الفصل التاسع

مشكلة الحق

١

ألا إنه لَمَثلٌ صارخ بمغزاه أن نرى الفيلسوف التأملي باحثًا عن «الحق» في رأسه؛ فإن سألناه: ما هو «الاعتقاد» المعيَّن الذي تبحث في أمره لترى إن كان حقًّا أو باطلًا؟ أجاب بأنه لا يبحث عن الحق بالنسبة لهذا الاعتقاد المعيَّن أو ذاك، بل هو يبحث في «الحق» مطلقًا غير متقيِّد بأمثلته الجزئية، وبغضِّ النظر عما يُوصف به من آراء أو من عبارات تصفُ تلك الآراء، إنه يبحث في رأسه عن شيءٍ اسمه «الحق» كأنما هو يبحث خلال مِنظار عن نجم في السماء دلَّت عمليات الحساب أنه لا بد واقع في موضع معيَّن بين النجوم، ويريد الآن أن يحقِّق بالرؤية ما قد كشف عن وجوده بالفكر النظري.

ولو كان لفظ «الحق» اسمًا جاء في اللغة العربية ليُسمِّي شيئًا، كما جاء لفظ «قط» ولفظ «إنسان»، لجاز لفيلسوفنا أن يحاول تحديد هذا المسمَّی الذي أردنا الإشارة إليه بهذا الاسم، لكن تحليلًا سريعًا للكلمة واستعمالها يدل على أنها كلمةٌ زائدة لا تُضيف إلى الجملة التي تَرِد فيها معنًى إلى معناها، حتى لَتظلُّ الجملة غير منقوصة المعنى إذا ما أضفت إليها هذه الكلمة إن لم تكن فيها أو حذفتها منها إن كانت؛ فإثباتك لواقعةٍ ما في جملةٍ معيَّنة يكفي وحده لأداء المطلوب؛ فلو قلت مثلًا إن «كليوباتره ماتت مسمومة» كان قولك هذا مساويًا من الوجهة المنطقية لقولك إن «كليوباتره ماتت مسمومة وهذا حق». نعم إن هذه الإضافة قد تؤكد الإثبات، ولكن تأكيد الإثبات لا يجعل من الإثبات شيئًا آخر غير الإثبات، والجملة التقريرية بحكم طبيعتها تثبت إن كان الحكم فيها موجبًا؛ فلو رمزنا إلى أية قضية مُثبَتة بالرمز ق، فإن مجرد ذِكرنا ﻟ «ق» مُساوٍ لقولنا «ق حق».

إنك إذ تسأل عن طبيعة أي شيء مما يَرِد ذِكره في الحديث، فأنت في الحقيقة تسأل عن تعريف الرمز الوارد خلال الحديث، الذي إنما ورَد ليشير إلى ذلك الشيء المراد معرفة طبيعته؛ فسؤالك «ما طبيعة س؟» مساوٍ دائمًا لمطالبتك بإبدال «س» بما يُساويها من الرموز الأخرى التي تشير إلى أشياء معروفة لك في خبرتك، أو بعبارةٍ أخرى فإن سؤالك عن طبيعة «س» معناه دائمًا مطالبتك بترجمة الجملة التي وردَت فيها «س» إلى جملة أو طائفة من الجُمل الأخرى تساويها معنًى ولكنها تستغني عن استخدامها للرمز «س». وتطبيقًا لهذا في حالة «الحق» نرى أن سؤالك عن طبيعة «الحق» معناه مطالبتك بترجمة أي جملة تَرِد فيها هذه الكلمة إلى جملة أخرى تساويها معنًى ولكنها تستغني عن كلمة «الحق». ونحن نزعم لك الآن أن جملة «ق حق» يمكن تحويلها إلى «ق» مُسقِطين كلمة «حق»، ومع ذلك يظل الأصل والتحويل متساويَين في المعنى؛ مما يدل عن أن الكلمة كانت في الأصل زائدة؛ ومن ثَم فالبحث عن طبيعتها هو بحث في الهواء كما يقولون.

