الفصل الثاني

ليس أفضل من معقول يقرن إلى بداهة، ولا أجمل من ورع يقرن إلى هوى، ولكنَّ هذا نادر، والنادر قياس الشعراء الحكماء، أما جمهور الناس، وبينهم اليوم عدد من المتثقفين كبير، فالمعقول عندهم يعجز عن مرافقة أهوائهم، فيضلون السبيلَ ويظنون الأوهام والسمادير حقائق رائعة. وإن أصحاب الأخلاق الكبيرة والإدراك المحدود من هذه الطبقة لينزعون غالبًا إلى تحقير في أعمالهم وأعمال الناس قلَّما يفيد، بل إلى تزييف فيه تضليل وتغرير، فتلعب إذ ذاك يد التفريق في نزعاتهم وأهوائهم بل في طباعهم وغرائزهم.

العلوم النفسية «بسكولوجي» شغل مفكر الغرب اليوم، فيحلل العواطف ويشرح الأهواء توصلًا إلى الحقيقة الكامنة في النشوء، بل إلى السرِّ الكامن في تلك الحقيقة، وهذه الطريقة في العلوم النفسية نشأت عن العلوم المادية وسلكت مسلكها، وقد كان الدين في الشرق سابقًا إليها فدعاها الحكماء والمتورعون «محاسبة النفس»، على أنَّ الفرق بين الشرقيِّ والغربيِّ هو أن الأول يحاسب نفسه «الأمارة بالسوء» ليؤدبها فيذلها ويسترقها، والثاني يحلل نزعات النفس ليدرك خيرها فيعززها، ولا مشاحة أن كلتا الطريقتين تولِّد الترددَ والتذبذبَ وتؤدي إلى تشويشٍ فيه ضعفٌ لا إلى معرفةٍ فيها قوةٌ، ولعمري إنَّ من يقتلع شجيرة النفس كلَّ يومٍ ليراقب نموها لا يفوز بشيءٍ كبيرٍ من آمال النفس العالية، والشرقيُّ من هذا القبيل أبلغ حكمةً من الغربيِّ؛ لأنه أقرب إلى التوحيد في الحياة، لا وسط عنده في أمياله ولا ظلَّ بين النور والظلمة في نفسه، الناسك عندنا ناسك، والخليع خليع.

والقسُّ جبرائيل من هذا القبيل شرقيٌّ صميم، شرعته التوحيد في نزعاته وأمياله وتشوقاته وآماله، وقد كان قصده الأكبر الاهتداء إلى طريق واحدة مستقيمة، تؤدي به إلى محجة واحدة معلومة، فوجد هذه الرهبانية وسلكها عشر سنوات معتصمًا بمبدأ التوحيد، على أن المنعرجات الزاهرة العاطرة في تلك الطريق، ونار القرى التي تضرمها الحياة في تلك المنعرجات استوقفته مرارًا، فمال بوجهه إليها عاطفًا شيقًّا، مال بوجهه فقط ولم يعرِّج مرةً عليها، ولا غرو إذا استوقفته طيبات الأرض؛ فإن الغريزة البشرية لم تزل حية فيه عاملة، وللوراثة حقٌ على الإنسان لا يُنكر، ولا يُقهر، ولا يُحتقر.

