الفصل الرابع

مثل الست هند من النساء تدعى عند العرب الأخصائيين: امرأة زَنْمَرْدَة، ولكننا نكتب لأبناء العرب لا لأجدادهم ولجمهور الناس لا للأخصائيين، لذلك نتحرى البساطة في الوصف والتعبير، ولكن اللبيب إذا تدبَّر هذه اللفظة العبلة الرجراجة وحللها يجد فيها ألفاظًا عديدة تدل على ذكاء واضعها وصفات المتصفة بها، كيف لا وفيها: «زنى» و«مُرد» و«تمرد» وغير ذلك من مفاتيح أسرارها، ولكننا لا نرمي الستَّ هندًا بها؛ لأنها تكبر تارة على بعض معانيها وتارة تصغر عنها، ففي لغتنا وطريقتنا إذن نحاول أن نفيها حقها.

الست هند ربيبة السويداء وعشيرة الرهابين، كأنها أدركت قول الشاعر: «ولكلِّ شيء آفة من جنسه» فراحت تداوي سويداءها بسود الثياب وسود اللحى، وكانت تتدخل في سياسة الأديرة لسد فراغ في وقتها، فتلعب بالرهبان كما تلعب بالقمار، وتدخن الأركيلة عند جثة خصمها كما لو كانت تقرأ في ديوان أحد شعرائها المحبوبين، وهي آية في الحفظ، ترغب بالمطارحة وتحبُّ المكافحة، فترمي جليسها ببيت شعرٍ من صفيِّ الدين الحليِّ، أو زهير أو الفارض فتصرعه وتحرق فؤاده، ثم تزجر الخادمةَ وتضربها لإبطائها بكأس ماء أو فنجان كنياك، ولم تكن في الناصرة امرأة تحسن مثلها لعب القمار ورواية الأشعار وسياسة الرهبان وزجر الخدم، والسبب في غوايتها وأدوائها ظاهر بسيط، فقد تزوجت صغيرةً، وخَبَرتِ الحياةَ الزوجيةَ صغيرةً، وكبرت صغيرةً، اجتازت أربعَ مرَّاتٍ جحيمَ الولادة قبل أن تجتاز الخامسة والعشرين من سنِّها، ولم يعش من أولادها غير واحد رُبِّيَ منعمًا، فنشأ مخنثًا، فشبَّ شقيًّا، تلقَّن شيئًا من العلوم في كلية من كليات بيروت، فدفنه في مواخيرها وقهاويها قبل أن يعود إلى بيته، وتعرف برجال الشحنة وزار مرَّةً السجن إتمامًا لدروسه، وكان يدمن الخمرة احترامًا لأبيه ويقامر حتى الفجر توقيرًا لأمه.

ولقد طالما استلفت القسُّ جبرائيل نظر الأبوين إلى ابنهما عارف وحذرهما من عواقب أمره، فأغفلت الست هند نصيحة سلفها وكرهته؛ لأنه لم يكن مثل سائل الرهبان من عباد محاسنها، فلا يحضر مجلسها ولا يحرق البخور أمامها ولا وراءها، وما الراهب في عينها غير باب فَرَج للمرأة أو ستر لسوءتها، ومتى كانت المرأة مثلها كريمةَ المَحْتِدِ ربيبةَ المجد ينبغي أن يكون الراهب خادمًا لها، وإذا كانت جميلة أيضًا ففارسًا من فوارسها ومجاهدًا في سبيلها، ولكنَّ محاسن الست هند ولَّت باكرًا، فلم يبق منها غير سحر في لحظها وخلابة في لسانها، وحركة تغري عند إدبارها.

وكان بيتها صورةً مجسمة لنفسها، يضج بالأمتعة الفخمة النافرة بعضها من بعض، ويمثل في كل غرفة منه مأساة كل يوم، فترى الذوق مذبوحًا على الديوان، والترتيب مشنوقًا في الدار، والاقتصاد مجندلًا عند قدمي البذخ والإكثار.

