الفصل الحادي والعشرون

في الفضيحة نوع من الشهرة يلبس فريق من الناس ثوبها الأصفر على علاتها شفافًا باليًا، فيبدون سوءة النفس وإن واروا سوءة الجسد، كيف لا وهم يبذلون في إعلان أنفسهم الأموال الطائلة والفضيحة تعلنهم مجانًا؟ ففي أوروبا وأميركا إذا تناولت صحف الأخبار أسرار ممثلة فهتكتها تزداد تلك الممثلة شهرة فيروج سوقها ويتسابق المدراء إلى المتاجرة بها وبفنها، فتنتقل من بلاد إلى أخرى ومن ملهًى إلى آخر والإقبال حليفها، والأموال بين يديها تتصرف بها كيف شاءت أميالها وأهواءها، أما في الشرق حيث لا تفصل بين المرء ومهنته بين آدابه وفنه، فالخزي والفشل والعار تحيق به في الحالين.

سقطت غصن البان في القاهرة فنسي الناس رقصها، وأُفسدت طلاسم سحرها؛ فجفاها كلُّ أصحابها ما سوى سر همت باشا، ولم يجئها كلمة تعزية أو تشجيع من أحد سوى ذاك الكتاب من الحاج محيي الدين فودت غصن البان أن تغمسه بالسم وتلقمه إياه.

وحيدة، طريدة، منبوذة، فماذا عساها تصنع؟ إلى أين تذهب؟ كيف تتجه الآن بآمالها؟ فكَّرت في أمرها ثم فكَّرت وهي تُظهر في أشد شداتها هذه من الضعف قوةً، فوطَّنتِ النفس على أن تقيم في القاهرة ريثما تسكن العواصف وتهدأ الرياح، ونقلت من قلب البلد إلى إحدى زواياها المظلمة؛ هربًا من الشماتة، بل هربًا ممن يعرفونها ولا يحفلون بها، فهي تُطيق عذاب الوحدة والخمول ولا تطيق ظلم الشهرة والخذل.

ولكنَّ اثنين بحثا عنها؛ القس بولس عمون وسر همت باشا واهتديا إلى منزلها في مصر العتيقة. وسر همت سعى إليها ذات يوم يعزيها ويطيب نفسها ويعرض عليها المال، ويرجوها أن تقتبل ضيافته إلى أن تفرج كربتها وييسر الله أمرها.

– البيت في الجزيرة مفروش مهجور تقيمين فيه وخدمك.

– لا وحياتك لا، أرجوك ألا تحدثني بالبيوت، اعذرني يا صديقي، اعفني، صرت أخشى المعروف كما أخشى الأفاعي، صرت أخشى المكارم كما أخشى الوحوش الضارية.

– غصن البان!

– أرقص لك يا سر همت وأبسطك، ولكني لست آلة طرب تتناولها الناس فيضربون عليها ويعبثون بها ويسكرون على أنغامها، لا لا، لست كمنجة تؤجر أو تُعار أو تُشترى، وهب أني آلة طرب يا سر همت يا صديقي فقد تقطعت أوتاري، تقطعت كلها.

– ما أنصفتِ والله ما أنصفتِ، أسأتِ فهمي، أهنتني، أسألتك يا غصن البان شيئًا من أشياء الحب مرة؟ وهل كنت ممن يحومون حولك ابتغاء هبة من هبات جسدك؟

– لذلك أخشاك.

– أنا صديقك، وقد قلتِ مرارًا: إنك لا تحبينني، ولكني ما من مرة شككت في أنك تعتبريني وتكرميني كما أعتبرك وأكرمك، أُجلُّ يا أختي مواهبك، وأريد أن أعزز فنك، فنُّك يكبر على ذي البلاد، مستقبلك يا غصن البان في أوروبا؛ في باريس في لندرا في فيانا في برلين، ولقد فكرت في أمرك كثيرًا، اسمعي، لا تنظري إليَّ عاشقًا أو صديقًا أو محبًّا أو وليًّا، أكلمك الآن كما يكلمك مدير من مدراء التياترات، تعلمين أن أصحابي ومعارفي في لندرا كثيرون، وبينهم ذوو النفوذ في عالم التمثيل هنالك، سأسافر هذا الصيف إلى لندرا وأنوِّه بك هناك، أطبل وأزمر لك، أنتِ الآن راقصة شرقية شهيرة، ظهرت في مصر وفزت فيها فوزًا مبينًا رغم أنوف البغاة والسعاة والحساد، سأخابر أحد المدراء بشأنك هناك، فتظهرين إن شاء الله في لندرا كالشهيرات من الرواقص لا كالمبتدئات وإني واثق بفوزي، دعيني أسعى من أجلك.

