الفصل الحادي عشر

من الكيف إلى الكم

١

الجانب الكيفي من الشيء هو ذلك الذي تنطبع به حواسُّنا انطباعًا مباشرًا؛ فبیاض هذه الورقة التي أمامي «كيفٌ» لأنه صفة أُدركها بحاسَّتي إدراكًا مباشرًا، والألم الذي أُحسُّه في معدتي «كيفٌ»، وكذلك طعم الطعام وأريج الزهرة؛ كل هذه «كيفيات» لأنها من الأشياء جوانبها المُدرَكة بالحس إدراكًا مباشرًا. وحين يتحدث المتحدث عن شيء من ناحيته الكيفية، فإنما يتحدث عنه من حيث وقعُه على حواسه، لكن ما هكذا يكون الحديث عن الشيء من ناحية كميته ومقداره، فها هنا لا يكون الوقع الحسي هو مدار الحديث، فما أبعد الفرق بين أن أنظر بعيني إلى الطيف الشمسي وأرى ألوانه من الأحمر في طرف إلى البنفسجي في طرف آخر، وبين أن أنظر إلى قائمة متدرِّجة من أرقام هي الأرقام الدالة على أطوال الموجات الضوئية في الألوان المختلفة؛ فألوان الطيف كما ينطبع بها بصري «كيفٌ»، وأما أطوال موجات الضوء التي تُحدِث تلك الألوان في حاسَّة البصر فهي «كمٌّ»، وكِلا الكيف والكم هنا طرَفان لظاهرة واحدة؛ طرَفٌ ذاتي خاص بصاحب الإحساس، وطرَفٌ موضوعيٌّ خارج عن حاسة الرائي الفرد، ومعروض أمام كل راءٍ آخر على حدٍّ سواء، فلو نظر شخصان إلى بقعة حمراء مثلًا، فقد يختلف إدراكهما لها حسب اختلافهما في حاسة البصر عند كلٍّ منهما، وهكذا قد يختلفان في «الكيف»، لكنهما لا يختلفان — إلا في حدودٍ ضئيلة — إذا عمَدا معًا إلى قياس المسافة بين نقطتين؛ أي قیاس طول الموجة الضوئية التي منها ينشأ إحساس الرائي باللون الأحمر؛ إنهما لا يختلفان هنا لأن المدار عندئذٍ لا يكون الحاسة الخاصة وما تنطبع به، بل يكون العلاقة بين المسافة المَقيسة والوحدة القياسية التي يقيسان بها، وإدراك «العلاقة» بين شيئين لا يكون موضع اختلاف بالقدر الذي يكون إدراكنا للشيئين نفسَيهما موضع اختلاف بين المدرِكين.

إنه إذا وضع شخصان أصابعهما في ماء ساخن، وأحسَّا الحرارة بحاسة اللمس عند كلٍّ منهما، كان ذلك عندهما هو إدراك الجانب الكيفي من الحرارة، واتفاقهما عندئذٍ على مقدار حرارة الماء إنما يكون على وجه التقريب لا على وجه الدقة، بل إنهما قد يختلفان بحيث يجد أحدهما حرارة الماء محتملة على أصابعه، بينما يجدها الآخر أحرَّ من أن تحتملها الأصابع، لكن هذا الاختلاف يزول، ويقرب بينهما الاتفاق من درجة التطابق الكامل؛ إذ هما عمَدا في إدراك الحرارة إلى جانبها الكَمِّي لا الكيفي، فقاما بقياسها بمقياسٍ يرتفع منه عمودٌ من الزئبق حتى يُحاذِي بقمَّته خطًّا مرسومًا ذا رقم معلوم، اصطُلح على أن يكون دالًّا على مقدار الحرارة في الجسم المَقيسة حرارته، وكذلك إذا حمَل شخصان حملًا معيَّنًا على التعاقب، فإنهما يُحسَّان ثِقله إحساسًا عضليًّا مباشرًا؛ ومن ثَم يكون إدراكهما لذلك الثِّقل إدراكًا كيفيًّا، ولا يكون بينهما اتفاق عليه إلا على سبيل التقريب، بل هما قد يختلفان بحيث يستخفُّه واحد ويستثقله الآخر. أما إذا عمَدا إلى إدراك الثقل إدراكًا كميًّا لا كيفيًّا، بأن يضعا الجسم المَقيس على ميزان يُبيِّن بإبرته المشيرة إلى خط مرسوم على لوحته كم يكون ذلك الثقل المراد قياسه على وجه الدقة، فعندئذٍ ينحسم الخلاف بين الشخصین حول وزن الجسم، حتى وإن ظل كلٌّ منهما على إدراكه الكيفي الأول.

هكذا يكون الفرق بعیدًا بین إدراك الناس للأشياء من جوانبها الكيفية وإدراكهم لها من جوانبها الكَمِّية؛ فالظاهرة التي نُدركها إدراكًا كميًّا هي هي بعينها الظاهرة التي نُدركها بالحواس إدراكًا كيفيًّا، لكن الإدراكَين يكونان من وجهتين مختلفتين للنظر؛ فالضوء الذي أراه بعیني ساطعًا على الأجسام هو نفسه الضوء الذي يقيس عالِمُ الطبيعة سرعته وزوايا سقوطه وزوايا انعكاسه، لكنني في إدراكي المباشر للضوء لا أرى سرعة ولا زوايا، بل إني لا أرى «شعاعًا» من الضوء كالشعاع الذي يقول علماء الطبيعة إنهم يقيسون سرعة انتقاله وزاوية سقوطه وانكساره؛ لأن ما أراه إذ أفتح عيني على الأشياء المحيطة بي حين يكون هنالك ضوء هو مساحات مضيئة، لا خيوط كالخيوط الرفيعة التي يستحدثها العلماء في مَعاملهم لِيُجروا عليها عمليات القياس. أعود فأقول إن الظاهرة التي نُدركها إدراكًا كیفیًّا من وجهة نظر، هي هي نفسها التي نُدركها إدراكًا كمیًّا من وجهة نظر أخرى؛ فليس هنالك عالَمان أو طبيعتان، إحداهما للحواس تُدرِك كیفیَّاتها، والأخرى للعلماء يقيسونها ليضبطوا كمياتها، بل إن العالَم واحد والطبيعة واحدة، نراها من هنا فإذا هي «كيفٌ» ونراها من هناك فإذا هي «كمٌّ».

وواضح أن الإنسان يبدأ علمه بالأشياء بإدراك كيفياتها، ثم لا يأتي إدراكه لكمياتها إلا في مرحلة متأخرة؛ فالطفل يُدرِك حرارة الجسم الحار قبل أن يعرف أن هذه الحرارة تُقاس بالدرجات، ويُدرِك ثِقل الأجسام الثقيلة قبل أن يعرف أن هذا الثِّقل يُقاس مقداره بميزان، ويُدرك اللون الأخضر في الشجرة والأصفر في البرتقالة قبل أن يعرف أن الألوان كلها إنما هي موجات من الضوء تختلف أطوالها فيختلف نوعها تبعًا لذلك، وهكذا. وحتى حين يبدأ الإنسان في إدراك الكميات، فإن ذلك الإدراك عندئذٍ يكون في مرحلة تقريبية غامضة، فقد يعلم أن هذا الحجر «أثقل» من ذلك، وأن الأشجار هنا «أكثر» من الأشجار هناك، وأن طعامه بالأمس كان «أقل» من طعامه اليوم، وأن الحرارة خارج كهفه «أكبر» منها داخله؛ هذه كلها إدراكات كَمِّية، ولكن يَنقُصها الضبط والدقة.

وواضح كذلك أن الإنسان كلما ازداد بالأشياء علمًا، ازداد معرفةً بالطرائق التي يمكن أن يستخدمها ليضبط المقادير الكَمِّية ضبطًا دقيقًا بدرجات يصطنعها لذلك، فلا يعود يُقنعه أن يقول إن هذا الجسم «أثقل» من ذلك، بل يريد أن يعلم الفرق بين الثِّقلين بمقياس دقيق، ولا يُقنعه أن يقول عن الحرارة خارج الكهف إنها «أكبر» منها داخله، بل يريد أن يعلم كم هي على وجه الدقة هنا وكم هي هناك.

وقد ألِفْنا قياس بعض الظواهر إلفًا أنْسانا العبقرية العلمية التي جعلت ذلك القياس ممكنًا، لكن حلِّل حالة واحدة من حالات القياس الكَمِّي تحلیلًا سريعًا لتُدرك طبيعة الموقف، وخذ قياس الحرارة مثلًا؛ إنك تضع الترمومتر مُلاصقًا للجسم المراد قياس حرارته، فيرتفع فيه عمود الزئبق، فتقرأ الرقم الذي يبلغه العمود في ارتفاعه، وتقول عنه إنه درجة الحرارة المراد قياسها، ظانًّا أن الأمر طبيعي فلا غرابة فيه ولا إشكال، وفاتَك — أولًا — أننا نحن الذين وضعنا هذه الأرقام على الأنبوبة الزجاجية، وأننا نحن الذين اخترنا أن يكون الصفر في ناحية والمائة في ناحية أخرى، وأن نُقسِّم ما بينهما إلى درجات متساوية، وأن الذي أغرانا بذلك ظاهرتان طبیعيتان اخترناهما جزافًا لتكون إحداهما مقابلة للصفر على مقياسنا، وتكون الأخرى مقابلة للمائة على مقياسنا، وهاتان الظاهرتان هما تجمُّد الماء من جهة وغليانه على مستوى سطح البحر من جهة أخرى، فكأنما قلنا لأنفسنا: تعالَوا نتخذ من هاتين الظاهرتین معیارًا نقيس به الحرارة في سائر الأجسام، تمامًا كما يقول الناس لأنفسهم في دنيا الاقتصاد، تعالَوا نتخذ ما عندنا من الذهب معيارًا نقيس به قِيَم سائر الأشياء المعروضة للبيع والشراء، لكن كما أن اختيار الذهب معیارًا قد كان جزافًا، وكان يمكن — وقد أمكن فعلًا — أن نتَّخذ أساسًا غيره في تقييم الأشياء في دنيا البيع والشراء، فكذلك كان اختيارنا لظاهرتين طبيعيتين من بين ألوف الألوف من الظواهر، لتَكُونا طرَفَين على مقياس نصطنعه لنُقابِل به بين سائر الأشياء من حيث مقدار حرارتها، أمرًا جزافًا، اخترناه لسهولته لا لأنه أمر لا محيص عنه؛ ثم فاتَك — ثانيًا — أننا حتى بعد اختيارنا للظاهرتين اللتَين نجعلهما طرَفَين للقياس، فلا زلنا بحاجة إلى اختيارٍ جزاف آخر؛ فأي مادة من بين مواد الطبيعة الكثيرة أختار لأجعل تأثُّرها بالحرارة معيارًا لتأثُّر سواها؟ أي مادة أختار لأُلامس بينها وبين الماء المتجمِّد، ثم أُلامس بينها وبين الماء الذي يغلي عند مستوى البحر، بحيث أرى إلى أي حد تنكمش في الحالة الأولى وإلى أي حد تتمدَّد في الحالة الثانية، فأجعل الحالة الأولى صفرًا والحالة الثانية مائة؟! أأضع قطعة من النحاس مثلًا؟ إنها عندئذٍ تنكمش وتتمدَّد بمقادير يتعذَّر على العين رؤيتها في يُسر؛ إذَن فلأبحث عن مادة يَسهُل انكماشها وتمدُّدها بدرجة ملحوظة للعين، وسرعان ما وقعتُ على الزئبق؛ فلو وضعتُ من الزئبق قطرةً في أنبوبة ضيِّقة من زجاج، ثم لامستُ بين هذه الأنبوبة وبين أي شيء آخر، وكان هنالك فرق بین حرارة الزئبق وحرارة ذلك الشيء، فسرعان ما تؤثِّر حرارة هذا الجسم في الزئبق تمددًا أو انكماشًا تأثيرًا تَسهُل رؤيته؛ فليس ثَمة — إذَن — ما يحتم علينا أن يكون الصفر والمائة مقابلَين للماء في تجمُّده وغليانه، ولا ما يحتم علينا أن يكون الزئبق هو المادة التي نجعل مقدار تمدُّدها بالحرارة هو المقياس الذي نقيس به درجة الحرارة في سائر الأجسام، إنما الأمر كله اختيار جزاف وجدناه مفيدًا فاصطنعناه.