تظل الصورة مثلًا مائلة أو مقلوبة على الحائط شهرًا فلا تستلفت نظر الخادمة إليها ولا تحفل بها، يجد الزائر السكاير مبددة على الدواوين والطوائل والكراسي، فإذا أحب إشعال سيكارة تفتش الخادمة ساعةً عن علبة الكبريت، ثم تجيء والفوز يتلألأ في وجهها حاملة بملقط صغير جمرة كبيرة ويدها اليسرى كالصينية تحتها، فتتفتت الجمرة، فتحرق يدها، ثم السجادة ثم الديوان، ثم ثوب الزائر، ولا ينجو من الحريق غير السيكارة السعيدة الطالع. في روض الستِّ هند العاطر يذبل الورد على صدر أمه ويموت، والأواني الصينية الفخمة في بيتها تئن وتتأوَّه من الأزاهر الاصطناعية فيها. في غرفة الست هند على مغسلة من الجوز فاخرة تزدحم قناني العطر والطيب، وحناجير الأدهان والمعاجين، وعلب المساحيق، والأدوية والزيوت لتحسين البشرة وتطويل الشعر، وليس هناك مقراض أظافر أو فرشاة أسنان.

وهذه أمثلة صغيرة من غرائب هذا البيت وسيدته قبل أن دخلته مريم، ولم يمض عليها شهران فيه حتى تجلت في ترتيب فرشه وغرفه وأمتعته وأوانيه روح أنيقة جديدة، وقد أحدثت فيه ثورة لا بدَّ من تدوينها، وبدعة في غرفة المائدة تستحق الذكر.

دخلت مريم صباح يوم حجرة سيدتها تحمل باقة من الورد، وضعتها في الإناء الذي كان فيه أزاهر اصطناعية، ورفعته تبتهج وتقول: أليس الورد يا معلمتي أحسن من هذا القماش الوسخ؟ فأجابتها الست هند: بلى بلى الحق معك، فسرَّت مريم باستحسان سيدتها وأقدمت على العمل الذي كانت تفكر فيه، ولقد طالما ثار ثائرها على الزهور الاصطناعية فوجدت في بيت مبارك ما يكفي لإضرام نار الثورة في سبيل عرائس الحقول وربات الرياض، وكانت تأخذ كلَّ يوم طاقةً من تلك الطاقات الكبيرة التي تضيع الراهبات في صنعها وقتهن الثمين، وتخبئها في غرفتها وتضع في الإناء مكانها إضمامة من أزاهر الجنينة ورياحينها، ولما خلعت كل تلك العرائس الكاذبة من عروشها جمعتها ذات ليلة على السطح، وسكبت فوقها إبريقًا من زيت البترول ودعت الخادمات رفيقاتها إلى الجنازة، ولما حضرن أضرمت في تلك العرمة النار، وأخذت بأيديهن فرقصن حولها ضاحكات، ومريم تصيح مقلدة اليهود الدوارين، خام وشيت ومقصور!

ولم يغظ هذا العمل الستَّ هند مثلما غاظها قول مريم: إن مغسلتها تفتقر إلى فرشاة أسنان.

– يقطع عمرك! وأين رأيت أنت فرشاة أسنان؟

– عند الرئيسة في الدير، وهي تنظف أسنانها صباح مساء، يا عمري ما أجمل أسنانها!

– أجمل من أسناني يا مريم؟

– أسنانك يا معلمتي صفراء.

فاكفهرَّ وجه الست هند وهمت بضربها، فاستدركت الفتاة قائلة: لا تؤاخذيني ولكن الرئيسة لا تدخن بالأركيلة مثلك، الله يقطع الأراكيل فهي توسخ الأسنان.

– اسكتي، وقحة، ثرثارة!

وبعد أيام رأت مريم فرشاة أسنان على مغسلة سيدتها، فضحكت وقالت في نفسها: ما أحلى معلمتي! تشتمني وتقبل نصيحتي.

والحق يقال: إنَّ الستَّ هند تحب مريم سرًّا وتعجب بها، وتكرهها سرًّا أيضًا وتخشاها؛ لأنها أجمل وأبرع خادمة دخلت بيتها، وكانت إذا أثنى زوجها على الفتاة تسكت أو تغير الحديث.

– يا هند ما رأيت زماني مثل هذا الترتيب في البيت.

فنفرت قائلة: وما علمك أنت بالترتيب، لا تدلع الخدم فيظل البيت مرتبًا.

فلم يحفل يوسف أفندي بما قالت: وهذه الأزهار، جميلة! جميلة! كأن الجنينة جاءت تشاركنا بيتنا.

– وأنت تشارك الكل، هل يجي المطران الليلة؟

– نعم وسيجيء رئيس الدير أيضًا، والقائمقام.

وذهب يوسف أفندي إلى محكمته وهو يفكر في الطريق بالفتاة مريم ويمثل لنفسه جمالها وذكاءها وتفننها فيبتسم فؤاده جذلًا وإعجابًا.