ولقد طالما غلت في صدر الراهب مراجل أهواء سكنتها الإرادة ولم تطفئ النار تحتها، نار الحياة من يُطفئها غير الله؟ فقد خُيِّل إلى القَسِّ جبرائيل مرةً أن تلك النار أمست رمادًا، ولكنه أدرك الحقيقة حين عادت سارة إلى الدير، فنفخ إذ ذاك الشيطان في الرماد فشعشعت خلالها بقية نار قديمة، فسارع الراهب إلى إطفائها فلم يظفر ببغيته، فاستعاذ منها بالله صابرًا متجلدًا، ولم يكلم سارة مدةَ إقامتها في الدير إلا عند اللزوم، وقلَّما اجتمع بها. ساقتها إليه الأقدار بعد أن طوَّفت بها في أغوار الشقاء عشر سنوات، فترحب بها وفتح لها باب الدير عملًا بواجبٍ مقدَّسٍ، قرَّبها منه تأديبًا لنفسه، أحسن إليها طاقته سرًّا ليغفر الله ذنبه، ولم يكن في إمكانه أن يعمل عكس ذلك، من العار أن يطردها من الدير، ومن الجبن أن يطردها من نفسه، لذلك كان يقف في طريقه عاطفًا شيقًّا عند تلك المنعرجات الزاهرة العاطرة، فيسكره أريجها ويعبث بنفسه سحر جمالها، فيتأكد إذ ذاك أن لم يزل خلال الرماد وميض نار، تسمل عينيه إذا نظر إليها وتحرق فؤاده إذا اقترب منها، ولمَّا كانت سارة على فراش الموت أحس من نفسه بارتياح استغفر الله عليه مرارًا، على أنه بعد أن عرَّفها وسمع وصيتها واطَّلع على سرِّ شقائها جاشت في صدره تلك النزعات، فضاعفت الشجون فيه والعذابات. مثَّل لنفسه امرأةً وحيدةً تئنُّ في كهفٍ قصيٍّ من ألم الولادة وتدفن بعدئذٍ طفلها هنالك، فترقرقت في عينيه الدموع. فكَّر بالفتاة الغريبة وبذاك الراهب الأثيم والدها، فراعته أسرار هي في يد الزمان كالعواصف في أيدي الآلهة، كأن الموت أشعل في قارعة الطريق طريقه نارًا لا تضاهيها نيران الحياة بشيء، كيف لا وقد ماتت سارة تاركةً بين يديه وديعة عزيزة؛ صبية جميلة، واستحلفته أن يحتفظ بها ويبذل الجهد في سبيلها، أن يكون لها أخًا شفيقًا وأبًا حنونًا؟ فسمع كلماتها متبرمًا متألمًا كأنه يقول: وهل من نهاية لمغبة إثمي؟! آهٍ من تلك الشعلة البشرية التي يضرمها الشباب فترةً من الزمن فتملأ الحياةَ نارًا يسدُّ دخانها آفاق النفس إلى الأبد.

ولكنه وعد سارة أن يعمل بوصيتها مهما كلَّف ذلك، وعدًا مقدسًا، وهو متيقن أن شعلة الحياة بل شعلة الشباب لم تزل تلتهب في فؤاده، كيف لا وهو لم يزل في الخامسة والثلاثين من عمره؟ ولما شاهد مريم وديعته راعه لأول وهلة جمالها.

فتاة فتانة قد يصفها الشاعر بابنة حورية، وقد يخيل إلى السذج أنها ابنة جنية، وكذلك كانت تدعى في الدير، ولا غرو فقد تجسَّد فيها شيءٌ من حسن الحوريات ومن صفات مليكات الجنِّ اللواتي كانت سارة تقصُّ قَصصهن، سمراء، نجلاء، شماء، حسنة القد، دقيقة الجوانب، في وجهها ما يبهت الناظر إليه فيقف حائرًا بين الإعجاب والارتياب، وفي ناظريها شيءٌ آبِدٌ لا تقيده صبوة ولا يدنيه اشتياق، إذا ابتسمت أزعجت، وإذا تكلمت أدهشت، وإذا سكتت استهوت، ألا فإن في فمها معنًى غامضًا لا يدرك سرَّه إلا النساءُ ومَن خبر النساءَ من الرجال، وفي طرفيه حركة كآبة مستحبة تستحيل إذا ابتسمت حركة استهتار منكرة، شفتها القرمزية الشبيهة بثمرة ناضجة تفشي إذا تحركت أسرار جفنها الدقيقة الشبيه بالألف الفارسية، وهي مع ذلك كريمة الأخلاق، وفوق ذلك ذكية الفؤاد، طامحة النفس، واجفة جامحة معًا، ولم يكن يَشين حسنَها غيرُ تحدُّبٍ في طرفي جبينها، ولكنَّ الزمان وإن والى العنيد يمحي كلمة العناد من جبينه.

