الفصل الثالث

جماعة فيينا

١

جرى العُرف في جامعة فيينا أن تُسنَد أستاذية الفلسفة بها إلى رجل من رجال العلوم الطبيعية به ميل إلى فلسفة هذه العلوم، وإنه لعُرفٌ يرتدُّ إلى سنة ١٨٩٥م؛ إذ أُسندت أستاذية الفلسفة عندئذٍ إلى إرنست ماخ١ الذي لبثَ في منصبه ذاك حتى سنة ١٩٠١م، ومنذ ذلك التاريخ والتقليدُ قائم في جامعة فيينا ألا يتولَّى ذلك المنصب إلا من هو من قَبيل ماخ في العلوم الطبيعية وفلسفتها، حتى كان عام ۱۹۲۲م، فشغل منصب أستاذية الفلسفة مورتس شليك٢ الذي انتهى إلى الفلسفة عن طريق دراسته للعلوم الطبيعية — شأنه في ذلك شأن أسلافه — وحسبُنا أن نعرف عنه أن أستاذه في رسالته التي تقدَّم بها ليظفر بإجازة الدكتوراه هو عالم الطبيعة الذائع الصيت «بلانك»،٣ وأن موضوع تلك الرسالة هو انعكاس الضوء في وسطٍ غير مُتجانِس، وأنه في عام ١٩١٧م أصدر مؤلَّفًا في المكان والزمان في علم الطبيعة الحديث، فكان بهذا الكتاب أول شارح لنظرية النسبية من وجهة النظر الفلسفية. وكانت تربطه الصلات الوثيقة بأعلام العلوم الطبيعية من أمثال «أينشتين» و«هلبرت» و«بلانك». ولئن كان مورتس شليك قد أشبه أسلافه من أساتذة الفلسفة في جامعة فيينا في أنه في حقيقة أمره من علماء الطبيعة، فهو مُتميِّز دونهم بدرايته التامة وإلمامه الشامل بالفلسفة؛ فهو لا يتحدث فيها حديث الهُواة المُلِمِّين بأطرافها دون أن يُوغِلوا في قلبها وصميمها، بل يتحدث حديث من عرفها معرفة الخبير.
ولم يلبث «شليك»، وهو في منصب أستاذية الفلسفة في فيينا، أنِ التفَّت حوله جماعةٌ قوامها طائفة من طلَّابه وفريق من رجال الفكر العلمي الذين يميلون إلى الاتجاه الفلسفي في طريقة تفكيرهم، فكان بين هؤلاء وأولئك رجال لمعَت أسماؤهم في مجال التحليل الفلسفي المعاصر، أمثال «وايزمان»٤ و«نوراث»٥ و«فايجل»٦ و«كرافت»٧ و«كاوفمان»٨ و«كارناب»٩ و«جودل»١٠ وغيرهم، وكان «وتجنشتين»١١ على صلة بهذه الجماعة وإن لم يحضر اجتماعاتها.
كانت هذه الجماعة من المُشتغلين بالعلم الطبيعي وبالرياضة من جانبهما الفلسفي، تجتمع آنًا بعد آنٍ لتُدير بینها نقاشًا في تحليل هذه اللفظة أو هذه العبارة مما يَرِد في علوم الطبيعة والرياضة وتكون له أهمية خاصة في تلك العلوم. وكان هذا النقاش بينهم إنما يدور بين زملاء أوشكوا جميعًا أن تتساوى أقدارهم في المنزلة العلمية؛ ولذلك لم يكونوا «مدرسة» فلسفية بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، وهو أن يكون هناك أستاذ نابغ مرموق المكانة وحوله التلاميذ والأتباع. نعم كان «شليك» هو مِحور الجماعة باعتباره أستاذًا للفلسفة، لكنه مع ذلك لم يكن فيهم هو القمة الشامخة التي تعلو وحدها، بل الأعضاء كلهم لاعبون يتناولون الكرة واحدًا بعد واحد؛ ولذلك كان الأدنى إلى الصواب أن يُسمَّى نشاطهم الفكري «حركة» فلسفية لا «مدرسة» لكي ينطبق الوصف على الموصوف؛ فهي «حركة» فلسفية أكثر منها مدرسة فلسفية لهذا التقارب الشديد بين رءوس أعضائها، فضلًا عمَّا كان بين هؤلاء الأعضاء من اختلاف بعيد في اهتماماتهم العلمية الأخرى، وحتى حين يلتقون عند نقطة يشتركون فيها باهتمامهم جميعًا، فهم يختلفون في وجهات أنظارهم إليها، حتى لَينصرفوا ولكلٍّ منهم رأي في الموضوع المطروح للبحث يختلف عن آراء سائر الزملاء.١٢
كان تكوين جماعة فيينا — كما ترى — أقرب إلى «العلماء» يتعاونون على حل مشكلة بعينها، منهم إلى مدرسة من الأتباع والمريدين يلتفُّون حول إمام. وقد عمل هذا التعاون الإيجابي بين الأعضاء على ازدياد المحصول ازديادًا سريعًا؛ إذ أخذت مراجعاتهم بعضهم لبعض وتصويبهم لآرائهم يُثبِّت من خُطاهم؛ فاستطاعوا بذلك أن ينتهوا إلى نتائج مُمحَّصة مُحقَّقة، حتى إذا ما كان عام ۱۹۳۰م أصدرت «الجماعة» مجلةً فلسفية تعرض أفكار أعضائها، وتولَّاها بالإشراف اثنان من هؤلاء الأعضاء، هما «كارناب» و«رايشنباخ»،١٣ فضلًا عمَّا جعل الأعضاء يُصدِرونه من كتب ورسائل، فذاع أمرهم واتسعت شهرتهم، بحيث استطاعوا أن يَعقِدوا مؤتمرًا في مدينة كينجزبرج في سبتمبر من عام ۱۹۳۰م، جعلوا موضوعه نظرية المعرفة منظورًا إليها من زاوية العلوم المضبوطة (كعلم الطبيعة)، وتعاونَ معهم في هذا المؤتمر لفيفٌ كبير من أعلام العلماء في الطبيعة والرياضة، جاءوا من شتَّى أنحاء أوروبا، ثم عقدوا في سبتمبر من عام ١٩٣٥م مؤتمرًا آخر بباريس، استهلَّه برتراند رسل بكلمة الافتتاح.

وتوالت بعدئذٍ مؤتمراتهم، واتسعت دائرتهم، حتى نشبت الحرب سنة ۱۹۳۹م فتشتَّت أفراد هذه الجماعة هنا وهناك؛ فذهب «فايجل» و«كارناب» و«رایشنباخ» إلى الولايات المتحدة، حيث أُسندت إليهم مناصب الأستاذية في أكبر جامعاتها، وذهب «وايزمان» و«نوراث» إلى إنجلترا، وأصبحا هناك قطبَين في عالم الدراسة الفلسفية، أضِف إلى هذا كله ما أُصيبت به «الجماعة» قبل ذلك بقليل (عام ١٩٣٦م) من فقدِ رئيسها «مورتس شليك» حين رماه طالبٌ مأفون من جامعة فيينا برَصاصة أردَتْه قتيلًا لساعته.

لم تَعُد «جماعة فيينا» قائمة في فيينا، بل تناثر أفرادها، فاتَّسع بذلك نطاقها، وخصوصًا في الولايات المتحدة وفي إنجلترا؛ ففي الأولى كانت الأرض مُمهَّدة لها لِما كان يقوم به بعض رجال الفلسفة هناك من مجهودٍ شبيه بمجهودها، تراه مُتمثِّلًا في مجلة «فلسفة العلوم» مثلًا؛ وفي الثانية كان «برتراند رسل» و«جورج مور» و«سوزان ستبنج» و«آير» وغيرهم قد اتجهوا بقوةٍ نحو فلسفة تحليلية هي من فلسفة جماعة فيينا بمثابة الجذور التي منها نمَت وترعرعَت وأثمرَت ثمارها.