وكما أن القضية التي تقول عنها إنها «حق» هي هي نفسها القضية التي تَسُوقها في إثباتها غير موصوفة بهذه الكلمة، فكذلك كلمة «باطل» لا تعني شيئًا؛ لأن كل قضية أُضيفت إليها هذه الكلمة مساوية في معناها إلى القضية نفسها في صورة النفي؛ فمثلًا قولي «مات أبو بكر مقتولًا قولٌ باطل» مُساوٍ لقولي «لم يمُتْ أبو بكر مقتولًا»؛ وبهذا نتخلَّص من كلمة لا مدلول لها في ذاتها، ولو تركناها لأغْرَت الفلاسفة أن يُجرِّدوها وحدها ليسألوا: ما طبيعة الباطل؟

أُعِيد ما قلته في عبارةٍ أخرى فأقول: إن كلمة «حق» (وكذلك كلمة «باطل») لا تدل على شيء في عالم الواقع؛ ولذلك فهی رمز بغير مرموز إليه، ليس هنالك كائن معيَّن اسمه «حق» بحيث أراه أو ألمسه أو أحمله على كتفي، ولا فرق أبدًا بين أن أقول جملةً ما، كأن أقول مثلًا «المعرِّي شاعرٌ ضرير» وأقف عند ذلك، أو أن أقولها وأهزَّ رأسي هزةً أؤكِّد بها لمن أُحدِّثه إثبات هذا المعنى، أو أن أقولها مصحوبةً بكلمة «حق»؛ كل هذه حالات من القول متساويات؛ فلا هزَّة رأسي ولا إضافتي لكلمة «حق» إلى الجملة التي قلتها بمُغيِّرة شيئًا من المعنى لا زيادة ولا نقصًا. ولو جاز لفيلسوف أن يتأمَّل في طبيعة «هزَّة الرأس» ماذا عساها أن تكون، لجاز له كذلك أن يتأمل في طبيعة «الحق».

«إن الأمر لَيُوشك أن يكون أوضح من أن يستحق ذكرًا، ومع ذلك فاهتمام الفلاسفة بما يُسمونه «مشكلة الحق» يدل على أن هذه الحقيقة الواضحة قد غابت عن أبصارهم.»١ فقد رأوا كلمة «الحق» تَرِد في كلام الناس على نحوٍ يُوهِم بأنها تدل على كائن فِعلي في الوجود الواقع خارج نطاق اللغة وعباراتها، فراحوا يبحثون عن طبيعة ذلك الكائن ليُحدِّدوها، ولكن نظرةً — لا أقول فاحصة عميقة — بل النظرة السريعة كافية لنعلم أن كلمة «حق» أينما وردت، يمكن ردُّ الجملة التي وردت فيها إلى صورة كهذه: «الجملة الفلانية صادقة.» وما دام الأمر كذلك فالمشكلة كلها تزول من أساسها، فلا تعود أمامنا مشكلة عن «الحق» ما هو، بل يصبح سؤالنا هو: كيف يمكن الوثوق من صدق هذه الجملة التي نقول عنها إنها صادقة؟ والفرق بين الموقفين واسعٌ شاسع؛ فلم يعُدْ هدفي أن أبحث عن «حق مطلق» لا يتعلَّق بجملة معيَّنة أو بفرض معيَّن، بل يصبح ذلك الهدف محصورًا في دعوى محدَّدة معيَّنة وطرائق إثباتها.

هاتِ ما شئت من أمثلة تَرِد فيها كلمة «الحق» وُرودًا يُوهِم بأنها كلمة ذات معنًی خاص بها، وحلِّل تلك الأمثلة تجدها كلمة ترتدُّ إلى إثبات قضية معيَّنة. قل مثلًا: «الحق فوق القوة.» تجدها مساويةً في التحليل لقولنا: إذا كانت هنالك قضيتان متناقضتان، إحداهما تُقرِّر «ق»، والأخرى تُقرِّر «ليس ق»، ثم إذا بيَّن قائل الأولى صواب قضيته بالرجوع بها إلى الشواهد التي تُثبِت صدقها، على حين اكتفى الثاني بإرغام الناس على قَبول دعواه، أخذ الناس بقول القائل الأول، ورفضوا — بالتالي — قول القائل الثاني؛ فهل بقيَ لمشكلة «الحق» وجودٌ في هذا التحليل، أم إن كل ما هنالك هو الشواهد التي سيُثبِت بها قائل القضية الأولى صدق قضيته؟ وخذ مثلًا آخر، قولنا «الحق أحق أن يُتَّبَع»، تجد تحليله هو: إذا كانت هنالك دعویان متناقضتان، إحداهما يمكن إثباتها بالشواهد، على حين يتعذَّر ذلك بالنسبة للثانية، كان قَبولنا للدعوى الأولى أضمن لبلوغ غاياتنا المنشودة من قَبول الدعوى الثانية؛ فهل ترى هنا أيضًا أنْ قد بقيَ بين أيدينا شيءٌ من «الحق» باعتباره كائنًا مُطلَقًا قائمًا بذاته، أم إن الأمر كله يرتدُّ إلى قضية معيَّنة وطريقة إثباتها؟

