الفصل الثاني والعشرون

على شاطئ البحيرة عند تلحوم امرأة تناهز الأربعين من العمر تحدِّث أحد النوتيين، وولد صغير صبوح الوجه، أشقر الشعر، حادُّ النظرات، أنيق الثياب لا يتجاوز الرابعةَ من سنه يلعب على الرمل ويراقب القوارب القادمة من طبريا وسمخ.

– يا لطيفة، يا لطيفة، زات السختولا.

فأدارت الامرأة وجهها وإذا بالصبي قريب من الماء، فصاحت به مذعورة: فريد، فريد! يا ربي، يا مريم العذرا! وركضت إليه تجذبه بيده وتضربه عليها.

– قلت لك ألف مرة لا تقترب من الموج، قم نرجع إلى البيت، ما جاء أحد اليوم.

فصرخ فريد متأوهًا وجلس على الرمل يقبض على رجله بيده كأنها حرقت أو جرحت.

– عرفت حيلتك، قم يا حبيبي، قم اركب على ظهري.

– فركب فريد ضاحكًا متثبتًا، وعادت به إلى البيت؛ بيت القس جبرائيل في السهل وهي تغني له:

والدوم ويلي عالدوم
راحت يا حرام الشوم
راحت لكن راح ترجع
راح ترجع صباح اليوم.

ولكنها لم تعد لا صباح ذاك اليوم ولا صباح تواليه، فملَّت لطيفة الانتظار؛ وإشفاقًا على فريد من الخطر في لعبه قرب الماء لم تجئ به بعدئذٍ إلى شاطئ البحيرة.

– اليوم نطلع إلى الربوة ونأخذ العنزة معنا.

– والسلة للهندبا أنا أهملها.

– طيب احمل السلة واركب على ظهري.

– أتعب عاضهرك، مباره وزعتيني، سديتي بيدي كتيل.

– مليح، اركب على كتفي، على رقبتي، الله يجيرني منك!

– أمسي يا لطيفة، بكله أغني عاقبرك.

– واليوم غنِ لي عالدوم، غنِ.

فجعل فريد يردد بلثغة الأطفال الجميلة:

عالدوم ويلي على الدوم
لاهت يا هلام السوم
لاهت لكن لاه تلزع
لاه تلزع صباه اليوم.

– يسلم فمك، ومن يرجع يا حبيبي؟

– الماما.

– وأين هي الماما؟

– الماما بمصل.

– وأنت مشتاق إليها؟

– كتيل، كتيل.

– ولما تجيء ماذا تقول لها؟

قلا: يا ماما العنب استوى وبطلع معا علكلم وبقطفلا العنقود.

الصليب حولك، الصليب حولك.

– غَنِّي أنتِ، غَنِّي: وطلعت عالاس الزبل.

وجعلت لطيفة تغني له الأغاني والأهازيج وهي في الحقل تملأ سلتها من الهندباء وهو يختار من عسيب العفص أطرى الأغصان ويلقمها العنزة.

وفي ذات يوم بينا كان عائدًا إلى البيت راكبًا على عنق لطيفة يهزُّ رجليه ويغني «عالدوم» رأى قاربًا في البحيرة بعيدًا فهتف قائلًا: سختولا، سختولا، زات الماما، زات الماما.

وظل يلحُّ ويبكي حتى جاءت به لطيفة ذاك اليوم إلى «فلهوم» أي كفر ناحوم، ولبثت تنتظر قدوم القوارب من طبريا، فجلست وإياه على الشاطئ تجمع له الأصدافَ تعلله بها، ولما وصل أحد القوارب ونزل منه بعض الإفرنج المقيمين في دير بتلك النواحي طفق فريد يبكي، ورمى في البحيرة غيظًا كلَّ ما جمعته لطيفة من الصدف.

– لا تحرد يا حبيبي، لا تبكِ، غدًا تجيء الماما، قم نرجع اليوم إلى البيت.

وما كادت تجتاز وإياه الشاطئ حتى سمعت صوتًا يناديها: يا لطيفة يا لطيفة! فتلفتت ملبية كأنها عرفت صاحب الصوت، وإذا بقارب آخر يُقِلُّ امرأة وراهبين وبضعة صناديق من الأمتعة، فعادت تركض والصغير على ظهرها يحثُّها من شدة الفرح برجليه، ويصيح: الماما، الماما.

ولقد أعدَّ القس جبرائيل مريمَ لهذه الدهشة المفرحة العظيمة قبل السفر من مصر، فقصَّ عليها قصة الطفل منذ سُرق تلك الليلة إلى يوم استرجاعه من الشقية أم هيلانة وإلقائها في السجن، ولولا ولدها ما عادت مريم وإياه إلى فلسطين.

