الفصل التاسع عشر

جلست غصن البان إلى المائدة تتناول الفطور وبيدها بضعة تحارير جاءتها صباح ذاك اليوم في البريد، ففتحت الأول فإذا هو من سر همت باشا يسألها مرافقته إلى المتحف المصري، وفتحت الثاني فإذا هو من أحد الشبان المتيمين فمزقته باسمة، والثالث من فرَّاش في الموسكي يلحُّ عليها في تسديد حسابه فمزقته واجمة، والرابع من أحد تجار العاديات يتوعدها بالشكوى إن لم تدفع ما عليها فمزقته حانقة، والخامس مزقته، والسادس كذلك، والأخير وقد أدركت فحواه من العنوان لم تتنازل أن تفضه، وضربت المائدة وهي تقول: لينتظروا مثلما أنتظر، وكيف لي بدفع ما عليَّ والكازينو لا تدفع ما لي؟ يا مرجانة! يا مرجانة!

– نعم يا ستي.

– ألم تسمعي الجرس، من ذا المبكر يا ترى؟

فراحت الخادمة تفتح الباب وعادت تقول: الصائغ ستي يطلب مقابلتك.

– ليجيء بعد الغد، بعد الظهر لا صباحًا.

فراحت مرجانة وعادت تقف أمام سيدتها خجلة مضطربة.

– ما بالك؟

– هو في الباب يقول: إمَّا أن تعيدي الخواتمَ وإمَّا أن تدفعي ثمنها الآن.

فنهضت غصن البان تحتدم غيظًا ودخلت إلى غرفتها وعادت بعلبتين صغيرتين دفعتهما إلى الخادمة لتسلمهما إلى الصائغ.

– قولي له … وسكتت تحارب غيظها ثم قالت: معلمتي تسلم عليك وتعتذر إليك.

وما كادت تنتهي من فطورها حتى قرع الجرس ثانيةً ففتحت مرجانة الباب، وإذا براهب يسأل عن غصن البان.

– وما اسم سيادتكم؟

– قولي لها: إن راهبًا من بلادها يروم مقابلتها.

فجاءت مرجانة تخبر سيدتها فقالت غصن البان كأنها تخاطب نفسها: راهب؟ راهب من بلادي؟ قد هربت من الرهبان، ولا شك أن ذاك الراهب الذي يندد بي وبرقصي، لا، لا، ثم خاطبت الخادمة: قولي له: إنني لم أزل نائمة.

فعاد الراهب في اليوم الثاني فقالت له الخادمة بعد أن قابلت سيدتها: الست مشغولة الآن ولا يمكنها أن تقابلكم.

فلم يحفل بذا التمنع والاستكبار وراح ثالثة يطرق باب غصن البان في شارع قصر النيل، فكان الجواب فصل الخطاب.

– لا رغبة للست بمقابلة سيادتكم.

– لا بأس، لا بأس.

وانثنى القس بولس عمون راجعًا إلى مدرسته كاظمًا غيظه لائمًا نفسه على ذا الاهتمام لراقصة غرة ضالة.

وفي ذاك الصباح بين كانت غصن البان تفض تحاريرها وتمزقها كان عاطف بك والحاج محيي الدين في إدارة الكازينو يتحدثان بشأنها.

– أوَأنت آذنتها أن تبتاع ما تريد باسم الكازينو، تفضل، ودفع عطف بك إلى شريكه ثلاث قوائم من بعض التجار في الموسكي.

– لا بأس، لا بأس، ولا بدَّ من وضع حد لذلك، ادفع هذا المبلغ من أجرتها واكتب إلى هؤلاء التجار أننا غير مسئولين من الآن فصاعدًا عمَّا تبتاعه غصن البان.

– بل أرى من الواجب أن نعلن ذلك في الجرائد، وإلا فتصبح غدًا شريكتنا، وقد قلت لك: إن الإقبال على الكازينو هذه السنة لا يكون كالسنة الماضية، فقد أخطأنا في اتكالنا عليها وحدها، أخطأنا، فالناس يملُّون كلَّ شيء.

– لا بأس، لا بأس، في الشهر القادم نغير اللائحة.

– من رأيي أن نبتدئ منذ الغد، في البلد جوقة من الرواقص الإفرنسيات.

– ولكن وثيقتنا وغصن البان لا ينقضي أجلها حتى آخر الشهر القادم، دعها الآن، ولا تفاتحها بالأمر.

وركب الحاج محيي الدين عربة يقصد إدارة إحدى الجرائد، فأبصر وهو مار بالأزبكية الشاعر مصباحًا جالسًا في السبلندد بار وحده يشرب الوسكي والسودا، فأوقف العربة وصرف الحوذيَّ وجاء يسلِّم عليه: يا مصباح أفندي.