٢

لم تكن «جماعة فيينا» — كما رأينا — «مدرسة» فلسفية بالمعنى المألوف لهذه الكلمة؛ أي بالمعنى الذي يجعل الأتباع يُنصِتون لرأي أستاذهم ثم يشرحونه ويُعلِّقون عليه، بل كان أعضاؤها مُتساوي القامات ارتفاعًا، مُتقاربي القدرات والقُوى؛ ولذلك لم يكن هنالك ما يمنع أن يُطرَح السؤال أمامهم فإذا كل واحد منهم بجواب.

لكنهم على اختلافهم هذا كانت تربطهم رابطة التشابه في «حركة» فلسفية واحدة، هي التي أُطلقَ عليها اسم «الوضعية المنطقية» أحيانًا، واسم «التجريبية المنطقية» أحيانًا أخرى، أو ما إلى هذين الاسمين من أسماء مُتشابهة الدلالة، وما تلك الرابطة التي ربطت هؤلاء الرجال في جماعة واحدة إلا ما بينهم من اتفاق على أن يُعلمِنوا الفلسفة؛ أي أن يجعلوا الفلسفة علميَّة الطابع، فيُطبِّقوا عليها ما يُطبَّق على العلم من دقة وصرامة؛ حتى لا يعود بساحتها موضع لكلمة غامضة المعنى كهذه الكلمات الكثيرة التي ألِفتها الفلسفة في شتَّى عصورها السابقة، مثل «نفس» و«فكر» و«عقل» و«مطلق» و«عنصر» و«جوهر»، وما إلى ذلك من ألفاظ اختلفت معانيها وانبهمت، وحتى تتخلَّص الفلسفة من تقاليدها الموروثة التي كانت تُورِّطها في ضرب من الكلام الخالي من المدلول إذا قيست الدلالة بمقياس التحقيق العلمي أو بمقياس التفاهم بين الناس في أمور حياتهم الجارية.

وجاء أنصار هذه الجماعة الفلسفية الجديدة فوجدوا أمامهم منطقًا جديدًا خلقته المدرسة التحليلية من أمثال «رسل» و«مور»، كما ساعدَت على خلقه طائفة من علماء الرياضة الذين شغلَتهم علاقة الرياضة بالمنطق، مثل «فريجه» و«بیانو»، وهؤلاء وأولئك جميعًا قد استعانوا في تحليلاتهم المنطقية والرياضية بما كان قد صنعه فريق من رجال المنطق الرمزي الجديد، الذين أرادوا أن يستخدموا طرائق الرياضة في ضبط عبارات اللغة كلها مُستعينين في ذلك بالرموز الرياضية نفسها التي نستخدمها في الجبر مثلًا، فإذا هم أفلحوا فيما أرادوا استطعنا أن نُحوِّل كل نقاش إلى شيء قريب من عمليات الجبر أو الحساب.

أقول إن جماعة فيينا حين جاءت بثقافتها العلمية لتتناول الفلسفة من زاوية جديدة، تناولًا يجعل من الفلسفة تحليلًا لقضايا العلوم، ويُزيل عنها ما كانت تنوء تحته من أثقالٍ ميتافيزيقية، وجدت أمامها أداة منطقية مُرهَفة شحَذها قبلهم فريقٌ آخر ممن ذكرناهم. ولئن كان هذا الفريق قد أرهف تلك الأداة المنطقية ليستعين بها في تحليل الرياضة بصفةٍ خاصة، فقد أرادت هذه الجماعة الجديدة — جماعة فيينا — أن تستخدمها في تحليل العلوم بصفةٍ عامة؛ وإذَن فهي جماعة تجعل قضايا العلوم المختلفة من رياضة وطبيعة وعلم نفس واجتماع، تجعل قضايا هذه العلوم كلها موضع تحليلها تحليلًا منطقيًّا، على أن تكون أداة التحليل هي ذلك المنطق الرمزي الجديد الذي بلغ أقصى ما بلغه من غاية على يدَي برتراند رسل.

إننا إذ نقول إن جماعة فيينا قد جعلت من قضايا العلوم موضوعها الرئيسي تتناولها بالتحليل المنطقي، فلسنا نريد بذلك أن أبحاثها تتعرَّض لمضمون تلك القضايا العلمية بأي وجه من الوجوه؛ إذ المضمون التجريبي لقضايا العلوم هو من شأن العلماء كلٌّ في ميدان تخصُّصه، فليس من الخير أن يتحدث عن الطبيعة من ليس من علمائها، أو أن يتحدث عن الإنسان من ليس من علماء النفس، وهكذا، لكنك إذا اطَّرحت من القضية مضمونها التجريبي، بقيت لك صورتها المنطقية العارية، وفي هذه الصورة العارية تستطيع أن ترى من أجزاء إطارها الهيكلي ما تتعذَّر عليك رؤيته حين تكون تلك الصورة مُكتسِيةً مليئة بما كان فيها من مضمون وفحوی. هذه قاعدة أوَّلية من قواعد الفلسفة الجديدة، وهي أن لا شأن للفيلسوف بأي شيء مما يتَّصل بأمور الواقع؛ لأن هذا هو شأن العلماء كلٌّ في موضوعه، وأن المشكلة المطروحة للبحث إذا ما مسَّت موضوعًا قوامه الخبرة والتجرِبة والمشاهدة، فليست هي مما يجوز أن يقع في اختصاص الفيلسوف؛ لأنها من صميم البحث العلمي بمعناه الخاص، وأما الفلسفة فمهمَّتها الوحيدة هي التوضيح والتجلية لما يقوله العلماء، وهي تُوضِّح ما تُوضِّحه وتُجلِّي ما تُجلِّيه ببيان الهيكل المنطقي الذي يحمل مادة تلك القضايا؛ ليظهر ما بين الأجزاء من علاقات، فيَبرُز الكامن ويتعرَّى الخبيء؛ فما أكثر ما تكون فكرةٌ مُتضمِّنةً لفكرة، وقضيةٌ مُستلزِمةً لأخرى، ولا يبدو ذلك إلا بالتحليل المنطقي؛ ثم ما أكثر ما تكون النظرية في العلوم مجرد صيغة اتفاقية اصطلح عليها العلماء اصطلاحًا فنظنُّها صورة تُصوِّر عالَم الواقع، أو أن يكون القانون العلمي قائمًا على الاحتمال ثم نحسبه يقينًا، أما العلماء أنفسهم — من حيث هم علماء — فلا يخوضون في أمثال هذه المشكلات؛ لأنهم مُنصرِفون إلى النتائج العملية دون الجذور المنطقية لِما يزعمون من نظريات وقوانين، ولكنَّ فريقًا منهم أو من غيرهم قد تستوقفه أمثال هذه الأمور فيُطيل النظر إليها، وعندئذٍ يكون فیلسوفًا علميًّا بالمعنى الذي نُريده للفلسفة.