– لا، لا، لا أريد أن يسعى أحد من أجلي، سأسعى لنفسي.

– إن ثقتك هذه بنفسك لجميلة، وجميل إباؤك، سأسعى إذن من أجل الفن؛ فنك لا من أجلك، وإن شئت أن تشاركيني في الأرباح فلا أعف عنها.

– إذا كنت ترى في رقصي ما ينبغي أن يراه الأوروبيون، وإذا كنت تعاملني كما يعاملني وكيلي أو مديري، وإذا كنت تقبل مني جزءًا من إيرادي، وإذا …

– وإذا، وإذا، وإذا، كفاك من ذي الإذا بل الأذى فقد آذيتني جدًّا، أعمل كما تشائين.

– وأنا قابلة.

– وسأسافر هذا الصيف إلى لندرا وعساني أفوز بما أبتغيه فأكتب إليك كي تسافري أو أعود بنفسي فأستصحبك، أنا الآن وكيلك ومدبرك، ولكن إقامتك هنا يا أختي، يا صديقتي! وها إنك لم تزالي تسعلين، بالله أن تقبلي ضيافتي، البيت في الجيزة على شاطئ النيل جميل.

– لا تحدثني بالبيوت، لا تحدثني بالضيافة، أنا راضية بما أنا فيه الآن، هذا البيت يكفيني، ومرجانة والحمد لله ومحمود لا يهجرانني.

– تبصري بما أقول، البيت في الجيزة مهجور، انْقُلي إليه تقيمين فيه وخادماك، وإذا أحببت أن تدفعي أجرته أقبلها منك عندما تشتهرين بلندرا.

– اعذرني، أفضل أن أبقى هنا، سأقيم في هذا الحيِّ، في هذا البيت إلى أن يجيئني خبر منك، عزمت عزمي ولا أتحول عنه.

– كما تريدين، أوَترفضين عيادة طبيبي يعالج سعالك؟

– لا.

– حسن، بارك الله فيك.

– أوَترفضين عزيمتي الليلة إلى العشاء؟

– أين؟

– في الكنتينتال، لا أغير عاداتي ولا ينبغي لكِ أن تغيري عاداتكِ، أحب أن يراك الناس معي، أفتخر بذلك؛ لأني كما تعلمين أحتقر هؤلاء الناس، كانوا أمس يهتفون لك كالمجانين، واليوم ينبحون عليك كالكلاب عليهم لعنات الله وإبليس، قومي بنا، لا يهمني اليوم بالقاهرة غيرك.

– والموميات.

– والموميات، عليك نور.

– انتظر ريثما ألبس ثيابي.

– ولتكن أحسن ما عندك وأجمل.

وخرجت غصن البان من غرفتها الخصوصية بعد نصف ساعة وقد ارتدت ثوبًا من الحرير الرماديِّ، أنيق الزي، بسيط التخريج، وقبعة مخمل من لونه صغيرة شبيهة بالعمامة في مقدمها ريشة بيضاء تبدو فوق جبينها البرَّاق كطائر من الحمام أسف على الماء.

– وما هذه الذخيرة يا غصن البان؟

– ألم ترها قبل اليوم؟ هي سلواي الوحيدة ألبسها في أيامي السوداء فتسليني، تشجعني، تعزيني، امشِ ولا تحفل بها.

– بل شوقتني إلى الاطلاع على سرِّها.

– سرها هنا — وأشارت إلى قلبها — امشِ يا سر همت ولا تكن …

– فضوليًّا، ممنون، ممنون، تفضلي.