فإذا كانت المذاهب الفلسفية التي تبحث في «الحق» إنما تتوقع من بحثِها هذا أن تجد في العالَم صفةً معيَّنة قائمة هناك، أو علاقة معيَّنة كائنة بين الأشياء نفسها، اسمها «الحق»، كانت تلك المذاهب كلها في بحثها ذاك تطلب مُحالًا؛ لأنها تطلب ما ليس له وجود، وما ليس يمكن أن يكون له وجود، لكن ما يجوز البحث فيه — وهو ما تبحث فيه فعلًا مذاهب فلسفية كثيرة — هو الشروط الواجب توافُرها في قضية معيَّنة لنحكم عليها بالصدق، أو بعبارةٍ أخرى ما هي طرائق تحقيق القضايا؟ ولسنا نزعم بطبيعة الحال أن كل قضية تتحقق على نفس الصورة التي تتحقق بها سواها، بل الأمر على خلاف ذلك، فما يكفي لبيان وجه الحق في قضية تحليلية مُنتزَعة من مقدمات كانت تحتويها، لا يكفي لبيان وجه الحق في قضية تركيبية نغترف مضمونها من التجرِبة بواقع العالم؛ فالأولى صِدقها صوريٌّ بَحت، يكفي فيه سلامة استدلالها من مقدماتها، ويكون بطلانها متوقِّفًا على ما قد يكون فيها من تناقض بين أجزائها أو بينها وبين تلك المقدمات، وأما الثانية — التجريبية — فقد تخلو من التناقض، ومع ذلك تكون باطلة لأنها لا تُسايِر الواقع التجريبي.

مصدر الخلط في المشكلة التي يُسمونها مشكلة «الحق» هو الخطأ في تعيين الموصوف الذي يُوصَف بهذه الصفة؛ فما الذي نَصِفه بأنه «حق»؟ الظاهر أن الفلاسفة الذين يُورِّطون أنفسهم في هذه المشكلة الوهمية، يَصرفون صفة «الحق» هذه إلى الأشياء الخارجية وإلى العالَم بصفةٍ عامة؛ فكأنما هم يُمسِكون بأيديهم صخرة أو شجرة قائلين: هذه هي «الحق». أو كأنما هم يُحِيطون الكون بنظرة منهم قائلين إنه «الحق». هكذا تراهم يجعلون «الحق» صفةً تَصِف واقعًا، ولكن ذلك خروج بالصفة عما يجوز لها أن تصف، فكأنهم يريدون أن يصِفوا الفضيلة — مثلًا — بأنها خضراء، أو يصِفوا الإنسان بأنه مثلث الأضلاع؛ فصفة «الحق» لا يجوز أن تصف «الشيء» الواقع نفسه، ولو فعلَت لأصبحت هُراءً وخلطًا. إنَّ ما هو واقعٌ واقع، ولا معنى لوصفه بأنه حق أو باطل، وإنما الذي يُوصَف بالحق أو بالبطلان هو «الاعتقاد» أو الرأي الذي يحمله الواحد منا عن أمور الواقع؛ فإن كان اعتقادًا أو رأيًا مطابِقًا لما هنالك، قيل إنه اعتقادٌ حق، وإن لم يكن قيل إنه باطل. وهذا الاعتقاد الذي يجوز أن يُوصَف بالحق أو بالبطلان لا يصبح موضع اهتمامنا العلمي إلا إذا وجدناه في عبارة لفظية؛ أي وجدناه في جملة تُعبِّر عنه؛ فعندئذٍ يُتاح لنا أن نُوازِن بين الجملة من ناحية وبين الواقعة التي جاءت الجملة لتُصوِّرها من ناحية أخرى، مُوازنةً تُجيز لنا الحكم على الدعوى بالصواب أو بالخطأ.