وبعبارةٍ أخرى، لئن كان العلم معنيًّا بالمعرفة من حيث مضمونها، فالفلسفة معنيَّة بالمعرفة من حيث إطارها وهيكلها. وأول ما نذكره في هذا الصدد هو أن هذا الإطار أو الهيكل قوامه ألفاظٌ لغوية تتركَّب على هذه الصورة أو تلك، فتكون هذه الفكرة أو تلك؛ وإذَن فالجانب اللغوي من العبارة المعيَّنة هو بمثابة الجسد، نُفخت فيه فكرةٌ ما — إن جاز لنا هذا التعبير — أما الفكرة المبثوثة في العبارة فهي من المعرفة مضمونها وفحواها، وأما الجسد اللغوي فيها فهو العُمد التي يرتكز عليها ذلك المضمون أو الفحوى المقصود؛ فإن عُني العلم — على اختلاف موضوعاته — بمضمون العبارة اللغوية المعيَّنة، فمهمَّة الفلسفة أن تُعنى بطريقة بنائها، لا من حيث القواعد الخاصة بلغة مُعيَّنة دون سائر اللغات (فهذه مهمة علماء اللغة)، ولكن من حيث القواعد المنطقية العامة التي تنطبق على اللغات جميعًا باعتبارها وسائل الإنسان للتعبير عن فكره، وهكذا؛ فلو تناولت قضيةً علميةً معيَّنة، وحلَّلت عبارتها تحليلًا يُبرِز خصائصها المنطقية، فأنت عندئذٍ لا تبحث في مادة ذلك العلم، بل تبحث في منطقه، والفلسفة عند جماعة فيينا ومن يدور مدارهم هي منطق العلوم بهذا المعنى.

٣

مهمَّة الفلسفة عند أنصار الوضعية المنطقية هي تحليل العبارات والألفاظ من حيث بناؤها المنطقي العام، لا من حيث طرائق استخدامها في لغة بعينها، وتحليل العبارات والألفاظ على هذا النحو هو نفسه تحليل للفكر من حيث صورته لا من حيث مادته، لكن هذه اللغة التي نريد تحليلها لا تقوم عند الناس بعمل واحد؛ فهي آنًا تُستخدم أداةً رمزية تُشير إلى أشياء ووقائع في عالم الطبيعة الخارجي، وآنًا آخر تكون وسيلة يُخرِج بها المتكلم وجدانًا تضطرب به نفسه كما يفعل الشاعر مثلًا. وحين تريد الفلسفة التحليلية المعاصرة أن تجعل اللغة موضوعها، فإنما تريد اللغة في مهمتها الأولى؛ مهمة الرمز إلى أشياء العالم الخارجي ووقائعه، مُضافًا إلى ذلك البحث في العبارة اللغوية من حيث تكوينها وبناؤها تكوينًا وبناءً يجعلانها وحدةً واحدة على الرغم من احتوائها على أجزاء هي الكلمات وما يُشبِه الكلمات من رموز؛ فإن كانت العبارة اللغوية مما يستدعي أن ننظر خارجها ليتمَّ معناها بالإشارة إلى مُسمَّاها، كانت داخلة في مجال العلوم الطبيعية أو ما يجري مجراها، وأما إن كان الأمر يقتصر على العبارة نفسها، بحيث تكون طريقة تكوينها وحدها دالَّة على معناها وعلى صدقها، كانت داخلة في العلوم الرياضية أو ما يجري مجراها. بعبارةٍ أخرى، تريد الفلسفة التحليلية المعاصرة أن تتناول اللغة من ناحية كونها أداةً علمية، وليَكن لها بعد ذلك من سائر النواحي ما شاء لها الناس.

مِحور البحث الفلسفي عند جماعة فيينا ومن جرى مجراهم هو اللغة دلالةً وتركيبًا؛ فإن كانت الدلالة هي هدف البحث، حصروا انتباههم في علاقة التطابق بين الصورة اللغوية من جهة والمصوَّر العيني من جهة أخرى، كيف تكون؟ وتحديد هذه العلاقة بين الطرَفين، اللغة من ناحية وعالَم الأشياء من ناحية أخرى، هو ما يُطلِقون عليه اسم «السِّيميَّة»؛ أي «علم السِّمات».١٤ غير أن الباحث في اللغة باعتبارها أداةً تصويرية للواقع قد ينصرف أحيانًا إلى داخل العبارات نفسها ليرى كيف رُكِّبت أجزاؤها تركیبًا جعل منها بناءً واحدًا، وعندئذٍ يُطلِقون على هذه المحاولة اسمًا آخر، هو «علم البناء اللفظي».١٥ ولو أردت دراسة اللغة من حيث هي أداة «للتسمية» فلا بد لك من دراسة مفرداتها، وإن أردت أن تنظر إليها من حيث طرائق بنائها فلا بد لك من دراسةِ نحوِها؛ إذ لا تكون لغة بغير مفردات يرتبط بعضها ببعض على «نحو» مُعيَّن.

لكنك من ناحية أخرى تستطيع أن تعلو على مستوى اللغة المعيَّنة الخاصة بطائفة معيَّنة من الناس، بأن تطرح مفرداتها وتستغني عنها برموز جبرية، لعلك بذلك قادر على أن تنظر إلى تركيباتها الصورية الخالصة كيف تكون؛ وعندئذٍ لا يكون تحليلك للغة تحليلًا لمادتها، بل تحليلًا لصورتها، ودراسة هذه «الصورة» لذاتها هي ما تبتغيه الفلسفة المعاصرة.

كانت أُولى المهام التي تصدَّت لها جماعة فيينا هي توضيح الدلالة اللغوية بتجلية جانبها السِّيمي، بحيث يكون المرجع الوحيد في تحديد معنى كلمة معيَّنة هو الشيء الذي جاءت هذه الكلمة لتُسمِّیه. نعم، يجوز لك أن تُعرِّف كلمة بكلمةٍ غيرها تكون مفهومة للسامع، وأن تُعرِّف هذه بغيرها، وهكذا دوالَيك؛ فكلما زعم لك السامع لكلمة أنه لا يعلم مدلولها، كان عليك أن تذكُر مُرادفًا لها من المفردات التي يعرف دلالاتها، لكنه إذا مضى معك إلى آخر هذا الشوط لم يكن لك بدٌّ في النهاية من أن تُشير له إلى الشيء المُسمَّى؛ فإن استحال أن تجد شيئًا من هذا القبيل، علمتَ وعَلِم سامعك أن الكلمات التي كنتما تدوران فيها هي بغير معنًی، وحتى الكلمات التي هي من قَبيل «حكمة» و«ديمقراطية» و«حرية» و«ذكاء» وما إليها من الألفاظ ذوات المعاني المجرَّدة، لا مناص — إذا أردنا تحديدها تحديدًا سِيميًّا — من أن نبحث عن أنواع السلوك أو طرائق النشاط في عالم الواقع المحسوس، والتي نريد لها أن تكون مسمَّيات لتلك الألفاظ، وبغير هذا الرجوع إلى عالم الواقع بما فيه من حوادث وأشياء ومناشط وظواهر، فلا يكون لألفاظنا معنًى.

على أن الشيء الذي نريد الإشارة إليه باللغة قد لا يكون كائنًا واحدًا فردًا، بحيث تكفي كلمةٌ واحدة أو اسمٌ واحد للدلالة عليه، بل قد يكون واقعةً مُركَّبة من طرَفَين أو أكثر تربطها علاقات معيَّنة؛ فعندئذٍ تكون الأداة اللغوية في تصوُّر هذه الواقعة جملة، أو إن شئت فقل «قضية» باصطلاح المنطق، وها هنا يكون حُكمُنا بالصواب أو بالخطأ على القضية مُرتكزًا على ما بين أجزائها من جهة وأجزاء الواقعة الخارجية من جهةٍ أخرى من تقابُل، بحيث يجوز أن نقول عن القضية حقًّا إنها «صورة» للواقعة المُراد تصويرها؛ فإن وجدنا أنفسنا إزاء قضية لا نجد لها من وقائع العالم ما تُطابقه حذفناها من جملة الكلام المفهوم؛ إذ لا وسيلة لفهم قضية إخبارية إلا بردِّها إلى الواقعة المادية التي جاءت القضية لتُخبِر عنها أو تُصوِّرها؛ ومن هنا أصرَّت جماعة فيينا، وما يزال أتباعهم يُصِرُّون، على أن يكون «معنى» قضيةٍ ما هو نفسه طريقة تحقيقها؛ أي هو نفسه إمكان الرجوع بها إلى ما جاءت تُصوِّره من وقائع العالَم الخارجي. وحسبُنا من هذا التحقيق أن يكون مُمكنًا، فلا نشترط له أن يكون قائمًا بالفعل؛ لأن التحقيق الفعلي إنما يُقرِّر «صِدق» القضية، أمَّا ما يُقرِّر «معناها» فهو إمكان التحقيق؛ فلو تحدَّثت لك عن جبل لم ترَه ولا وسيلة أمامك تُمكِّنك من رؤيته، وقلت لك عن هذا الجبل إنه مُغطًّى بأشجار الصَّنَوبر، فأنت تقول عن هذا القول إنه ذو «معنًى»؛ لا لأنك قد ذهبت فعلًا إلى الجبل المقصود ورأيت أشجار الصنوبر على سُفوحه، بل لأنك تعرف ماذا عساك أن ترى لو ذهبت إليه؛ لأنك تعرف نوع المُعطَيات الحسية التي تأتيك من الشيء حين يكون جبلًا، ونوع المعطيات الحسية التي تتلقَّاها حين يكون المرئي أشجارًا من الصنوبر.