وخرج وإياها من ذاك البيت الحقير، فوقف محمود عند الباب ويده على رأسه، واجتازا زقاقًا لا نور فيه غير أنوار القناديل الضئيلة المعلقة فوق الأبواب، فتُري المارين أشباحهم ولا تنير سبيلهم، والرواشن فوق رءوسهم إلى الجانبين تكاد تقع بعضها على بعض، ولما وصلا إلى الشارع العمومي ركبا عربة سارت بهما إلى الكنتينتال.

وبعد العشاء ونزهة في الجيزة شيعها سر همت إلى بيتها قرب نصف الليل وودعها عند الباب، وكان محمود لم يزل جالسًا هناك ينتظر سيدته، فلمَّا دخلت باب الرواق استفاقت مرجانة فجاءت تفرك عينيها وتقول: أتريدين حاجة مني؟

– لا يا مرجانة، روحي نامي.

وصعدت غصن البان إلى غرفتها منقبضة النفس مضطربة البال تفكر بسر همت ووعوده، وتقول: ومن يصدق منهم يا ترى؟ خدعوني كلهم خدعوني، ولم يزالوا يحاولون، ولكني لست اليوم تلك الساذجة، بيت على شاطئ النيل، شهرة في لندرا، وكيلي، صديقي، ما شاء الله! أوَتلام الراقصة الخاملة المسكينة الضعيفة إذا خُدعت وابتذلت وامتهنت؟! يتحجر قلبها وتفسد أخلاقها وتتجعد بشرتها، فتتاجر بجسدها كما يتاجر محيي الدين بمكارمه، وسر همت أيضًا، سر همت مثله ولا شك، أتلام تلك المسكينة يا ترى إذا قبلت حبَّ من يخطب ودَّها كما لو كان حقها دون أن تبادله حبها، يخدعها فتخدعه، يُهينها فتهينه، يضحك منها فتضحك منه؟! والناس يحتقرونها ويزدرونها ولا يدركون الأسباب التي شوَّهت نفسها وقتلت فيها الصدق والطهر والوفاء، ولا يحفلون بتلك الأسباب وإن أدركوها.

خلعت برنيطتها ثم نزعت السلسلة من عنقها فرفعت الذخيرة إلى فمها تقبلها.

وبينا هي واقفة أمام المرآة تناجي تلك الذخيرة، كان رجل قادمًا في ذاك الزقاق يعد إلى يمينه الأبواب، فوصل إلى المقصود منها وإذا بمحمود جالس على الأُسْكُفَّةِ تحت القنديل وقد بدت أسنانه كالعاج المنقَّى يعد سبحته ويتمتم متغنيًا ببعض الأشعار على نغمات عود في الحارة المجاورة.

– هذا بيت غصن البان؟

– نعم.

فهمَّ الرجل بالدخول فاستوقفه محمود قائلًا: حاجتك إيه؟

فدخل الرجل ولم يحفل به فلحقه العبد وأمسكه بجبته.

– تريد إيه يا شيخ؟

فتفلَّت الرجل منه وضربه على وجهه ضربةً أطفأت نور عينيه فوقع إلى الأرض، فتركه يئن ويلهث ويسبُّ، وتقدم مسرعًا فإذا هو في رواق صغير فيه نوفرة متهدمة جافة بل نائمة لا صوت لها، وإلى يمينه باب ودَرَجٌ يوصل إلى الدور الثاني، فنظر الرجل إلى الشبابيك فيه فلم يرَ نورًا إلا في واحد منها، فصعد الدرج ومحمود وراءه ينادي: يا مرجانة، يا مرجانة!

وذهب توًّا إلى الغرفة المنورة فوجد الباب مفتوحًا وغصن البان مدبرة تخلع ثيابها، فلما رأت الخيال الأسود منعكسًا أمامها في المرآة ذعرت وصاحت مستجيرة، وسارعت إلى الباب تقفله، ثم نادت من الشباك: يا محمود، يا مرجانة، يا مرجانة، يا محمود!

فطمأنها الرجل من الخارج قائلًا: لا تخافي يا بنتي، الْبَسي ثيابك يا مريم وافتحي.

– يا محمود، يا مرجانة، دهتكم داهية، مَن الغريب الواقف في الباب؟

فجاء محمود ويده على عينه يصيح ويتوعد الغريب.