وكانت مريم إذا جاش جأشها تنتفخ أوداجُها وتختلج شعرات أنفها. لا شك أن «سيماؤهم في وجوههم»، ولا شك أن ظواهر المرء خدَّاعةٌ في أكثر الأحايين، ولكنها في مريم لم تكن غيرَ صادقة، بل كانت بليغةً في صدقها فصيحة في تبيانها، فتحول دون التمويه والمصانعة مهما بالغت النفسُ المتثقفة بالاجتهاد، ولكنَّ نفسَ هذه الفتاة لم تزل ساذجة صافية ناصعة، ترسل نورها إلى عينها السوداء الكبيرة دون أن ينعكس في عقلها ودون أن يمرَّ بلبها، ثابتة الجأش، جريئة الكلمة، نفورة مستهترة، لا تهاب أحدًا، ولا تستحي أن تجهر بما يكنه فؤادها، تنعت من تحبُّ ومن تكره لا بنعوت التفضيل فقط بل بنعوت تُضحك وتَغيظ، ولقد طالما قاست العذاب من محوضة طباعها وحرية قلبها ولسانها.

رآها القَسُّ جبرائيل ساعةَ توفيت سارة، ولم يكن يعرفها وما أدرك شيئًا من معاني نفسها، ثم عاد بها إلى الدير أصيلَ ذاك النهار، وكانت شمس الربيع قد مالت إلى الغروب، فأحنت على الأرض بأشعتها الهادئة الناعمة؛ فماجت الألوان في الحقول الخضراء، وعلا الاصفرارُ جبينَ جبل طابور، وبدت الناصرة ببيوتها البيضاء وسطوح أديرتها الحمراء كجزيرة كُوِّنت من اللؤلؤ والمرجان.

وقف القَسُّ جبرائيل في ظلِّ زيتونة قرب الدير، ونظر إلى مريم وقد توهجت من البكاء عيناها، فألقى يده على كتفها يلاطفها ويسكِّن جأشها، ثم سألها قائلًا: هل أنت مبسوطة في الدير؟

فأجابته على الفور: لا.

– لماذا؟ فسكتت مريم عن الجواب.

– أخبريني يا بنتي ولا تخافي، إني عامل ما يرضيك إن شاء الله ويسرك، أيتعبك الشغل في الدير؟

– لا، أدخلوني المدرسة منذ ثلاثة سنوات، ولا أخدم اليوم إلا في غرفة الأكل.

– لماذا إذن لا تحبين الديرَ، أتظلمك الرئيسة؟

– لا، لا، الرئيسة تحبني كثيرًا.

– أتضربك المعلمة؟

– ضربتني مرَّةً فأخذت القضيب من يدها وكسرته، فركَّعتني على الحصى أربع ساعات.

– لذلك تكرهين الدير؟

– وحبستني في القبو يومين بلا أكل ولا شرب؛ لأني قلت: إنها مثل الجنية تفتش عن مارد لتربطه بمسبحتها، كنت أعتني بغرفتها وبثيابها، فأعرفها. دخلت عليها مرَّةً فرأيت الماردَ عندها، المارد القَس يوسف خادم الدير، يا ربي، يا ربي، القس الذي يأكل جسد الرب كلَّ يوم ولا يشبع رأيته …

فأظلم جفن القَسِّ جبرائيل وقاطعها قائلًا: أنتِ تكرهين المعلمة إذن ولا تكرهين الدير.

– بلى، أكره المعلمة والدير.

– ولماذا تكرهين الدير؟ أخبريني ولا تخافي، فلا أبوح بذلك.

