الفصل العشرون

رمى القس بولس عمون بالجريدة إلى الأرض وقبض على لحيته مطرقًا مفكرًا: ينبغي أن أقابل هذه الفتاة مهما كان من أمرها، ينبغي أن أقابلها.

ونهض من ساعته فارتدى جبته وحمل عصاه وذهب توًّا إلى البيت في شارع قصر النيل، فوجده مقفلًا مهجورًا، لا حارس في الباب، ولا أحد في الداخل يلبي الجرس أو النداء، إلا أن الأطيار كانت تغرد في البستان حوله كأنها تردد قولًا قديمًا محزنًا: «والطلول الدوارس هجرتها الأوانس.»

انثنى القسيس راجعًا فسدَّد خطواتِه إلى الكازينو فقال هناك عاطف بك فأعطاه عنوان غصن البان الجديد، فجاء الناحية حول البركة وقرع باب بيت في أحد الأزقة ففتحت له خادمة سوداء تقول: تريد إيه.

– غصن البان.

– نقلت من هذا البيت الأسبوع الماضي.

– إلى أين؟

– لا أعلم، لا أعلم.

وأقفلت الخادمة الباب فجأة دون اعتذار كأنها أبت أن تجيب على سؤال آخر في الموضوع، فعاد القس بولس إلى مدرسته وهو يقول: لا تكرهوا شيئًا لعله خير لكم، ولكن الهواجس حالت دون استسلامه، فبلبلت باله وأيقظت في فؤاده المحرق المؤلم من الذكرى، فكتب كلمةً لغصن البان أرسلها في البريد إلى عنوانها الأخير، ولبث ينتظر، فمر الأول والثاني فلم يجئه الجواب ولا أعيد كتابه إليه، ثم ذهب إلى إدارة البوليس مستقصيًا، فرحب المدير به ووعد أن يبذل الجهد في البحث عن مقر غصن البان.

وبينما كان القس بولس في غرفته ذات يوم يطالع في مجلة إسلامية مقالة في تحرير المرأة والحجاب، جاءه الخادم يقول: قسيس من فلسطين يروم مقابلة سيادتكم.

فنزل القس بولس إلى صاعة الاستقبال، وإذا هو في حضرة القس جبرائيل مبارك! وقف مبهوتًا إذ رآه يكاد لا يصدق ناظريه، ثم هتف متأهلًا مرحبًا، وتعانق الأبوان وجلسا جنبًا إلى جنب على الديوان.

– كيف حالكم؟ وكيف إخواننا في الناصرة؟

– هجرتهم منذ أربع سنوات.

فقال القس بولس متبحرًا: صحيح، صحيح، ورحمة أبيك تخبرني، ألم تكن في طبريا منذ ثلاث سنوات مقيمًا هناك في زي الأعراب.

– دعنا من هذا الآن، فقد رأيتك لما كنت أنت هناك أيضًا، سنعود إلى هذا الموضوع.

– واستخرج القس جبرائيل جريدة سورية من جيبه فيها المقالة التي نشرت في جرائد مصر؛ المقالة التي عنوانها: «مريم الناصرية».

– اقرأ هذه.

– قرأتها يا أبتي قرأتها.

– إذن لي عندكم حاجة، أنا غريب هنا ولا أحسن التجول في المدينة ولا أحب ذلك.

– حاجتكم نقضيها على الرأس والعين، وماذا عساها تكون؟

– مهمتي سرية.

– حسن، لنصعد إذن إلى غرفتي.

– لا أحب أن يراني أحد هنا.

– الغرفة قريبة، والتلاميذ الآن في دروسهم، تفضل.

وصعد القس عمون إلى غرفته يتبعه القس مبارك، فإذا هو عند دخوله في حجرة صغيرة فيها سرير وديوان صغير وكرسيان وحصير، ومنضدة للكتابة ورفرف فوقها طويل، لوح بسيط غير مدهون وغير مصقول أحنت الكتب ظهره، وعلى الحائط صورة القديس أنطونيوس بين صورتي العذراء ويسوع من الصور اللماعة الملونة المطبوعة في ألمانيا.

أقفل القس بولس الباب ودعا الزائر إلى الديوان وجلس على كرسيٍّ أمامه، ينصت لحديثه.