هكذا تكون الكلمة الواحدة التي هي اسم لشيءٍ ما، والجملة التي هي مُركَّب من مجموعة كلمات ويُراد به أن يصف واقعةً ما، بغير معنًى إذا لم تكن هذه أو تلك مُشيرة في نهاية الأمر إلى خبرات حسية؛ فلا الاسم ذو دلالة إذا لم يكن مُسمَّاه موجودًا وتُمكِن الإشارة إليه، ولا القضية بذات دلالة إذا لم يكن تحقيقها مُمكِنًا على أساس خبراتنا الحسية، إنه مُحالٌ أن يكون للكلام الإخباري معنًى مفهوم إذا لم ينصرف به قائله — لينصرفَ سامعه معه — إلى مجال الخبرات الحسية وحدها دون أن يُجاوزها إلى ما يزعم أنه كائنٌ فوقها أو تحتها أو أمامها أو وراءها؛ فما ليس يرتدُّ إلى الخبرة الحسية يكون بغير معنًى؛ لأن معنى «المعنى» هو هذا الارتداد إلى الخبرة الحسية. ماذا تريد إذا واجهتك عبارة فقلت عنها إنك «لا تفهم لها معنًى»؟ تريد أنك تُحاول أن تلتمس في خبراتك الحسية ما يكون وسيلة لتحقيق هذه العبارة إذا أردت تحقيقها، لكنك لا تجد في محصولك مثل هذه الخبرات. وماذا لو كانت العبارة الإخبارية المعروضة عليك بحكم اعتراف قائلها نفسه لا يُراد بها أن تُشير إلى شيء من عالم الخبرة إطلاقًا؟ إنها عندئذٍ تكون خِلوًا من المعنى، لا بالنسبة إليك وحدك، بل بالنسبة لقائلها نفسه ولكل إنسان من البشر؛ فقد اصطنع البشر ألفاظ اللغة وعباراتها ليتحدثوا بها عن «خبراتهم»، وما ليس يرمز إلى شيء من هذه الخبرات، لا يكون من اللغة بمعناها المنطقي في كثير ولا قليل.

وها هنا يأتي حذف العبارات الميتافيزيقية على أيدي جماعة فيينا وأتباعهم؛ لأنه إذا كانت العبارة الميتافيزيقية هي ما يزعم لها قائلها أنها «تعني» شيئًا خارج حدود الخبرة الحسية، فهي بحكم هذا الاعتراف نفسه عبارة بغير «معنًی»؛ فليس الأمر ها هنا مُقتصرًا على أن الإنسان عاجز بملَكاته الراهنة أن يُجاوِز حدود الخبرة إلى ما وراءها بحيث يفهم معنى العبارة السابقة، بل إن منطق اللغة نفسه يُحتِّم أن تكون مفردات اللغة وعباراتها مُنصرِفة إلى مُسمَّيات في عالم الواقع الذي نُحسُّه فعلًا أو إمكانًا. العبارة الميتافيزيقية بهذا المعنى لا يمكن تحقيقها، وهذا معناه أنها عبارات بغير معنًى، وإذَن فعباراتها «تُشبِه» اللغة وليست منها؛ هي كالعملة الزائفة التي ربما انخدع بها مخدوع من غير الصيارفة المحترفين، لكن انخداعه هذا لا يجعل لها قيمةً في عالم الاقتصاد.

وتنشأ هذه العبارات الزائفة على إحدى صورتَين؛ أُولاهما أن يدسَّ المتكلم في عبارته كلمة بغير معنًى؛ أي كلمة لا تُشير إلى شيء من خبرات الإنسان الحسية، ككلمة «جوهر» مثلًا كما يستعملها الفلاسفة الميتافيزيقيون، حين يقولون مثلًا إن لكل شيء «جوهرًا» وراءه مُعطَياته الحسية، فهذه البرتقالة لها جوهرٌ غير ما لها من لون وطعم وشكل. والصورة الثانية التي قد تجيء عليها العبارة الزائفة، هي أن يستخدم المتكلم ألفاظًا كلها من ذوات المعنى الخِبري المفهوم، لكنه يرصُّها على نحو لا يرضاه منطق اللغة في استعمالها المألوف، كأن يقول مثلًا «العقل عنصر».

ونعود فنُقرِّر أن معنى الجملة الإخبارية لا يكون إلا في حدود ما يمكن تحقيقه بالخبرة الحسية؛ وإذَن فكل جملة تُقال — بحكم الفرض نفسه — عن شيء خارج الخبرة الحسية تكون جملة بغير معنًى؛ وعلى ذلك فالفرق بين الجملة العلمية والجملة الميتافيزيقية هو هذا: الجملة العلمية تكون ذات معنًى خِبري ويمكن تحقيقها عن طريق ما تدلُّ عليه من خبرات، وأما الجملة الميتافيزيقية فهي بغير معنًى. إننا لا نرفض العبارات الميتافيزيقية على أساس أنها تُقيم مشكلات لا قِبل لنا بحلِّها ما دامت خارجة عن حدود خبراتنا، بل نرفضها لأنها عبارات بغير معنًى؛ ذلك لأنه من التناقض أن يُقال عن مشكلة إنها مستحيلة الحل بحكم طبيعتها؛ لأن ما هو مستحيل الحل على هذا الوجه لا يكون مشكلةً حقيقية. نعم، قد تكون المشكلة القائمة مستحيلة الحل استحالةً عملية؛ أي إنه قد لا يكون لدى الإنسان في ظروفه الراهنة وسائل حلها، لكن هذه الوسائل قد تتوافر له غدًا أو بعد غد، فعندئذٍ تكون المشكلة حقيقية، أما تلك التي يُقال عنها بحكم الفرض إنها مستحيلة الحل استحالةً منطقية، فمشكلةٌ زائفة؛ أي ليست مشكلة على الإطلاق، والمشاكل الميتافيزيقية هي من هذا القَبيل.

