا، أكاد أموت والله، إذا كان لا يجد شيء في أمره قريبًا أرميه في البحيرة وأستريح منه، الله يلعن الأولاد، الله يلعن البشر!

فقالت الفتاة: صبرنا عشرة أشهر لنصبر عشرة أيام، وقد قال أحمد: إنه لا يسلم الطفل قبل أن يقبض الخمسين ذهبًا.

فقالت الامرأة: وأنت صاحبة أحمد تؤاكلينه وتشاربينه، فسيشتبه الرجل بكِ ويشكوك ويشكوني إلى الحكومة فتهلكين وتهلكيني معك، عليك إذن أن تختفي حالًا، سافري إلى صفد غدًا، وابقي هناك أسبوعين وأنا أقابل أحمد فنطبخ الطبخة ونترك الطفل حيث لا يعرف مقرَّه أحد غيرنا، انهضي وأسرعي سافري الآن، وغدًا أقابل أحمد.

هذا بعض ما سمعته من الحديث الذي دار بين الامرأة والفتاة، فهالني أمره وخطر لي أن ألفت نظر الحكومة إليه، لينجو ذاك الطفل السيئ الطالع، حن قلبي إليه والله! وأخشى أن ترميه في البحيرة إذا كان أبواه لا يفتشان عنه، وقد فاتني أن أخبرك أن للامرأة طفلًا آخر يستطيع المشي ولكن الفرق بين الاثنين عظيم، الطفل الرضيع مثل القمر على وجهه ملامح الأكابر.

– وهل تعرفين البيت الذي نمتِ فيه؟

– نعم أعرفه.

– وهل تعرفين الفتاة إذا رأيتها ثانيةً؟ وهل عرفت اسمها؟

– لم أر وجهها في الليل ولكني سمعت الامرأة تناديها هيلانة، ولما نهضت باكرًا أشكر الله على سلامتي لم تكن هناك.

– حسن، حسن، روحي وأم إبراهيم إلى البيت، يا أم إبراهيم، فجاءت الامرأة تلبي نداء سيدها، فخاطبها قائلًا: أحسني وفادة لطيفة، عشيها، وافرشي لها أحسن فراش عندك.

– غابت الشمس والقس جبرائيل جالس عند ضفة الغدير يسمع خرير الماء وينكت الأرض بعصاه فطرق أذنَه صوت إبراهيم يغني المواليا على رنات أجراس المواشي، فصعَّد الراهب الزفرات يبارك الأنعام وما شابهها في حياة البشر من شباب آبد وقلوب خالية ساذجة، نظر إلى السهل وقد لاحت في أساريره خلال أثلامه البُنِّيَّة سيماء الجذل والرضى، فخيل إليه أن كلَّ ثلم فيه إنما هو فم ينطق بالشكر والتسبيح، فقد كان نهاره مقدسًا، قدسه الإنسان العامل والقنوع إذ ألقى إليه حبة الحياة؛ ليعيدها في الفصل الآتي سبعين حبة. ورفع إليه هنالك صورة جميلة من صور السعادة البشرية التي يصورها إله الحقول ورب البعث والخلود؛ صورة الفلاح وابنه عائدان في الغسق إلى البيت، يسوقان المواشي ويغنيان الموالي، أبو إبراهيم وقد حمل المحراث الطويل على كتفه يسنده بالمساس، وابنه الشاب وقد حمل النير والمعول فوق حمل من الحشيش الأخضر، و«الأبلق» و«الكحلاء» وأجراسهما تطن عند باب الليل طنينًا شجيًّا، يسيرون كلهم الهوينا عائدين إلى حيث الحب يلاقيهم بإبريق الحياة، والليل يقدم لهم كأسًا مزيجها مسك وتسنيم. شاهد القس جبرائيل هذا المشهد فهز رأسه أسفًا قائلًا: جميل، جميل، ولكنه ناقص، أين أنت الآن يا مريم؟ مريم ابنة سارة أين أنتِ؟ أي بحر من أبحر الحياة تتقاذفك أمواجه؟ أي نعيم يكحِّل عينك؟ أي جحيم يحرق فؤادك؟

صعَّد الزفرات وعاد ينكت الأرض بعصاه أسير الهواجس، سمير الأشجان والذكرى، ولَّت أشباح الغسق مدبرة تفر من الليل، وما الليل إلا مؤنس الأشباح، جاء يشعل مصابيحه ويدور في الأفلاك دورته السريَّة فيرافقه القمر وقد أطلَّ من شرفته في الهرمل يبتسم ابتسامة غنجت لها البحيرة، وأبرقت أسارير الأحراج في الحقول وفي الجبال، فجعلت تصر الجنادب على العيدان صريرها، وينوح فوق البحيرة الحمام، وتصوت فيها الأسماك والأمواج الجارية من الأردن تهز في القلب سريرها.