أرجو من القارئ أن يلاحظ بأنه إذ يضع مقياس الحرارة في الماء الساخن فيتمدَّد عمود الزئبق في المقياس، فإنما هو إزاء جسمين، زئبق وماء، كلاهما على حرارة معيَّنة، وما اختيارنا أن نجعل امتداد إحدى المادتين وسيلة نقرأ بها كمِّية الحرارة في المادة الأخرى إلا قرارٌ منا لا أكثر ولا أقل، وكان يمكننا أن نتخذ قرارًا آخر، كأن نُقرِّر مثلًا أن نضع قطعة من الحجر الهش في الماء الساخن لننظر متى يتفتَّت، ثم نجعل طول المدة اللازمة لِتفتُّته دالة على مقدار حرارة الماء؛ كان يمكن أن نُقرِّر أية وسيلة شئنا، فإذا كنا قد قرَّرنا أن نجعل تمدُّد عمود الزئبق مقیاسنا، فما ذاك إلا لسهولة استخدام هذا المقياس؛ وقدِّر لنفسك بعد ذلك مدى العبقرية العلمية التي كان لا بد من وجودها عند مَن اصطنع هذه الطريقة المعيَّنة في قياس درجات الحرارة، فجاء الناس من بعده وأخذوا عنه طريقته، وراحوا يُهذِّبونها ويزيدون من دقَّتها؛ ولولا الوقوع على مقياس كهذا لَظل الناس حتى اليوم يقيسون حرارة الأجسام بلمسها، فيختلفون أو يتفقون ما شاء الله لهم من اختلاف أو اتفاق.

فهل يمكن للإنسان أن يصطنع لكل إدراك كيفي وسيلةً يقيس بها الجانب الكَمِّي قياسًا يُبيِّن مدى التفاوت في الدرجة بيانًا مضبوطًا دقيقًا؟ هل يمكن له أن يصطنع مقياسًا يقيس به درجات «الشجاعة» ودرجات «الذكاء» ودرجات «الصدق» وغير ذلك كما يقيس درجات «الحرارة» ودرجات «الثِّقل»؟ وليلاحظ القارئ هنا أن قد جاء يوم، لا أقول يومًا فيما قبل التاريخ، ولا يومًا في العصور البدائية الأولى، بل هو يومٌ من عصور الفكر الزاهية الزاهرة، قد جاء يوم لم يكن فيه كبير فرق عند الفلاسفة اليونان بين الحرارة والبرودة وما بينهما من تضاد، وبين الشجاعة والجبن، والفضيلة والرذيلة، والذكاء والغباء؛ فكل هذه عندهم أضداد من أمثالها تتكوَّن معارف الإنسان، فلم تكن «الحرارة» بأيسر قياسًا كميًّا من «الشجاعة»؛ فلو رأينا العلم الطبيعي في تقدُّمه قد تناول بعض هذه المدرَكات دون بعضها الآخر، تناولها بالضبط الكَمِّي الدقيق، بعد أن كانت مدرَكات كيفية تُدرَك بأضدادها، أفيكون مُحالًا علينا أن نمُدَّ مجهودنا بحيث يشمل هذا الضبط الكَمِّي سائر مدرَكاتنا الكيفية جميعًا؟ أم كُتِب على بعضها أن تقف عند مرحلتها الكيفية لا تُجاوزها، فتظل بين أيدينا موضع اختلاف لا ينحسم ونظل نقول عنها إنها مجال للبحث الفلسفي؟

إنه لَيُقال إن الفلسفة أول أمرها كانت تضم إلى حضنها كل ضروب المعرفة، ثم أخذت فروعٌ من هذه المعرفة تستقل عن أمها الأولى فتكون علومًا خاصة قائمة بذاتها، بحيث لم يبقَ للأم من أبنائها الأولين إلا عدد قليل؛ إذ بقيت لها الميتافيزيقا والأخلاق والمنطق، وذهبت عنها علوم الطبيعة من فَلَك وكيمياء ونبات وحیوان وغيرها، وهنالك اليوم صراعٌ قائم يحاول به عِلمان جديدان أن ينسلخا من حضن الأم الرَّءُوم، وهما عِلما النفس والاجتماع، فما يزال هذان جزءًا من الفلسفة عند بعض، وجزءًا من العلم عند بعضٍ آخر، وشيئًا بين بين عند بعض ثالث؛ وتفسير ذلك كله هو في انتقال الإنسان من مرحلة العلم الكيفي إلى مرحلة العلم الكَمِّي؛ فلما كانت العلوم كلها كيفية ولا وسيلة هناك لضبط الكميات، كانت العلوم كلها أجزاءً من بدن واحد هو الفلسفة، ثم حدث بعد ذلك لبعض جوانب المعرفة أن ينضبط انضباطًا كميًّا، فكان معنى ذلك أنه استقلَّ عن الفلسفة وقام وحده عِلمًا، ولبِثَت أنواعٌ من المعرفة حتى يومنا لا ندري كيف نلتمس السبيل إلى تقديرها الكَمِّي، كالفضيلة والجمال والحق والنفس والخلود وما إلى ذلك، فلبِثَت إلى يومنا فلسفة، وأما عِلما النفس والاجتماع فلأنهما قد وُفِّقا بعض التوفيق إلى حساب ظواهرهما حسابًا كميًّا، فهما عِلمان مستقلَّان عن الفلسفة بمقدار ما وُفِّقا، وهما بعدُ جزءان من الفلسفة بمقدار ما أخفقا.

إنني إذ أنظر إلى الفكر الإنساني في تطوُّره وتقدُّمه، أراه في سير دائب ينتقل به من مرحلة الإدراك الكيفي إلى مرحلة الإدراك الكمي لظواهر العالم؛ فقد كانت ظواهر العالم عند أرسطو — مثلًا — تُقسَّم أنواعًا أنواعًا، بحيث لا يجوز لظاهرة تندرج تحت نوعٍ ما أن تندرج في الوقت نفسه تحت نوع آخر؛ ومن ثَم نشأت عند فلاسفة اليونان مشكلاتٌ غريبة، فهل يكون الشيء الواحد — مثلًا — حارًّا وباردًا في وقت واحد؟ ذلك مستحيل في حكم المنطق؛ لأن الضدين لا يَصدُقان معًا، لكن الماء الفاتر حارٌّ بالنسبة للماء المثلوج، وبارد بالنسبة للماء الذي يغلي، فكيف أمكن لهذا الماء المعيَّن أن يُحكَم عليه هو نفسه بالحرارة وبالبرودة معًا؟ كان هذا هو الموقف عندما كان إدراك الحرارة والبرودة أمرًا كیفیًّا، لكن انظر ماذا حدث لهذه المشكلة نفسها بعد أن تحوَّل إدراكنا للحرارة من الناحية العلمية إلى إدراك كَمِّي؛ فأولًا — لم تعُد الحرارة والبرودة نوعين من الكائنات، بل هما ظاهرة واحدة وإن تفاوتَت درجاتها؛ فالماء المثلوج ذو حرارة كالماء الذي يغلي، وكل ما في الأمر اختلافٌ في درجة هذه الحرارة؛ فهي صفر في الحالة الأولى ومائة في الحالة الثانية. ولو قلنا عن ماء معيَّن إن درجة حرارته ٥٠ مئوية، لما أصبح لكلامنا معنًى إذا قلنا: كيف أمكن لهذه الخمسين أن تكون أكبر من الصفر وأصغر من المائة؟

وإذا رأيت أناسًا ما يزالون يُقسِّمون لك الكائنات الحية قسمين، فكائنات عاقلة هي بنو الإنسان، وكائنات غير عاقلة هي أفراد الحيوان الأعجم والنباتات، فاعلم أنهم ما يزالون من العلم في مرحلة أرسطيَّة؛ إذ هم يُقسِّمون الظواهر على أساسٍ كیفي، ولو أرادوا النظر من وجهة التفاوت الكَمِّي للظاهرة الواحدة، لَرأوا «العقل» في الإنسان درجةً عُليا من درجات تتفاوت في سُلَّم الكائنات الحية جميعًا؛ فليس الأمر «أنواعًا» بل الأمر ظاهرة واحدة هي ظاهرة الحياة، وعلينا بعد ذلك أن نجد لها مقياسًا يقیس درجاتها المتفاوتة في الكائنات الحية، كما وجدنا للحرارة مقياسًا.

إن المَثل الأعلى الذي نبتغيه للعلم الإنساني، مهما يكن موضوع ذلك العلم، هو أن نجد لكل مُدرَك من مدرَكاتنا وسيلةً قياسية نقيس بها درجات ذلك المُدرَك في تفاوُتها؛ فليس علمًا أن أقول عن الناس إن منهم الأذكياء ومنهم الأغبياء؛ لأن هذا وصفٌ كیفي لا دقة فيه، وليس الذكاء والغباء نوعين من الظواهر، بل هما درجتان أو قُل هما سُلَّم مديد لظاهرة واحدة في درجاتها المتفاوتة؛ فعند من نَصِفه بالذكاء درجةٌ أعلى من ظاهرة هي نفسها عند من نَصِفه بالغباء ولكنها عنده بدرجة أقل، ومجهودنا هو أن نعثر على أداة للقياس. والعجيب هنا هو أن تجد عند كثير جدًّا من الناس — حتى من أولئك الذين يَسلكون أنفسهم في زُمرة العلماء — نفورًا شديدًا إذا ما زعمتَ لهم أن العلم ينشُد الضبط الكمي لشتَّى الظواهر، بما فيها الإنسان نفسه، إنهم يَنفرون نفورًا شديدًا إذا ما علموا أنك تريد أن تقيس الفضيلة كما تقيس الحرارة، وأن تَزِن الحب كما تَزِن الأجسام، وعندهم أن التقدير الكَمِّي إن جاز وأمكن في الطبيعة الجامدة، ثم إن جاز وأمكن إلى حدٍّ ما في النبات وفي الحيوان، فهو مستحيل بالنسبة إلى الإنسان؛ فللإنسان عندهم روح لا يُقاس بالمكاييل والموازين. نعم إنه لا بأس عندهم من أن يُقام يوم الحساب ميزان للحسنات والسيئات؛ لأنه لا بأس عندهم من الوقوع مع أنفسهم في تناقُض، فيتصوَّرون للشيء الواحد إمكانًا واستحالة في آنٍ معًا.