فرفعت مريم رأسها قائلة: وإذا بحت لا يهم، أنا دائمًا أقول للراهبات: «إنَّ الدير مثل الحبس.» وقد ضقت فيه صدرًا، أحب أن أتفرج في المدينة، أحب أن أتنزه في البرية، هذه أول مرة خرجت من الدير، ولولاك لما آذنت الرئيسة بذلك، هذه أول مرة مشيت في أسواق المدينة، يا عمري! ما أحلاها وما أحلى دكاكينها وما أحلى روائحها، وما أجمل الزهر في الحقول والورد في مصاطب البيوت، هنيئًا لأصحابها — قالت هذا وهي تصعد الزفرات.

– وهل تكونين مسرورة في الدير إذا أذنَ لك بتنزيهة كل أسبوع؟

– لا، لا، لا أحب الدير أبدًا، أكره روائح الغرف فيه، وأكره روائح الزيت والبخور، وأكره سكوت الراهبات؛ أدخلتني الرئيسة مرة إلى غرفتها فأجلستني إلى جنبها وأخذت تقبلني وتضمني إلى صدرها وهي ساكتة فخفت منها وصرخت، فهمست في أذني كلمات لم أفهمها، وطفقت إذ ذاك تبكي وهي تحجب وجهها بيديها.

– وهل أخبرت أحدًا غيري؟

– أيَّ شيء؟

– أنَّ الرئيسة تحبك.

– أخبرت سارة فقط، ولكنَّ الرئيسة تحب زلفا كما تحبني وزلفا أخبرتنا كلنا.

– الرئيسة تحبُّ كلَّ البنات يا بنتي؛ هي أمكنَّ والأم تحب أولادها، فلا يشق عليك إذا أحبت غيرك مثلك.

– سامحني اغفر لي! وأخذت يده تقبلها وهي تقول: خلصني من الدير، خلصني من الدير، آه ما أحلى روائح الربيع في البرية، وقد قالت الرئيسة إنها تلبسني ثوب المبتدئات، فقلت لها: الكفن أحسن. الله يرحمك يا سارة، وعدتني منذ أسبوع أن تخلصني من الدير! وشرقت مريم بريقها وهي تمسح بكمها الدموع المتساقطة على خديها.

فأخذ القَسُّ جبرائيل يدها، وقد أعجب بنحافتها وأنيق سبكها ولدن أناملها، فقال وهو يرمقها بعين العطف ويكظم غيظه: سأخرجك إن شاء الله من الدير، ليطمئن بالك.

فقبَّلت مريم يده شاكرة، ودخلت الدير وهي تضطرب مما تجاذب نفسها من الهواجس والعواطف المتضاربة، فكَّرت بسارة فاغتمَّت وذرفت الدموعَ، فكَّرت بحالها وبقرب خلاصها من الدير فخفق قلبها جذلًا وخفَّت نفسها سرورًا، وفكَّرت بالراهب فمثَّلته أمامها بنظراته وبصوته وبعطفه وحنانه، فأحست من نفسها بارتياح يمازجه شعور لم تدرك سره ومعناه، لم يخاطبها أحد حتى ذاك اليوم بمثل صوته الناعم غير سارة، ولم ينظر إليها أحد بمثل عينه الرءوفة غير سارة، وأما نظرات الراهب وكلماته فلمست في قلبها وترًا جديدًا، فتموجت رناته في عروقها فاهتزت لها كل جوارحها، أحست أن في صدرها عصفورًا مقيدًا، فمدَّ الراهب إليه يدَه وفكَّ جناحيه، فراحت تلك الساعة تحلم الأحلام، وتمثل لنفسها نعيمًا ربيعه لا يزول وجماله لا يحول.