– جئت القاهرة يا أبتي ملبيًا صوت الربِّ إلهي، جئت أبحث في هذه المدينة عن فتاةٍ من بلادنا لعلك تعرفها، صاحبة هذه القصة، فتاة خاطئة كما تعلم شقية يتيمة وحيدة، أنقذتها من العار والبلاء مرة، فضاقت مني صدرًا وهربت إلى فرنسا ثم عادت كما يظهر إلى مصر. المقالة هذه لا تخلو من الحقائق، وقد أحاق بها العار والبلاء ثانيةً، ماتت أمها في الناصرة منذ خمس سنوات وأوصتني بها، وقد تجلَّت لي الحقيقة الرائعة في الزهد والتنسك منذ تلك الساعة، ساعة عرفت أمها، ولا يُخلص البرَّ والنُّسكَ إلا من خلَّص نفسًا غير نفسه، فهل لك أن تساعدني في البحث عن هذه الفتاة وفي خلاصها؟

فأجاب القس بولس والاضطراب بادٍ في وجهه وفي صوته: كأني سمعت قبلك ذاك الصوت الذي سمعته، سبحانه تعالى وتبارك اسمه.

– إذا تركنا مريم تذهب فريسة المعاصي والمنكرات، إذا تركناها تموت في موبقات هذه المدينة، فلا النذور تنفعنا يا أبتي ولا نسكنا يرضي الله.

أحب القسُّ بولس أن يسأل محدثه سؤالًا؛ فتردد خوفًا من استماع الجواب، كأنه تحقق أمرًا ودَّ ألا يكون، فآثر السكوت، ثم قال: وأين أنت مقيم؟

– خارج القاهرة، قرب الأهرام، فلقد تعرفت بأحد الفلاحين في السكة وأنا قادم من بورت سعيد وهو يسكن هناك، فاستأجرت منه بيتًا بل كوخًا قرب بيته؛ لأن إقامتي خارج المدينة أوفق لقصدي، لا أريد أن يعلم أحد بما أنا فاعل، وبالأخص الجرائد، فتفسد سعينا.

– حسن، حسن، ولكني أعتذر إليك الآن، عليَّ درس القضية، فهل لك أن تنتظرني هنا قليلًا فنستأنف الحديث ونفكر بطريقة نتخذها.

– كما تريد.

– هذه مجلة إسلامية فيها مقالات تسلي وتضحك، سأعود قريبًا.

وخرج القس بولس من غرفته مضطرب البال، أسير الهواجس، تتقاذفه من تقادير الزمان عواصف الهول المجهول، ذهب توًّا لا إلى المدرسة بل إلى الكنيسة فجثا أمام المذبح يصلي، ثم تلا المزمور الحادي والخمسين: ارحمني يا رب حسب رحمتك حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ، ألهمني ربي سواء السبيل، إذا كان ما أظنه الواقع فاهدني الطريق المثلى لأخلصها وأخلص نفسي، مُدَّني بنفحات من لدنك فأقوى على الشدة، مدني بنورك الأزلي فينير ظلمات سري المهلكة، وسجد مرارًا يقبل الأرض، ولبث هناك خاشعًا ضارعًا متبحرًا متأملًا، ثم خرج من الكنيسة ثابت الجأش موطد العزم وقد زال بعض اضطرابه.

وبينا هو عائد إلى غرفته لاقاه في رواق المدرسة خادم فسلَّمه كتاب من مدير البوليس يستدعيه فيه إلى الإدارة، فلما اجتمع بأخيه القس جبرائيل أخبره أنه كان قد باشر البحث عن غصن البان وأن رغبته بإنقاذها لأشد من رغبته، وأطلعه على كتاب مدير البوليس، ثم قال: أما إذا اهتديت إلى منزلها فلا أظنها تقابلني، لقد حاولت مقابلتها مرارًا فأبت مكابرةً، وحضرتكم تعلمون أني معروف في البلد، ولا يمكنني أن أتجول في كل أنحائها وأحيائها، وقد تكون غصن البان …

فقاطعه القس جبرائيل قائلًا: إذا اهتديت إلى البيت فأنا أقصده، أنا أسعى إليها، أنا أقابلها، فقد جئت من فلسطين لهذه الغاية، وهل لك أن ترافقني الآن أهديك إلى كوخي، فتجيئني بعد البحث بالخبر اليقين؟

– نعم، نعم، ولكني لا أكتمك يا أبتي أن في عملك هذا قد تنقذ نفسين وقد تهلك نفسين.

– مشيئة الله، لتكمل مشيئة الله.

وخرج الراهبان من المدينة أصيل ذاك النهار وركبا بعد أن وصلا إلى الجيزة «الترامواي» ساكتين لم يفه أحدهما بكلمة واحدة فنزلا قرب الهرم الكبير ومشيا في طريق بين سهول صفراء وخضراء قرب نصف ساعة وإذا هما أمام بيت من اللَّبِن حقير.