ولما اقترب القارب من الشاطئ قال القس جبرائيل يخاطب مريم: البحيرة التي مشى عليها السيد إنما هي أم العجائب، سلبتك ابنك طفلًا رضيعًا فأعادته إليك صبيًّا بهيجًا، ها هو فريد ابن البحيرة تحمله رفيقتك القديمة لطيفة، اسمعيه يناديك.

وكان فريد على الشاطئ يرقص ويشير بيديه مناديًا الماما، فلما وطأت أمه الثرى ركض إليها باسطًا ذراعيه فتعلَّق بعنقها يقبلها ويقول: أين كنتِ يا ماما؟ وهي تقبِّله وتبكي، جلست على الرمل وأجلسته في حجرها تحدجه بنظرها منصتةً إلى كلماته وسؤالاته لا تدري ما تقول، فأصابها من شدة التهيج والبكاء نوبة سعال دامت بضع دقائق، فأخذ القس جبرائيل الصبيَّ وأسعف القس بولس ابنته وسار الجميع توًّا إلى البيت.

وفي تلك الليلة نامت مريم تضم ابنها إلى صدرها وهي تحس بلذة جديدة بهيجة عجيبة، أسكنت جوارحها وضمَّدت جراح قلبها.

وفي الصباح باكرًا نهض فريد يوقظ أمه ويقول: ماما، استوى العنب، اطلعي أقطفلك العنقود.

فنهضت تداعبه وتلاعبه وتضمُّه إلى صدرها وتقبِّله، وجاءت به إلى فِناء البيت تحمله على ذراعها فأحسَّت من نفسها وهنًا.

– لا أستطيع أن أحملك يا حبيبي.

– أنا أمسي علكلم.

– سنطلع إلى الكرم يا عمري، تعال قبلني.

فركض فريد إليها يعانقها ثم قبلها في فمها، فأبعدته تقول: لا، لا، قبلني هنا (مشيرة إلى خدها) وهنا (مشيرة إلى عنقها).

ثم أبعدته منها قيدَ ذراع وهي تنظر إليه بعينٍ كئيبة حزينة ترقرق الدمع فيها.

ودخلت إذ ذاك لطيفة تحمل طبقًا من القش عليه الخبز والجبن والزيتون والعسل والقريش ومقلاة فيها بيضات مقلية وسفَّود من الشواء فألقت الطبق على طاولة قرب الديوان وهي تخاطب مريم: لا تؤاخذيني إذا ناديتك حسب العادة القديمة باسمك، لقد سمعت بما كنت فيه من العز بمصر وفرحت كثيرًا، ولكنك دائمًا تلك المريم عندي، سبحان من يغير ولا يتغير، أنسيتِ لطيفة العشية التي كانت تلعب وإياكِ «البوكر»؟ أتذكرين تلك الليالي والفولات، والأزهار التي حرقتها، واﻟ …

فقاطعتها مريم تقول: لا تذكريني بتلك الأيام يا لطيفة!

– وما بالك تبكين يا بنتي، أنتِ أعز من بنتي، أتبكين فرحًا للقاء فريد، يحق لك، لولاي …

– علمت بفضلك يا لطيفة، وأنا شاكرة لك ممتنة.

– وإذا غبت يومًا واحدًا عن فريد يضيع عقلي.

وأخذت الصغير من ذراعيها وطفقت تقبله وتردد النكات التي يسرُّ بها، غنِّ للماما يا حبيبي غنِّ لها: وطلعت عاراس الجبل.

فوقف فريد قدَّام أمه وهو يجول بنظره فرحًا بينها وبين الطابخة ويشير بيديه وبرأسه إشاراتٍ لطيفةً فتَّانةً.

وطلعت عالاس الزبل
أسلف على البهلا
وسمعت الهمام ينوه
ينوه على البهلا
قلت لو يا همام
صلي صلاتك ونام …
صلي صلاتك ونام …

– كمل كمل، أنسيتها؟ راحت …

– بلى، بلى، اسكتي.

قلت لو يا همام
صلي صلاتك ونام
لاهت أمك تسوه
الله يعطيك غيلا.

ونظر إلى أمه فرآها تضحك وتمسح بالمنديل عينيها، ثم ركضت إليه فجثت أمامه وطوقته بذراعيها تقبله هاتفة.

– ولدي، حبيبي، حياتي، مهجتي، نور عيني.