الفرق بعيدٌ بين أن تسأل: ماذا كان يصنع يونس وهو في جوف الحوت؟ وبين أن تسأل: ما صفات الشيء إذا كان خارج حدود المكان والزمان؟ فكِلا هذين السؤالين مستحيل الجواب، لكن استحالة الجواب عن السؤال الأول استحالةٌ عملية لا منطقية، واستحالة الجواب عن السؤال الثاني منطقية لا عملية فحسب؛ ففي حالة السؤال الأول يستطيع الإنسان أن يتصوَّر ظروف يونس وهو في جوف الحوت؛ لأنها ظروف يمكن أن تُوصَف كلها في حدود الخبرات البشرية، فالظلام وضِيق التنفس وما شئت أن تقوله عن يونس وهو في سجنه ذاك كلها ممكنة التصور؛ لأنها مما يمكن وصفه وصفًا يستعين بما نألفه نحن في ظروف حياتنا. نعم، إن التحقق من صِدق ما نقوله عن يونس عندئذٍ أمرٌ مستحيل، لكن الاستحالة هنا قائمة على عدم الوثائق التي نستند إليها في الحكم. وأما السؤال الثاني الذي نسأل به عن كائن فيما وراء المكان والزمان؛ أي كائن لا يكون له موضع ولا تكون له لحظة من زمن، فاستحالة الإجابة عنه منطقية لا عملية؛ فالذي يَنقصنا هنا ليس هو الوثائق التي نستند إليها، بل تنقصنا وسائل التصور ذاتها؛ إذ ليس في خبراتنا أبدًا ما يُعيننا على تصوُّر كائن لا يكون وجوده في نقطة من مكان أو في لحظة من زمن.

إننا نرفض المشكلات الميتافيزيقية لا لصعوبة حلها، بل لأنها مشكلاتٌ زائفة؛ فهي بمثابة أسئلة يستحيل منطقيًّا أن يكون لها جواب، وشرط السؤال بحكم منطق اللغة نفسها أن يكون جوابه مُمكِنًا لو توافرَت للإنسان الظروف التي تُمكِّنه من الجواب، أما أن تسأل السؤال وتفرض في الوقت نفسه أن الإجابة عنه غير ممكنة، فلا يجوز عندئذٍ أن تُعلِّل عدم الإجابة عنه بصعوبته أو بعجز الإنسان وقصور معرفته، بل حقيقة الموقف عندئذٍ هي أن السؤال لم يكن سؤالًا حقيقيًّا وإن اتخذ الصياغة النحوية للسؤال.

ولكن جماعة فيينا إذ جعلوا إمكان التحقيق الخِبري مِعيارًا لمعنى الجملة الإخبارية كائنةً ما كانت، لم يَفُتهم أن هذا المعيار لا ينطبق إلا على العبارات التي جاءت لتُخبِر عن العالم الخارجي بخبرٍ ما، لكن ما كل العبارات تزعم لنفسها الإخبار؛ فالقضايا الرياضية وقضايا المنطق الصوري تخرج عن نطاق هذا المعيار لأنها لا تزعم أنها إخبارية؛ وإذَن فهي في الحقيقة عبارات بغير «معنًى» (ونحن هنا نُحدِّد معنى «المعنى» بالخبرات الحسية التي تُشير إليها الجملة)؛ ﻓ «المعنى» بهذا التحديد لا يكون إلا لجملةٍ تصويرية؛ أي لجملة يُراد لها أن تُصوِّر واقعة من وقائع العالم الطبيعي، وليست قضايا الرياضة والمنطق من هذا القبيل، فما هي إذَن؟ هي قواعد، كقواعد لعبة معيَّنة مثلًا، يتَّفق عليها اللاعبون؛ فالرياضة عبارة عن قواعد اتفاقية كيف نستخدم الرموز، والمنطق الصوري قواعد لكيفية استخراجنا حكمًا من حكمٍ آخر؛ فكأنما المنطق والرياضة معًا هما في الحقيقة أدوات في أيدي العلماء الآخرين، يستخدمونهما في ميادينهم العلمية، أما هما فليسا بالعِلمين بمعنى «العلم» الذي يُقرِّر للطبيعة قوانينها. وسنعود إلى تفصيل القول في هذه التفرقة في مواضع أخرى من هذا الكتاب.

٤

إننا نتطلَّب من العبارة، إذا أراد قائلها أن تكون دالَّة على وجود فِعلي تجريبي لشيء أو أشياء في العالم الخارجي، أن تكون كل لفظة من ألفاظها إذا أُريدَ أن يكون لها معنًى موضوعيٌّ مشترك (ما عدا الألفاظ البنائية، مثل: «إذا» «ليس» «أو» وما إليها)، مُشيرةً إلى مضمون من الخبرة الحسية، بحيث يعرف السامع دلالة اللفظة في خبراته الماضية من ألوان وطعوم وأشكال … إلخ؛ فإذا استخدم المتكلم كلمة «نهر» مثلًا عرف السامع إلى أي نوع من الخبرات الحسية يُشير المتكلم بكلمته تلك.

لكن مشكلةً تنشأ ها هنا، وهي أنه إذا كان التفاهم بين المتكلم والسامع لا يتم إلا إذا كان الكلام مُشيرًا إلى خبرات حسية، فهل هذه الخبرات الحسية نفسها مشتركة بين المتكلم والسامع حتى يتسنَّى لنا أن نقول إنها أساسٌ صالح للتفاهم بينهما؟ هَبْني قد أشرت لمن أتحدَّث معه إلى بقعة لونية قائلًا له «هذا لونٌ أصفر»، فهل عندي ما يضمن لي أن انطباع اللون على عين السامع هو نفسه «الأصفر» كما ينطبع على عيني؟ أليست الخبرة الحسية المباشرة خاصة بصاحبها؟ وإذا كان من الجائز أن يكون «أصفري» غير «أصفره»، فعلى أي أساس — إذَن — يجوز لي الزعم بأنني إذا قلت «أصفر» فقد قلت شيئًا مشتركًا بيني وبينه؟ فليس من الناس من لا يعلم أن أمثال هذه الانطباعات الحسية المباشرة قد تختلف عند الفرد الواحد في أوقاته المختلفة، فما يجد له طعمًا مُعيَّنًا وهو في صحته يجد له طعمًا آخر وهو مريض، وهكذا.

ولم تَغِب هذه المشكلة عن جماعة فيينا حين أرادت أن تُحدِّد معاني الألفاظ بما تُشير إليه من مُعطَيات الحس؛ فقد أدرك أعضاؤها تمام الإدراك أن المُعطى الحسي كيفي؛ أي إنه لا يُدرَك إلا بوقعه على حاسَّة من يُدركه، وهذا الوقع المعيَّن على حاسَّة فرد معيَّن أمرٌ نفسي خاصٌّ به، شأنه شأن المشاعر الخاصة التي يُحسُّها ولا أُحسُّها معه، وإذا كانت معطيات الحس عندك ليست هي نفسها معطيات الحس عندي، فقد بطل الأساس المشترك الذي نزعمه شرطًا للتفاهم الصحيح؛ لأنه يستحيل عليك أن تنقل إليَّ بكلمات أو عباراتٍ ما هو مصبوب في حواسِّك من انطباعات؛ فطعم الطعام كما يقع على لسانك — مثلًا — لا يمكن نقله إلى لساني لمجرد وصفك إياه بكلمة أو عبارة، وهل في مُستطاع المُبصِر أن يصف للأعمی كیف يكون اللون عند العين، أو هل يستطيع من اكتوى بالنار أن يصف لمن لم تُصادفه هذه الخبرة كيف تكون لسعَتُها على الجلد؟ الحق أن خبرة الحواس كلها كالشوق والصبابة اللذَين قال عنهما الشاعر العربي إنهما مستحيلان على الإدراك إلا لمن كابَد أو عانى، فلا يعرف الشوق إلا من يُكابِده، ولا الصبابة إلا من يُعانيها.

لذلك فرَّقَت جماعة فيينا بين إطار اللغة ومضمونها الحسي، والإطار هو العلاقات الكائنة بين المُدرَكات الحسية؛ فلئن كان المضمون الحسي خاصًّا بصاحبه، فالعلاقات التي تصله بغيره من المعطَيات عامَّة مشتركة؛ فلو حدَّدت لسامعي اللون الأخضر بأنه اللون الذي يراه في ألوان الطيف بين الأزرق والأصفر، تحدَّدت بذلك علاقته عنده وعندي على السواء؛ لأننا إذا اختلفنا في كيفية انطباع الأخضر على شبكية العين، فلن نختلف على تحديد هذه العلاقة، علاقة «بين»، حتى لو كان عند سامعي عمًی لوني بحيث لا يستطيع رؤية الأخضر كما أراه، فلن يكون هنالك اختلاف في التفاهم، إذا عرف أنني أعني بالأخضر ما يقع بين الأزرق والأصفر في ألوان الطيف.

