الفصل السابع

في فصل الشتاء من تلك السنة، بعد أن أصيب بيت مبارك بتلك الفاجعة التي ألبستهم الحداد والعار، جاء قسيس إلى طبريا ليستحم بمياهها المعدنية، فاستأجر غرفة فوق الحمامات فريدة في بابها، أرضها كخريطة لبنان البارزة، وسقفها كالجوِّ المرصع بالغيوم، وجدرانها كجذوع الصنوبر مرشقبة، وقد زينها العنكبوت بكرناش من الحرير، ونقشت الجرذان في زواياها المحاريب، وبنت السنونو أوكارَها فوق الشبابيك، فأقام القسيس فيها ورفاقه هؤلاء الأطهار معتزلًا الناس، إلا أنه كان يذهب إلى طبريا باكرًا ليقدس في إحدى كنائسها ويعود إلى بيته الكثير السكان، فيقضي معظم وقته بالمطالعة والكتابة والصلاة، مناجيًا السنونو والعنكبوت والجرذان، وفي ذات يوم هبَّ الهواء ناقمًا عليه فبعثر أوراقه وخطف واحدة من بنات أفكاره، فوقعت في الطريق فعثر «الأعرابي» بها وهو سائر إلى طبريا، وقرأ فيها ما يلي: «وبعد أن جلس المعلم على كرسيه أمام تلاميذه سأله قائلًا: ما هي الحياة؟

فقالت الرتيلاء: الحياة كفن من الحرير أحوكه لنفسي.

وقال السنونو: الحياة فراش من القش يتخاصم فيه الذكر والأنثى فيكسران بيضات العش.

وقال الجرذون: الحياة بضعة لحم منتنة، وفخ مخلع، وقطٌّ جائع.

فقال المعلم في نفسه: وكذلك في الناس، كلٌّ ينظر إلى الحياة من بيته، من عشه، من جحره، فيبني رأيه على تجاربه الصغيرة المحدودة؛ نتيجة ذلك الفوضى، أما الحقيقة فهي في جانب من ينظر إلى الحياة من السماء من فوق الأرض وسائر الأكوان، فالدين إذن — منزلًا كان أم لا — هو أحسن في الأقل من فلسفة العنكبوت والجرذان.»

ثم قرأ على الجهة التالية من هذه الورقة ما يلي: «كلَّما فكرت بالماضي؛ ماضي حياتي ينقبض قلبي، أجمل الأسرار الدينية كلها وأنفعها سرُّ الاعتراف، فهو مرهم لجروح النفس. لولاك يا ربي لمن يعترف المجرم الأثيم؟!»

فطوى الرجل الورقة ووضعها في جيبه وسار في طريقه إلى البلد يفكر بما حوته من الحكمة، ومن الصدف أن هذا الرجل جاء تلك الناحية لما كان القسيس هناك، ولكنه لم يقم عند الحمامات، ولم يكن قصده الاستحمام، فعلى شاطئ البحيرة بين طبريا وسمخ بيوتٌ حقيرة شبه أكواخ منفرد بعضها عن بعض، يستطيع المرء أن يقيم في إحداها بعيدًا عن الناس وقريبًا من البلد، وهذا الغريب استأجر كوخًا في أسفل الجبل إلى الجهة الجنوبية من قبور هناك لبعض علماء التلمود بين الحمامات وسن النبرا، وكان المقيمون في الحمامات والعمَّال يراقبونه ويرجمون بالغيب في أمره، ومن طبع الناس أنهم لا يستطيعون أن يجاوروا سرًّا دون أن يمنحوه اسمًا ويحيكوا له من عنكبوت ظنونهم ثوبًا وقصدًا، فلقبوا الرجل ﺑ «أبي السلة» لأنه لم يُرَ مرة مارًّا بلاها، وقالوا: جاء لا شك يتجسس للعربان، ولكن محمودًا البحريَّ رآه يكلِّم امرأة في تلحوم عرفته وسلكت قدامه مسلك الخادمة قدام سيدها.