دخل القس جبرائيل إلى الدير مضطربَ النفس فخرج منه يحتدم غيظًا، حدَّث الرئيسة بشأن الفتاة فتأكد أولًا أصلها، رآه مسجلًا في سجل الأيتام واللقطاء في يوم عيد الصليب سنة ١٨٨٥، طفل واحد لا غير، ابنة شهر أو أقل، وجدت على باب الدير صباح ذاك اليوم، فعُمِّدت ودعيت: مريم، وهي لم تزل في الدير، هي مريم بعينها، مريم ابنة سارة، ثم أخبرته الرئيسة عن سلوك الفتاة وأطوارها، وقد علمت أنه يريد أن يخرجها من الدير، فقالت: البنت يا محترم نبيهة ذكية، ولكنها عنيدة، وقحة، وعينها شاردة، ولسانها فالت، البنات في الدير لا يحببنها والراهبات يلاطفنها ويبذلن الجهد في إصلاحها، وكثيرًا ما يقاسين منها، أما أنا فأعجب بذكائها وأحبها، وقد بذلت جهدي في سبيلها، فأدخلتها المدرسة منذ ثلاث سنوات لِمَا توسمت فيها من الذكاء، وهي الآن تحسن القراءة والكتابة في اللغتين الإفرنسية والعربية وتحسن الإنشاء في اللغتين أيضًا، وقد أخبرتني المعلمة أنها آية في الحفظ؛ إذا قرأت أمثولتها مرتين ترويها دون غلط، ويسرني أن أخبرك أنها ابتدأت هذه السنة تصلح سلوكها فوعدتها بثوب المبتدئات.

وأخذت الراهبة تفرك يديها وهي تبتسم ابتسامة الارتياح والرضى.

– وهل هي تميل إلى الترهب؟

– الفتاة لا تعرف صالحها، ومن كانت في عمرها لا ينبغي لها أن تسترسل في هوى قلبها، وأنت تعلم يا محترم حالة هؤلاء البائسات اللواتي تقذف بهن الأقدار والمآثم إلى هذا الدير، فإذا عشن دون قيد ودون إرشاد يقعن في ما وقعت به أمهاتهن، فالدير بيتهن، وخلاصهن في الخدمة وفي الانقطاع إلى الله، ومن نستأنس بها النباهة والورع والذكاء نرقِّيها؛ لذلك أنصح لك أن تترك مريم عندنا.

– ولكنها لا تحب الدير ولا تميل إلى الترهب.

فاضطربت الرئيسة وعمدت إلى مسبحتها تلعب بها لتخفي اضطرابها، ثم قالت وصوتها يكشف ما حاولت إخفاءه: يا قَسُّ جبرائيلُ أنت أعلم بهؤلاء البنات منِّي، فهنَّ لا يعرفنَ صالحهنَّ، ومريم أكثرهن عماوة وجهلًا، ولسانها عدوها الألد، لا ينجو أحد في الدير من شره، تشتم البنات، وتهين الراهبات، وتعيِّر حتى القس يوسف خادم الدير، فقد قالت: إنه تيس مكسورة قرونه. دائمًا تُهين معلمتها وتقول فيها: إنها جنية تفتش عن مارد، لا أعلم من أين تجيئها هذه الألفاظ، ولكن أظن أن فيها شيئًا من أخلاق الجنِّيَّات، ألا ترى أنها تشبه بنات النور؟! فكيف تكون حالة مثل هذه الفتاة إذا خرجت من الدير؟ اتركها عندنا ولا تتعب رأسك، ليس مثل الدير بيت لتأديب النفس واقتلاع الأشواك منها، والأشواك في نفس مريم كثيرة طالما أدمت أيدينا، وأنت تعلم أننا لا نؤذن لمثلها بالخروج من الدير؛ لأننا مسئولون عنها، وما خرجت من عندنا خادمة إلا وكان أسيادها راضين بها معجبين بسلوكها، ومريم لا تصلح خادمة، أنا أعرفها، وأحبها رغم عنادها وقحتها وتهورها، وأحب أن أصلحها وأرقيها، وطالما جرَّبْتَني، فصبرت قائلة: من أجل آلامك يا يسوع، فلا تُتعب يا قس جبرائيل رأسَك بها، اتركها عندي.