هكذا نُحدِّد الكيفية الحسية للفظةٍ ما بموقعها بالنسبة إلى غيرها من الكيفيات، فنتغلَّب على مشكلة «الخصوصية» التي تجعل المعطى الحسي أمرًا خاصًّا بصاحبه، مُحالًا نقلُه إلى سِواه عن طريق لفظة يستعملها اسمًا له، ولكننا حين نُحدِّد معنى الكيفية الحسية بوضعها بالنسبة إلى غيرها، فنحن بمثابة من يجعل وسيلة التفاهم هي «إطار» المُدرَكات لا «مضمونها»؛ وعلى ذلك فليس المهم عندنا أن يقف اثنان إزاء لون معيَّن — كالأخضر — وأن يشتركا في مضمون حسي واحد؛ لأن مثل هذا الاشتراك ضربٌ من المُحال، ولكن حسبُنا أن يشترك الاثنان في رد فِعل معيَّن، كأن يستعمل الاثنان لفظةً واحدة بعينها في الإشارة إلى ذلك اللون لنقول إن التفاهم المرجوَّ قد تم بينهما، على الرغم مما قد يختلفان فيه بعد ذلك في وقعِ اللون على حواسِّهما الخاصة. بعبارةٍ أخرى، حسبُنا لكي نطمئنَّ إلى أن معنى اللفظة أو العبارة مشترك بين المتكلم والسامع أن يكون إطار العلاقات بين المُدرَكات واحدًا عندهما معًا، وإطار العلاقات — كما بيَّنَّا — مما يمكن الاتفاق عليه؛ لأنه عامٌّ لا خاص.

ولمَّا كانت العلوم الطبيعية في تحديدها لألفاظها، وفي صياغتها لقوانينها، إنما تركن إلى العلاقات؛ أي إلى «الإطار» دون المضمونات الحسية عند الأفراد المُدرِكين، كان التفاهم في مجالها أمرًا ميسورًا؛ فالحرارة — مثلًا — عند العالم الطبيعي ليست هي لسعَتَها على الجلد، بل هي عمود من الزئبق يرتفع أو ينخفض، وليس اللون عنده هو ما تراه العين، بل هو طول معيَّن؛ أي بعدٌ بين نقطتَين على مسار الضوء، كلا ولا الجاذبية عنده هي «شعور» الإنسان حين يسقط من النافذة إلى الأرض، بل هي حركة تُقاس سرعتها، وهكذا؛ ولا كذلك العلوم، أو إن شئت دقة في التسمية فقل «أشباه العلوم» التي تجعل مدارها المضمونات الشعورية الإحساسية عند الناس، كالأخلاق حين تتحدَّث عن «صوت الضمير»، وعلم الجمال حين يتحدث عن النشوة الجمالية، وهكذا.

٥

كان من أبرز معالم الطريق التي سارت عليها جماعة فيينا في تحليلها للُّغة، ذلك الجهد الذي اضطلع به «رودلف كارناب»١٦ إزاء التركيب اللغوي واستخراج ما يَكمُن فيه من مبادئ منطقية، ولعل كارناب هو أول من تصدَّى لمثل هذا البحث بكتابه «الأساس المنطقي في التركيبات اللغوية»١٧ الذي أخرجه سنة ١٩٣٤م، وذلك بعد أن سبقه وتجنشتين إلى التنبيه بأن قواعد المنطق إن هي إذا ما حلَّلناها إلا قواعد اللغة. وإن هذا التوازي بین قواعد المنطق من ناحية وقواعد اللغة من ناحيةٍ أخرى، لَيتبيَّن واضحًا إذا ما صوَّرنا كلًّا منهما في نسقٍ رمزي صوري قوامُه رموزٌ عارية من مضمونات المعاني؛ فعندئذٍ نرى أن النَّسقَين مُتماثِلان. ولقد حاوَل المناطقة منذ أرسطو قديمًا حتى برتراند رسل حديثًا أن يُقيموا للمنطق نسقه الرمزي الصوري، وبقيَ أن يتصدَّى الباحثون لمثل هذا العمل نفسه في اللغة، فيُحاوِل تفريغ العبارات اللغوية من مضمونها لتبقى هياكلها الفارغة أو إطاراتها الخالية؛ فجملةٌ مثل «الكتاب على المِنضَدة» تصبح «س على ص»، بل قد نتخلَّص من كلمة «على» الدالة على العلاقة بين الطرَفَين، فيكون الرمز هو ع٢ (س، ص)، ومعناها أن شيئين يرتبطان بعلاقة ذات طرفين. وهكذا نقول إن المنطق قد وجد على مر العصور من يُحاوِل بیان قواعده خلال نسق رمزي صوري، وبقيَ أن تجد اللغة من يُحاوِل ذلك فيها لنتبيَّن صِدق هذه الدعوى التي كان وتجنشتين أول من ذهب إليها، وهي أن صورة المنطق وصورة اللغة مُتشابهتان، أو إن شئت فقل إن الفكر واللغة شيءٌ واحد؛ فكان «كارناب» هو أول من استجاب لهذا التحدِّي.

لم يُرِد «كارناب» أن يُدير بحثه على التركيبات الصورية للغةٍ بعينها، كالألمانية مثلًا أو الإنجليزية؛ لأن هذه اللغات المستعمَلة فعلًا إنما يتميَّز بعضها من بعض بمميزات قد تستر عن أعيُننا الأسس المنطقية التي تكون في اللغة كائنةً ما كانت؛ فكما أن المنطق الصوري حين يستخرج قواعد الاستدلال السليم لا يَقصُر اهتمامه على مشكلة بعينها في هذا العلم أو ذاك، بل يستخرج القواعد المنطقية التي تَصدُق مهما تكن المشكلة الفكرية المطروحة أمام الفكر، فكذلك — في رأي كارناب — لا بد لنا في مجال اللغة من مجاوزة حدود اللغات القائمة فعلًا في هذا البلد أو ذاك — ويُسمِّيها باللغات الوصفية — لنحصر انتباهنا في البناء الصوري المنطقي للُّغة باعتبارها لغةً على الإطلاق.

في هذه اللغة الصورية الرمزية التي يريد «كارناب» أن يخلقها من عنده خلقًا ليتبيَّن خلالها طبيعة اللغة، كما يضع العالِم نموذجًا من مادة في مِخبار ليتبيَّن طبيعتها، لا يُشير إلى الأشياء بكلمات، بل يُشير إليها بأرقام — كما نفعل في دنيانا العملية حين نُسمِّي المنازل أو السيارات أو الجنود بأرقام — وبهذا يضمن — من الوجهة النظرية البحتة — أن يكون لكل شيء واحد من أشياء الوجود رمزٌ واحد، وألا يُشير الرمز الواحد إلا إلى شيءٍ واحد — لاحظ هنا الفرق بين هذه اللغة الصورية وبين لغتنا كما نستخدمها في الحياة اليومية؛ فنحن في لغتنا نُجيز — مثلًا — أن نستخدم كلمةً واحدة مثل «إنسان» أو «طائر» لندلَّ بها على ملايين الأشياء في العالم؛ ومن ثَم نَنصب لأنفسنا الفخاخ، فنَزلَّ في الخطأ من حيث لا ندري.