وفي ذات يوم عاصف ماطر، بينا كان القسيس واقفًا عند شباك غرفته يراقب هياج البحيرة، أبصر الغريب مارًّا في الطريق فدهش دهشة عظيمة واستدعى أحمد من ساعته.

– أتعرف ذاك الرجل يا أحمد؟

– «أبو السلة» لا يا محترم، هو غريب جاء هذه الناحية منذ أسبوع.

– وأين يقيم؟

– لا أدري والله، إلا أنه يجيء من هذه الجهة؛ جهة سمخ فيذهب إلى البلد.

– وهو ذاهب إلى البلد الآن؟

– نعم، أظن ذلك.

– راقبه عندما يرجع خفيًّا، واتبعه واهتدِ إلى منزله، خفيًّا أفهمت؟ وتعالَ أخبرني. وأعطاه بشلكًا، فأخذه أحمد وهو يقول: أمرك يا محترم، محسوبك يا محترم.

أما الغريب فركب ذاك اليوم العربة التي تسير بين طبريا والحمامات ظنًّا منه أنها تقيه في الأقل الأوحال، ولكن عربة السلطان لا تخلف مثل ذا الظن في تلك الطريق وفي مثل ذاك اليوم، فكيف بعربة مخلعة متهدمة، سجوفها ممزقة، وأجزاؤها ملزقة، سقفها كالغربال، وعريشها مربط بالحبال، يجرها ثلاثة من الكدش الجائعة الناحلة المنهوكة، وتقل طابورًا من يهود طبرية، وقنطارًا من الأمتعة، وإن من يشاهدها عن بعد في مثل ذاك اليوم تسقط، وتعلو، وتكر، وتفر، فتلعب الرياح بخامها الممزق، وترشقها الطريق بأوحالها فتختفي تارة في الماء دواليبها، وتارة تغزل في الهواء، يظنها قاربًا في البحيرة تتقاذفه أمواجها الهائجة، ومن سوء الاتفاق لِتتم في تلك الساعة ضربات إسرائيل على الغريب كانت الفتاة هيلانة من المسافرين جالسةً قباله، فجعلت تغازله برجليها، وترشقه بأوحال عينيها فتنشدح عليه إذا غارت العربة، وإذا انجدت يهوي عليها، فتجلع فاها مكركرة وهو ساكت صابر، وتصيح صيحات يردد صداها اليهود هاذرين هاذين.

– روّضيه يا هيلانة!

– فارت الطنجرة يا هيلانة!

– ارفعي الغطاء. ارفعيه!

– أنزلي الستارة يا هيلانة!

– «رايح فين يا مسليني يا بدر حبك كاويني.»

– سدي الطاقة سديها!

– سدوا «طيقانكم» يقطع الله أعماركم! حبيبي حلو ومحتشم، آه حبيبي!

فنظر إليها الغريب بعين رءوفة وخاطبها بلطف قائلًا: وهل الحشمة تضرك يا بنتي؟

– الحشمة؟ مؤكد! تقتلني، إذا أنا احتشمت أموت من الجوع، وتموت … وسكنت عند هذا منكسة رأسها.

– إذا أنتِ احتشمتِ تحيين حياةً سعيدةً، تنجين من الأجلاف الأشرار وتكتسبين محبة الأفاضل من الناس.

– الأفاضل؟ أين هم الأفاضل؟ في طبريا؟ اها ها ها ها! ما رأيت في حياتي كلها رجلًا فاضلًا، أبي قوَّاد الله يبليه! وأخي ديوث الله يعميه! وكل الرجال مثل أبي وأخي.

– فتجهمها الغريب قائلًا: احتشمي يا بنتي تأدبي قد يكون بيننا الآن رجل فاضل.

فسكتت هيلانة وأطرقت مفكرة. ثم سألها الغريب: وهل أمك في قيد الحياة؟

– لا تسألني عن أمي، أمي!