٢

ليس الاعتقاد في ذاته أمرًا مقصورًا على الإنسان؛ فللحيوان حالات يسلك فيها على نحو قد يدل على أنه أقدمَ على بيئته ﺑ «اعتقاد» خاطئ، كالطائر الحبيس في غرفة أُغلقَت نوافذها الزجاجية الشفَّافة، فيُحاول الطيران من فتحات النوافذ غير حاسب لحواجز الزجاج حسابًا حتى يصطدم بها؛ ﻓ «الاعتقاد» — كما يقول برتراند رسل٢ — كلمة نشير بها إلى حالة عقلية أو إلى حالة بدنية أو إلى حالة عقلية بدنية معًا، يسلك فيها الحيوان سلوكًا متعلِّقًا بأمر غائب عن الحواس؛ فإذا ما ذهب مسافر إلى محطة السكة الحديدية متوقِّعًا أن يجد قطارًا معَدًّا للسفر إلى الجهة المقصودة في ساعة معيَّنة، فهو إنما يذهب بناءً على «اعتقاد» معيَّن عنده خاص بالقطارات ومواعيدها، وهو في هذه الحالة يُعبِّر عن اعتقاده ذاك في سلوك، وإن لم يُعبِّر عنه في عبارات لفظية. ولا فرق في هذه الحالة بين مثل هذا السلوك الإنساني المُنبني على اعتقاد معيَّن، وبين سلوك حيوان كالكلب مثلًا يشمُّ رائحةً لا يرى مصدرها لكنه يسلك وكأنما هو قد رأی ثعلبًا. ولمَّا كان الكلام نفسه ضربًا من السلوك يؤدِّيه الإنسان بناءً على اعتقاد يريد إخراجه فيما ينطق به من عبارات في المواقف المختلفة، فإنه لا يشذُّ عن تعريفنا العام للاعتقاد عند الإنسان والحيوان على السواء، من أنه حالة يسلك فيها صاحب الاعتقاد سلوكًا ينمُّ عنه.

من ذلك ترى أن «الاعتقاد» وثيق الصلة ﺑ «المعنى»؛ فالكلمات التي أقولها لأضع فيها اعتقادًا لديَّ عن أمور الواقع، ستجد من هذه الأمور الواقعة ما يُثبِت صوابها أو بطلانها؛ فقد أكون على اعتقاد بأن توفيق الحكيم قد أخرج مسرحية منظومة، وأقول لصديقي ما يُقرِّر له هذا الاعتقاد، حتى إذا ما رُحتُ أبحث في الواقع عن هذه المسرحية لأُطلِع صديقي عليها لم أجد ما يدل على صواب اعتقادي ذاك. وقد أزعم لهذا الصديق أن للعقاد ثمانية دواوين من الشعر، فيمضي الصديق إلى المكتبات باحثًا عنها حتى يجدها جميعًا، ولا يجد له سواها، فيدله الأمر الواقع على صواب ما زعمته له؛ وبالتالي يكون هذا الواقع دليلًا على صدق اعتقادي أو إن شئت فقل صدق فكرتي.

في حالة الاعتقاد التي تهمُّنا في هذا السياق، يكون هنالك تصوُّر ذهني للأمور كيف تقع، ويكون هنالك أيضًا جملة نضع في ألفاظها ما يُعبِّر عن ذلك التصور الذهني؛ فإن كانت هنالك في العالم الخارجي واقعة تُقابل بأجزائها أجزاء تلك الجملة، كان التصور الذهني — أي الاعتقاد — تصورًا صحيحًا لأمور الواقع، وإن لم يكن هنالك في العالم الخارجي واقعة كهذه، كان التصور الذهني لأمور الواقع خاطئًا.