إننا إذ نقول إن المَثل الأعلى الذي ينشُده العلم في تطوُّره هو أن يتحدث عن الظواهر كلها بِلغة الكم لا بِلغة الكيف، لا ننسى أن السير تجاه هذا الهدف قد بدأت خُطاه الأولى في أقدم العصور الفكرية؛ فمن الفلاسفة اليونان الأقدمين مَن جعل اختلاف الكيف في الأشياء راجعًا إلى اختلاف في الكم؛ فليس الذهب — مثلًا — بمختلف عن النحاس في جوهر المادة المصنوع منها كلٌّ منهما، بل الجوهر واحد — عند هؤلاء — وإنما الاختلاف كله في طريقة الترتيب والتركيب، أو هو في اختلاف درجة الكثافة أو في اختلاف الكمية إلى آخر هذه الآراء التي تجدها عند ديمقريطس مثلًا أو فيثاغورس، لكنه على الرغم من هذه المحاولات الأولى، كان السير نحو الهدف بطيئًا أول الأمر، ثم أسرع في العلوم الطبيعية وحدها ولَبِث على بطئه في العلوم الإنسانية. وإني لمن القائلين إنه لا مُبرِّر أبدًا لتثبيط الهمة في العلوم الإنسانية؛ لأنه بمقدار ما يدخل الإنسان في عِداد الظواهر الطبيعية لا بد من إخضاعه لما تخضع له سائر الظواهر من منهج علمي في البحث، وأما إن كان للإنسان جانب يتفرَّد به دون الظواهر الأخرى، كان معنى ذلك اعترافًا منا بأن هذا الجانب الإنساني الفريد لا يجوز فيه التحدث إلا كما يتحدث الفنان حديثًا ينفعل به، لكنه لا يقول عن دنيا الواقع العلمي شيئًا.

٢

يُقدِّم «كولنجوود» اقتراحًا جديرًا بالنظر، يصف به طبيعة التفكير الفلسفي،١ فيقول إن الاختلاف الكَمِّي بين المدرَكات هو في حد ذاته ليس بذي شأن في التفكير الفلسفي؛ فليس مما يعني الفيلسوفَ أبدًا أن يعلم كم درجةً حرارية هنا وكم درجةً هناك، وكم يكون ارتفاع هذا الجبل، أو كم تكون المسافة بين القاهرة ودمشق، بل إن من الفلاسفة من يرى أن المدرَكات الرئيسية التي تشغلهم قبل غيرها ليست بطبيعتها مما يخضع للقياس الكَمِّي — كالخير والحق والجمال والوجود والعدم والمطلق والروح والجوهر — فهذه كلها مدرَكات عقلية لا تُكال بالقَدَح ولا تُوزَن بالرطل ولا تُقاس بالمتر، إنها مدرَكات لا تجوز عليها القسمة إلى درجات إطلاقًا، فضلًا عن أن تُقاس تلك الدرجات قياسًا فيه ضبط ودقة.

كلا ولا الاختلاف الكيفي نفسه هو في حد ذاته مما يشغل الفلاسفة؛ فلا يهتم الفيلسوف أبدًا بالفرق — مثلًا — بين الزواحف والطيور، وبين صخور المرمر وصخور الجرانيت، إنه قد يسأل نفسه: ما الحياة؟ لكنه لا يسأل نفسه قطُّ عن الفوارق الكيفية بين نوع ونوع آخر من الأحياء، وقد يسأل نفسه: ما الإدراك الحسي؟ لكنه لا يسأل قط: ما الفرق الكيفي بين البصر والسمع؟

فلا اختلاف الكيف وحده ولا اختلاف الكم وحده يعنيه، فكلاهما من شأن العلماء؛ الأول منهما يختص به علماء الطبيعة، ويختص بالثاني علماء الرياضة والفيزياء الرياضية، أما إذا امتزج اختلاف الكيف واختلاف الكم معًا في حالة واحدة، فها هنا يكون مجال التفكير الفلسفي بمعناه الدقيق.

فلو كان الأمر في وصف الفضائل المختلفة — مثلًا — مقصورًا على وصفٍ تفصيلي لكل فِعل مما يندرج تحت هذه الفضيلة أو تلك، لما كان ذلك مما يعني الفيلسوف؛ فإذا قلت كما قال أفلاطون إن الأفعال الفاضلة كلها تقع في أربعة أنواع، هي العفة والشجاعة والحكمة والعدل، فالعفة هي الاسم العام الذي نُطلِقه على مجموعة الأفعال الفاضلة الخاصة بالبدن وشهواته، والشجاعة هي الاسم العام الذي نسمِّي به مجموعة الأفعال الفاضلة الخاصة بالقلب ووجداناته، والحكمة هي الاسم العام الذي نُدرِج تحته مجموعة الأفعال الفاضلة الخاصة بالعقل وأحكامه، والعدل هو في أن نجعل كلًّا من الفضائل الثلاثة المذكورة في حدوده الصحيحة بحيث لا يَجُور منها جانب على جانب؛ إذا قلت هذا الذي قاله أفلاطون في الفضائل الرئيسية وأنواعها، ثم سكت عند هذا الحد، لما كان في الأمر فلسفة؛ لأنه عندئذٍ يكون تصنيفًا علميًّا لمجموعات الأفعال المختلفة كيفًا، كما نُصنِّف أنواع الصخور وأنواع الطيور وأنواع الفاكهة.

أما إذا لم تكتفِ بالتصنيف الكيفي وحده — كما لم يكتفِ به أفلاطون — فمضيتَ تبحث عن اختلاف في الدرجة أيضًا، تستطيع على أساسه أن ترتِّب تلك الفضائل علوًّا وسفلًا، فتجعل العفة التي هي فضيلة البدن أدنى مقامًا وأقل درجة من الشجاعة التي هي فضيلة القلب، وهذه بدَورها أدنى مقامًا وأقل درجة من الحكمة التي هي فضيلة العقل، وهذه بدَورها أدنى مقامًا وأقل درجة من العدل الذي هو فضيلة تلك الفضائل كلها؛ أقول لو أنك رأيت في اختلاف الكيف اختلافًا في الدرجة أيضًا، فعندئذٍ أنت الفيلسوف.

إن الحالة التي يكون فيها امتزاج بين النوع والدرجة — وإن شئت فقل بين الكيف والكم — وهي الحالة التي يهتم بها الفيلسوف في رأي «كولنجوود»، تتضمَّن أن الجنس الذي نُقسِّمه إلى أنواعه إنما يتبدَّى في تلك الأنواع على درجات مُتفاوتة؛ فالحياة — مثلًا — تُعبِّر عن نفسها في أنواع من الكائنات الحية، ولو جعلتَ تَصِف تلك الأنواع نوعًا نوعًا لما كنت بهذا الوصف فيلسوفًا، لكنك إذا أدركتَ الأساس الذي يجعل تلك الأنواع سُلمًا تتفاوت درجاته في كمال التعبير عن الحياة، بحيث يكون نوعٌ منها أغزر وأعلى تعبيرًا عن الحياة من نوع آخر، كنت بهذا الترتيب للأنواع فيلسوفًا؛ لأنك رأيت كيف يؤدِّي اختلاف الكيف في نوعين إلى اختلاف الدرجة بينهما؛ فلا بد — في الحالة التي يهتم بها الفيلسوف — أن يكون النوع والدرجة على صلةٍ أحدهما بالآخر، بحيث يظل النوع الواحد يزداد في صفة معيَّنة حتى يصل بها إلى حد معلوم، وعندئذٍ يتمخَّض عن نوع جديد، يظل بدوره يزداد في صفة معيَّنة حتى يصل بها إلى حدٍّ معلوم، وعندئذٍ يتمخض عن نوع جديد، وهلمَّ جرًّا.

راجع على هذا الضوء كثيرًا جدًّا مما قاله الفلاسفة في شتَّى الموضوعات تجده مُمثِّلًا لهذه الفكرة؛ فكرة السُّلم المتدرِّج الذي يرتِّب به الفيلسوف أنواع الجنس الذي يبحثه ترتيبًا يجعل الأدنى أقل درجة من الأعلى، ويجعل اختلاف النوعين كيفًا، مُلازِمًا لاختلافهما درجةً.

فهذا هو أفلاطون يقسم المعرفة أنواعًا ودرجاتٍ في آنٍ واحد؛ فإن تكن أنواعها عنده أربعة تبدأ في أسفل بالتخمين وتصعد تدريجًا إلى الرأي ثم إلى المعرفة الاستنباطية وأخيرًا إلى المعرفة الحدسية، فهذا الاختلاف الكيفي بين تلك الأنواع هو نفسه اختلاف في درجات تلك الأنواع من حيث بُعدها أو قُربها من اليقين. وكذلك يقسم أفلاطون الوجود درجاتٍ ثلاثًا، تختلف نوعًا لأنها تتفاوت عُلوًّا، وهي العدم فشِبهُ الوجود فالوجود الكامل، وهو الوجود الحقيقي. ويقسم اللذائذ قسمَين يختلفان نوعًا لأنهما يتفاوتان درجةً، وهما لذائذ الجسد ولذائذ الروح. وهكذا وهكذا كلما قرأت له بحثًا في موضوع ألفيته يقسمه أنواعًا تتفاوت في درجاتها.

وهذا بعينه تراه عند أرسطو في كثير من مواضع بحثه؛ فلئن كانت «النفس» عنده ثلاثة أنواع؛ نفسٌ نامية في النبات، ونفسٌ حاسَّة في الحيوان، ونفسٌ ناطقة في الإنسان؛ فليس هذا الاختلاف الكيفي مجرد تعدُّد في الأنواع مع بقائها على درجة واحدة، بل إنها بسبب اختلافها ذاك تتفاوت أيضًا في نصيبها من الكمال، وتكون النفس الأعلى أكمل تعبيرًا عن الحياة من النفس الأدنى؛ لأن في الأعلى ما في الأدنى وزيادة؛ ففي النفس الحاسة عند الحيوان ما عند النبات من نموٍّ ثم يزيد الحس، وفي النفس الناطقة عند الإنسان ما عند النبات والحيوان من نموٍّ وحس ثم يزيد التفكير. لو كان أرسطو قد اكتفى بذِكر أنواع الكائنات الحية وأوصافها لما كان فيلسوفًا، لكنه فیلسوف بالمبدأ الذي رآه يربط اختلاف النوع بتفاوت الدرجة في سُلَّم الأحياء.