وكما نضع لكل شيء رمزًا رقميًّا يدل عليه وحده ولا يدل على سواه، فكذلك نرمز برموز كهذه لشتَّى الصفات وشتَّى العلاقات التي تصف الأشياء أو تصل بينها؛ وبهذا الجهاز الرمزي الصوري نستطيع أن نصف أي واقعة من وقائع العالم؛ لأن الواقعة كائنةً ما كانت لا تخرج عن كونها مُركَّبة من أشياء بما لها من صفات وما بينها من علاقات.

وبعد أن يَفرغ كارناب من وضع الرموز التي تُعيننا على تكوين الصيغة المُصوِّرة للواقعة المُراد تصويرها، يأخذ في وضع قواعد التحويل؛ أي قواعد اشتقاق صيغة من صيغة أخرى، بادئًا هذه القواعد بطائفة من البديهيات التي هي عبارة عن تحديد لاستعمال الرموز المنطقية؛ ليشتقَّ بعدئذٍ من البديهيات ما يترتَّب عليها من نتائج. وما دُمنا قد وضعنا قواعد تكوين الجُمل ثم قواعد اشتقاق جملة من جملة، فقد وضعنا هيكل اللغة وإطارها، مهما تكن هذه اللغة؛ فاللغة العربية واللغة الإنجليزية واللغة الصينية وما شئت من لغات الأرض كلها، واقعةً أو ممكنة، إن هي إلا مجموعة من رموزٍ وُضعت لها قواعد لتكوين الجُمل ثم قواعد لاشتقاق جملة من جملة.

إنه إذا كان الفكر هو اللغة نفسها، بحيث يجيء تحليل اللغة تحليلًا للفكر في الوقت نفسه، كان هذا التحليل المنطقي للُّغة ركيزةً هامة وعملًا ذا خطر وشأن في الفلسفة الوضعية المنطقية التي تجعل مدارها في قَبول الفكرة المعيَّنة أو رفضها على تحليل الجملة المُجسِّدة لتلك الفكرة، والتحليل وحده كافٍ لبيان منزلة هذه الجملة من حيث القَبول أو الرفض؛ ذلك لأنه ما دام الناس المُستخدِمون للغةٍ ما قد اتفقوا على «بديهياتها» أولًا؛ أي إنهم قد اتفقوا على تحديد معنى رموزها المنطقية، مثل «ليس» و«أو» و«كل» و«إذا» وما إليها، ثم اتفقوا على طريقة تكوين الجُمل كيف تكون، كما اتفقوا على قواعد اشتقاق جملة من جملة، بحيث إذا قلت — مثلًا — «محمد وعلي يتسابقان»، كان هذا مُساويًا لقولي «علي ومحمد يتسابقان»، ومُساويًا لقولي «السباق قائم بين محمد وعلي»، وهكذا، أقول إنه ما دام أصحاب اللغة الواحدة قد اتفقوا على هذا كله، فقد بات میسورًا لمن يُحلِّل كلام المتكلم في موضوعٍ ما، أن يقول إذا كان هذا الكلام مما يمكن أن يحمل للسامع معنًى أو أنه ليس كذلك؛ قياسًا على ما قد تواضَع عليه الناس من قواعد في استعمال لغتهم.

إنه ليس هناك شيءٌ اسمه «اللغة» بصفةٍ عامة بحيث لا تكون لغةٌ سِواها، بل هنالك في شعوب الأرض لغاتٌ تختلف في رموزها وفي طرائق تركيبها، وليس يتوقف صواب الاستعمال أو خطؤه في لغةٍ ما إلا على ما قد اشترطه أصحاب تلك اللغة بعضهم على بعض من حيث طرائق استخدام رموزها تكوينًا وتحويلًا. ولمَّا كان هذا الاشتراط أمرًا فيه حرية اختيار وليس هو ضربة لازب لا محيص للناس عن الأخذ بها، كان لأصحاب اللغة كل الحق في أن يشترطوا للغتهم ما شاءوا من رموز، وما شاءوا لهذه الرموز من قواعد في حالتَي تكوينها جُملًا وتحويلها جملة إلى جملة تُساويها أو لا تُساويها. على أنه إذا ما تم الاتفاق وجرى العُرف على اتفاق معيَّن في كيفية بناء الجُمل وتحويلها في لغةٍ ما، كان على أصحابها بعدئذٍ أن يلتزموا ما قد تم الاتفاق عليه وجرى العُرف به.

لهذا أمكن أن تقوم في العالم لغاتٌ عدة، لكلٍّ منها رموزها وقواعد تكوينها وتحويلها، والصواب والخطأ في التركيبة اللغوية المعيَّنة لا يكون الحكم فيهما إلا بالرجوع إلى قواعد اللغة نفسها، وليس لأحد أن يسأل لماذا كانت التركيبة اللغوية الفلانية جائزة في هذه اللغة وغير جائزة في تلك؛ لأن الأمر مرهون بالاتفاق الصِّرف بين أهل اللغة على ما يكون خطأً أو صوابًا في لغتهم. وإن اشتركت اللغات كلها في أصول واحدة، فإنما تشترك في الأصول المنطقية وحدها، كأن تكون اللغة مجموعة من رموز، وأن يكون في هذه الرموز ثوابت ومُتغيِّرات، وأن يكون للرموز الثوابت معانٍ مُحدَّدة منذ البداية؛ ومن ثَم تكون هي بمثابة البديهيات في بناء اللغة، وأن يكون للجُمل قواعد معيَّنة في تكوينها وقواعد معيَّنة أخرى في تحويلها إلى ما يُساويها أو ما يُناقضها وهكذا.

وكان من أهم ما انتهى إليه كارناب في تحليله للُّغة واستخراج قوائمها المنطقية، تَفرقتُه الواضحة بين الجملة حين يكون تكوينها مُطابقًا لواقعةٍ ما من وقائع العالم الخارجي مطابقةً مباشرة، والجملة حين لا تكون كذلك على الرغم من أنها قد تبدو وكأنها تُشير إلى واقعة من وقائع العالم؛ فلئن كانت الجملة من النوع الأول جملةً لغوية بمعناها الصحيح، فالجملة من النوع الثاني هي في الحقيقة «شِبه جملة»؛ لأنها تُشبِه الجملة الحقيقية في ترتيب ألفاظها، لكنها لا تؤدِّي ما تؤدِّيه. ولنا أن نُسمِّي الجملة من النوع الأول بالجملة الشيئية؛ لأنها تُشير إلى شيء معيَّن في العالم إشارةً مباشرة، كأن نقول — مثلًا — «هذا الكتاب عربي»، وأن نُسمِّي الجملة من النوع الثاني بالجملة الشارحة؛ لأنها في حقيقتها — كما سنُبيِّن بعدُ — تتحدَّث عن كلمات أو عن جملة أخرى، ولا تتحدث عن شيء في العالم الخارجي حديثًا مُباشرًا، كأن نقول — مثلًا — إن «الكتاب» كلمة مُركَّبة من ستة أحرُف، أو إنها كلمة تحتوي على كافٍ واحدة وتاءٍ واحدة وباءٍ واحدة.

إنني لأرجو من القارئ أن يتمهَّل هنا في قراءته ليستوعب هذه التفرقة استيعابًا يُمكِّنه من إدراكها إدراكا دقيقًا؛ وذلك لِما تنطوي عليه من نتائج خطيرة؛ فلْيُلاحظ جيدًا أن المُسمَّى واسمه ليسا شيئًا واحدًا، بل هما شيئان مختلفان أبعد اختلاف، وكل ما في الأمر أننا نتخذ من أحدهما رمزًا ينوب عن الآخر في التفاهم؛ فليس جبل المقطم الذي هو بُروز من الصخر في موقعٍ معيَّن من الأرض، هو نفسه «جبل المقطم» الذي هو كلمتان مكتوبتان بالمِداد على الورق. جبل المقطم الشيء ليس هو نفسه «جبل المقطم» اللفظ؛ الأول صخرٌ نمشي علیه ونبني عليه المنازل، والثاني قطرة من المِداد سكبناها على صورة متفق عليها؛ فلو قلت «جبل المقطم صخوره رملية» كنتَ تقصد «جبل المقطم الشيء»، أما إذا قلت «جبل المقطم كلمتان عربيتان» كنت تقصد «جبل المقطم الاسم».