فنهض القس جبرائيل عن كرسيه متبرمًا، وأجابها قائلًا: يا حضرة الرئيسة توفيت امرأة صباح اليوم عندنا وأوصتني ساعة نزاعها بمريم، فقبلت الوصية، فصرت مسئولًا عنها أكثر منك، سأنظر إذن في أمرها وأخبرك عما قريب إن شاء الله بما أعول عليه وأظنه خيرًا لها، نهارك سعيد.

– نهارك سعيد ومبارك، صلِّ من شأني ولا تنسني في دعائك.

– دعاء الصالحين.

وخرج من الدير كمن يخرج من بيت يحترق، أو كمن يخرج من رَدْهة التشريح في المستشفى، قلبه كحبة الخردل، ونفسه كليلة كانون.

– دعاء الصالحين! دعاء الصالحين؟ وهل في الأرض صالح أو صالحة يا رب؟

وراح يخاطب نفسه ويساجلها فيرفع تارةً صوته دون انتباه، وتارةً يقف في الطريق؛ ليسمع صوت ضميره.

– صحيح، صحيح، صحيح ما يشيعه الناس، صحيح ما طالما سمعت وكذَّبت، بنات يولدن بالإثم ويربين في المفاسد، يأكلن خبز الإحسان وقد عجنته يد الحيف السوداء وخبزته يد الخبث الصفراء، نتصدق على الأشقياء والفقراء ونتبجح، نكد أبناء نعمتنا ونرهقهم ونَصِمُهم فوق ذلك وَصمةً تلصقهم بحضيض الذل حياتَهم، هذه المعاهد الفخيمة؛ معاهد الإحسان المتعددة عندنا إنما هي السبب الأكبر في دوام الذل والفقر والشقاء في بلادنا، هي التي تمهِّد للشاب طريق إثمه، هي التي تنير ظلمات الشقاء للأمهات وللبنات فشيقين، وا أسفاه، بما يرين وما يعلمن! كيف لا وأبواب الأديرة مفتوحة لاقتبال ثمرة ضلالهن وجهلهن؟! بنت تولد في ظلمات المآثم فتربى في ظلمات الخباثة والفساد ليتها لم تولد! بنت تَرضع حليب البغض وتأكل خبز المذلة وتُحبس في الدير تأديبًا لنفسها؛ فتموت النفس من كثرة التأديب ولا يبقى من الشقية غير جسد تعذبه رئيساتها بالقضيب تارةً وتارة بالرجاسة، ليتها لم تجبل طينة ذاك الجسد، خير لأبناء الفقر والشقاء والإثم أن تقفل دونهم أبواب الشفقة والإحسان، فيصلحون أنفسهم بأنفسهم أو يموتون ويرتاحون؛ راهب يخطف ابنة من الدير! فتاة تفر هاربة من الأسر والظلم فيفترسها أحد ذئاب الشهوات، دير البنات! هو مسلخ يسرق منه الجائع قطعة من اللحم، خارجَ الدير ذئابٌ كاسرة وداخلَ الدير حيَّاتٌ متورعة، فكيف تنجين أيتها الشقية؟ مريم محقة بشكواها، والرئيسة مصيبة بكلامها، إذا ظلت الفتاة في الدير تشقى، وقد تشقى إذا خرجت منه، ولكن الغريزة التي تستنفر الفتاة من الدير أصدق من الحكمة التي تقضي بأسرها، نعم، نعم، قد يخفي الثوب الأسود عيوبنا ولكنه لا يُزيلها، والذين ينظرون إلى الدير كالحبس لا يجب أن يؤسروا فيه، إذا خرجت الفتاة منه وكانت حياتها حياة بؤس وشقاء ففي تحقيق رغبتها الأولى شيءٌ من العدل والتعزية، لا، لا، لا، النفس لا تنمو بالأسر والتشذيب، بل بالتربية والحرية، حرية المرء مقدسة، حريتك يا مريم مقدسة. مسكينة الرئيسة! مسكينة الرئيسة! أتموت النفس جوعًا وقد فقدت حريتها؟ أقُبلة تحيي وقُبلة تميت؟ سكرة النفس تَشفي مرضَ الجسد، فهل تَشفي سكرةُ الجسد مرضَ النفس؟ الْطفِ اللهم بنا، اغْفرِ اللهم ذنوبنا، ذنوبنا؟ ذنوبنا؟ وهل تكون الأمراضُ ذنوبًا؟ هل يُعدُّ الضعفُ البشريُّ إثمًا، مسكينة، مسكينة!