أصدرت الست هند في ذات الصباح أوامرها، فجاءت مريم تسأل الطابخة عن العشاء وألوانه فأخبرتها.

– والنبيذ؟

– وما غرضك من كل هذا — تتدخلين دائمًا بما لا يعنيك — روحي إلى شغلك.

– دخيلك يا لطيفة أخبريني.

– يا لطيف يا ستار! مثل العادة يا بنتي، عرق وسبعلي مر، وقبرصي أصفر، وشمبانيا، خلصيني منك.

فراحت مريم إلى غرفة سيدها فأخذت من مكتبه قلمًا ودواةً، وطلحيتين من الورق الشبيه بالرق الذي يستخدم في المحاكم، واختلت ساعة في حجرتها ولم يدر أحد بما صنعت، وبعد الظهر رتبت المائدة ترتيبًا جميلًا فوضعت باقة من الورد في إناء على الخوان، وقرنفلتين واحدةً حمراء وأخرى بيضاء عند كل صحن، وإلى جنبهما صحيفة مثبة إلى قدح تبدو منه فوطة المائدة كالزنبقة البيضاء، وقد خُط في تلك الصحيفة بالخط الكنائسي ما يلي:

قالت الحكماء: «من قلَّ طعامُه صحَّ جسمه وصفا قلبه.»

  • الفاتحة: سنمورة، قلب أرضي شوكة مكبوس، سلطة بطاطا وبيض، فجل إفرنجي، زيتون شامي، عرق زحلاوي مثلث.
  • الدور الأول: شوربة بزلا، سمك مشط بطرطور، بامية خضراء بلحم وأرز مفلفل، نبيذ سبعلي مر.
  • الدور الثاني: كبة أرنبية، حجال مقلية ومطرزة بالفطر والبندورة، نبيذ قبرصي أصفر.
  • الدور الثالث: روستو عجل تشيعه كماة السنة، سلطة هندباء ورشاد، شمبانيا مم.
  • الخاتمة: معمول، عيش السرايا، مشمش حموي وخوخ إفرنجي.

ولما جلس الضيوف إلى المائدة أعجبوا بإتقانها وترتيبها، وأدهشت قائمة الطعام حتى الست هند، فقال المطران والقائمة في يده: هذا شيء جديد على المائدة العربية يا يوسف أفندي.

– الخادمة الجديدة يا سيدنا تجيئنا كل يوم بأمر عجيب.

– وهل هذه اختراعها؟

– علمي والله علمك، اسألها.

فقال القائمقام: لا شك أن الست هندًا … فقاطعته ربة البيت قائلة: لا، وحياتك، لا علم لي بها.

فأوقف المطران مريم وهي تقدم الشوربا وسألها قائلًا: هل هذا خطك يا بنتي؟

– نعم يا سيدنا.

– ومن علمك كتابة هذه القائمة؟

– رأيت واحدة بالإفرنسية عند الرئيسة في الدير، كانت تحفظها ذكرًا لمأدبة حضرتها لما كانت في باريس، فخطر في بالي أن أكتب مثلها في العربية؛ فتعرفون منها في الأقل ما يقدم لكم.

– ولكنَّ عادات المطاعم لا يُجرى عليها في بيوت الأماجد.

– وهذه العبارة، قالت الحكماء؟

– قرأتها في كتاب، والراهبات في الدير دائمًا يرددنها ويذكِّرن البنات بها، كنا نجوع إكرامًا للحكماء.

– واليوم أخذت بثأرك منا، ها ها ها! ما رأيت حياتي أذكى من هذه الفتاة، أهنئك يا ست هند بها، وأنصح لكم يا سادة أن تعملوا بقول الحكماء، يظهر من هذه القائمة أن يوسف أفندي يريد بنا شر.

– لا إكراه أيها السيد لا في الدين ولا في الطعام.

– ولكنا بشر يا ابني وضعفنا رأس مال إبليس.

– أنا أستعفي من الدور الثاني.

– أَلِتُبَرْهِنَ لنا يا سعادة القائمقام أنك حكيم؟! لعمري إن الحكماء أضعف البشر وإبليس يزدريهم ولا يحفل بهم.

– الدور الثاني أحسن ما في القائمة، هل الحجال صيد اليوم؟ ونظر رئيس الدير إلى الست هند ولاحت في عينه ابتسامة.

