الفصل الثالث

في الحياة قوةٌ خفيةٌ تجمع الناس وتفرقهم لغرض غامضٍ قلَّما يُدرك سرُّه، بل في الحياة سحر قد يكون سماويًّا وقد يكون جَهنميًّا يجذب الأضداد بعضهم إلى بعض ويوقد في قلوبهم شعلة الحب التي توحد بين أكبر القلوب وأصغرها، وأنورها وأظلمها، ليس بين بشرين تناقض أبلغَ وأشدَّ مما بين القسِّ جبرائيل وأخيه يوسف أفندي مبارك؛ العضو المسيحيِّ في محكمة الناصرة، والوجيه المقدَّم في قومه، وهذا التناقض الروحي والعقلي يزول دائمًا عند المصافحة.

يوسف أفندي في العقد الرابع من العمر طويل القامة قويُّ الساعد دمويُّ المزاج، جاحظ العين، ضيق الجبين، طلق المحيا، كريم النفس بسيطها، ثلاثة في الحياة تهمُّه فوق كل شيء وتستهويه، ثلاثة يحذر منها الأنبياء، وينشدها بعض الحكماء، ويتغزل بها الشعراء، ويوسف أفندي لا يحفل كثيرًا بما جاء في الكتب المقدسة ولا في دواوين الشعر؛ فهو لا يميل إلى المطالعة ولا يهمه الأدب والأدباء، يشره إلى اللذات لغريزة فيه، ويرغب بطيبات الحياة دون أن يستأثر بها، جليسه أخوه، وضيفه سيده، لطيف المزاج، خفيف الروح، كبير القلب، يقدِّس الضيافة والألفة ويمجد الوجه الوسيم والمائدة الفخمة، ولا عزيز عنده أعز من قنينة معتَّقة وصديق «معتق» يشاركه شربها.

على أن انهماكه باللذات واسترساله في الشهوات لا تصده عن القيام بواجباته البيتية والعمومية، فيسعى في سبيل الحق وفي سبيل الناس ما استطاع، وقد امتاز عن زملائه مأموري الحكومة باستقامة ضميره وطهارة ذيله؛ فأحبه الناس لعدله ونزاهته، وأحبه زملاؤه لكرم نفسه وخفة روحه، وما أشبه بيته بنادٍ لإخوانه وأقرانه، بل ما أشبهه بنُزلٍ لكلِّ لائذٍ بعدله وإحسانه، ولا يُنكر أن بعض السعاة والوشاة كانوا يقولون: إن بيت يوسف مبارك عش للدسائس وملطأ للمعاثر، على أنَّ المقيمَ في جواره، النافر من دخان ناره، قد يخطئ الظنَّ إذ يرى الرؤساء؛ دينيين ومدنيين من رهبان وكهان ومأمورين، يؤمُّون داره؛ حبًّا بنبيذه المعتق وشغفًا بطاولة القمار التي تترأسها زوجته الست هند، أو رغبة في فنجان قهوة فقط من يد إحدى جواريه الرعابيب.

ويوسف أفندي يحترم أخاه الراهب احترامًا لا غشَّ ولا تكلَّف فيه، ويرتاح إلى حديثه، ويجنح غالبًا إلى رأيه، ولم يكن القس جبرائيل ليرتاب مرة في حبه لأخيه يوسف، ولقد طالما قال في نفسه، بيت أخي مثل دَيْري، وحبذا كرمه وعدله وإحسانه في سبيل إخواني الرهبان، ولقد أدرك كلا الأخوين شيئًا من الحقيقة في نفسه وفي أخيه ولم يدركها كلها، فالسيئات تولِّد الحبَّ مثل الحسنات، وضعف المرء يزين الضعف في سواه. أجل، فإن المرء يستأنس بنقص في أخيه شبيه بنقص فيه، ناسك يجوع جسده، وخليع يجوع نفسه، فالجوع إذن يجمع الاثنين ويؤلف بينهما.

لما ترك القس جبرائيل مريم في الكنيسة جاء توًّا إلى بيت أخيه فرآه يدخن الأركيلة ويشرب القهوة في فناء الدار وهو متربع على الديوان لابس فوق قميص النوم عباءة حرير زرقاء، فنهض هاتفًا إذ رأى القسيسَ أخاه: ما شاء الله! ما شاء الله! على غير عادتك يا شيخ، ولكن الرهبان ينهضون باكرًا.

– صحيح، وينامون نصف النهار، الساعة الثالثة بعد الظهر هي نصف الليل عندنا.