ثم تبعده عنها قليلًا فتحدق فيه كأنها تنظر إلى شيء عزيز توارى عنها، ثم تضمه إليها مسرعةً متلهفة كأنها تحميه من حيوان يحاول افتراسه.

– ماما، قومي نطلع علكلم.

فأخذته لطيفة وأجلسته على الكرسي قائلة: بعد الفطور يا حبيبي، تقدمي يا بنتي قبل أن يبرد اللحم والبيضات.

فجلست مريم إلى المائدة تلقم ابنها وتحاول إشحاذ شهيتها بشيء من عسل بلادها وقريشه، ولم تأكل إلا قليلًا.

ثم نهضت مستسلمة إلى فريد وقد خرج من البيت يجر لطيفة بذيلها.

فحملته على ظهرها ومشت قدام مريم إلى الكرم، فاعترتها في الطريق نوبة سعال شديدة ورَّدت منها الوجنتين وأخفت هنيهة حدقة عينها.

وبينا هي وولدها ولطيفة في الكرم كان القس جبرائيل والقس بولس يتحدثان بشأنها.

– لا يجوز أن تقيم هنا.

– سننقلها إلى لبنان بعد أن يتم ما حدثتك به وعليك أن تساعدني، فإن في الزواج خلاصها وسعادتها.

– وهل ابن أخيك راغب؟

– بل مُصِرٌّ ومُلِحٌ في ذلك، وقد أنبأته برجوعنا وسيجيء من حيفا اليوم أو غدًا.

– وإذا كانت لا تريد ما نريده لها.

– لا أشك في أنها ترضى بما فيه خيرها، وفي كلِّ حال كنت ناصحًا لها مرشدًا مثلي، حَبِّبْ إليها الزواج، فإنه نافع لها ولابنها ولوالده، بل لازم متحتم، هو الحق الذي ليس غير الخير فيه، زواجها بابن أخي عارف يرفع عن الولد ذنبًا ليس ذنبه؛ يُزيل من حياته ظلمات الغش ولطخة العار، وعارفٌ في هذا العمل يكفر عن إثمه، ومريم تصادف فيه ولا شك زوجًا فاضلًا محبًّا كريمًا عطوفًا حنونًا، لقد هذبه الدهر وعلمته تجارب الأيام، لقد أصلح الشابُّ شأنَه.

– ولكن مريم …

– هب أني مخطئ في ظني فلست متحولًا عن عزمي، زواجهما لازم ضروريٌّ، متحتم عليهما، ينبغي أن يكون للولد أب معروف فلا يلعنه في مستقبل حياته، ينبغي أن يتزوج عارف بمريم ليغفر الله ذنبه، ولا يهمني عاشت وإياه بعدئذٍ أم لم تعش، الحق يا قس بولس؛ حق الله يعلو ولا يعلى عليه، والعدل قبل السعادة، العدل فوق السعادة …

جلست مريم تحت الدالية تنظر إلى السهل المنبسط أمامها وإلى البحيرة الزرقاء الراكدة، وقد ظللتها شمس الصباح بظلال الجبال القائمة حولها شرقًا وغربًا، لقد لقيت أباها، ولقيت ابنها، ولم تكن تتوقع بعد هاته الدهشات المحزنة المبهجة دهشةً أخرى، لم تكن تحلم بما يضمره لها القسُّ جبرائيل وبما تكشفه لها مخبآت الزمان.

– وماذا يهمني أبي؟ إذا جهرت به إذا ادعيته أفضحه، فينبغي أن أنساه. أما القس جبرائيل فقد صنع صنعًا جميلًا ليس في إمكان بشر أن يكافئه عليه، صحيح، صحيح، ولكني مع ذلك أكرهه، خدعني مرتين، عذبني ليخلصني مما يظنه إثمًا فرماني بما هو أشد عذابًا وويلًا. ومَرَضِي من يخلصني منه؟ جاء بي إلى هذه الديار القاصية، إلى هذا الغور المهلك ليجمعني بابني، وكان في إمكانه أن يستصحبه إلى مصر، إن في كلِّ ما يصنعه شيئًا غامضًا خفيًّا، سريًّا يدل على حب الذات والكبرياء والاعتداد بالنفس، يكسر قلوب الناس ليقيم رأيه، يزدري أشياء الغير ليعزز أشياءه، يجر على الناس الويل والبلاء باسم «الحق السماوي» وباسم الله، فينبغي أن أنساه أيضًا، سأشكره في الآخرة يوم أقف أمام الرب إلهي.