– يا بنتي يا مريم لا تخافي أنا القسُّ جبرائيل، صديقك القس جبرائيل مبارك، الْبَسي ثيابك وافتحي الباب!

فسمع القس جبرائيل غصن البان تهمس اسمه همسًا أشد من الصياح وساد داخل الغرفة سكوت عميق قصير، ثم قالت تخاطب محمودًا: دع الرجل يا محمود، رح نم.

وبعد هنيهة فتحت الباب وقد ارتدت غلالة خضراء، ووقفت تحت العتبة كالتمثال لا تبدي حراكًا، نظرت إلى الراهب نظرة جامدة باردة، ثم قالت: وماذا تبتغي مني اليوم؟

– ما أبتغيه من خمس سنوات ولم أزل أبتغيه.

– وكانت بغيتك قريبة منك فلم تظفر بها، فكيف إذا أصبحت بعيدة عنك بعد السماء من الأرض؟

– البعيد من الله أقرب إليه من القريب منه.

– اتركني إذن قريبة من الله.

ولاح في عينيها بريق الشقاء المستهتر وهي تبتسم ابتسامة التهكم. في السنين التي قضتها نائية عن وصيها ومرشدها — خارج السجن — في نعيم الحياة وبؤسها، نشأ فيها خلق الازدراء والتفوق، فكان يُخفي في بعض الأحيان فطرتها الطيبة، زالت سذاجتها كما يزول لون الزهرة وشذاها إذا قُطفت وعُرضت للشمس، ولكن تلك الغريزة الحميدة كمنت في قلبها كما تكمن في الزهرة بذور الحياة الخالدة، والخلق المكتسب فيها؛ خلق الغواني والممثلات منشأ الغرور والتفوق، خلق من يقفن كلَّ ليلةٍ أمامَ الناس فتسكرهنَّ ضجات الاستحسان والإعجاب، ذاك الخلق الأنيق الباهر الكذوب خانها تلك الآونة، ولم تكن لتستطيع أن تخفي ما جاش في صدرها من جيشان الغمِّ والأسى، فلما أجابت القس جبرائيل الجواب الذي ظنته قاطعًا مفحمًا عبس بها وأجابها قائلًا: ما جئت أمازحك.

فارتعدت فرائصها وتساقطت منها حُلِيُّ الغرور والتصنع كما تتساقط من الأشجار أثمارها المتهرئة، فوقفت لا كغصن البان أمام أحد مريديها معتزةً شافنةً، بل كمريم الناصرية أمام الله صاغرة خاشعة، نظرة من نظرات القسيس القاسية أحيت فيها حقيقة حالها، كأنه تناول الوردة البالية فنفخ بها فتطايرت بتلاتها وبدت في قلبها العاري بذورُ الحقيقة الرائعة؛ بذور الحياة الطاهرة، فمدَّت غصنُ البان يدها إلى الراهب كأنها تقول: خذ ما تبقى في قلبي وازرعه حيث شئت.

– ما جئت أمازحك.

ثم قال دون أن يقترب منها: تعالي معي.

– إلى أين؟

– إلى حيث أشاء.

– سيدي القس جبرائيل.

– ولا كلمة، هاتي يدك، ومدَّ يده إليها.

– لي كلمة واحدة أقولها، ادخل يا مولاي، ادخل بيتي وإن كان لا يليق بك.

وأخذت يده فأدخلته غرفتها وأجلسته على الديوان أمام سريرها، فاعترت الراهبَ هِزةٌ حين شاهد وجهها في نور القنديل، سبحانك اللهمَّ! أتكذب المآثم، أتخطئ الدعارة؟ هذه النضارة وهذا الرونق في وجهها، لقد زادتها السنون جمالًا، وليس في عينيها ولا في فمها أثر من آثار الخطيئة، إلا أن نظراتها ولهجتها في بعض الأحايين كانت تزعجه.