ولو جعلنا نَسُوق الأمثلة من الفلاسفة في كل عصر، لنتبيَّن إلى أي حد كان هذا الترتيب الدرجي للأنواع التي تندرج تحت جنسٍ ما، هو شغل الفيلسوف الشاغل، لَمَا كانت هنالك نهاية نقِف عندها. وحسبُنا أن نذكُر للقارئ ذكرًا سريعًا لطائفة من الفلاسفة، كان هذا النوع من التفكير واضحًا في فلسفتهم؛ فانظر إلى أفلوطين وهو يُسلسِل الموجودات درجات، أعلاها هو الله الخالق، وأدناها هو المادة، وبينهما سُلَّم من عقول وأنفُس؛ وإلى الفلاسفة المسلمين كيف اهتمُّوا دائمًا بترتیب الكائنات في سُلَّم مُتفاوت الدرجات؛ فهذا هو الكِندي يجعل بين الله الخالق والعالَم المخلوق حلقاتٍ وُسطى يؤدِّي أعلاها إلى أدناها، بحيث يؤثِّر الأعلى في الأدنى ولا يؤثِّر الأدنى في الأعلى؛ لأن هذا الأعلى هو أرقى منه في مراتب الوجود؛ فهناك — إذَن — ثلاث درجات: العقل الإلهي، فالنفس التي هي بدَورها درجات، ثم العالم المادِّي. فليس الاختلاف هنا اختلافًا نوعيًّا في الكيف فقط، بل إنه كذلك وفي نفس الوقت اختلافٌ في المنزلة. وهذا هو الفارابي كذلك يدمج اختلاف النوع في تفاوت الدرجة، فمِن الله يفيض مثاله الذي هو عقلٌ أول تأتي بعده درجاتٌ ثمانٍ من العقول، على أن هذه العقول التسعة كلها مَنُوطة بالعالم العُلوي — عالم الأفلاك — ولذلك فهي بمثابة المرتبة الثانية بعد الله، وفي المرتبة الثالثة يجيء العقل الفعَّال، وهو الذي من شأنه أن يصل العالم العُلوي بالعالم السُّفلي، ثم تجيء النفس في المرتبة الرابعة، وفي الخامسة تجيء الصورة، وفي السادسة تجيء المادة، وبهاتين الأخيرتين تنتهي سلسلة الموجودات التي ليست ذواتها أجسامًا.٢

وتدرُّج الكائنات هذا مبدأ أساسي في فلسفة ليبنتز؛ فالأمر في تلك الكائنات كمجموعة من مرايا كلها تعكس شيئًا بذاته، ولكن كلًّا منها تزيد درجة عن سابقتها في وضوح الصورة المنعكسة عليها. وانظر إلى هيجل في وصفه لِتفاوُت الكائنات من حيث تعبيرها عن الروح المطلق، ثم انظر إليه كذلك في ترتيبه للفنون حسب غلبة الصورة على المادة أو المادة على الصورة، بحيث يكون أعلاها هو الفن الذي يكاد يكون صورة خالصة بغير مادة، وأدناها هو الفن الذي يكاد يكون مادة خالصة بغير صورة؛ وعلى هذا فالموسيقى أعلى من التصوير، والتصوير أعلى من النحت، والنحت أعلى من العمارة.

بعد أن يشرح لنا «كولنجوود» فِكرته التي لخَّصناها لك وضربنا لها أمثلة توضِّحها، وهي أن طبيعة التفكير الفلسفي تتميَّز باندماج الاختلافين معًا في سُلَّم واحد، اختلاف النوع واختلاف الدرجة، يُحدِّد الفرق بين «الدرجة» واختلافها في موضوعات الفلسفة، وبين «الكمية» وقيامها في المدرَكات العلمية، فيقول إن الفرق بين هذه المفاضلة «هذا الرجل أفضل من ذلك»، وبين هذه المقارنة «هذا الجسم أكثر حرارةً من ذلك»، هو أن القياس الكَمِّي ممكن في الحالة الثانية وغير ممكن في الحالة الأولى؛ وهكذا تتميَّز المدرَكات الفلسفية بأنها وإن تكن قابلة للتفاوت الدرجي، إلا أنها مستحيلة على القياس الكَمِّي، فيجوز أن نقول عن التصوير إنه أعلى في سُلَّم الجمال من النحت، لكننا بعد ذلك لا نستطيع أن نقيس مقدار هذا التفاوت بينهما كما نقيس مقدار التفاوت بين حرارتين أو بين مسافتين أو فترتين من الزمن. كذلك يجوز أن أقول عن المعرفة الحدسية إنها أعلى في سُلَّم الحق من المعرفة الاستنباطية، لكنني عاجزٌ بعد ذلك أن أقيس مقدار التفاوت بينهما كما أقيس الفرق بين ارتفاع الهرم الأكبر وارتفاع المقطم. وكذلك يجوز أن أقول إن لذة الفكر أعلى في سُلَّم الخير من لذة الجسد، لكن القياس الكَمِّي للفرق بينهما مُحال كما هو مُحال في حالتَي الجمال والحق.

وتعذُّر القياس الكمي للفوارق التي تتفاوت بها المدرَكات الفلسفية راجعٌ إلى أن هذا التفاوت لا يكون في الدرجة وحدها فيمكن قياسه، بل إن اختلاف الكيف لَيَمتزج به امتزاجًا يجعل التفاوت الدرجي اختلافًا كيفيًّا في الوقت نفسه؛ فأنت تستطيع أن تزيد من حرارة الماء درجةً بعد درجة دون أن يكون هنالك من التغيرات في الماء غير ارتفاع حرارته، لكنك لا تستطيع أن تُدنيَ بَدنك من النار لِيَرتفع شعورك بحرارتها درجةً بعد درجة دون أن يُصاحِب هذا الشعورَ بالحرارة المتزايدة اختلافٌ في كيفية الشعور ذاتها؛ فقد يكون الشعور بالحرارة في درجة معيَّنة شعورًا بدفءٍ مُمتِع، ثم ينقلب مع ارتفاع الحرارة شعورًا بلذعٍ مؤلم، وليس الاختلاف بين المتعة والألم مجرد اختلاف في درجة كمية، بل هو اختلاف في الكيفية أيضًا، والاختلافان مُندمجان أحدهما في الآخر اندماجًا يستحيل الفصل بين عنصرَیه.

ويَخلُص «كولنجوود» من عرض فِكرته هذه إلى نتيجة يقول فيها إن إدراكنا لطبيعة التفكير الفلسفي على هذا النحو، يُجنِّبنا الخطأ في موضعَين؛ فلا نُخطئ — أولًا — بمحاولة إخضاع المدرَكات الفلسفية كالخير والجمال لحسابٍ كَمِّي دقیق كأنما هي شبيهة بالمدرَكات العلمية الخالصة كالحرارة والضوء، ثم لا نخطئ — ثانيًا — فنظن أن المدرَك الفلسفيَّ الواحد، كفكرة الخير مثلًا، يكون دائمًا على درجة واحدة في كل أوضاعه؛ ذلك لأن المدرَكات الفلسفية كلها — كما قلنا — لا هي تتمثَّل في الدرجة وحدها، ولا هي تتمثَّل في الكيفية وحدها، بل هي دائمًا تتدرَّج في سُلَّم تمتزج فيه الدرجة والنوع في آنٍ معًا.

ولو صحَّ هذا الذي يقوله «كولنجوود» في طبيعة التفكير الفلسفي لكان للفلسفة خصائصها التي تُميِّزها من العلم ومن الفن جميعًا؛ فلا هي من العلم لأن العلم يتميَّز بتكميم مدرَكاته وتخليصها من جوانبها الكيفية كلها، ولا هي من الفن لأن الفن يتميَّز بجانبه الكيفي ولا شأن له بالمقادير الكَمِّية، وحتى إن استخدم هذه المقادير كما نفعل في الموسيقى وفي أوزان الشعر وفي الاحتفاظ بنِسَب خاصة في النحت والعمارة، فذلك لِما يتبع تلك المقادير الكمية من كیفیات هي التي يَقصِد إليها الفنَّان.

لكننا نزعم أن ليس للفلسفة قضايا خاصة بها، بحيث لا تصلح تلك القضايا أن تكون من العلم ولا أن تكون من الفن. إننا نزعم أن أي جملة يقولها قائل إما أن تكون علمًا؛ وبذلك تخضع لمقاييس العلم من طبيعة أو رياضة، وإما أن تكون مُعبِّرة عن حالات ذاتية؛ وبذلك تكون فنًّا وتخضع لمقاييس النقد الفني؛ فإن زعم زاعمٌ لجملةٍ يقولها إنها ذات خصائص تُميِّزها عن العلم وعن الفن، وإنها بهذه الخصائص تكون فلسفة ويكون من العبث محاولة تحويلها إلى علم، تناولنا جملته هذه وحلَّلناها وسننتهي حتمًا إلى أنها كلام فارغ من كل معنًى.

إن دعوی «كولنجوود» بأن عمل الفلسفة الأصيل هو ترتيب الأنواع التي تُجسِّد جنسًا معيَّنًا ترتيبًا تتفاوت درجاته بحيث يكون الأعلى في الترتيب أقرب إلى تمثيل الجنس المقسَّم من الأدنى في الترتيب، هذه الدعوى تتضمَّن تقييمًا خاصًّا للأنواع يُعبِّر به الفيلسوف عن مزاجه الشخصي؛ ومن ثَم فهو تعبير عن ذاته كأنما هو شاعر يُعبِّر عن وجدانه وعن ميوله الخاصة. هذا أرسطو — مثلًا — يقسم الدولة إلى أنواعها فيقول إن هذه الأنواع ستة، يرتِّبها حسب قُربها أو بُعدها من الكمال فيقول إن أعلاها هي حكومة الفرد الصالح، يتلوها حكومة الأقلية المُستنيرة، ثم يتلوها حكومة الكثرة المُستنيرة، وبعدئذٍ تجيء الثلاثة الأنواع الفاسدة، وهي على التوالي أيضًا: حكومة الفرد المستبِد، فحكومة الأقلية الطاغية، وأخيرًا حكومة الطَّغام من سواد الشعب. وهذا تقسيم وترتيبٌ ظاهره موضوعي، وأما حقيقته فهي أنه تعبير عن ميل أرسطو الخاص به؛ فهو يحب هذا ويكره ذاك، ويُفضِّل هذا على هذا على أساس تمتزج فيه عناصر ذاتية خالصة. وحسبُنا أن نلاحظ أن هذا التقسيم من ساسه قائم على افتراض قيام الدولة، وهو افتراضٌ مستمَد — فيما أعتقد — من الأوضاع القائمة فعلًا في المجتمع الذي نشأ فيه الفيلسوف، ولو قد نشأ في غير مجتمع منظَّم لَجازَ ألا يأخذ بقيام الدولة إطلاقًا، فضلًا عن أن يُصنِّف أنواعها ويُرتِّب تلك الأنواع من حيث صلاحيَّتها أو فسادها.