وشرقت الفتاة بريقها واغرورقت عيناها.

ولما وصلت العربة إلى الساحة خارج البلد دفع كلٌّ من الركاب نصف بشلك إلى الحوذي، ودفع الغريب عنه وعن الفتاة، واجتازوا تلك الساحةَ — بل تلك البركة — غائصين في أوحالها ومياهها حتى الركاب، وسار الغريب تتبعه هيلانة، وما كادا يدخلان البلد حتى أبصرها البوليس فاعترضها في سبيلها قائلًا: إلى الحبس، إلى الحبس.

فصاحت مستجيرةً بالغريب: لا أروح، لا أروح. فتش عن غيري ما أكثر الغاويات في البلد، فتش عن غيري عرفت حيلتكم، دخيلك يا سيدي خلصني من البوليس، جئت أزور أمي، أمي مريضة، دخيلك خلصني منه.

فخاطب الغريب البوليس ونفحه ببعض المال، وقال للبنت: امشي يا بنتي، روحي في سبيلك.

– كثَّر الله خيرك، الله يطيل بعمرك، أنت أول رجل فاضل عرفته.

ثم شخصت إليه هنيهة وأخذت بطرف عباءته قائلة: تعالَ معي، تعالَ معي، البيت قريب.

فسار الغريب وإياها يجتازان في أسواق المدينة — بل في سواقيها — حتى وصلا إلى زاروب معتم مسقوف يطفح بروائحَ يُغمى على الثيران منها، ليس فيه غير أبواب مظلمة يكاد بعضها يلتصق ببعض، فدخلت الفتاة أحد هذه الأبواب المفتوحة، ودخل الغريب فإذا هما في ساحة موحلة يلعب فيها أولاد عراة تحت الشتاء، محاطةٍ بغرف صغيرة على شكل صحن الدار في أحد الأديرة، فوقفت الفتاة قدَّام باب تقول للغريب: تفضل.

فوقف الرجل مترددًا.

– تفضل أعرِّفك بأمي.

فدخل، وإذا هو في كوخ مظلم وفي إحدى زواياه امرأة مريضة نائمة على الأرض وإلى جنبها طفل يبكي، فجلست في فراشها وجعلت ترضعه.

– هذا كل ما كسبت البارح، وأعطت أمها بشلكين.

– أمك نفساء.

– أمي مريضة بالحمى؛ ولدت منذ أربعة أشهر ولم تزل في الفراش.

– وأين أبوكِ؟

– أبي قواد الله يبليه، تركنا منذ سنتين.

– وأمك؟ والطفل؟ فلم تجب الفتاة بل خاطبت أمَّها قائلة: يا أمي هذا الغريب أحسن إليَّ وهو أول رجل فاضل عرفته.

– وجاء يتفرج على بليتنا، كثَّر الله خيرَه رُح في سبيلك يا عم! رُح في سبيلك.

فخرج الغريب من البيت وأومأ إلى هيلانة أن تتبعه، فأعطاها في الخارج بعض المال لتبتاع لأمها شيئًا من القوت، والثياب، ثم قال لها: أتعرفين مدرسة اليهود عند الحمامات؟ والقبور هناك؟ في تلك الجهة فوق الطريق بيت منفرد ليس هنالك غيره، تعالي بعد غد فأكون هناك لي غرض معك، نهارك سعيد.

– أمرك يا سيدي، الله يريك الخير، الله يطيل عمرك. وراحت إلى أمها تصفق بيديها وتقول: ليرة يا أمي ليرة، صدقيني، صدقيني، انظري بعينك.

وبسطت كفها أمام أمها في ذاك الكوخ المظلم فشع فيه قطعة من الذهب، فانقطع حليب الأم من الدهشة وجعل طفلها يبكي.