– أجئت تنقذني مرة ثانية يا مولاي؟ هل تعرف من أنا الآن؟ لما هربت وإياك إلى طبريا كنت بنتًا جُنيَ عليها فصرت أمًّا؛ أمًّا حزينةً، ثم فررت من تلك البلاد ومنك هاربة، فخضت عباب الحياة راغبةً طامحةً مستهترة، نسيت ولدي ونسيتك إلا في أوقات اﻟ … نسيتك ونسيت قديم بلائي، قاتلت أهوائي واسترسلت في أهوائي، مددت يدي إلى الثمار المحرمة، الثمار التي اشتهتها نفسي، فقال الناس: إني راقصة بغي، قاتلت من حاول هتك عرضي ممن يكرههم قلبي فغلبوني، لقيت منهم الويل والبلاء، وقال الناس: هذا الترفع كذب وهذا التمنُّع صاغته حيل النساء! رأوني ساعة استهتاري ولم يروني في ساعات عذابي، رأوني راقصة بغيًّا، ولم يروا ما في قلبي من الأماني العالية والمطامع الشريفة، فكرهت نفسي الرجالَ وطردت من قلبي الحبَّ وذكراه، إلا أن زوايا هذا القلب الكسير، في زواياه المظلمة الباردة شيء واحد أعزه وأقدسه وأهتدي به، شيء واحد يشفع بي أمامك وأمام الله، أبتي القس جبرائيل، مولاي، منقذي، لا تنظر إليَّ غضِبًا، عبوسًا، أخاف هاته النظرات، ترجفني كلماتك، سامحني، ارحمني، ارْثَ لحالي.

خرَّت غصن البان أمامه جاثية وطفقت تقبل يديه وتنظر إليه تارةً خاشعة حزينة وتارةً بهيجة غانجة، نفس مريم في قلب غصن البان، قلب غصن البان في نفس مريم، إنما هذه الامرأة التي خرَّت أمام القس جبرائيل جاثية فأحزنته كلماتها، وأزعجته حركاتها، وعذبته منها تلك النظرات المريبة، وارتعشت جوارحه من قبلاتها الحارة، فأبعدها عنه قائلًا: انهضي انهضي، وسيري معي.

– لا، لا، إليك عني، دعني في بلائي، في وحدتي، في وحشتي، إن يدك لا تصل إليَّ لتنقذني ثانيةً، وإذا حاولت ذلك قد تسقط معي، سر في سبيلك، ودعني في شقائي.

– إني لأعرف ما في قلبك وما ليس في قلبك امشي معي.

– مستحيل، مستحيل.

– امشي قدامي.

وأخذها بيدها فتفلتت منه نافرة حانقة.

– البلاء المحيق اليوم بي خير من القساوة التي تمد إليَّ يدها، الشقاء المكتنفني خير من تبرد كلماتك.

– السعادة تناديك وتنتظر قدومك، امشي معي.

– ولكن رسول السعادة لا يكون ظالمًا قاسيًا.

– مخطئة أنتِ.

– برهانك، برهانك أني مخطئة، أنظرت إلى ما في أعماق قلبي وبششت له، أأريك ما لم أزل أقدسه فلا تحفل به؟

– ومن قال لك ذلك يا مريم؟ إن أوهامك باطلة، انظري إليَّ، تقدمي مني، أأسألك عن هذه الذخيرة وهي بادية لناظري، عزيزة عندي كريمة مقدسة؟!

– وأخذ الذخيرة يقبلها ويقول في نفسه: رحمة الله عليك يا سارة، فلاحت إذ ذاك في وجه غصن البان ابتسامة السرور والرضى وسكتت هنيهة، ثم أخذت يديه بيديها وقالت: لا تقساني، لا تظلمني، لا تعاملني كمن ظفر بالحياة فأذلها، عاملني كمن يحب الحياة وإن أذلته، مولاي القس جبرائيل، أنا رهينة إشارتك، أنا خاتم في بنصرك، ولكني لا أجسر اليوم أن أسألك ما سألتُكَه مرةً، لقد أفسد الخير سذاجتي، فصرت أخشى ما أعلم وما أجهل، أنت تعرف ما أريد، أنت تدرك بغيتي القصوى، فقد حفظتها مقدسةً هذه السنواتِ كلها، وكنت في نعيم الحياة شقية حزينة، كنت أبكي وأنتحب حين تعتريني لذكراه هزة الشوق، ولدي، ولدي.

– سيري معي فيكون لك ما تبتغين، السعادة تناديك وتنتظر قدومك.

– إلى حيث شئت، إلى حيث تريد، حتى إلى الجحيم.