لو اكتفى أرسطو بذِكر أنواع الدولة الستة على أنها الأنواع التي قامت فعلًا في أزمنة مختلفة وأمكنة مختلفة، لكان بذلك شبيهًا بالمؤرِّخ، وكان يمكن لقوله هذا أن يخضع لوسائل تحقيق المؤرِّخين فيظهر صوابه أو خطؤه. ولو ذكَر أرسطو هذه الأنواع الستة على أنها التقسيم المنطقي الممكن عقلًا وإن لم تقُم بعض الأقسام فعلًا؛ إذ لا تخرج الدولة نظريًّا عن أن تكون في قبضة فرد واحد أو فئة قليلة من الأفراد أو في أيدي الشعب كله، ثم لا تخرج كل حالة من هذه الحالات عن أن تكون إما صالحة أو فاسدة، أقول لو ذكَر أرسطو تقسيمه هذا على أنه تقسیم منطقي صِرف يجمع كل الممكنات، سواء تحقَّقَ بعضها بالفعل أو لم يتحقَّق، لكان قوله من قبيل العبارات المنطقية التي لا تتعرَّض للكذب أبدًا لسبب بسيط، وهو أنها لا تقول شيئًا، ومثال ذلك أن تقول عن عدد الطلبة في فرقتك إنه إما زوجيٌّ أو فردي، أو أن تقول عن صديق لك إنه إما غائب أو حاضر؛ فهذه وأمثالها صِيَغ منطقية صِدقُها مضمون لأنها لا تُخبِر بشيء عن الحالة القائمة. وهكذا أيضًا يكون تقسيم أرسطو لأنواع الدولة مضمون الصدق لو أراد به تقسیمًا منطقيًّا صِرفًا دون التعرُّض لذِكر ما هو قائم منها فعلًا، في كلتا الحالتين السالفتين، وهما:
  • (١)

    أن يكون القول مستمَدًّا من التجرِبة لِما قد وقع فعلًا من أنواع الدولة؛ وبذلك يكون تحقيقه كتحقيق أي قضية تاريخية.

  • (٢)

    أن يكون القول منطقيًّا خالصًا يعُدُّ كل الحالات الممكنة حتى ولو لم يقع بعضها فعلًا؛ وبهذا يكون تحقيق العبارة — كتحقيق أي صيغة منطقية — تحقيقًا صوريًّا بحتًا؛ أقول إنه في كلتا الحالتين يكون القول مقبولًا ومشروعًا لأنه ممكن التحقيق، وأما الذي يخرج به عن إمكان التحقيق، وبذلك يخرج به عن عِداد الأقوال المشروعة، فهو المفاضَلة التي يُجْريها الفيلسوف بين أنواع الدولة، بأن يجعل نوعًا منها «أفضل» من نوع آخر، فها هنا ندخل في مجال القِيَم. وليس للقيمة التي ينسبها شخصٌ لشيء وسيلةٌ موضوعية لتحقيقها؛ فهي ذاتية، ولمن شاء أن يقول ما شاء من قِيَم عن هذا الشيء أو ذاك.

وخلاصة القول هي أنه لو صحَّ ما قد ذهب إليه «كولنجوود» من أن الفلسفة بحكم طبيعتها تَمزج اختلاف الدرجة باختلاف الكيف، كان معنى ذلك أن أقوالها — إذَن — غير ممكنة التحقيق لا على أساسٍ تجريبي، ولا على أساسٍ منطقي خالص؛ وبالتالي فهي أقوال إما أن تدخل في التعبيرات الذاتية الفنية وإما ألَّا تكون شيئًا على الإطلاق.

٣

لم يكن التفكير النظري في أولى مراحله يهتم بالكمِّ اهتمامًا يدعوه إلى ضبط ذلك الكم ضبطًا دقيقًا. ولعل الحاجة إلى هذا الضبط الدقيق في العلوم الطبيعية على الأقل لم تظهر بشكلٍ واضح إلا في ظهور هذه العلوم منذ أيام النهضة الأوروبية على نطاقٍ واسع؛ ذلك أن التفكير اليوناني كان قد انصرف بمعظم جهوده إلى العلوم الاستنباطية كالرياضة والفلسفة، والتفكيرَ الوسيط قد انصرف بجهوده كلها تقريبًا إلى اللاهوت، ولم تظهر العلوم الطبيعية بشكلٍ واضح يشغل جانبًا بارزًا ملحوظًا من جهود الإنسان الفكرية إلا منذ فاتحة العصور الحديثة؛ أي منذ القرن السادس عشر؛ فعندئذٍ ظهرت زُمرة العلماء: جاليليو، وكبلر، وكوبرنيق، ونيوتن، مُتجاورةً مُتزاحمة على نحوِ ما ظهرت زُمرة الفلاسفة أيام اليونان مُتجاورةً مُتزاحمة: سقراط وأفلاطون وأرسطو وما يتبعهم من مَدارس.

ومع ظهور العلوم الطبيعية على هذا النطاق الواسع، ظهرت الحاجة إلى وسائل الضبط الكَمِّي؛ فلا غرابةَ أن أخذ النقص في المنطق الأرسطي یبدو للعيان؛ لأن هذا المنطق وإن يكن قد عُنِي بالكمية في قضاياه، فإنه لم يُعنَ بها إلا على سبيل التعميم الغامض، لا على سبيل التفصيل الدقيق، ولك أن تراجع القياس الأرسطي الذي هو عند اليونان مثال التفكير العلمي، لترى كيف يَقصُر اهتمامه من حيث الكم في لفظتَي «كل» و«بعض». نعم إنه قياس يُفصِّل لك القواعد الاستدلالية تفصيلًا دقيقًا، على شرط ألا تُجاوز في الدقة الكَمِّية عند ذِكر القضايا التي تستخدمها في الاستدلال هذه الحدودَ العامة؛ فإما أن تكون القضية المستخدَمة في المقدمات كلية أو جزئية، والكلية هي ما كان سُورها كلمة «كل» أو ما في معناها، والجزئية هي ما كان سُورها كلمة «بعض» أو ما في معناها، كأن تقول مثلًا: «كل المصريين يتكلَّمون العربية»، و«كل سكان النُّوبة مصريون»؛ إذَن «فكل سكان النُّوبة يتكلَّمون العربية». أو أن تقول: «كل آبار البترول المصرية قريبة من البحر الأحمر»، و«بعض آبار البترول المصرية غزير الإنتاج»؛ إذَن «فبعض آبار البترول الغزيرة الإنتاج موجودة بالقرب من البحر الأحمر.» هذا هو نمط الاستدلال القياسي عند أرسطو، ولكن هل «كل» و«بعض» هما كل حدود التقدير الكَمِّي في التفكير العلمي؟ واضح أنهما لا يكونان إلا شطرًا ضئيلًا مما يتعرَّض له الإنسان بفكره العلمي، إذا ما أراد أن يَمسَّ مشكلاته العلمية على نحوٍ جادٍّ، فماذا يُجدِي من الناحية العلمية أن أقول «بعض المصريين فقراء»؟ إنه يتحتَّم على الباحث أن يعلم «كم» من المصريين هم الفقراء، ثم «كم» هو الدخل السَّنوي الذي نُحدِّد به معنى كلمة «الفقر» في هذا السياق؟ إن القول بأن «بعض المصريين فقراء» هو قول يُوشِك ألا يُفيد العلم شيئًا على الإطلاق؛ لأن ما فيه من كمٍّ قد جاء على صورةٍ غامضة، وما فيه من كيفٍ (وأعني به نسبة صفة الفقر إلى فريق من المصريين) لا يعني في البحث العلمي شيئًا إلا إذا تحوَّل فيه الكيف إلى كم بأن تُرجمَت صفة الفقر إلى نسبة معيَّنة من الدخل في وحدة زمنية معيَّنة.

إن القارئ المُلِم بالمنطق الأرسطي وقواعده لَيَعلم جيدًا أن ذلك المنطق بكل قواعده الاستدلالية لا يُسعِف أحدًا إذا أراد أن يعلم إن كان الاستدلال القياسي الآتي صوابًا أو لم يكن، وهو:
  • (١)

    إن ٤ / ٧ على الأكثر من طلبة الجامعة يتحقَّق فيهم عدم اللياقة الطبية العسكرية بنسبة ٢ / ٣.

  • (٢)

    إن ٣ / ٥ على الأقل من أبناء الضبَّاط تتحقَّق فيهم اللياقة الطبية العسكرية بنسبة ٧ / ٨.

  • (٣)

    إذَن فعلى الأكثر ١ / ٢ أبناء الضبَّاط هم من طلبة الجامعة.

نعم لم يكن القياس الأرسطي يُعنى بالدقة الكمية في مقدماته ونتائجه، مع أن العلوم بأسرها، طبيعية وإنسانية على السواء، لا مناصَ لها من مثل هذه الدقة؛ إذ هي في قياسها لكَمِّياتها أو في إجرائها لإحصاءاتها لا تَقنَع بمجرَّد القول — مثلًا — إن كل الخشب يطفو فوق الماء، أو إن بعض الناس هم دون المستوى في درجة ذكائهم، بل لا بد في الحالة الأولى من ذِكر الوزن النوعي للخشب في رقم دقيق حتى يمكن الاستفادة من القاعدة استفادةً علمية عملية، ولا بد في الحالة الثانية من تقدير للذكاء بِلغة الكم، ثم تقدير لما يعد «المستوى»، ثم لا بد بعد ذلك من ذِكر نسبة الناس الذين هم دون هذا المستوى؛ حتى يمكن الاستعانة بأمثال هذه التقديرات الدقيقة في عملية التربية مثلًا.

فلا عَجَب — إذَن — أن رأينا بعض رجال المنطق الحديث، منذ قرن تقريبًا، يتصدَّون لمعالجة هذا الجانب الذي أهمله أرسطو في منطقه، وهو إدخال التقدير الكمي في مقدمات الاستدلال ونتائجه ما أمكن ذلك، غير مُكتفين بالكلمات التقليدية الدالة على الكم، مثل «كل» و«بعض». ومن بين هؤلاء المناطقة المُحدَثين «جورج بول»٣ و«دي مورجان»٤ و«جفنز»٥ وغيرهم. ومع ذلك فما يزال مجال البحث في هذا الميدان مفتوحًا؛ لأنه رغم الجهود الموفَّقة التي قام بها رجال المنطق ورجال الرياضة في عصرنا الحديث، إلا أنهم جميعًا لم يهتدوا بعدُ إلى طرائق للاستدلال الدقيق حين تكون أحجام الفئات التي تدخل في ذلك الاستدلال معلومةً محدودة؛ إذ ما نزال نقتصر في تحديدنا للكم على «كل» وعلى «بعض»، ولو أننا ازدَدْنا تحليلًا وتوضيحًا للكمية التي تدُل عليها كلٌّ من هاتين الكلمتين؛٦ فقد كان مما لاحظه «بول»٧ — وهو العلَّامة البارز في مجال الإحصاء في أوائل هذا القرن — أن المنطق كما نعرفه لا يُسعِف الباحثين في استدلالاتهم، حين تكون القضايا التي بين أيديهم دالة على نِسَب مئوية مضبوطة كقولنا: «كذا في المائة من الفئة الفلانية تتَّصف بنسبة كذا من الصفة الفلانية.»

كنا فيما مضى إذا قلنا عن قضيةٍ ما إنها «حق» كان في هذا القول ما يكفينا ويُقنعنا، ولكننا اليوم لم نعد نكتفي بهذا الوصف «الكيفي» ونرید له دقةً كَمِّية لِنَعلم ما نسبة الحق في تلك القضية المعيَّنة؛ أهي قضية يقينية فتكون نسبة الحق فيها ١٠٠٪ أي واحدًا صحيحًا، أم هي مستحيلة الصدق فتكون نسبة الحق فيها صفرًا، أم إنها في نصيبها من الحق بينَ بين، فلا هي يقينية ولا هي مستحيلة، بل هي محتملة؛ وعندئذٍ يكون علينا أن نُعيِّن نسبة احتمالها.