– وإذا كانت من صيد البارح؟

– عفوًا يا ست هند، لا تستثقلي التعنت من راهب معدته عاصية عليه.

– وأنت دائمًا تبرطلها بالمآكل الضخمة.

– بل أعاقبها تأديبًا لها وانتقامًا منها، ليت الراهب يستطيع أن ينزع معدته قبل دخول الدير.

فوضع القَدَح يوسف أفندي من يده وقال ضاحكًا: عندئذٍ يا محترم تُقفل كلُّ الأديرة.

فهتف المطران قائلًا: أحسنت أحسنت، دير بلا خمر لا يكون، ورئيس بلا كرش ينافي كل معقول ومنقول.

– سيادتك ناقم على الرهبان.

– لأن خمرهم في هذه الأيام عاطل ومعدهم فاسدة.

فقال يوسف أفندي: ليت المعدة وحدها فاسدة، ها ها ها قدمي السمك إلى الرئيس يا مريم، يقول الأطباء: إن السمك أسهل المآكل هضمًا وأكثرها غذاءً، وهذه السمكات كانت صباح اليوم في البحيرة تسبح الله، اعطف على «السبعلية» أمامك يا سعادة القائمقام فقد حرَّم النبيُّ الخمر ولم يحرم النبيذ، عصير العنب كعصير التفاح أو الرمان.

– صحيح، وقد أدرك ذلك أسلافنا الأمويون.

– وأسيادنا الأتراك يحذون حذوهم.

– رجل في الجامع وأخرى في الحانة، هذه روح العصر أليس ذلك يا سعادة البك؟

– نعم يا ست هند، ومن رأيي أن قليلًا من الخمر يفيد الإسلام، ينهض بالمسلمين من خمولهم.

فقال رب البيت وقد أفرغ كأسه وملأها للمرة الثالثة أو الرابعة: والكثير منه ينصرهم على أعدائهم، الحماسة سر النجاح والخمرة تضرم في النفس نار الحماسة، للخمرة وحدها فضل على الأوروبيين عظيم، الخمرة أمُّ الحرية.

فقال المطران يغير الحديث: هذا الحجال «المطرزة» من أفخر وألذ ما طبخ، فأجابه يوسف أفندي وهو يحدج مريم بعينه الجاحظة: في «التطريز» يا سيدنا لذة غريبة.

فقال سيادته يغير الحديث ثانيةً: وكيف حال عارف؟

– لم يزل «يطرز» في بيروت.

فابتسم المطران وأمعن القائمقام في الضحك، أما رئيس الدير فلم يسمع النكتة؛ لأنه كان يحدث الستَّ هند بصوت خافت في موضوع ظهر من إصغائها إليه أنه يهمها جدًّا.

– وهل أتم عارف دروسه؟

– تمَّمها قبل أن يدخل المدرسة، الغلام يا سيدنا سر أبيه، وهو قريبًا يعود إلينا غانمًا ظافرًا إن شاء الله، يا ظريفة هاتي الشمبانيا.

فسارعت الخادمة إلى الدلو في الصهريج تلبي الطلب، وكان يوسف أفندي قد اخترع طريقة لتبريد الشمبانيا تقوم مقام الثلج إذا نفد، وفي الناصرة كما في باريس ولندرا قطعة الثلج تعد من الأعلاق، فاستغنى يوسف أفندي عنها بحبل ودلو وصهريج.

– لا أنكر أن هذه العروس أجمل على المائدة إذا تسربلت بالثلج والفضة فلا يبدو منها غير فمها الذهبي، ولكننا في الناصرة يا سادة، وسرابيل العروس تعيق في مثل هذه الساعة.

ثم فتح يوسف أفندي القنينة بلياقة نادرة كأنه خدم عشرين سنة في نزل باريسي شهير، فطارت الفلينة وسقطت على رأس المطران، فضحكت الست هند وقالت: ستربح الليلة يا سيدنا.

– لا يربح من يلعب معك يا ست هند.

فقال القائمقام: ولكن حضرة الرئيس يدحض قول سيادتكم، فهو دائمًا من الرابحين.

فنظرت الست هند إلى الراهب كأنها تتلو عليه بلحظها بيتًا من الشعر.