– نحن الآن في الجحيم، أسرعي، أسرعي لنخرج منه.

– الآن؟

– الآن، هذه الساعة، هذه الدقيقة.

– وبيتي وأمتعتي و…

– غدًا يجيء من يعتني بذلك، انفضي الآن يدك من كلِّ شيءٍ وسيري معي إلى بيتي، دعي خادمتك نائمة، وخادمك، الْبَسي ما يقيكِ هواء الليل البارد، اقفلي الباب، هاتي المفتاح.

– بارك الله فيك.

ومشت والقس جبرائيل إلى منعطف الجادة فإذا بعربة تنتظر هناك، فركبت وإياه وراح الحوذيُّ يحثُّ خيله إلى الجيزة، ومنها إلى ناحية الأهرام، وبعد سير ساعة وما يزيد وقفت العربة، فترجل القسُّ جبرائيل وصرف الحوذيَّ ودخل وغصن البان في بستان من النخيل ماشين مسرعين جنبًا إلى جنب.

– إلى أين يا قس جبرائيل؟

– إلى بيتي.

– ويلي! هذه الظلمة مخيفة مرعبة.

اجتازا في ذاك البستان إلى الصحراء فأصبحا بعيدين عن الحقول والسبل فيها، ضلَّ القس جبرائيل الطريقَ تاه ورفيقته في البادية، في بحر من الرمال وبحر من الظلمة، مشيا ساعة فأعياهما المشي، فرمت غصن البان بنفسها على الرمل تئن من التعب والخوف.

– أين بيتك يا قس جبرائيل، ربي! ما عساك تصنع؟ إلى أين، آه ما ألطف هذا الهواء! دعني أستريح قليلًا، اجلس تسترح، اجلس هنا إلى جانبي، هواء الليل منعش وظلمة الليل إذا كنت قربي لا تخيفني.

وقف القس جبرائيل وقد أحس من نفسه وهنًا ينظر غربًا وشرقًا وجنوبًا وشمالًا يسأل الله الهداية، ولكنَّ البادية كلها طريق والليل كله طريق أخرى ولا حاجز في الطريقين ولا حد لهما.

– انهضي يا بنتي، امشي، امشي، الله معنا، ها قد تراءت لي ظلمة أشد ظلامًا من الليل واقفة كالطود هناك، هذا الهرم، لله! ما أقرب الطريق إلى الجحيم وما أبعدها منه، ما أقصرها ذهابًا وما أطولها إيابًا!

واستأنف ورفيقته السير ثم وقف فجأة يسند رأسه بيديه من صداع بل دوار أصابه.

– ما بالك يا قس جبرائيل؟ لماذا لا تجلس قليلًا فتستريح، دعنا ننتظر هنا ريثما يطلع الفجر، النوم على الرمل تحت السماء لذيذ.

– امشي يا بنتي امشي، هذا الهرم، قد اهتدينا إلى الطريق، وقريبًا نصل إلى البيت.

وهبَّ إذ ذاك الهواء البارد رسول الفجر فجعل يصفر في نخاريب حجارة الهرم فيستحيل صفيره صياحًا بشريًّا وعويلًا، فخيل إلى القس جبرائيل لما اعتراه من العياء والدوار أن أناسًا هناك يقهقهون ويضحكون منه، بل سمع أصواتًا تقول: صفقوا للناسك! قد فاز بقوت قلبه.

– حيوا الناسك وعروسه!

– خذوا الدفوف واضربوا وارقصوا!

وكان صدى العويل والصفير يتراجع في هبوب الرياح، فسمع الراهب تلك الأصوات حول الهرم كأنها أصوات خارجة منه.

– لو أحبها لرحمها، لتركها تنعم في جحيمها.

– لو أحبها لعاش وإياها هناك.

– لو أحبها لقتلها.

– تبارك ضلاله! وتباركت أوهامها!

– خذوا الدفوف واضربوا وارقصوا …

هدأت الريح قليلًا ولم يهدأ ما أثارته في قلب القس جبرائيل من الهواجس والأوهام، فقبض على يد غصن البان وقد تصور أنها تحاول الفرار منه وأسرع في مشيه، لقد سمع أصواتًا لم تسمعها، ولكنها أحست باضطرابه وسمعت تنهداته، وكادت نار يده تحرق معصمها.