وفي ميدان هذه المحاولة نحو تكميم المنطق ونحو التحدث عن «الحق» بِلغة الكَمِّية المَقيسة المحدَّدة المضبوطة، في هذا الميدان كان «جورج بول» إمامًا؛٨ إذ بيَّن لنا كيف يتشابه الاستدلال الاستنباطي تشابهًا جِد قريب مع العمليات الرياضية في الحساب أو في الجبر؛ فما الجبر أو الحساب إلا تحويلات لصيغٍ رمزية وفق طائفة من قواعد، فمن هذه الصيغة الرمزية أستخرج تلك؛ فهل يمكن النظر إلى عباراتنا الكلامية التي نَسُوق فيها أفكارنا هذه النظرة الرياضية نفسها، وهي أن نعُدَّها صیغًا رمزية، نستطيع أن نضع لأنفسنا من القواعد ما يُعيننا على أن نستخرج صيغةً من أخرى؟ جواب هذا السؤال عند «بول» هو بالإيجاب؛ فقد نشر بحثًا في مجلة رياضية عن «حساب المنطق» ختَمه بعبارة تُلخِّص موقفه من الموضوع؛ إذ قال: «إن نتيجة أبحاثي هي أن القوانين التي تتركَّب بمقتضاها العباراتُ اللغوية رياضيةٌ بمعنى هذه الكلمة الدقيق؛ فهي كالقوانين التي تتمثَّل في المُدرَكات الكَمِّية الخالصة التي نتصوَّرها عن المكان والزمان والعدد والمقاييس.»٩ ولسنا ندري إن كان «بول» قد ابتكر الفكرة ابتكارًا دون أن يعلم أن أحدًا قبله قد خطرت له الفكرة نفسها، أم إنه قد استوحى فيها ما قرأه عن «ليبنتز»، ومهما يكن من أمر فأكثر ما يمكن أن يكون «بول» قد استفاده من سابقيه، هو مجرَّد الفكرة بأن المنطق يمكنه أن يستخدم أساليب الرياضة، وليس ذلك بالشيء الكثير، وإنه ليُروى عن «بول» في تاريخ حياته أنه قال لزوجته فيما بعدُ إن الفكرة طرأت له أول مرة وهو يمشي بين الحقول ذات يوم في صِباه، وإن كان ذلك كذلك فما أشبه الوحي هنا بوحيِ دیكارت وهو جالسٌ إلى جانب المِدفأة في «أولم».١٠
ففي الجبر الرياضي عمليتان أساسيتان هما عمليَّتا الجمع والضرب،١١ وهاتان العمليتان يمكن تعريفهما بما يكون بين الصيغ الرياضية من تساوٍ؛ فمثلًا:

س + ص = ص + س

فهاتان صیغتان رمزيتان متساويتان، وهي عملية تتضمَّن تعريفًا للجمع بأنه عملية تبادل في الحدود؛١٢ أي إن حاصل الجمع لا يتوقف على ترتيب الحدود المجموعة.
وكذلك من هذا التساوی الآتي:

س + (ص + ط) = (س + ص) + ط

نرى أن عملية الجمع حين تتناول أكثر من حدَّين، فإنها عندئذٍ لا تعتمد على الترتيب الذي يضمُّ حدَّين معًا في كمية واحدة، وهو ما يُسمُّونه بمبدأ ترتيب الحدود.١٣

فمِن هذين المبدأين السابقين تتبيَّن طبيعة الجمع في الرياضة، ومن نفس المبدأين أيضًا تتبيَّن طبيعة الضرب؛ فنحن نعلم أن:

س × ص = ص × س [وهو مبدأ تبادل الحدود]. كما نعلم أن:

س × ص × (ط) = س × (ص × ط) [وهو مبدأ ترتيب الحدود].

ومن القواعد الهامَّة في الرياضة قاعدةٌ تَجمَع بين عمليتَي الجمع والضرب معًا، فنقول:

س (ص + ط) = س ص + س ط

تلك هي بعض القواعد الأساسية في عمليتَي الرياضة الرئيسيتين، وهما عمليتا الجمع والضرب، وكان ما كشف عنه «بول» هو أن للمنطق جبرًا شديد الشَّبه بجبر الرياضة، فله جمع وله ضرب، وللجمع والضرب فيه نفس المبادئ التي رأيناها مُبيِّنةً لطبيعة هاتين العمليتين في الرياضة، مع اختلافات يسيرة جدًّا.

فالجبر المنطقي عند «بول» يستخدم من الأعداد عددَين لا غير، وهما الواحد والصفر، ثم يستخدم رموزًا لمجهولات يختارها من أحرُف الهجاء على نحوِ ما يفعل جبر الرياضة، ولو أنه آثر أن يختار أحرُفًا غير التي جرى عليها العُرف في الجبر الرياضي؛ فهذا الجبر الرياضي قد جرى على أن تكون س، ص، ط أحرُفه، فلتكن أحرُف الجبر المنطقي هي ق، ك، ل. لكن رموز المجهولات في الجبر الرياضي قد تعني أي عدد من الأعداد بغير تحديد، وأما رموز المجهولات في الجبر المنطقي فلا تعني إلا أحد عددَين؛ فإما واحد وإما صفر.

فإذا اصطلحنا على أن يكون الرمز ق دالًّا على مجهول في حالة الإيجاب، واصطلحنا على أن يكون الرمز وفوقه شرطة ق دالًّا على مجهول في حالة السلب، ثم اصطلحنا كذلك على أن يكون هذا الرمز «» دالًّا على الجمع، والرمز «» دالًّا على الضرب [هذه هي الرموز التي استخدمها بول] كانت قواعد الجبر المنطقي هي كما يلي:
  • (١)
    النفي يُغيِّر قيمة الرمز؛ فإذا كانت «ق = ١» نتجَ أن «ق = ٠»، وكذلك إذا كانت «ق = ٠» نتجَ أن «ق = ١».١٤
  • (٢)

    جمع فئة إلى فئة، أو ضرب فئة في فئة، يتبعان مبدأَي تبادل الحدود وترتيب الحدود اللذين رأيناهما في العمليات الرياضية.

  • (٣)
    جمع فئةٍ ما إلى نفسها، وضرب فئةٍ ما في نفسها، لا يَنتُج عنهما تغيُّر في الفئة، بل تظل على حالها؛ أي إن:
    ق ق = ق
    ق ق = ق
  • (٤)
    جمع فئة ونقيضها يُساوي واحدًا؛ أي إن:
    ق ق = ١
  • (٥)
    ضرب فئة في نقيضها يُساوي صفرًا؛ أي إن:
    ق ق = ٠
  • (٦)
    الضرب والجمع في الجبر المنطقي (كما في الجبر الرياضي) يسيران على المبدأ الآتي:
    ق ل) = (ق ك) ل)
    ق ل) = (ق ك) ل)

ولنُلقِ ضوءًا على هذه الرموز:

إننا إذ نتحدث بألفاظ اللغة الجارية، فنحن إنما نُحدِّد العلاقات بين فئات الأشياء، فنُدخِل بعضها في بعضها الآخر، أو نَفصِل بعضها عن بعضها الآخر؛ فأنا أُدخِل فئة الأشجار في فئة الأشياء الخضراء حين أقول: الشجر أخضر. وأفصِل فئة الأسماك عن فئة الكائنات الحية التي تعيش على اليابس حين أقول: لا تعيش الأسماك على اليابس.

افرض أنك جمعت فئتين إحداهما مع الأخرى في صعيدٍ واحد، كأن تَجمع — مثلًا — عُمَّال السيارات العامة مع عُمَّال مركبات الترام، ثم ارمز إلى الفئة الأولى بالرمز «أ» وإلى الفئة الثانية بالرمز «ب»، وافرض أن هناك عاملًا معيَّنًا اسمه إسماعيل، أنت تعلم أنه واحد من العُمَّال في هذه الفئة أو تلك، ولكنك لا تعلم في أيهما يكون، فلو سألك عنه سائل: أين هو؟ كان جوابك: هو إما عضو في فئة «أ» أو عضو في فئة «ب». وإذا كان الرمز «» هو ما نرمز به إلى «إما … أو …» فإن جوابك السابق موضوعًا في صيغة رمزية يكون: أ ب. ومعنى ذلك أن ما نُعبِّر عنه في اللغة الجارية بلفظَي «إما … أو …» هو في الحقيقة عمليةُ جمعٍ منطقي؛ لأنني أضع بها فردًا معيَّنًا في فئة هي حاصل جمع فئتین.
وأما عملية الضرب المنطقي فهي عبارة عن وصفِ شيءٍ ما بصفتين، كأن أصِف العقَّاد بأنه طويل القامة وبأنه أديب؛ ذلك لأنني إذا فرزت في عالم الأشياء فئة طِوال القامة كان العقَّاد واحدًا منهم، ثم إذا عُدتُ إلى الفرز من جديد وفرزت من طِوال القامة فئة الأدباء كان العقَّاد واحدًا منهم كذلك؛ فإذا اصطلَحْنا على أن نرمز لهذه العملية التي نُكرِّر فيها فَرْزَ الأشياء بالرمز «» (وهي المُقابِلة لعلامة الضرب × في الرياضة)، ثم إذا رمَزْنا إلى الصفتين اللتين تجتمعان معًا في فرد معيَّن بالرمزين «أ» و«ب»، كان قولُنا عن العقَّاد إنه أديبٌ طويل القامة، هو ما نرمز له بهذه الصيغة: أ ب.
وعلى ضوء هذه الأمثلة راجع ما قُلناه عن قواعد الجبر المنطقي؛ فمعنى قولنا في هذا الجبر إن:

أ + ب = ب + أ

هو أنه سيَّانِ في عالم الأفراد أن تجمع أفراد فئة أ إلى الفئة ب، أو أن تجمع أفراد الفئة ب إلى الفئة أ؛ فكِلا الطريقين يُوصِّل إلى مجموعة واحدة.
ومعنى قولنا إن:

أ × ب = ب × أ

هو أنه سيَّانِ في عالم الأشياء أن تفرز الفئة «أ» أولًا ثم تستخرج من بينها ما هو «ب»، أو أن تفرز الفئة «ب» أولًا ثم تستخرج منها ما هو «أ»؛ فكِلا الطريقين يُوصِّل إلى نتيجة واحدة؛ فلا فرقَ بين أن أفرز طِوال القامة أولًا ثم أنتقي منهم الأدباء، أو أن أفرز طائفة الأدباء أولًا ثم أنتقي منهم طِوال القامة، ففي النهاية ستصل إلى نفس المجموعة من الأفراد.١٥

٤

كان الفلاسفة وما يزالون يستخدمون ألفاظًا مِحورية هامة، دون أن يُعنَوا بأن تكون لمعاني هذه الألفاظ جوانبها الكَمِّية التي يجوز أن تكون مُلتقى الحديث والبحث؛ فما أیسر على الفلاسفة أن يُلقوا في كتاباتهم بكلمة «الحياة» — مثلًا — أو بكلمة «النظام» الذي يقولون إنهم يرَونه في الكون ويتخذون من وجوده دليلًا على هذا أو دليلًا على ذاك، أو بكلمة «النفس» أو بغيرها من الكلمات التي يستخدمها الناس في أحاديثهم الجارية فيكون لها عندهم معنًی غامض.