فقال يوسف أفندي: كل ربح على طاولة القمار خسارة، أما الربح الحقيقيُّ، الربح الحقيقي عندك سيدنا؛ الربح الحقيقي في البر والتقوى واﻟ …

وكانت مريم تقدم إذ ذاك الثمر فأوقفها قربه يتعلل بالاختيار، فأخذ خوخة واحدة بيده وأخرى من خدها بنظره، وهو يقابل في نفسه بين لون شفتيها ولون الثمر، والست هند تراقبه سرًّا، وتظهر لرئيس الدير أنها صاغية لحديثه.

– ما أجملَ لونَ هذه الثمرة، بالله يا هند أن تروي لنا بيتًا من الشعر فيه ذكر خوخ الخدود.

فقالت الست هند على الفور وهي تنقر الطاولة بأناملها: «ألا خدد الله ورد الخدود»، وسكتت.

فهتف زوجها قائلًا دون أن يدرك معنى الشاعر: أحسنتِ أحسنتِ! ولكن الخوخَ أحسن، وبالأخص إذا كان لونه كلون الورد.

وقال المطران: الشاعر يا ست هند يدعو على كل ما تشتهيه نفسه ولا تناله.

فأجابته على الفور: عسى أن تنال نفسُك كلَّ ما تشتهيه فتدعو للناس ولا تدعو عليهم — تفضلوا.

ونهضت فنهض الكلُّ وخرجوا إلى فناء الدار، فراح يوسف أفندي يحلج بين القائمقام والمطران ويمازحهما ضاحكًا، والراهب وزوجته يتخافتان ويتهامسان.

– إشاعات، إشاعات.

– ولكن القرائن تدلُّ على صحَّتها، فقد أحب القسُّ جبرائيل أمَّ الفتاة حبًّا شديدًا عجيبًا شاع أمره في الدير وفي البلد، وقد وصته عند موتها بابنتها مريم، مريم من الأسرة المباركة يا ست هند.

– هس، لا تفضحنا، متى يصدر أمر الرئيس العام بنقله إلى لبنان؟

– لا أدري، في إمكانك أنت أن تعجلي ذلك، ثم وقف عند الباب يستعطفها ويضغط على يدها.

– لا، لا، لا تجئ غدًا ولا بعد غد، الإثنين القادم بعد القدَّاس، فتبع الرئيس الست هندًا وهو يفرك يديه مستبشرًا مطمئنًّا.

– ها ها ها! هذا يا سيدنا من أغرب ما سمعت، ولكن هندًا لا تصدق هذه الأخبار؛ لأنها محبة ومخلصة لزوجها، وهي تظنُّ كل النساء مثلها.

فسمعت زوجته الجملة الأخيرة، فقالت ضاحكة: مثلي أنا؟ لا سمح الله. وجاءت إذ ذاك مريم بصينية من الفضة كبيرة في وسطها قنينتان من المشروب الإفرنجي، الواحد أخضر اللون والثاني ذهبيٌّ تحيط بهما أقداح صغيرة دقيقة مستطيلة شبيهة بزهر الزنبق، وإلى جنب كلِّ قَدَح فنجان من القهوة في ظرف فضيٍّ مخرَّم جميل، فمشت الست هند مع الخادمة تسكب لكل ضيف اختياره.

– أمشروب النعنع سيدنا أم «البندكتين»؟

– لا أحب ما يصنعه الرهبان في هذه الأيام.

فملأت قدحًا من السيال الأخضر وقدمته إليه، فتناوله منها باليمنى وأخذ يدها بيسراه فقبلها قائلًا: يد الكريمات أحرى بالتقبيل من أيدينا.

فقالت الست هند ضاحكة: قبلتك تجلب السعد، سأُخْسِرُكَ الليلةَ فلسَك الأخيرَ. وأنت يا محترم، أمشروب الرهبان تريد؟

– لا يا ست هند، من لطمك على خدك الأيمن … ونحن نقتفي أثر سيادته مهما بالغ بالتقريع.

فأجابته على الفور: خباثة منك هذه، أنت تحب النعنعَ وتكره «البندكتين».

– برافو برافو.

– وأنت يا سعادة القائمقام.

– اعفيني من الأخضر والأصفر واسمحي لي بفنجان من القهوة، ثم سكبت لنفسها كأسًا ورفعته قائلة: وأنا أشرب «البندكتين» استميح من سيادتكم عذرًا؛ لأنني أحب الرهبان.

فقال المطران: ونحن نحب ما تحبين يا ست هند.

– سبق السيفُ العَذَل.