وصل إلى الدير فدخل الكنيسة وسجد أمام القربان المقدَّس ساعةً، صلَّى صلاة المساء ثم طفق يتمشى في الرواق وسبحته في يده.

– «أبانا الذي في السموات … اغْفِرْ لنا ذنوبنا، لا تدخلنا في التجارب، نجنا من الشرير أمين.»

ثم دخل حجرته وأشعل شمعة فيها وأخذ كتاب «الاقتداء بالمسيح» وظل يقرأ فيه حتى نصف الليل، ونام عندئذٍ مطمئنَ النفس، هادئَ البال، كأن لم يحدث ذاك النهار أمر ما خطير، كأن لم يطَّلع على أسرارٍ تجعل الحياةَ البشريةَ لعنةً في الأرض، ولكنه حَلَم حُلمًا مزعجًا تلك الليلة سمع فيه صوتًا يكلمه قائلًا: اترك الفتاة مريم في الدير، خير لك ولها. فاستفاق القس جبرائيل مذعورًا ورسم شارة الصليب مستعيذًا بالله: «أبانا الذي في السموات … لا تدخلنا في التجارب، نجنا من الشرير، آمين.» ثم أشعل الشمعة وفتح «الاقتداء بالمسيح» فقرأ بضع صفحات ونفسه مضطربة وفكره متضعضع، فنهض من ساعته ولبس ثوبه وخرج إلى الرواق يصلي صلاة الفجر.

وفي تلك الساعة أشعلت الزهراء مصباحَها الذهبيَّ فوق قمة طابور، فلمست أشعته عين المرج النائم في مهد الجبال بين السامرية والجليل، فاستحال اسمرار وجهه اصفرارًا عليه غشاء رفيع من نسج الندى والنسيم، وكان ربع القمر قد دنا من البحر وقد احمرَّت جوانبه فشابه سيفًا مخضبًا، أو قلامة ظفر محنيٍّ، أو قطعة بطيخ على طبق من اللَّازَوَرْدِ، وجبال عجلون وقد نظرت إلى القمر والزهراء قبالها أخذت تخلع سرابيلها السوداء؛ لتستحم بنور الفجر الذي يبدو كَذَوب الرَّصاص فيسيل كَذَوب اللجين فيتدفق كعصير الرمان.

وقف القسُّ جبرائيل في رواق الدير، فأسكره هذا المشهد البهيج وأنساه صلاته، بل حرَّك لسان النفس فيه فنطقت بصلاةٍ أسمى وأجمل، نظر إلى الحقول حوله فرآها تهتز جذلًا، وتتماوج حبًّا، وتتلألأ على صدرها قبلات الندى. نظر إلى الناصرة على منحدر الجبل تحته فإذا هي نائمة مطمئنة هادئة آمنة، تعطر أحلامها الأزاهر اليقظى في مصاطب البيوت وجنائن الأديرة، وتتهادى حولها أغصان الزيتون يقبلها نسيم الليل، وتداعبها أنامل الصباح.