– «حليقة» جيراننا كلهم لا تبلغ ليرة، يا أمي أيَّ شيء أشتري لك؟ أشتري لك لحافًا قبلَ كلِّ شيء وأشتري فسطانًا للصغير، وفسطانًا لك أيضًا، أمي لا تبكي دخيلك، غدًا تشفين، وهذا الغريب أرسله الله، هذا الغريب من السماء جاء يفتقد الفقراء البؤساء مثلنا.

– روحي إلى السوق واشتري لي فخذ دجاج وقالب جبن ورغيف خبز.

فسارعت هيلانة إلى السوق، فأبصرت الغريب واقفًا أمام دكان يحدث صاحبه: هل عندك غير هذه الدجاجة؟

– مذبوحة اليوم وحياة الله! أقطع لك فخذًا؟

فلم يدرك الغريب معناه، فقال: وهل تبيعون الدجاجة بالدرهم؟

فقالت هيلانة وقد وقفت إلى جانبه: ومن يقدر أن يشتري دجاجة كاملة عندنا؟

– أتريد دجاجة كاملة؟ يا حايم يا حايم رح إلى البيت وقل لأمك تذبح دجاجة حالًا وهاتها.

فقال الغريب: بل دجاجتين.

ولو علم الغريب أن في باريس أيضًا تباع الدجاجة أقسامًا؛ فخذًا فخذًا وجانحًا لزال عجبه.

ثم وقفت عند ذاك الدكان فتاة صبية تحمل طفلًا، فقالت: أعطني قوانص الدجاجة.

فوزن لها صاحب الدكان القوانص، وأخذ من الأقذار المتراكمة عند الباب جريدة فلفها فيها وتناول منها متليكين.

ثم وقفت الفتاة أمام رجل جالس في الوحل على حافة قناة الماء، وأمامه على الأرض يقطينة قسمها عدة أقسام، فابتاعت قطعتين منها وأعطته متليكًا واحدًا وراحت في سبيلها.

فقال صاحب الدكان للغريب: هذا يوم عيد عندها فقد قبضت «الحليقة».

– «الحليقة»؟ وما هي «الحليقة»؟

– يا سيدي، أكثر يهود هذه البلد يعيشون على الحسنات التي تجيئهم من إخوانهم في أوروبا، وكلُّ بيت يقبض من الحاخام أو القنصل قيمةً معلومة كلَّ شهر، هذه هي «الحليقة».

ووقفت عندئذٍ امرأة أخرى تحمل طفلًا ويتبعها صبيان، فابتاعت فخذي الدجاجة ثم ثلاث قطع من اليقطينة وراحت في سبيلها، والولدان يركضان في قناة الأقذار ويصفقان جذلًا.

– أولادها كلهم.

– نعم وقد يكون عندها غيرهم في البيت.

– ولكنها صبية.

– صحيح هذا، بناتنا يتزوجنَ صغيراتٍ، وقبل أن يبلغن العشرين يبلغ عدد أولادهنَّ — وأشار الرجل بيده كلها.

– خمسة؟

– وستة أحيانًا.

وكان قد عاد الولد إذ ذاك يحمل الدجاجتين، فأعطى الغريب هيلانة واحدة منهما ووضع الثانية في سلته.

وسار إلى سوق الخضر يقول لها: اتبعيني، فابتاع هناك شيئًا من الكوسى والبندورة والبصل والثمار وملأ لهيلانة سلة منها وودعها قائلًا: سلِّمي على أمك، وتعالي بعد غدٍ إلى البيت الذي دللتك عليه.

وبينا هو عائد في طريقه منقبض النفس كسير القلب مما شاهد، مرَّ قرب الشاطئ حيث تصب بواليع البلد في البحيرة، فرأى هناك النساء يملئن جرارهن من تلك المياه وقد مازجتها أقذار البواليع.

فمال بوجهه قرفًا وحزنًا وسار في طريقه.

فاتفق له أن مرَّ ببيت الامرأة التي ابتاعت فخذي الدجاجة، وكانت واقفة في الباب فألقى إليها السلام، فسارع إليه أولادها الثلاثة وهم حفاة عراة وعيونهم تحدق في السلة، فأعطى كلًا منهم برتقالة فراحوا يصفقون ويرقصون.