– والسلام عليكم، تفضل.

– ما لي أراك على شيءٍ من الكدر؟

– وهل يصفى الزمان لابن أنثى يا محيي الدين؟

– وهل يرضى الشاعر بالشمس والقمر لو سُخرا له يا تُرى؟ سبحانك اللهم! أنت الوحيد يا رجل المقرب من غصن البان الممتع بجمالها وحبها، المقيم بنعيم …

– حسبك، حسبك، ونادى مصباح أفندي الخادمَ، فطلب الحاج محيي الدين فنجان قهوة.

– وماذا دهاك قل لي، كنت أظن أن الشاعر حليف النصر دائمًا في الهوى.

– الشاعر يا محيي الدين يحب حبًّا وثيق العرى قصير المدى، يحب مرة كالفارض ويعشق دائمًا كالبهاء زهير، يفرغ نفسه في يوم واحد ويعيش مداعيًا مموهًا حزينًا بقية أيام حياته.

– وهل نبذتَ غصنَ البان يا تُرى؟

– بل نبذتني، لقد ذاقت قبلي السمَّ في الثمالة فكسرت الكأس.

– وكسرت قلبها انتقامًا، اتقوا الله أيها الشعراء!

– والله لقد كسرت الكأس وكسرت نفسي، حبها نار يا محيي الدين وحب الشاعر نور.

– ولكن في غصن البان غير جمالها الظاهر ما يحبب مثلك إليها. إن مواهب نفسها لمما يعجب به أولو الألباب والنهى، ولو أطلعتك على شيء من أمر نشأتها لازداد إعجابك بها وحبك لها، هي نابغة مثلك والله، آية من آيات الدهر.

وجعل يقص عليه ما قصه على القس بولس عمون، فرفع مصباح رأسه مصغيًا وأبرقت أسارير وجهه، فاستمر الحاج في الإغراء طيَّ التلبيس والإعجاب.

– وقد اتُهِمَت المسكينة بجريمة ارتُكبت بسببها في بيت أسيادها في الناصرة، وسجنت خمسة أشهر، قصتها والله عجيبة! وفرَّت هاربة إلى طبريا مع راهبٍ يقال: إنه أبوها، ووضعت هناك ولدًا.

فحملق مصباح عينيه مدهوشًا، أصحيح ما تقول؟

– لقد ساقتني التقادير إلى الناصرة في سياحتي الصيفَ الماضي، والناس هنالك صغيرهم وكبيرهم يعرفون قصتها، والله أحزنني أمرها.

ونظر إذ ذاك إلى مصباح أفندي يستطلع ما كمن وظهر فيه من مفعول ذا الخبر، ثم قال وهو راضٍ بما كان: وأظن أن أباها في القاهرة، أي والله، قد يكون ذاك القسيس الذي يندد بها وبرقصها.

– هذا من أعجب ما سمعت حياتي، وهل أخبرت غصن البان؟

– لم أخبر أحدًا غيرك، الأماجد يا مصباح أفندي يسترون العيوب، ولولا ثقتي بك ما أطلعتك على ما أظنك تُسِرُّه ولا تُذيعه، ولكن غصن البان أصبحت الآن سيدة نفسها وسيدة الفن، وقد لا يهمها من ماضيها شيء، سبحانه تعالى يمنح آلاءه من يشاء ويحرمها من يشاء.

فنهض مصباح أفندي على الفور كأن جاءه الوحي وودع محيي الدين معتذرًا، وراح مسرعًا إلى غرفته يدون الآيات.

والحاج يضحك في نفسه ويقول: ما أغرب أطوار هؤلاء الشعراء، قد يذبح الشاعر مصباح الراقصة غصن البان هذه الليلة، ويرثيها غدًا، سبحان الله، سبحان الله.

وفي اليوم التالي نشرت إدارة الكازينو إعلامًا في الجرائد مؤداه أنها غير مسئولة عن ديون غصن البان السابقة والحاضرة والمستقبلة، فازداد قلق التجار وحاموا حول الراقصة ملحِّين ملجين مصرِّين متوعدين، غدًا وبعد غدٍ وبعد بعد غدٍ كلماتٌ لا تسحر التجار، فأصدرت الدعاوى، وأصدرت المحاكم أحكامها، وبوشر كلٌّ في برهة شهر واحد تغيَّب فيه الحاج محيي الدين عن مصر عمدًا. ووقف الدلَّال في البيت الذي أدبت فيه المآدب الفخيمة، وتاهت فيه غصن البان بضعة أشهرٍ عزًّا ومجدًا، يبيع بالمزاد ما فيه من الرياش والتحف والأعلاق والآثار، وكانت الجرائد أثناء ذلك تنشر المقالة تلوَ المقالة في إفلاس غصن البان وسقوطها، معددة دائنيها وعشاقها، واصفةً تلك المآدب الفخمة التي كانت تأدبها لأصحابها ومريديها، مرددة أقوال الحكماء في القصف والإفراط مذكرة، منذرة.