وكارثة الكوارث التي تُصيب الإنسان في تفكيره فتُضلُّه وتُفسِده، هي أن يجري حديثه على غِرار النوع الثاني فيحسبه جاريًا على غِرار النوع الأول. كارثة الكوارث في تفكير الإنسان هي أن يجيء حديثه في حقيقته عن «كلمة» فيحسبه قد جاء عن «الشيء» الذي تُسمِّيه تلك الكلمة؛ وذلك لأنه كثيرًا ما تكون الكلمة التي هي مدار الحديث اسمًا بغير مُسمًّى في عالم الواقع، فيظن المتحدث أنه ما دام قد تحدَّث عن الاسم فقد تحدَّث عن المُسمَّى، مع أنه لا مُسمَّى هناك، ولو كان مثل هذا الخطأ قليل الوقوع لهانَ أمره، لكن ما ظنُّك وهو خطأ يقع كلما استخدم الإنسان في حديثه كلمة كلية عامة؟ فأنت مثلًا إذا قلت عبارة كهذه «المصري يتصف بالصبر»، فقد تظنُّ أنك إنما تتحدث بها عن «شيء» في عالم الواقع، مع أن «المصري» كلمة ليس لها في ذاتها مدلول فيما عدا الأفراد الذين هم مصريون والذين لكلٍّ منهم اسمٌ خاص به؛ وإذَن فحقيقة الأمر هنا هي أنك تقول إن «المصري» كلمة تُطلَق على فلان وفلان وفلان ممن يتصفون بالصبر. وإذا أردت أن تُدرِك الفرق بين الحالتَين، فقل عبارةً أخرى كهذه «الغول حادُّ الأضراس»، ثم سَل نفسك: أأتحدَّث بهذه العبارة عن «شيء» أم أتحدَّث عن «كلمة»؟ واضح أنك هنا تتحدَّث عن كلمة «غول» ولا تتحدث عن شيء مُجسَّد من أشياء الواقع، فكأنما تقول: الغول كلمة نُطلِقها على كائن يكون حادَّ الأضراس. أما أن تكون هذه الكلمة اسمًا لمُسمًّى أو لا تكون فذلك أمرٌ آخر. وهكذا قل في كل جملة موضوعها اسمٌ كلي عام، فهي جملة بحكم تكوينها النحوي لا بحكم تكوينها المنطقي؛ لأنها إنما تتحدث عن «كلمة» لا عن «شيء»، تتحدث عن «اسم» لا عن «مُسمًّى»، وقد يكون للكلمة شيء يُقابلها وقد لا يكون.

وأُولى مهام الفلسفة عند كارناب هي هذا التحليل الذي يُبيِّن إن كانت الجملة المعيَّنة تحمل إشارةً مباشرة إلى العالم الخارجي؛ وبهذا يجوز لها أن تكون جزءًا من مادة علم معيَّن، أم إنها بدل أن تُشير إلى الأشياء نفسها تتحدث عن مُدرَكات أو قضايا أو نظريات؛ أي تتحدث لا عن أشياء العالم الخارجي، بل عن الكلمات والعبارات التي نتحدث بها عن تلك الأشياء. ومثل هذا التحليل كفيلٌ أن يُوضِّح لنا متى تكون الجملة ذات معنًى (إما ذات معنًى مباشر بإشارتها إلى أشياء العالم الواقع، أو ذات معنًى غير مباشر بتحدُّثها عن عبارة أو لفظة تُشير إلى أشياء العالم الواقع) ومتى لا تكون.

وإذا جعلنا من الفلسفة تحليلًا كهذا، انتهى بنا الأمر إلى تحديد لمهمة الفلسفة تحديدًا يجعل منها علمًا؛ لا لأنها تُعنى بالمُدرَكات العلمية والقضايا العلمية فحسب، بل لأنها عندئذٍ ستَنهَج منهج العلم في الدقة والتحديد. نعم إنها لن تشغل نفسها قط بما يشغل به العلم نفسه من مشكلات تتَّصل بأمور الواقع؛ لأن هذه الأمور مُقسَّمة بين العلوم الخاصة، كلٌّ منها يتناولها من إحدى نواحيها، لكنها كذلك لن تخلق لنفسها عالمًا آخر من «حقائق واقعة» تتصوَّره قائمًا إلى جانب العالم الواقعي المادي الذي نعيش فيه حياتنا اليومية، أقول إنها لن تخلق لنفسها عالمًا خاصًّا بها، تتحدث عنه وتجعل منه موضوعًا خاصًّا تُسمِّيه «ميتافيزيقا» تصول فيه وتجول ولا تسمح للعلماء أن يُناقشوها فيه الحساب؛ من أين جاءت بالشواهد الدالَّة على صدق ما تدَّعيه؟ كلا، إن الفلسفة بالمعنى المحدَّد الذي نريده لها لا تُورِّط نفسها في مجالات العلوم الخاصة، ولا تخلق لنفسها مجالاتٍ أخرى غير مجالات العلوم، بل تجعل مهمَّتها تحليلًا منطقيًّا للمُدرَكات العلمية والقضايا العلمية، وبهذا تصبح الفلسفة فلسفة للعلم؛ أي تصبح منطقًا للعلم أو تحليلًا له، وهدفها هو التوضيح لا الإضافة الجديدة؛ فليس هناك من عالَم إلا عالم الواقع، وليس لأحدٍ أن يتحدَّث عن العالم حديثًا موضوعيًّا إلا رجال العلوم المختلفة، وللفلسفة أن تجيء بعد ذلك فتُحلِّل وتُوضِّح. للعلم أن يُقرِّر، وللفلسفة أن تُوضِّح له ما يُقرِّره، والخير كل الخير أن يجيء التوضيح نفسه على أيدي العلماء أنفسهم؛ لأنهم مُشربون بمواد علومهم، لكنهم إذا ما فعلوا فلن يكونوا عندئذٍ علماء، بل يصبحون فلاسفة لعلومهم التي يتناولونها بالتوضيح والتحليل.

١  Ernst Mach، راجع في تاريخ تكوين جماعة فيينا كتابًا بعنوان «جماعة فيينا» The Vienna Circle لأحد أعضاء تلك الجماعة، وهو Victor Craft، كتبَه بالألمانية وترجمه إلى الإنجليزية Arthur Pap.
٢  Moritz Schlick.
٣  Planck.
٤  Waismann.
٥  Neurath.
٦  Feigl.
٧  Kraft.
٨  Kaufmann.
٩  Carnap.
١٠  Goedel.
١١  Wittgenstein.
١٢  Gustav Bergmann, The metaphysics of Logical Positivism، ص١.
١٣  Reichenbach.
١٤  Semantics، كنت قد استخدمت كلمة سيمانطيقا في كتابي خرافة الميتافيزيقا، لكن المَجمع اللغوي قد قرَّر لفظة «السيمية» ترجمةً لهذه الكلمة. راجع مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء ٩، لسنة ١٩٥٧م.
١٥  Syntax، وقد استخدمت لهذه الكلمة في كتابي خرافة الميتافيزيقا لفظة «سنتاطيقا»، ولكني الآن أقترح هذه التسمية.
١٦  Rudolf Carnap، وهو الآن أستاذ للفلسفة بجامعة كاليفورنيا.
١٧  The Logical Syntax of Language.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