– ما بالك يا قس جبرائيل؟ ما بالك؟

– لا شيء يزعج يا بنتي، لا شيء.

ولكنه كان يسائل نفسه قائلًا: وما هي يا ترى هذه الأصوات المرعبة؟ أتضحك الأموات منا؟ أتنذرني بحبوط مسعاي؟

– يا قس جبرائيل …

– وصلنا يا بنتي، وصلنا.

وما كاد يقف في باب كوخه حتى تراءى له خيال أبيض حول رأسه هالة من النور، فسمعه يقول: أنا الرحمة، أنا المحبة، من يميت نفسه يحييها، ومن يُحيي نفسًا أخرى يُحيي نفسه.

دخل إلى الكوخ يرتعد وجلًا وغصن البان لم تزل في قبضته، فأجلسها على مرتبة من الخشب فيه وأشعل القنديل.

– هذا سريرك، نامي يا بنتي، لقد أعياك المشي وأراك ترتعدين بردًا، نامي قليلًا.

ثم خلع جبته وغطاها بها.

– نامي قليلًا لنقوى على السفر غدًا.

ثم أطفأ القنديل وخرج من الكوخ، فجلست غصن البان على تلك المرتبة ورأسها بين يديها تفكر في مصيرها، والقس جبرائيل يتمشى على الرمل قلقًا معذبًا يردد ما أسمعه الوهم من أصوات الليل والقبور.

– لو أحببتها لتركتها في الجحيم! لو أحببتها لأقمت وإياها هناك، لو أحببتها لقتلتها! شياطين الجحيم! أتتبعني لتهزأ بي، لتسخر مني، لتضحك من مسعاي، هيهات هيهات! أواه، رأسي يلتهب وهواء الفجر لا ينعشني. من أمات نفسه أحياها، من قتل نفسه أحياها، رب الأكوان! إن نجومك ورمالك لتخفي الصغير والكبير من أسرارك، من أحيا نفسًا أخرى أحيا نفسه، والنفس إذا عادت إليها حياتها الدنيا عادت الرغبات معها والأهواء والشهوات، كانت مريم ضالةً فوُجِدت، ومن وجدها؟ من أنقذها؟ من ذا الذي عاد بها إلى الحياة إلى مطهر القلوب؟ أنا الفقير إليك يا ربي، فهل ينبغي لي أن أقتل النفس الجديدة فيَّ تلك التي أحييتها، لك المجد، بتحقيق آمالي وبتوفيق مسعاي؟ لم تزل تظن أن الذخيرة مني، مسكينة واهمة، سأكشف لها السر، سأطلعها عليه، فتكرهني لذلك، تلعنني، وقد تتفلت من يدي فيخفق مسعاي ثانيةً، ما العمل؟ ما العمل؟

جلس على الرمل قبالة الكوخ يتأمل الربع الأخير من القمر وقد ظهر في الأفق فوق الرمال يرفع سَجْفًا من سجوف الظلام، وأقبلت طلائع الفجر الأولى تطارد الليل فتميزت الصحراء والسهول وبدت رءوس النخيل قرب الهرم كأحمال من الرتم حول الأتون، وهبَّ نسيم الفجر فأنعش الراهب وجدد فيه العزم والثبات.

– سنسافر اليوم، سنسافر اليوم.

ورفع رأسه فإذا بغصن البان واقفة في باب الكوخ تنظر إليه، والقمر ينير وجهها، والنسيم يداعب شعرها، فنادته بصوت متلجلج مضطرب ودنت منه تخاطبه قائلة: ظننتك هجرتني، وقد تفعل، مَن يعلم؟ اسمع يا قس جبرائيل، أحب أن أعرف إلى أين ذاهب بي؟ وما الغاية من سعيك هذا؟ أتريد أن تنقذني من موبقات المدينة؟ هذا مستحيل، الموبقات ليست في المدينة بل في قلبي، رح يا سيدي في سبيلك، ودعني أعود إلى شقائي، إلى بؤسي، إلى وحدتي، إلى جحيمي، لا تقترب مني أدنسك، يدي ملطخة بالإثم، جسمي مدهون بزيوت الفحش والعار، في صدري تحتدم نيران الشهوات، في عيني رماد كان بالأمس نار رغباتٍ سماوية، في شعري سمُّ قبلات العشاق والمحبين، لا تقترب مني أدنسك، سر في سبيلك، عُد إلى نعيمك، ودعني أعد إلى جحيمي.