– وهل عندك غيرهم؟

– ولد آخر.

– وكم عمرك؟

– ثلاثة وعشرون.

– وهل تأذنين لي بالدخول؟

– تفضل تفضل.

فدخل الغريب إلى غرفة صغيرة مظلمة مفروشة بحصير واحد، وليس فيها من المواعين غير طنجرة وجرة وإبريق.

– وأنتِ وزوجك وأولادك تقيمون في هذه الغرفة؟

– ونشكر الله دائمًا، حالتنا أحسن من حالة جيراننا، هم عشرة ومنهم شاب مزوج يقيم وامرأته وابنه مع والديه وأخوته في بيت مثل بيتنا هذا.

– فودعها الغريب وراح يجتاز في جادات المدينة الضيقة المظلمة الموحلة المنتنة التي تكاد البيوت إلى جنبيها تصطدم وتقع بعضها على بعض، فطرقت أذنه رنات العود وأصوات المغنين، فقال في نفسه: وهم مع ذلك فرحون جذلون، سبحانك اللهم!

– ولم يكن يصل إلى منعطف الجادة حتى شاهد في الشارع جماعة، بينهم عوَّاد وضارب قانون وناقر دفٍّ، واثنان يحملان طبقًا عليه أنواع الحلوى، وهم يعزفون على آلات الطرب ويغنون، فاستطلع أحدُ التجار خبرَهم، فقال له: وهل أنت من باريس؟! ألا تعرف الزفَّة؟! عرس يا شيخ العرب، عرس، وهذه هدية العريس إلى العروس، والليلة يجيئونه بها.

فضحك الغريب ضحكة اليائس وراح يردد في نفسه قائلًا: يتزوجون ويتكاثرون ويعيشون على الحسنات، ويقيمون في الأقذار ويشربون مياه بواليعهم، وعندما يبعث الله إليهم باعثًا مطهرًا كالطاعون أو الوباء يجيء هؤلاء المحسنون من الإفرنج، والادعاء في إحسانهم أشد وباءً من الطاعون فيحاولون مقاومة العناية الإلهية، يبنون الصروح والمستشفيات ليعيش فيها أفراد منهم لا رزق لهم في بلادهم، فيستثمرون بؤس العباد وأقدار البلاد ويعترضون صنع الطبيعة؛ فيحاولون حفظ ما يريد الله استئصاله، وكم مرة جاء الوباء يريح طبريا من شقائها وويلاتها فناهضه هؤلاء الإفرنج وردوه خائبًا.

هنيئًا لوحوش البرية! هنيئًا لأطيار الفلاة! لهفي عليك يا طبرية ولهفي على أبنائك، يتزوجون ويتكاثرون ويعيشون في البواليع على الحسنات، لا أثمرت خليقتك يا رب، تبارك عقم الرمال والصخور، تبارك عقم البحار، الرجل الذي هو مليك مخلوقاتك كلها إنما هو أضعفها وأحطها، والامرأة أمة الرجل. هذه طبرية وهي منذ بناها هيرودس حتى اليوم مهد الخمول والجبن والعبودية، بل كان اليهود مرتقين عزيزي الجانب لمَّا بنيت قديمًا فرفضوا أن يسكنوها، فجلب هيرودس إليها جماعاتٍ من الأجلاف والأوغاد والشحاذين فأقاموا فيها ناعمي البال، فهل يهود طبرية اليوم من نسل أولئك الناس يا ترى؟ تبارك عقم الرمال والصخور، تبارك عقم البحار.

وجلس الغريب على شاطئ البحيرة برهةً، وكانت قد سكنت الريح وكف المطر، فاستخرج من جيبه كتابًا وقرأ بضع صفحات وصلى صلاة المساء، ثم نهض وسار في طريقه عائدًا إلى منزله، وبينا هو مارٌّ بالحمامات راقبه أحمد واتبعه خفيًا، فاهتدى إلى بيته وعاد يخبر القسيس.