جاءت عندئذٍ ظريفة بالأراكيل، فوضعتها بإشارة من سيدتها في الغرفة المجاورة لردهة الاستقبال؛ أي غرفة القمار، وبعد أن شرب السادة القهوة امتثلوا أمرها ودخلوا يلبون دعوة «البوكر»، فجلس رئيس الدير إلى يمين الست هند والقائمقام إلى شمالها والمطران أمامها، فعدت الحجارة وأعطت منها بمائتي غرش إلى كلٍّ من الجلوس، وافتتحت الجلسة بغاية الرصانة والخشوع وكأنها تفتتح بالصلاة اجتماع «أخوات مريم» في الكنيسة.

وظل يوسف أفندي في الدار يدخن بأركيلته إلى أن سقط النربيش من يده فاستلقى على الديوان متخدِّرًا من الخمر.

أما الخادمات فبعد أن تناولن عشاءهن وتممن شغلهنَّ اجتمعن في غرفة قرب المطبخ، وكانت مريم قد أشعلت فيها سراجًا وافتتحن جلستهن.

ومن أسرار نشأة مريم التي لا ندركها تعلمها لعب «البوكر»، فهل تعلَّمت يا ترى من مجرد ترددها إلى صاعة اللعب، فاختلست مثائلها وهي تدور على الجلوس بالقهوة والمشروب؟ أم هل علمها سيدها؟ لا نعلم ولكننا نؤكد أنها علَّمت رفيقاتِها تلكَ اللعبة وكنَّ يجتمعن سرًّا فيجلسن على الحصير، وتترأس مريم جلسة «البلف» برصانة تفوق رصانة سيدتها «بالفة» المأمورين والرهابين، وكانت تستخدم الفول بدل شظى العاج الرسمية، فتعدُّ لكلٍّ من رفيقاتها بمقدار عشرة غروش وتضع المال تحت الوسادة وتوزع الورق قائلة: الفتحة بخمس فولات، ومحدودة.

– ثلاث فولات.

– فوقك خمس فولات.

– جئت.

– وأنا جئت، ورقك.

– جوزان بالاس.

– ثلاث صبيان.

– ثلاث بنات.

– وليكن معلومًا من تأكل فولاتها تخسر فلوسها.

•••

– اضبط لعبك يا سيدنا، كم ورقة أخذت؟

– اثنتين.

– طيب، وفوقك مجيدي.

– وفوقك مجيديان.

– وثلاثة مجيديات.

– وهذه الليرة.

– لست ممن يهربون، ورقك؟

فأظهر المطران ورقه ضاحكًا.

فقالت الست هند، غيِّر «بلفتك» صرنا نعرفها، ورمت ثلاثة صبيان على الطاولة وخلطت الورق وما تبقى بيدها.

– آمري لنا بالقهوة إذن!

فصفَّقت الست هند ثم صفَّقت فلم يلبِّها أحد، فصاحت، يا مريم يا ظريفة يا لطيفة، يقطع عمر الخدم!

ونهضت غضبة ناقمة فجاءت المطبخَ فلقته خاليًا، فسارت إلى الغرفة المجاورة له فرأت فيها نورًا، فوقفت في الباب تسترق السمع، فإذا بمريم تقول: هذا آخر دور اجعلوا الدخول نصف بشلك عشر فولات، ففتحت الباب وصاحت بهنَّ صيحةً ألقت الرعبة في قلوبهنَّ، ولكنَّ مريم تشجعت فقالت تدافع عن نفسها ورفيقاتها: أنت يا سيدتي قلتِ لي أن أقتدي بالأكبر مني، وقد سمعتك مرارًا ترددين هذا البيت:

وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه … …

– يقطع الله عمرك! سدي فمك! وقحة، ثرثارة، وأخذتها بأذنها وصفعتها على خديها وقذالها، وراحت تلعن الساعة التي دخلت فيها هذه الفتاة البيت، ومرَّت في الدار فسمعت زوجها يغط فأيقظته بعنف قائلة: قم غُط في غرفتك.

فاستفاق يوسف أفندي من حلم جميل ونهض عن الديوان وخرج إلى السطح يستنشق الهواء، وبين هو واقف هناك مرَّت مريم في طريقها إلى المطبخ فأوقفها سيدها بيده وحدق نظره بها دون أن يكلمها ثم جذبها إليه وطفق يقبلها.

وقضت مريم تلك الليلةَ تبكي وتفكر بالقسِّ جبرائيل الذي لم يزرها منذ شهرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