ثم طرقت أذنَه أصواتُ الفجر وقد خرجت من سكينة الليل تشاطر الجبال والمروج أفراحها، في طيقان القناطر فوقه وتحت القرميد يعشش الحسون والسنونو، فسمع حفيف الأجنحة وزقزقة الصغار في أوكارها، خرجت الأم تسعى لصغارها وهي تسبح جذلة طربة، وقرع جرس إحدى الكنائس التي يقدس كاهنها باكرًا من أجل الفَعَلة فيصلُّون قبل أن يسيروا إلى أشغالهم في الحقول، وفي حارة الإسلام رفع المؤذِّن صوتَه الرنَّانَ وهو يدور في مأذنته كالشمس في فلكها فتردد الجبال شرقًا وغربًا صدى كلماته، هيوا على الفلاح، هيوا على الصلاة، وهناك على ذاك السطح رأى شيخًا يفرش سجادته ليصلي صلاة الفجر: بسم الله الرحمن الرحيم … مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم. رآه يسجد سجداتِه فشاركه القَسُّ جبرائيل بصلاته، وعلى سطح آخر أحيطت به مصاطب الحبق والرياحين أناس يشربون القهوة ويدخنون الأركيلة وهم يمزحون ويضحكون، وفي الطريق خارج الناصرة تُسمع أصوات القافلة فيردد المكارون الأدوارَ على رنَّات أجراس البغال ويضحكون ضحك أبناء الفلوات، وقد خلت قلوبهم من الهموم وملأ نسيم الصباح أنفسهم فزادها سرورًا ونشاطًا. وفي طريق العين رأى القَسُّ جبرائيل امرأةً تحمل الجرَّة على رأسها والسبحة في يدها، خرجت من بيتها باكرةً، كما خرجت الحسونة من وكرها؛ تسعى لصغارها.

توهَّج الفجر فأيقظ الأرض وبنيها، فردَّدتِ القوافل والأجراس والمؤذنون والأطيار صدى أصوات التسبيح، بل صدى أصوات تلك النفوس البسيطة الخاشعة الصافية، فهتف الراهب قائلًا: ما أجملَ هذه الساعةَ، وما أقدسها! هنيئًا لقلوب يسكرها سكوت الفجر وأريجه وأنفاحه وأنواره، ليت الحياةَ ساعةٌ من ساعات الفجر!

وفي تلك الآونة مرَّت فتاة تحت رواق الدير مسرعةً واجفةً، فطرقت أذن الراهب خطواتُها ولم يكترث، بل رفع صوته يصلي: «اجْعلِ اللهم حياة البشر هادئةً صافيةً كفجر يومك. ارْفعِ اللهم قلوبَ البشر إلى جبال قدسك؛ فيجلوها نسيم الحب ويعطرها أريج السلام.»

سمعت الفتاة الصوت فعرفته، فدخلت الدير مسرعة مستبشرة.

– «سدِّدِ اللهم خطواتِ المصعدين في جبالك، وطِّدِ اللهم مقاصد الشاخصين إلى نجم فجرك، خفِّفِ اللهم بؤس البائسين، أنر طريق الضالين، أطلق سراح المأسورين.»

وكانت الفتاة قد صعدت إذ ذاك إلى الرواق، فسارعت إلى القس جبرائيل تقبل يديه وتصرخ: دخيلك، دخيلك، لا ترجعني إلى الدير.

– مريم! مريم! ماذا جرى؟

– دخيلك، دخيلك، هربت من الدير، مساء أمس بعد أن تركتني استدعتني الرئيسة إلى غرفتها وضربتني حتى كدت أموت؛ لأنني شكوت مصيبتي إليك.

– وكيف خرجت؟ وكيف جئت إلى هنا؟ من دلَّك؟

– الله خلصني والله دلَّني، جئت أفتش عنك، فأسمعني الله صوتَك … سمعت صوتك فعرفته، دخيلك ما لي غيرك، لا ترجعني إلى الدير، أموت ولا أرجع.

– ليطمئن بالك يا بنتي، سكِّني رَوعك، تعالي معي.

ومشى القس جبرائيل قدامها إلى الكنيسة.

– ادخلي يا بنتي، صلِّي ليوفقك الله، وانتظري في الكنيسة إلى أن أعود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