أقول إن الفلاسفة كانوا وما يزالون يستخدمون أمثال هذه الألفاظ، كما كانوا يستخدمون ألفاظ «الحرارة» و«القوة» و«المادة»، لكن هذه المجموعة الأخيرة قد تناولَها العلم فضبَطها ضبطًا كميًّا ولم تعُدْ متروكةً للحسِّ الكيفي يُختلف في أمرها بين إنسان وإنسان؛ أفتكون ألفاظ المجموعة الأولى التي ما تزال شائعة في الدراسات الفلسفية مُستعصية على التكميم في تحديد معانيها، بحيث لا يكون لنا مناص من تركِها هكذا نهبًا لمن شاء أن يفهمها كما شاء حسب خبراته الخاصة، أم يجوز تكميمها إذا ما أُتيحَ لها العلماء الذين يستطيعون أن يؤدُّوا لها ما قد أدَّاه علماء الطبيعة فيما مضى لألفاظ «الحرارة» و«القوة» و«المادة» وما إليها؟ إنه لو تمَّ ذلك لأصبحت كلمة «النفس» مدارًا لعلمٍ كمِّي مضبوط كما قد أصبحت كلمة «الحرارة» مدارًا لمثل هذا العلم، ولأصبحت «الحياة» اسمًا لموضوع يخضع للدقة الكمية كاسم «القوة» في علم الطبيعة، وهكذا.

ولسنا نريد القول بأن «النفس» و«الحياة» وما إليهما، إذا ما عرف العلماء كيف يلتمسون لها المقاييس الكَمِّية، أصبحت الفلسفة بذلك «عِلمًا» كما نريد لها أن تكون، كلا، بل ستكون «النفس» عندئذٍ أمرًا لا شأن للفلسفة به، بل تكون عِلمًا قائمًا بذاته كسائر علوم الطبيعة، وكذلك ستصبح «الحياة» موضوعًا لا دخل للفلاسفة بالخوض فيه، بل تدخل كلها في اختصاص علماء الحياة الذين يبحثون عن الظاهرة بحثًا موضوعيًّا لا يُفرِّقون فيه بين إنسان وحیوان ونبات إلا بمقدار ما تُجيز لهم أبحاثهم الموضوعية الكَمِّية أن يُفرِّقوا؛ أعني أن أمثال هذه المُدرَكات التي يخبُّ فيها الفلاسفة خبًّا بغير حساب، ستخرج من مجال أحاديثهم كما تخرج كل كلمة دالة على مُسمًّى تجريبي؛ فليس من شأن الفلسفة العلمية أن تنافس العلماء في بحث العالم الشيئي من أي جانب من جوانبه، بل إن موضع اهتمامها سيَنحصر في أن تتلقى من العلماء قضاياهم الأولية، التي عليها يبنون بناءاتهم العلمية، ثم يُحلِّلون تلك القضايا إبرازًا لخفيِّها وتوضيحًا لغامضها.

وقد يسأل سائل متعجِّبًا: كيف يمكن لكلمة «نظام» في مثل قولنا إن الكون يسوده نظام وليس هو بالفوضى التي تَخبِط خبْطَ عَشواء؟ كيف يمكن لكلمة كهذه أن تُقاس بالفَرسَخ أو تُوزَن بالرطل؟ أليس معناها واضحًا لكلِّ من جری لسانه باللغة العربية التي هذه الكلمة إحدى كلماتها؟ هل يحتاج الطفل الصغير الناشئ إلى شرح إذا ما قيل له إن الكتب على مِنضَدته منظَّمة؟ فلماذا إذَن يأخذنا الإشفاق من فيلسوف يقول عن الكون إنه منظَّم، وإنه لا بد لهذا النظام من قوة منظِّمة؟

لكن هذا السائل المتعجِّب سرعان ما يُدرك مدى الغموض في معنى كلمة كهذه يُرسلها الناس إرسالًا ولا يكون لذلك كبير خطر لأنهم لا يُرتِّبون عليها النتائج الخطيرة، ثم يَلقَفها منهم الفلاسفة الموقَّرون فيستخدمونها هم أيضًا كما يستخدمها سواد الناس على غموضها وانبهام معناها، لكن الأمر عندئذٍ يكون جِد خطير؛ لأنهم يجعلونها مبدأً كونيًّا يستدلون منه ما وسِعَتهم البراعة المنطقية أن يستدلوه. ونحن مع عِلمنا بأننا من حيث نحن فلاسفة لا شأن لنا بما عسى أن يقوله العلماء في تحديد أمثال هذه المُدرَكات، لكننا مع ذلك نُقدِّم للقارئ لمحةً للطرائق التي يمكن أن تُترجَم بها مُدرَكات «النظام» و«الحياة» و«النفس» وغيرها من أمثالها، إلى لغة الكم التي تجعلها مُدرَكات علمية موضوعية.

خذ مجموعة من ورق اللعب حالةَ كونِها «منظَّمة» الأوراق بحيث تجتمع الورقات ذوات اللون الأحمر كلها معًا، والورقات ذوات اللون الأسود كلها معًا، ثم امزج هذه المجموعة بعضها في بعض، تأخذ الحمراوات والسوداوات في الامتزاج، فها هنا تراك تصِف الحالة الأولى بأنها على «نظام» والحالات التي تنشأ بعد ذلك بأنها حالات يقلُّ فيها «النظام» أو يزيد بمقدار قُربها أو بُعدها عن الحالة الأولى؛ فماذا في الحالة الأولى مما يُجيز لك أن تصِفها بما قد وصفتها به، بحيث إذا ما زال، زال «النظام» تبعًا لذلك؟ فكِّر في الأمر ما شئت، تجد أن الحالة التي تكون فيها الورقات الحمراوات كلها مجتمعة معًا، والسوداوات كلها مجتمعة معًا، إن هي في الحقيقة إلا أحد الأوضاع الممكنة لمجموعة الورق؛ فهنالك ملايين الحالات التي يمكن أن يُرتَّب عليها الورق، وهذه الحالة المُشار إليها واحدة منها. ولو أخذت في «تفنيط» الورق آلاف المرَّات بعد آلافها، فيجوز أن تُصادِف الحالة «المنظَّمة» الأولى عفوًا؛ أي إنه يجوز أن يعود الورق إلى ترتيبه الأول مصادفة، فليس ذلك مستحيلًا وإن يكن بعيد الاحتمال، وبُعد احتماله ناشئٌ من أنه حالة من ملايين الحالات. وسؤالنا هو: ما الذي يجعل هذه الحالة موسومة عندنا ﺑ «النظام»؛ هذا «النظام» ما معناه؟

يقول أناتول رابورت:١٦ إن «النظام» في الحالة التي نقول عنها إنها منظَّمة، إنما يُقاس بكمية الكلمات التي لا بد من استعمالها إذا أُريدَ وصفُ تلك الحالة؛ فحالة النظام الكامل لا تختلف عن غيرها من الحالات إلا في أنها تحتاج منا في وصفها إلى كلماتٍ أقل، وكلما ابتعدنا عن حالة النظام الكامل وأردنا الوصف، زاد عدد الكلمات المطلوبة في الوصف حتى نصل إلى حالة انعدام النظام انعدامًا كاملًا؛ فعندئذٍ نحتاج إلى عدد من الكلمات في وصفِها أكبر مما احتجناه في وصف أية حالة أخرى.

ففي المثل الذي ضربناه، وهو ورق اللعب، نستطيع في حالة نظامه الكامل أن نقول إن ستًّا وعشرين ورقة من ذوات اللون الأحمر قد رُتِّبت على النحو الفلاني، تتلوها ستٌّ وعشرون ورقة سوداء قد رُتِّبت على النحو نفسه، ولكن ابدأ في كسر هذا النظام بأن تأخذ من النصف الأحمر ورقةً واحدة لتضعها في النصف الأسود، فعندئذٍ تراك مضطرًّا — عند محاولة الوصف — أن تزيد من عدد العبارات والكلمات المطلوبة، وهكذا.

وليس الأمر مقصورًا على حالتين، فإما نظام أو لا نظام، بحيث يكون احتمال كلٍّ منهما مُساويًا لاحتمال الآخر، بل إن الأمر درجات متدرِّجة يتفاوت فيها النظام تفاوتًا كمِّيًّا بين الطرفين؛ طرف النظام الكامل من ناحية، وطرف انعدام النظام انعدامًا تامًّا من ناحية أخرى، وإذا ما استطعت من الوجهة النظرية أن تحسب عدد هذه الحالات المتدرِّجة، استطعت بالتالي أن تحسب مقدار احتمال وقوع الحالة التي يكون فيها النظام كاملًا؛ لأن هذا المقدار هو كسرٌ بسطُه واحد ومقامه عدد الحالات الممكنة كلها.

وقُل شيئًا كهذا في مقدارين من الغاز يتفاوتان حرارةً، مُزِجا معًا فتعادلت الحرارة في المزيج؛ فالأمر ها هنا شبيه بالأمر في ورق اللعب في حالات نظامه وعدم نظامه؛ فعند البدء في مزج المقدارين من الغاز نكون إزاء مجموعتين من الذرات، إحداها سريعة والأخرى بطيئة، وكونُ الذرَّات السريعة كلها مجتمعة معًا، والبطيئة كلها مجتمعة معًا، شبيهٌ بكون ورق اللعب في حالته الأولى مرتَّبًا على نحو يجعل الأوراق الحمراء كلها مجتمعة معًا، والسوداء كلها مجتمعة معًا، وامتزاج الذرَّات في الغازَین شبيه بالحالات التي تنشأ من «تفنيط» ورق اللعب؛ أهو مستحيلٌ أن تظل الذرَّات في امتزاجها تتخذ أوضاعًا مختلفة حتى يحدث مصادفةً أن تعود الذرَّات السريعة إلى تجمُّعها الأول والبطيئة إلى تجمُّعها؟ كلا، ليس ذلك مستحيلًا، لكنه بعيد الاحتمال؛ لأنه حالة واحدة من ملايين الحالات، وإنما نقول عن الحالة الأولى إنها أكثر نظامًا من الحالات التاليات لأن وصْفَها يتم بكلماتٍ أقل مما يمكن استخدامه لوصف سائر الحالات.

وهكذا إذا التَقى غازٌ أكثر حرارة بغاز أقل حرارة، أي إذا التقَت مجموعة من الذرَّات أسرع حركة بمجموعة أبطأ حركة، كان الأرجح — بناءً على ما شاهدناه في الطبيعة لا بناءً على ما يُحتِّمه العقل الصِّرف — أن تمتزج المجموعتان من الذرَّات امتزاجًا يخلط سريعها ببطيئها خلطًا يَنتُج عنه تعادُل الحرارة في المجموعة كلها؛ ومعنى ذلك بِلغة «النظام» أن الأمر يسيرُ من نظام أكثر إلى نظام أقل؛ أي من تجمُّع للمتجانِسات إلى تفرُّق لهذه المتجانسات تفرقًا يجعل الأمر خليطًا.

