الفصل الثامن

لا نظن القارئ يجهل الآن الغريب في زيِّ الأعراب المعروف بأبي السلة والفتاة المقيمة معه، ولكنه يتوقع شيئًا من أخباره قبل مجيئه إلى طبريا ومن قصة الفتاة بعد أن ألقيت في السجن، فإن تلك الدعوى دعواها كمثل الكثير من الدعاوي التي تسمع في محاكم البلاد فتخفى حقيقتها على رجال الشحنة والقضاة، أو إنها تخفى عمدًا وعدوانًا حبًّا بكسبٍ، أو إرضاءً لصاحب نفوذ، أو تزلفًا لذي أمر، فيبرأ مذنب، ويتهم بريء ولا يذنب — الحق والعدل — في كلا الحالتين غير الحكومة الأثيمة.

وإننا لنسرد الآن إيجاز خبر القضية التي ألبست بيت مبارك عارًا لا تدثره الأيام، وأقامت رجال الحكومة وأقعدتهم، وأشغلت القس جبرائل عن خصومة الرهبان، واضطرته في نهاية الأمر إلى أن يخرج من الدير.

ما كادت تشرق الشمس على تلك الجريمة حتى ضجَّتِ الناصرة بأخبارها وتعددت حسب العادة في مثل هذه الحوادث الإشاعات، فمن الناس من قال: إن يوسف مبارك قتل ابن عمه غيرةً على عرضه. ومنهم من قال: إن مريم سبب الجريمة والست هند مرتكبتها. ومنهم من أشاع أن للرهبان أصدقاء الست هند يدًّا فيها، وما أحد ذكر عارفًا، بخير أو بشر؛ ذلك لأن الشاب كان متغيبًا معظم الوقت عن البلد، ولم يخطر أمره في بال أحد من الناس إذا استثنينا المدعي العمومي.

ولما نمى الخبر إلى القس جبرائيل صباح ذاك اليوم هرول إلى بيت أخيه يستطلعه الحقيقة، وكان يوسف أفندي قد استنطق العشية لطيفة، فأخبرته بعد كثير التردد بما شاهدت، فأخبر أخاه القسيس وسأله رأيه في تلك المحنة السوداء، وليس يوسف مبارك أبًا رومانيًّا ليجلس في كرسي القضاة فيحكم على ابنه المذنب بالسجن أو الموت، وإنما الضعف البشريُّ والحنان الأبويُّ سوَّلا له الكذبَ، فقال: إن عارفًا كان غائبًا ليلة ارتكبت الجريمة ولم يزل، فوافقه القسيس في ذلك على شرط أن يساعده في خلاص الفتاة المتهمة زورًا وظلمًا.

ثم ذهب القسيس إلى السجن فقابل مريم وسألها أن تصدقه الخبر، فقالت: إنها لا تعلم شيئًا، وأصرت على إنكارها، وكان الهلع قد استولى على الفتاة فأمست قليلة الكلام، كثيرة الأوهام، على أنها لم تغير من قصدها مثقال ذرة ولم تقر أبدًا بما كانت تعلم، قالت: إنها لا تدري من القاتل، ولم تقل غير ذلك، وأقسمت يمينًا للقس جبرائيل إنها بريئة.

وظلت الفتاة أربعة أشهر في السجن تقاسي مرَّ العذاب من آلام ظاهرة، وآلام خفية، ريثما تبحث الحكومة وتحقق في الدعوى.

وقد قيل: إن المدعي العمومي أظهر في الإجراءات من إصابة الرأي، وطهارة الذيل، وعفة النفس ما قلَّما شاهده أبناء الناصرة في أمثاله، كيف لا وقد استنطق بيت مبارك كلهم من الست هند الجليلة حتى العشية؟ هذا ما عرفه الناس وقد فاتهم أن يوسف أفندي وكلماته كانت تحرك في كل هذي الإجراءات قلمَ المدعي العمومي ولسانَه.

وقد شهد يوسف أفندي نفسُه أنه ساعة ارتكبت الجريمة كان نائمًا، وأن ابنه عارفًا غائب منذ أسابيع، وأنه لم يرَ ساعة جاء يلبي صراخ الخادمات غيرَ الفتاة مريم في غرفتها والجثة تحت السطح، وكذلك شهدت الست هند والخادمة ظريفة، أما العشية فقالت تزيد على ذلك: إنها حين فتحت شباك غرفتها رأت رجلًا لابسًا رداءً أسود يسحب الجثة من غرفة مريم ويرميها تحت السطح، ولكنها لم تر وجهه.