مشى القس جبرائيل في السهل مكشوف الرأس والهواء العليل يناعم وجهه وينعش فؤاده، والليل يؤنسه بأنواره وسكونه، فهزَّ رأسه أسفًا قائلًا: جميل هذا المشهد جميل، ولكنه ناقص، أين أنتِ الآن يا مريم؟

لما فرَّت مريم الربيع الماضي هاربة منه كما يهرب الغسق من الليل أو الليل من الفجر، ظلَّ القس جبرائيل شهرين فريسةَ نزاعٍ في نفسه شديدٍ بين ما كان وما ينبغي أن يكون، بل بين الحقيقة والخيال، بل بين واجب قدَّسه الله ومحكمة قدسها العقل وحبر الزمان، فهمَّ مرة أن يتبعها مستقصيًا فعادت الحكمة تملك عليه نفسه ففوض أمره إلى الله، ونفض من أمرها يده، ومن أمر ولدها أيضًا، ولكنه لم ينقم عليها، ولم ينبذها من قلبه، ولم ينسها مرة في صلواته، أقام في بيته قرب كفر ناحوم معتزلًا العالم والناس، ناسكًا لا على شكل أجداده النساك بل ناسكًا عاملًا، ناسكًا فلاحًا.

ومرَّت الأيام تتلو الأيام ومريم وذكراها مقيمان في فؤاده يعطران صلواته وتأملاته، وما نام ليلةً قبل أن يبتهل إلى الله من أجلها: صنها ربي قها شرَّ الجهل وشر الأهواء وشر الأطماع وشر المستهترين من الناس، وشر المآثم والموبقات، اكحل جفنها بأحلام نعمتك، وابعث في ناظريها بهاء نورك، سدد خطواتها، وثبت في سبيل الخير والحق قدمها، يا فتَّاح يا رزاق! افتح لها بابًا لا يحزنون من يدخلونه، ارزقها خيرًا لا ينعمون من يحرمونه ولا يطغون من يرزقونه، يا حليم يا رحيم! اسبغ عليها من سوابغ حلمك، أفض عليها من فيضان رحمتك، اهدها السراط المستقيم حيث كانت وحيث حلت، وإذا كان عبدك الذي يضرع الآن إليك سعيدًا في يقينه، ثابتًا في إيمانه، قويمًا في رأيه، صافيًا في وجدانه، فاهدها ربي إليه، اهدها إليَّ، اهدها إلى ابنها، آمين.

صلى هذه الصلاة تلك الليلة حسب عادته وأضاف إليها الجملة الأخيرة ذاكرًا ولدها، صلَّى هذ الصلاة في السهل وهو عائد إلى البيت يفكر بمريم شيقًا آسفًا، ويفكر مستبشرًا بما كشف له في أصيل ذاك النهار، ولما وصل إلى البيت جعل يقلب في أوراقه فعثر على الكتاب الذي كان يطلبه، الكتاب الذي بعث به إليه أخوه يوسف يوم كان في بيروت، فاستلمه بعد أن سافرت مريم إلى فرنسا، فأهمله يومئذٍ غضبًا قانطًا، ولكنه أعاد تلك الليلة قراءته.

أخي العزيز القس جبرائيل أطال الله بقاءه

أقبِّلك وأبثك أشواقي وأرجو أن تكون بخير، ثم أخبرك أنني اجتمعت والحمد لله بابني عارف وهو الان في لبنان، وقد سلمته كتابك وأطلعته على الآخر منك لي، فآنست منه قبولًا بما تنصح، وأنا والله يشهد على ما أقول! عامل برأيك ساعٍ سعيك في سبيل تلك الفتاة، ومتى عدنا أنا وعارف إلى الناصرة نتمم ما فيه خير الجميع إن شاء الله.

أخوك: يوسف مبارك

والآن وقد علم أن الولد ولد مريم، لم يزل حيًّا استحث سابق عزمه واستنهض راقد قصده وهو يعزي نفسه قائلًا: ما لا يُبلغ كلُّه لا يُترك جُلُّه، وكأن الله أرسل لطيفة وقد أهداها إلى ذاك البيت لتنبهه إلى واجب أهمله آثمًا، فنهض صباح اليوم الثاني باكرًا يقول لها: تعالي معي.

وذهب ولطيفة إلى السراي في طبريا ليقابل القائمقام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