وهذا السير من حالة التجمع إلى حالة التفرق، من حالة النظام إلى حالات انعدامه، من حالة المفارقة بين المجموعات المختلفة إلى حالة الامتزاج الذي يتم فيه التعادل، هو ما يُسمُّونه في علم الطبيعة ﺑ «الأنتروبي»؛ فكأن الأمر في الكون يسير سيرًا مطَّرِدًا نحو عدم النظام. ولو بلغ السير منتهاه، بحيث يبلغ الأمر بالذرَّات إلى حالة تمتزج فيها امتزاجًا ينعدم معه كل نظام، أي إنه يبلغ حالة لو وُصفَت لاحتاج وصفُها إلى عبارات وكلمات أكثر من أية حالة أخرى، فإن التعادل عندئذٍ يكون تامًّا، وينتهي الأمر بالكون إلى سكون.

لقد شهدَت الفلسفة اليونانية القديمة أعلامًا من رجالها، كانوا — وكأنهم الأنبياء — يَنفُذون ببصائرهم إلى كُنهِ الحقيقة الكونية فيصِفونها بمثل ما يصِفها به علم الطبيعة الحديث، لولا أنهم كانوا يتحدثون بلغة الكيف، وهذا العلم الحديث يتحدث بلغة الكم؛ فمِن الفلاسفة الأقدمين مَن أدرك أن الكون قوامه عناصر مختلفة، بدأت حين كان كل عنصر متجانِس على حدة، ثم دبَّت فيها الحركة، فأخذت تمتزج بعضها ببعض حتى أصبح الشيء الواحد مكوَّنًا من خليط من عناصر قد يَصعُب فصلُها بعضها عن بعض، لكن مصير هذه الحركة في النهاية هو أن تعود العناصر المتجانسة إلى تجمُّعها، ثم دورة كونية أخرى وهكذا. وشيء كهذا هو ما يقوله العلم الطبيعي الحديث، لكن هذا العلم لم يتحدث عن التراب والهواء والماء والنار وأشباهها على أنها العناصر الأولية، بل ردَّ هذه كلها إلى أنواع من الذرَّات التي لا تختلف كيفًا بل تختلف كمًّا؛ فذرَّة أقل من أخرى في عدد كهاربها السالبة والموجبة. وكذلك لم يعُدْ هذا العلم الحديث يتحدث باللغة الكيفية التي كان يتحدث بها الفلاسفة الأقدمون من حيث امتزاج العناصر وانفصالها، حتى لقد جعل أحدهم الخير والشر دافعَين يدفعان العناصر؛ الخير يدفعها إلى التجانس، والشر يدفعها إلى الخلط والفوضى. كلا، لم يعُدْ علم الطبيعة يتحدث بهذه اللغة الكيفية، بل هو يستخرج متوسطات ويقيس سرعات ويحسب بالدقة أطوال المكان وأبعاد الزمان. وهكذا نرى أن فلاسفة الماضي وعلماء الحاضر قد يتناولون موضوعًا بذاته ويتَّفقون على فكرة بعينها، لكن موضع الاختلاف بينهم — وهو نفسه موضع التقدم الذي تقدَّمه الآخرون عن الأولين — هو أن فلاسفة الماضي كانوا يتكلمون بلغة الكيف فجاء علماء الحاضر وأخذوا يلتمسون طريقهم إلى لغة أخرى، هي لغة الكم.

وبِلغة الكم نستطيع أن نتحدث عن ظاهرة «الحياة» كما فعل شريدنجر في كتاب صغير له جعل عنوانه: «ما الحياة؟»١٧ فقال فيه إنه إذا كان مجرى الطبيعة في سائر ظواهرها يسير من نظام التجانس في الذرَّات إلى عدم النظام، أي إلى الامتزاج والخلط، فإن ظاهرة الحياة تتميَّز بأنها تسير في الاتجاه العكسي؛ لأن الكائن العضوي يعمد إلى شيء من التنظيم والتصنيف، فيُخرِج المتجانس من غير المتجانس، كما يُخرِج النباتُ — مثلًا — السكرَ من ثاني أوكسيد الكربون والماء، وكما يستخرج الحيوان بعملية الهضم البروتينات التي يبني بها خلاياه من مختلف العناصر التي يتغذَّى بها؛ فإذا كانت ظواهر الطبيعة تتَّجه في سيرها نحو الزيادة من «الأنتروبي» — أي الزيادة من عدم التصنيف — فإن ظاهرة الحياة تتجه في سيرها نحو الحد من «الأنتروبي»؛ أي نحو الزيادة من التصنيف والتنظيم، لكن هذا التصنيف — كما أسلفنا — يمكن التحدث عنه بلغة الكم؛ وبالتالي فمن الممكن أن نتحدث عن «الحياة» بهذه اللغة نفسها.

كذلك تحدَّثَ الفلاسفة عن «النفس» كما يتحدث عنها علماء النفس في وقتنا الحاضر، لكن الفرق بين هؤلاء وأولئك هو أيضًا الفرق بين لغة الكم ولغة الكيف؛ فالنفس عند الفلاسفة روحانية لا يمكن تحويلها إلى شيء تُقاس أطواله وأبعاده، وحتى إن تفاوتَت الأنفس في منازلها رقيًّا أو هبوطًا، فهي إنما تتفاوت على أساس اختلافها الكيفي؛ فالنفس النباتية — عند أرسطو — نفسٌ نامية، والحيوانية حاسَّة، والإنسانية ناطقة؛ ولو ظلَلْنا عند هذه المرحلة الكيفية في نظرنا إلى النفس لظلَلْنا إلى الأبد نقول اليوم كلامًا ونَنقُضه غدًا.

أما إذا أردنا دقةً في الحديث وموضوعية في البحث، فلا مناصَ لنا من الخروج بالأمر إلى مجال آخر، هو المجال الذي نستطيع فيه أن نُترجِم الظواهر النفسية إلى شيء يمكن أن تُقرأ صفاته بِلغة الأرقام؛ فالذكاء والإحساس والذاكرة وسائر القدرات العقلية أمورٌ لا يستحيل أن ننظر إليها من جوانبها السلوكية الظاهرة؛ وبالتالي فلا يستحيل أن نصطنع لها وسائل لقياسها؛ وعندئذٍ نُمسِك عن التحدث عن الأذكياء والأغبياء، كما أمسَكْنا عن التحدث — في مجال العلم — عن الحار والبارد والرطب واليابس، وهي لغة مألوفة عند الفلاسفة، ويصبح الأمر ليس أمر أضداد كيفية، بل أمر تفاوُت كمِّي؛ فظاهرة الذكاء هي نفسها ظاهرة الغباء، ولكنهما حالتان على تفاوُت في الدرجة، بل «النفس الإنسانية» هي بعينها «النفس الحيوانية» أو «النفس النباتية»، ولكنها حالات تتفاوت مقدارًا، وهكذا.

ليست النفس عند العلم هي «الجوهر» الذي كان عند الفلاسفة، بل هي سلوك، وما ليس يظهر لعين الرائي سلوكًا لا يجوز الحديث فيه حديثًا علميًّا؛ لأنك إذا ما جاوزتَ حدود الظاهر إلى ما هو باطن خفي، فقد تجاوزتَ ما يمكن أن يشاركك الناس في مشاهدته ومراجعته إلى ما هو خاصٌّ بك. ولسنا بهذا القول نريد أن نُنكِر أن للإنسان جانبًا ذاتيًّا يُحسُّه باطنًا، لكننا نُصِرُّ على أن هذا الجانب الباطني إذا لم نجد له جانبًا ظاهرًا مصاحبًا، بحيث يمكن أن نجعله هو — دون طرفه الباطن — حدود الظاهرة كما يفهمها البحث العلمي، فسنظل نقول عن النفس كلامًا لا تتغيَّر الدنيا بنفيه أو بإثباته.

على أننا في هذا الكتاب لا نريد أن نَلبَس أردِية العلماء، فنخوض فيما هو من شأن عالم الطبيعة أو عالم النفس، وما نريد تقريره في إصرار هو أن العبارة من عبارات اللغة إذا اشتملت على كلمة أو كلمات مما لم نستطِع بعدُ ترجمَتَه إلى لغة المعادلات والأرقام، كانت عبارة بغير معنًى يصحُّ أن يكون موضعًا للمراجعة والمجادلة بين الباحثين.

١  R. G. Collingwood, Philosophical Method، الفصل الثالث.
٢  تاريخ الفلسفة في الإسلام، تأليف دي بور، وترجمة أبو ريدة، ص١٤١.
٣  Boole, G., Studies in Logic and Probability.
٤  De Morgan, A., Formal Logic.
٥  Gevons, W. S., Pure Logic.
٦  راجع في ذلك كتابي «المنطق الوضعي»، الطبعة الثانية، ص١٦٨ وما بعدها.
٧  Yule G. U., Philosophical Transactions of the Royal Society of London, 197, (1901), 91.
راجع البحث الآتي: Henry Albert Finch, Validity Rules for Proportionally Quantified Syllogisms (Philosophy of Science, Jan. 1957).
٨  George Boole، وكتاباه الهامَّان هما:
  • The Mathematical Analysis of Logic (1847).
  • An Investigation of the Laws of Thought (1854).
٩  Kneale, W., Boole and the Revival of Logic, (Mind, April 1948).
١٠  المرجع السابق.
١١  Anatol Rapoport, Operational Philosophy، ص١٦٨.
ليُلاحِظ القارئ أننا لم نذكُر عمليتَي الطرح والقسمة لأنهما في الحقيقة جمع وضرب معكوسان؛ ذلك لأنه ما دامت سلسلة الأعداد تشتمل على الأعداد السالبة كما تشتمل على الأعداد الموجبة، فإن عملية طرح عدد موجب من عدد موجب هي بمثابة جمع عدد سالب إلى عدد موجب، وكذلك قسمة عدد على عدد هي بمثابة ضرب المقسوم عليه في ناتج القسمة.
١٢  Commutative Principle.
١٣  Associative Principle.
١٤  العدد ۱ معناه «كل»، والعدد صفر معناه «لا واحد»؛ فلو قلت عن فئةٍ ما إنها «١» كان معنى ذلك أنها تشمل العالم كله، وإذا قلت عنها إنها صفر كان معنى ذلك أنها بغير مُسمَّيات في العالم؛ فإذا رمزت بالرمز «ق» إلى القضية «الإنسان فانٍ»، كان قولي «ق = ١» معناه أن هذه القضية تَصدُق على كل فرد من الناس، وأن نفيَها لا يَصدُق على أحد؛ وكذلك إذا رمزت بالرمز «ق» إلى القضية «الأسماك تعيش على اليابس»، كان قولي «ق = ٠» معناه أن هذه القضية لا تَصدُق أبدًا على الأسماك، وأن نفيَها هو الذي يَصدُق على الأسماك كلها.
١٥  راجع الفصل السابع من كتابي «المنطق الوضعي»؛ ففيه شرحٌ مفصَّل للجبر المنطقي، مما يدعونا إلى هذا الإيجاز الشديد.
١٦  Anatol Rapoport, Operational Philosophy، ص١٨٣.
١٧  Schroedinger, What is Life?

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