ثم جاء المستنطق والقائمقام إلى موقع الجريمة يفحصان المكان ويدققان النظر في هيئته وشكله، فوجد المستنطق أن للسطح درجًا من الحجر يصل إلى نصف الحائط، فيظل بين آخر درجة منه والأرض علوٌّ مقداره أربعة أذرع، يستطيع أن يثب إليها أي كان من الرجال.

فقال المستنطق وقد انجلى له الأمر وانكشف السر: إن الجاني تسلَّق هذا الجدار إلى هذا الدرج إلى هذا السطح واتخذ بعد ارتكابه الجريمة ذات الطريق هاربًا، فأسر إليه إذ ذاك القائمقام ما يعرفه بنفسه من تردد الرهبان على بيت يوسف أفندي وانشغال قلب أحدهم بحبِّ مريم، فسكت المستنطق إذ ذاك وأوقف الإجراء والاستقصاء.

أما مريم فلم تكن لتُقرَّ بما جرى لها في بيت مبارك، وأنكرت أنها تحب أحدًا في البيت أو في المدينة، أو أن أحدًا في البيت أو في المدينة يحبها، إلا أن الست هندًا ألفتت نظر المستنطق إلى القس جبرائيل قائلةً: إنه هو المفتاح الوحيد لقلب مريم، وقد يكون المغري على قتل أيوب مبارك؛ لأن الفتاة تشكو إليه الصغير والكبير من أمرها دائمًا، وشدَّ ما كان شماتة الرهبان وشد ما كان سرورهم لمَّا استدعي القس جبرائيل إلى سراي الحكومة ليستنطق مثل سائر الناس، فامتثل القسيس أمر المدعي العمومي، وبعد أن أجابه على سؤالاته كلها زار مريم في السجن وعرَّفها مطمئنًّا أن ما تقوله في كرسيِّ الاعتراف لا يطَّلع عليه غير الله والكاهن، فاعترفت له بكل شيء؛ بفعلات أخيه وتحبب ابن أخيه لها، وبقتله أيوب مبارك وباغتصابه إياها، وجعلت إذ ذاك تبكي فانتبه القسيس إلى حالتها وجاء بعد أن عرَّفها يسأل القائمقام الإسراع في استماع دعواها؛ لأن الفتاة حامل، وقد ترتكب الحكومة جريمةً لا تغتفر إذا داومت التأجيل من أسبوع إلى أسبوع ومن يوم إلى يوم.

وفي أوراق التحقيق التي رفعها المدعي العموميُّ إلى المحكمة، ويوسف أفندي عضو من أعضائها، قال: إنه بعد طويل البحث والتمحيص والاستقصاء ظهر أن القتيل مطعون في ظهره ثلاث طعنات بخنجر وجد مرميًّا على الأرض — وهذا، وايم الله، يستوجب طويل البحث والاستقصاء — وأن رأسه مكسور من صندوق الزهور الذي وقع فوقه — وهذه من اكتشافات المدعي العموميِّ النيِّر الذهن الذكيِّ الفؤاد — وأن الطعنات في ظهره وحدها لا تسبب الموت — هنيئًا لحكومة عمالها علماء أطباء فقهاء — فلو فرض أن الفتاة قاتلة أيوب مبارك فليست هي التي رمته تحت السطح، والعشية لطيفة تشهد على ذلك، والمدعى عليها تقول أيضًا: إنها لما كانت في قبضة أيوب مبارك رأت رجلًا يطعنه في ظهره فهلع قلبها وأغمي عليها فلم تر غير ذلك، فلو فرض أنها هي القاتلة فينبغي أن يكون لها شريك في الجريمة، وحكم المصحف الشريف في سورة يوسف يصح في هذه القضية — وهذا منتهى الذكاء والبراعة في تحقيق المدعي العموميِّ — إذا كان قميصه قُدَّ من قُبلٍ فصدقت وإن كان قميصه قُدَّ من دُبرٍ فكذبت وهو من الصادقين. والقتيل طُعن من دُبرٍ ساعةَ كانت الفتاة مريم في قبضة يده، وهو فوق ذلك طويل القامة فلو فرض أن الفتاة هي الطاعنة تلك الطعنات لوجب أن تكون الطعنات في أسفل ظهره لا بين كتفيه، فمما تحقق من موقع الجريمة إذن ومن شهادات الشهود يستدل أن رجلًا، وقد يكون لصًّا، تسلَّق الجدار إلى الدرج ومنه إلى السطح قصدَ السرقة — ليهنأ العدل بأربابه — فلمَّا رآه أيوب مبارك قبض عليه فطعن اللصُّ أيوب تلك الطعنات ورماه تحت السطح وفرَّ هاربًا!