– هنيئًا لمن ينامون، أنهكني الأرق، حرق ديني، وصفق كفًّا على كف فحضرت الصانعة.

– هاتي جمرة، واعملي أركيلة وقهوة للقس جبرائيل.

– لا، لا، لم أقدس بعد.

– عجيب أمركم، ألا تشربون الخمر في القداس وتحرقون البخور؟ فالقهوة نوع من الخمر، والتنبك مثل البخور، يسرها، هاتي يا بنت أركيلة وقهوة.

– يظهر أن الأرق ينفعك، أفلا ترى أنه يشحذ قريحتك ويجلو نفسك؟ ولعمري إن من يحسن الأسخان … فقاطعه أخوه قائلًا: المصيبة يا شيخ أنك دائمًا تدور الدورات «ممتطيًا صهوة الفصاحة» هذه عبارة عربية تعجبك، سمعتها البارحة ففلقت ذهني وعلقت فيه، انزل إذن عن ظهر الفصاحة واجلس إلى جنبي، فإني والله مشتاق إليك، ما زرتنا منذ شهر، وإذا كنت تريدها بالملعقة فاعلم أن حضورك وليس الأرق يشحذ القريحة ويجلو النفس.

وجاءت إذ ذاك صانعةٌ حسنة الوجه والقدِّ والحركة، تحمل أركيلةً عجميةً فخمةً في مائها ورد وياسمين، فأثبتتها على السجادة وقدمت النربيش ويدها اليسرى على صدرها إلى القسيس، فأخذه باسمًا وألقى به على الديوان، ثم جاءت صانعة أخرى بفنجان من القهوة في ظرف من الفضة على صينية من النحاس الشاميِّ الثمين، فأخذه القسُّ جبرائيل واستنشق منه قليلًا، وقدمه إلى أخيه قائلًا: بُنُّكُم عاطلٌ جدًّا.

– وعذرك مثل بُنِّنَا، بالله قل لي، ما الفرق بين الاستنشاق والشرب وبين الشم والذوق، هل الفم لك والأنف لغيرك؟

– ما جئت هذه الساعة أباحثك في علم الفيزيولوجيا، كم خادمة عندكم اليوم؟

– عرضنا كل ما عندنا الآن.

– اثنتان فقط.

– والطابخة، ولكن تعرف امرأة أخيك فقد تطرد واحدة منهن أو تطردهن كلهن غدًا، فهي لا تطيق خادمةً عندها أكثر من شهرين والخادمات لا يطقنها يومًا واحدًا.

– أعرف فتاة تعجبك.

– لا يفيد، ينبغي أن تعجب الست هند.

– وهذا ما أعنيه، تعجبها كثيرًا، فتاة ذكية فهيمة خفيفة الحركة نشيطة بارعة، ولكنها عنيدة، وينبغي لكم أن تداروها في أول الأمر، الفتاة عزيزة عليَّ، وقد أوصيت بها وهي لا تحب أن تخدم في الدير، وأحب أن تخدم عندكم لتظل تحت مراقبتي، أوصيك بها خصوصًا.

– وكم عمرها؟

– ست عشرة سنة.

– وهل تحسن الخدمة؟

– كانت تخدم في غرفة المائدة.

– وأين هي الآن؟

– عندي، تنتظرني في الكنيسة، سأجيئكم بها بعد القداس.

وَهَمَّ القسُّ جبرائيلُ بالانصراف، فمشى أخوه معه حتى الباب ثم قال: وما هذه الإشاعات التي يشيعونها عنك؟ كيف حالك وإخوانك الرهبان؟ سمعت البارح أن رئيس الدير ينوي أن ينقلك إلى لبنان.

– لبنان أحسن من الناصرة.

– والامرأة سارة التي توفيت البارح، أصحيح ما يقال: إنها …

– هي أمُّ الفتاة التي حدثتك بشأنها.

– أم الفتاة؟ أوَلم تكفك الأم وما أشاعوه عنها وعنك؟

– الله وحدَه يعرف ما في قلبي، الله وحدَه يدينني، ولا أسألك أنت يا يوسف غير أمر واحد؛ أن تساعدني في تربية هذه الفتاة، وأن ترمقوها بعين العطف والحنان وتعاملوها بالمعروف، سأجيئكم بها اليوم.

وعندما ودَّع أخاه كانت الستُّ هند خرجت من غرفتها فرأت الراهب في الباب، فسألت زوجَها: ما الغرض من زيارته؟ فأخبرها، فسرَّت بذلك؛ لأنها تتمكَّن إذا جاءت الخادمة الجديدة من طرد إحدى الثلاث عندها؛ أي الجميلة فيهن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