فطالعت غصن البان بعضها ولم تبالي، ولكنَّ مقالة واحدة أثارت كل ما في نفسها من كوامن الغيظ والأسى؛ مقالة عنوانها: «مريم الناصرية» علمت من لهجتها وأسلوبها أنها من قلم الشاعر مصباح أفندي، قصَّ فيها الكاتب قصَّة غصن البان من حين دخولها بيت مبارك خادمةً حتى دخولها الكازينو راقصةً، فجاء على ذكر هربها من الدير، وهربها وأحد الرهبان من الناصرة، وهربها من طبريا، ولم يكتف الكاتب بذلك بل قال: إنها هي التي ارتكبت الجريمة في الناصرة وسجنت هناك وخلصها معلمها أحد أعضاء المحكمة، وإنها ابنة راهب من رهبان دير النجاة، وإنها وَلدت في طبريا ولدًا رماه أبوها في البحيرة، وغير ذلك من الحوادث التي تفسد حقيقتها الإشاعات وتجسمها الغايات والأحقاد.

أحدثت المقالة هذه ضجةً في القاهرة وتناقلتها بعض الجرائد في مصر وسوريا وفلسطين، وأمست غصن البان في عارها وبلائها كما كانت في عزها ومجدها حديثَ المجالس والقهاوي والحانات، وما كاد ينقضي ذاك الشهر الأسود حتى جاءها كتاب من الحاج محيي الدين، كلل به مساعيه الحسنة ومكارمه فكان الضربة القاضية عليها، والكتاب فريد في بابه فلا نضن به على القارئ الكريم:

إلى العزيز المحترمة السيدة غصن البان أطال الله بقاءها

نهديك أطيب التحية والسلام، ونأسف جدًّا لما دهاكِ من الدواهي، ووالله وددنا لو أنها حلَّت بنا لا بكِ، ونسأله تعالى أن يحسن سلواكِ ويزيل همومك، ولقد غمنا جدًّا تغيبنا الشهر الماضي عن القاهرة، فقد كنا بذلنا في سبيلك النفس والنفيس والله! ولكنَّا لا نظن أن أمر التجار يهمك، ولا يهمنا، المال يفدى بالمال، ونحن لم نزل كما كنا من محبيك وأنصارك ومريديك وما تحتاجينه من المال موقوف لك، ولكن ما نشرته الجرائد غمَّنا جدًّا جدًّا، ونظن أن الجريدة التي نشرت تلك المقالة وفيها من المطاعن بعرضك ما يزعزع الجبال هي مسئولة تجاه القانون، فإذا أحببت أن ترفعي الدعوى عليها فمحامي الكازينو تحت أمرك، يشهد الله والنبيُّ على ما نقول، لقد غمتنا تلك المطاعن جدًّا جدًّا، سوَّدت يومنا أدمت فؤادنا.

أما الوثيقة بيننا وبينك فبما أننا متعاهدون سابقًا وجوقة من الرواقص الإفرنسيات يرقصن هذا الشهر عندنا، ووجودك معهنَّ يضر بهنَّ بل يكسفهن تمامًا، فلا نرى الآن إلى تجديدها سبيلًا.

أطيب التحيات أيتها العزيز غصن البان.

من محبك الحاج محيي الدين

كتب هذا الكتاب بخطِّه وأعاد قراءته مرتين مستحسنًا معجبًا وبعث به إلى «العزيزة المحترمة غصن البان» وهو يردد ضاحكًا قول الفارض:

وإن شئت أن تحيى سعيدًا فمت به
شهيدًا وإلا فالغرام له أهل

وطفق يتمشى ذهابًا وإيابًا ويعد سبحته، ويقول: أخطأت يا شيخي يا فارض أخطأت، المرءُ يقتلُ من يحبُّ ويعشقُ، أي والله يقتل من يحب ويعشق، ولكن الأوغاد يقتلون من يحبون بالخناجر، والجبناء بالسم، والمجانين بالمسدس، أما الأماجد فبالمكارم والنعم يقتلون من يحبون، نعم نعم، لو سقطتِ يا غصن البان من مسرح الكازينو ما ضرك ذلك، ولكن سقوطك من قمة الهرم الكبير؛ من ذروة الشهرة والعز والمجد! الله، الله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