وبناءً على ذلك برَّأت المحكمة مريم وأطلقت سراحها، وأوقفت الإجراء في الدعوى لظنها أن المجرم راهب لا لصٌّ كما ادعى المدعي العموميُّ النيِّر الذهن الذكيُّ الفؤاد.

وبرَّأ الناس أيضًا مريم، ولكنهم لم يبرئوا بيت مبارك، فكانوا إذا ذكروا الحادثة يقولون: «يا للعار!» حانقين، ولم يقل واحد منهم: «يا حرام!» آسفًا.

واضطر يوسف أفندي أن يسافر إلى سوريا؛ هربًا من سهام الرأي العام، وتخفيفًا لمضض الآلام التي أصابته من هذه الفاجعة، ورغبته بالاجتماع بابنه عارف ليطلعه على ما جرى ويعود به إلى البيت.

أما الست هند فلم تفتأ أن تنشر الأكاذيب عن سلفها القسيس وتشتغل سرًّا وجهرًا في نفيه من الدير، وإن الاهتمام الذي أظهره في هذه الفاجعة لممَّا يحقق ظنون بعض الناس ويثبت حجة الرهبان عليه. وكذلك كان، فثار الرأي العام عليه وصار إذا مشى في أسواق البلد يشار إليه بالبنان: هذا مخلِّص مريم وأبوها. وإذا أقام في الدير لا يسمع ما هو أخفُّ من ذلك وقعًا على أذنه وقلبه.

وقد حار القسيس في أمر مريم لما خرجت من السجن وحالتها تشير إلى ما هي فيه، فأين يذهب بامرأة حامل؟ إلى من يأخذها وهي اليوم لا تستطيع الخدمة، بل هي في حاجة إلى من يخدمها؟ جاء بها إلى الدير فأنزلها في غرفةٍ هناك ريثما يفكر في أمرها وفي مصيره، فهاجت عليه خواطر الرهبان وتهددوه والفتاة بالطرد.

ولقد طالما قال: الزهد في الأديرة أضحوكة سفيهة؛ خداع وضعف وجبن وخباثة، والنسك في الأديرة تجديف على اسم الله القدوس.

وها قد حان الوقت ليعمل بقوله، فوطَّن النفسَ على الرحيل ومريم؛ ليخلصها مما هي فيه، لينقذها من عار يكتنفها، ليكون لها عونًا في محنة جرَّها هو عليها إذ أدخلها خادمة في بيت أخيه، فجاء بها إلى شاطئ البحيرة متنكرًا في زي العربان؛ ليظل بعيدًا عن الناس غريبًا، واستأجر بيتًا خارج الحمامات عند مقابر علماء إسرائيل، فأقام وإياها فيه وهو يقول: سأبني قرب البئر صومعتي وسأحرق الحبل والدلو، سأقيم عند الماء وأعفُّ عنها، هذا هو النسك الحقيقي، هذا هو الزهد المقدس.

ومع أنه أقدم على ذا العمل الخطير ثابت القدم، جريء القلب، فلم يشأ أن يطول أوانه، ويذكر القارئ أنه عند وصوله إلى تلك الناحية سافر مع محمود البحري إلى تلحوم لغرض جوهريِّ يختصُّ بمريم، فإن له في سهل الغوير بيتًا وبعض أملاك، ولم يشأ أن تقيم الفتاة هناك وهي في حالتها الحاضرة، فبعث أحد أجرائه إلى حيفا بكتاب إلى عارف ابن أخيه يبشره فيه ببراءة مريم ويسأله أن يوافيه حالًا إلى البيت في سهل الغوير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