– سنسافر اليوم، هذه الساعة إن شئتِ، إلى طبريا حيث السعادة تنتظرك، تناديك من تلك الأرض المقدسة، لا تسترسلي في الأوهام، وطِّدي ثقتك بالله، لا ترتابي …

– أرتاب في أنك صليبي.

– وستسافرين معي إلى طبريا فتلتقين هناك ومَن تحبينه.

– ومن أحبه؟ عساك تحلم بزواجي، أنت مخطئ، ليست غصن البان تلك الفتاة مريم التي كنت تعرفها، خاطرك الوداع، أدعو لك بالتوفيق حيث سرت، وحيث حللت.

– وهمَّت بالذهاب فأمسكها القس جبرائيل بيدها وأوقفها.

– اتركني!

– قفي قليلًا، ادخلي، اسمعي كلمتي الأخيرة.

– لا، لا.

فجرَّها إلى الباب فوقفت هناك متمنعة متمردة.

– دعني أذهب إلى سبيلي.

– عبثًا تحاولين التفلَّت من يدي.

– اتركني، لا تُكرهني.

فضغط على معصميها فصرخت متأوهةً والْتَوَتْ تحت وجهه الناظر إلى وجهها كغصنٍ هصرته الرياح، فنهض بها حتى كاد خدها يلامس لحيته، وهو ينظر إليها بعينٍ لاح فيها وميض الشهوة التي طالما خدعتها فأصبحت بين يديه كالعصفور رماه الصائد، لا تبدي حراكًا، فحملها إلى داخل الكوخ وهي ترتعد بردًا وحبًّا وجزعًا، وما لبثت أن أغمي عليها، فمددها القس جبرائيل على المرتبة وطفق يفرك يديها ورجليها ويناديها باسمها مطمئنًا مطايبًا.

وفي تلك الساعة دخل القس بولس عمون قادمًا من البلد، فوقف في الباب والقس جبرائيل مدبر يعالج غصن البان.

– المجد لله يا أبتي.

فالتفت القس جبرائيل مذعورًا وإذ شاهد القس بولس تنفس الصعداء: جئت في وقتك، هذه الابنة مريم ابنتنا، لقد أغمي عليها من شدة التعب، ساعدني لنعيد إليها رشدها، تقدم، افرك رجليها.

فدنا القس بولس ينظر إلى وجهها فشاهد الذخيرة على صدرها، فتأملها فإذا هي بعينها تلك الذخيرة التي أعطاها إلى أمها سارة يوم كانت حاملًا، فقبَّلها وقبَّل مريم هاتفًا: بنتي! بنتي! سبحانك اللهمَّ، ارحمني يا ربي وارحمها.

جمد الدم في عروق القس جبرائيل ووقف كالشبح بين البنت والراهب محملقًا: وهل أنت الأخ إيلياس؟!

– نعم أنا إيلياس البلان، أنا هو.

فصفق القس جبرائيل كفًّا على كف معجبًا مبتهجًا، ثم بسط ذراعيه إلى القس بولس، فضمه إليه يقبله ويقول: غفر الله ذنوبنا أجمعين، لقد سامحتك سارة وغفرت ذنبك وهي على فراش الموت، يا مريم، يا مريم، استفيقي يا بنتي، استفيقي، افرحي تهللي، ها قد ظهر قسم من سعادتك، ها هو ذا أبوك.

– أبي، أبي!

– نعم أبوك.

فأيقظتها الدهشة وجلست تنظر إلى الراهبين حائرة بائرة.

– أبي أين أبي؟ من هو أبي؟

فضمها القس بولس إليه هاتفًا: بنتي الحبيبة، بنتي مريم! أجثو أمام أمك فيك، أسأل الله أن يغفر ذنبي، رحم الله أمك، غفر الله ذنبي.

وضمها إليه وطفق يقبلها مبتهجًا، مضطربًا، باكيًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