وفي تلك الليلة أطلع أحمد إخوانه في القهوة على ما شاهد هناك.

– والله يا أحمد هذا الرجل «أبو السلة» أمره عجيب، له قصة عجيبة لا شك.

– ما لنا وله؟ هات العرق والنُقَل يا طنوس.

– اسمع بالله، وللقسيس غرض معه، والله أظن أن للاثنين علاقةً بالفتاة.

– أي فتاة؟

– أبو السلة مقيم فوق الطريق قرب القبور، وامرأة … وأشار أحمد بيديه أن الامرأة حبلى.

– وما ظنك؟ يمكن أن تكون امرأته.

– ويمكن أن تكون ابنته.

– وما غرض القس يا ترى؟

– قد يكون علم أن هناك فتاةً، قسيس أفندي ابن حرام — الله يوفقه — اشرب، اشرب.

أما القسيس فبات بعد ذلك يراقب الغريب، فلمَّا شاهده في أصيل اليوم التالي ذاهبًا إلى طبريا سار توًّا إلى البيت الذي أهداه أحمد إليه، فالتقى قدَّام الباب بفتاةٍ مشحوبة اللون ثقيلة الحركة عيناها ذابلتان والكآبة بادية في وجهها، فألقى إليها السلام فردته واجفة.

– كأنني عرفت الرجل المقيم معك يا بنتي، فجئت أتحقق ذلك.

– وماذا تريد؟

– لا شيء سوى التعرف والألفة، أنا غريب هنا أليف الضجر. فجزعت الفتاة وهمَّت بالدخول إلى البيت.

– لا تخافي يا بنتي، فقد أكون متطفلًا ولكنَّ الغريبَ إلى الغريب نسيب، من هو الرجل المقيم معك؟

– أبي.

– هذا ما ظننته، ومن أين أنتم؟

– من الكرك.

– واسم أبوك؟

فلفقت الفتاة اسمًا ثم قالت: تفضل زرنا عندما يكون أبي هنا، ودخلت البيت وأقفلت الباب، فعاد القسيس وهو حائر في تصرف الامرأة مشكك في قولها.

وبينما هو عائد إلى غرفته في الحمام الْتَقى بالغريب في الطريق، فتبادل الاثنان نظرة سريعة وكلٌّ منهما سائر في سبيله، ثم التفت الغريب كأنه يريد أن يتحقق ظنًّا فرأى القسيس واقفًا يلتفت إليه.

– هو هو بعينه، نبذ الثوب وتزوج، سبحانك يا رب.

وفطن القسيس إذ ذاك إلى تلك المقابلة في لبنان وتذكر السؤالات التي سئلها، فقال في نفسه: الأوفق ألا يعلم بوجودي هنا.

أما الغريب فلما وصل إلى البيت أخبرته الامرأة بزيارة القسيس وسؤاله عنهما.

فرفع يده إلى جبينه متبحرًا، هو بعينه؛ هو القس بولس عمون ذاك العالم الفيلسوف الذي قابلته في لبنان، وهذه الورقة التي عثرت بها عند الحمامات لا شك أنها من أوراقه، ثم قرأ فيها ثانيةً: «كلما فكرت بالماضي؛ ماضي حياتي ينقبض قلبي، أجمل الأسرار الدينية سرُّ الاعتراف … لولاك يا ربي لمن يعترف المجرم الأثيم؟»

ثم قرأ ما كتب في الجهة الثانية وقال: ليس هنا أحد يحسن مثل هذه الأشياء ويكتبها، والاعتراف! الحق معه لمن يعترف المجرم الأثيم لولاك يا رب؟

وبات الغريب حائرًا بائرًا تلك الليلة يفكر بالقس بولس عمون وبإيلياس البلان، واستيقظ صباحًا وجاء إلى الحمامات ليقابله، فقيل له: إن القسيس سافر مساء البارح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