– هذا منزلي اليوم وهذه الطريق إليه، لا أظنك تضلها سأنتظرك مساء غدٍ هنا، لا أحب التردد إلى المدينة ولا إلى الدير كثيرًا، فأستحلفك بالله ألا تتخلف.

– بل أكون عندك غدًا بعد الظهر، أو عند الغروب، أظن إدارة البوليس قد اهتدت إلى منزل الفتاة، وقبل الوداع يا أبتي أرجوك أن تخبرني … ولم يكمل القس بولس الجملة، بل وقف مترددًا.

– قل ما تريد!

– قلت: إن أم الفتاة أوصتك بها، فهل تبوح لي باسمها.

– وما المانع؟! اسمها يا أبتي سارة.

– سارة، سارة!

ورفع القس بولس يده يحجب بها وجهه.

– سأوافيك غدًا هنا.

وعاد إلى البلد ومراجل الحيرة واليقين تغلي في فؤاده يخاطب نفسه قائلًا: سارة، سارة، ما أكثر السارات في فلسطين، قد تكون هي، وقد لا تكون، قد تكون وقد لا تكون، وإذا كانت هي بعينها؟ ربي! أيفرح الآباء بلقاء بنيهم وأحزن عند لقاء بنتي، مريم بنتي، أممكن ذلك؟! ولِمَ اهتمام القس جبرائيل لها؟ قد كان القس جبرائيل في الدير لما خرجت منه وهجرت تلك الامرأة، فعادت من كفر كنَّا إلى الناصرة، أذكر ذلك، لا، لا، مستحيل، مستحيل، عشرين سنة يُدفن سري فتبعثه اليوم حيًّا أيها الرب لتطهرني، لتهلكني في الدنيا كي لا أهلك في الآخرة، لما أحببت تلك الامرأة واستسلمت إلى عاطفة هي فينا منك يا ربي؛ عاطفة الحب المقدسة، فأنت سبحانك الحب. أكان ذلك لكي تتعذب الأم ويعيش الأب كاللص، وتشقى الابنة شقاء اليتيمة البغي؟ إذا هربت من العار المحيق الآن بي أممكن أن أهرب من وجهك؟ إذا قتلت نفسي أممكن أن أقتل إثمي؟ سيفتضح غدًا أمري، سيُدهش الناسَ غدًا سري، فيلعنني القاصي والداني وأمسي طريدًا شريدًا منبوذًا ذميمًا … وقد لا يكون مما أظن شيء، سارة! ما أكثر السارات في بلادنا! وما أكثر اليتامى وما أكثر المريمات! فلماذا تعذب نفسك بالأوهام أيها الرجل؟ وإذا تحققت الأوهام، آه يا ربي، غصن البان ابنة القس بولس عمون الشهير الحامل على الرقص والرواقص والتهتك والفسق والخلاعة، أواه! ما هذا الحساب الذي تناقشنيه يا رب! بنتي طالما حننت شوقًا إليها، طالما أسفت لأن أمها حملتها رضيعًا إلى الدير، طالما ندمت على فعلتي، بنتي كم ليلة سهرت متهجدًا أسأل الله أن يجمعني بكِ، وها إني الآن قريب منكِ، قريب منك؟ ومن يعلم، ألأنني قريب منك أرتجف كالقصبة في الريح العاصفة، ومما أخاف يا ترى؟ أأخاف بنتي؟ أأخشى ملقاكِ؟ وما الذي يجعلني مخالفًا الآباء؟ مخالفًا النواميس البشرية الإلهية في الحب؟

إن النذور والترهب والتنسك والتعبُّد لطرق ضيقة كلها، مظلمة، باردة، إذا قوبلت بطريقك، أيها الحب الإلهي! فإذا عدت إليك، إذا سجدت أمامك، إذا اقتبلت الخزيَ والعار من أجلك فقليل ذلك قليل، وسأقتبله قانعًا، شاكرًا، راضيًا، تكفيرًا عن ذنبي يا سارة بل عن ذنوبي، غصن البان الراقصة الخاطئة الساقطة ابنتي! يا للحبور ويا للسرور! سأضمها غدًا إلى قلبي، سأضمها غدًا إلى قلبي، سأقبلك أيتها الخطيئة المتجسدة كما قبلك السيد في قديم الزمان، سأبني لك بيتًا في فؤادي، سأقضي الليالي ساجدًا في نور شمعتك الضئيل أمام الرب إلهي، ارحمني يا الله حسب رحمتك وحسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