آه ما أمرّ الحياة! لقيت ولدي فلذة كبدي ولا أستطيع أن أفرح بلقائه، لقيت والدي وكأنني لقيت عدُوِّي، ألم يكن عدوَّ أمي؟ أكنت شقيت يا ترى لولاه؟ أكنت لقيت من الحياة أمرَّها لو أنه أحبَّ أمي وأكرمها فاحتضنتني ورعتني بالتربية، قذف بي إلى هذا العالم وفرَّ هاربًا، جبان رعديد! لئيم أثيم! يستحق الذبح. وأين أبوك أنت يا مهجتي، يا حياتي! أتجتمع به يا ترى بعد موتي كما اجتمعت أمك بك فازدادت حزنًا وغمًّا؟ معلِّمي عارف أفندي! ابن الأكابر! الأديب السري! ويل الشبان أمثالك! ولكني أحببته فجنى عليَّ، أحببته حبًّا ضُحك مِنِّي عليه، كنت ساذجة في تلك الأيام، وخطيئتي الكبرى أنني إذا أحببت أحبُّ حبًّا لا يدرك حدودًا ولا يعرف خداعًا، لو علمت اليوم مقرَّه لذهبت إليه وولدي بيد والخنجر باليد الأخرى، شقيت الأم فلا يجوز أن يشقى ابنها، لا، وحياة الله!

بمثل هذه الأفكار كانت تزيد نفسها اضطرابًا وغمها غمًّا، ولا ريب أن اشتداد وطأة المرض عليها أظلم فؤادها وحرمها لذة العطف والحنان، «الحياة لعنة في الأرض!» هذا أحسن ما قاله القس جبرائيل، فالجميل في الحياة إنما هو الطعم في شبكة الصائد، اللذات حبائل وأشراك مهلكة، والبعد عن اللذات عذاب لا يطاق، ما العمل إذن، ما العمل؟ الحياة لعنة في الأرض!

ولما وصلت إلى البيت عائدة من الكرم وولدها سألها أبوها: لما أنت مضطربة كئيبة؟

فلم تجبه، دخلت إلى البيت ورمت بنفسها على الديوان وقد أعياها المشي، وأظلم وجهها وقلبها ونفسها من التأملات المحزنة، فاقترب منها القص بولس يطايبها ويطمئنها ويمسح بمنديله العرق المتصبب من جبينها.

– لا تخافي يا بنتي.

فقالت على الفور كأنها تضربه بما تقول: لست بنتك، لو كنت أبي لما تركتني أشقى.

– أخطأت يا بنتي وندمت على خطيئتي.

– وما نفع الندم وقد جوزيت أنا على فعلتك، عشرون سنة من البؤس والعذاب والذل تقاضاها الدهر من دمي ولحمي ونفسي وفؤادي لقاء خطيئتك، ثمن إثمك، ما أجمل هذا الدين دينكم! تقترفون المآثم وتَجرُّون البلاء على العباد وتملأون الأرض فسادًا ثم تلبسون المسح وتذرون الرماد على رءوسكم، ثم …

– مريم، مريم، بنتي!

ولم يستطع أن يفوه بكلمة أخرى، خنقته العبرات، ولكن مريم لم تحفل به: أي نعم، تلبسون المسح وتذرون على رءوسكم الرماد ثم هللوا، هللوا، ادخلوا مجد ربكم آمنين. والله لأذبحنك وأذبح ابني وأذبح والده لو كان لي أن أراه، وألبس بعد ذلك المسح وأذري على رأسي الرماد وأعيش على الخبز المبلول بالماء فأموت قديسةً وأدخل مهللة مجد ربي، إذا كانت الحياة لعنة في الأرض فمجد ربي أضحوكة ذميمة، دعني في شقائي، اتركني، إليك عني.

وخرجت إلى المصطبة قدام الباب فجلست هنالك تسند رأسها بيديها وتتأمل أمرها ومصيرها.

فلحقها القس جبرائيل وأخذ يدها بيده فرفعت رأسها حانقة ناقمة ثم أحنته يائسة مستسلمة، فقال يخاطبها: انهضي يا مريم وادخلي غرفتك تستريحين قليلًا، انهضي الله معك، فمشت وإياه نحو الغرفة.

– ادخلي رضي الله عنك، نامي قليلًا، استلقي على فراشك لقد أتعبتك النزهة، واطردي من قلبك مثل هذه الأفكار التي جرحت بها قلب والدك، اطردي من فكرك كلَّ ما يؤلمك ولا يعينك على الشفاء من مرضك، نامي يا بنتي قليلًا تستريحي.

ثم جاء يخاطب القس بولس قائلًا: لا تكلمها بالأمر الذي تحدثنا به، دعني أعالجه وأعالجها وحدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