على أن الجملة المُصوِّرة للواقعة من جهة، والواقعة المُصوَّرة بالجملة من ناحية أخرى، قد لا يكون بينهما التشابه المألوف بين الشيء المُصوَّر وصورته؛ لأن ألفاظ اللغة لا تُشبِه الأشياء التي تشير إليها تلك الألفاظ؛ فكلمة «كتاب» لا تشبه الكتاب، ولفظ «أخضر» لا تشبه اللون الأخضر؛ وبالتالي فعبارة «هذا الكتاب أخضر» لا تشبه الواقعة التي جاءت العبارة تصويرًا لها، إنما يكون التشابه بين الجملة والواقعة تشابهًا في «التكوين»، وهذا وحده كفيلٌ لنا بمراجعة الحلة على واقعتها لنتبيَّن صدقها أو بطلانها؛ فإن قلت — مثلًا — «سقط الحجر من أعلى البناء على الأرض»، كان الشبه التكويني بين العبارة والواقعة قائمًا في التقابل الذي يكون بين الأطراف والعلاقات في كلٍّ منهما؛ ففي كلٍّ منهما أطرافٌ ثلاثة هي: أعلى البناء، والأرض، والحجر. وفي كلٍّ منهما علاقة ربطَت هذه الأطراف الثلاثة، وهي علاقة السقوط.

إذَن فحين يكون المفروض في قضيةٍ ما أن صاحبها قد ساقها ليزعم بها زعمًا عن واقعة من وقائع العالم الخارجي، فلا تُوصَف هذه القضية بأنها «حق» إلا إذا أدركنا ما بينها وبين واقعتها من علاقة تجعل الأولى صورة للثانية، أو تجعل الأولى أداة صالحة للسلوك الناجح إزاء الثانية؛ وبهذا يكون ما نُطلِق عليه كلمة «حق» هو علاقة كائنة بين طرَفَين؛ اعتقاد يُعبِّر عنه صاحبه بجملةٍ ما من جهة، وواقعة تقوم في عالم الأشياء مُصدِّقة أو مُكذِّبة لذلك الاعتقاد؛ فليس «الحق» شيئًا نلتمسه قائمًا وحده كما ظنَّ فلاسفة كثيرون، بل هو علاقة بين صورة ومصوَّر، أو بين أداة وموضوع تُفعَّل فيه تلك الأداة.

وقد تسأل: ماذا تعني بكلمة «واقعة» ما دمت تريد للوقائع أن تكون الفَيصل القاطع في حكمنا على اعتقاد معيَّن (أي قضية معيَّنة) بالصواب أو بالخطأ؟ وجوابنا هو أن «الواقعة» هي ما يمكن أن نشير إليه، أو ما كان يمكن أن نشير إليه مما قد وقع أو يقع من أحداث؛ فهذه الشمس الطالعة «واقعة»، وهذا الجبل، ونابليون قادمًا إلى مصر في حملته، وقيصر مقتولًا بطعنة من بروتس، وهذا الطعام آكُله، وهذا القلم أُمسِكه بين أصابعي كاتبًا؛ كل هذه وقائع حدَثَت أو تَحدُث، أو قل هي مجموعات من حوادث وقعت أو تقع؛ وأي جملة أنطق بها مُعبِّرًا بها عن اعتقاد عندي خاص بأمر من أمور الواقع هي نفسها واقعة من وقائع العالم؛ ومثل هذه الواقعة اللفظية (أي الجملة) التي نزعم لها أنها تشير إلى واقعة أخرى سواها، إنما يعتمد صوابها أو خطؤها على وجود هذه الواقعة الأخرى؛ فإن استُحدثَت حادثة «لفظية» لتكون رمزًا يشير إلى مرموز إليه من جوانب الدنيا، ولم نجد في الدنيا هذا المُشار إليه، لبِثَ الحكم على الرمز معلَّقًا، فلا هو صواب ولا خطأ؛ فوقائع العالم هي التي تقضي على جملة نقولها عن العالم بأنها حق أو باطل.

إننا نعيش في عالم واقع، والواقع فيه «صلابة» و«عناد» — كما يقول رسل٣ — فإذا ما قال عنه الإنسان قولًا، لم يكن ذلك القول حقًّا إلا إذا قابَله في دنيا الواقع ما يؤيده؛ فأقوالنا عن العالم هي كجدول مواعيد القطارات، فإنْ نصَّ الجدول على أن قطارًا يُغادر القاهرة إلى الإسكندرية في الساعة الثامنة صباحًا، كان هذا النص صوابًا إذا قام القطار المذكور فعلًا في الساعة المذكورة، فالواقعة هي التي تُحقِّق صواب ما قد قيل، وليس ما يقال هو الذي يقضي بأن الواقعة قد وقعت فعلًا، وكذلك نحن والعالم، فهنالك عالم خارجي من جهة، وهنا من جهة أخرى إنسان يتكلم عن ذلك العالم واصفًا إياه زاعمًا عنه المَزاعم؛ فوقائع العالم الخارجي التي تَحدُث فعلًا هي التي على أساسها نقضي بما في أقوالنا من حق أو باطل، والعكس غير صحیح، وهو أن أقوالنا وأحكامنا واعتقاداتنا ليست هي التي تجعل الواقع واقعًا والحق حقًّا والباطل باطلًا.

عِلمُنا بالعالم الواقع — إن استحقَّ أن يُطلَق عليه اسم «العلم» — هو في حقيقة أمره مرحلةٌ راقية من مراحل المُلاءمة بين الكائن الحي وبيئته، فلا فرق بين الحيوان في تشكيل سلوكه على النحو الذي يُوائم بينه وبين الواقع لكي يحيا، وبين العالِم في قمة علمه وهو يحاول أن يزداد بالعالَم علمًا، لنُشكِّل سلوكنا تبعًا لذلك تشكیلًا يزيد من نجاحه في السيطرة على ظواهر الطبيعة، لا فرق بين هذا وذاك إلا في الدرجة وحدها، وأما «الكيف» فواحدٌ هنا وهناك؛ لأنه في كلتا الحالتين محاولةٌ واحدة نحو التكیف لواقع العالم على أساس العلم به علمًا صوابًا.

ولمَّا كان الحيوان والإنسان معًا يتفقان من الوجهة الحيوية على أنهما يريدان أن يُدركا من العالم الخارجي ما يُمكِّنهما من العيش على خير وجه مُستطاع، كان الحيوان والإنسان معًا شريكين في الاستعداد والتهيؤ للسلوك في البيئة سلوكًا موفَّقًا، وهذا التهيُّؤ الذي يقتصر عند الحيوان على غريزة فطرية قد يرتفع عند الإنسان إلى أن يصل به إلى «المعرفة» في أرقى درجاتها وأدقها، لكن صميم الأمر واحد؛ مما يُبرِّر لنا زعمَنا بأن الحيوان كالإنسان تكون لديه «اعتقادات» معيَّنة عن بيئته، يسلك على أساسها، فيجيء سلوكه موفَّقًا إذا كان «اعتقاده» صحيحًا، أو مُخفِقًا إذا كان «اعتقاده» وهمًا باطلًا. نعم إن «الاعتقاد» في أدقِّ مراحله عند الإنسان يتحول إلى عبارات كلامية ينقل بها صاحب الاعتقاد اعتقاده إلى سواه، حتى لقد تعوَّدنا أن نَقرن الاعتقاد بالصيغة الكلامية التي تُعبِّر عنه اقترانًا يكاد يجعلنا نَقصر «الاعتقاد» على الإنسان المتكلم وحده دون الحيوان الأعجم، لكن نظرةً تحليلية إلى الوظيفة الحيوية للاعتقاد تكشف عن اشتراك الحيوان مع الإنسان في ذلك، وإن اختلفا في مدى الدقة ودرجة التحديد.

وإنما نقول هذا كله لنَغرس في ذهن القارئ غرسًا عميقًا يربط به بين «الاعتقاد» و«الأمر الواقع» على نحوٍ يجعل صواب الأول أو خطأه معتمِدًا كل الاعتماد على الثاني؛ فلا صواب في اعتقاد لا تكون له بالواقع صلة. إن قُدرتنا على الكلام لَتخدعنا وتَصرِفنا في كثير من الأحيان عن طرَفَي الموقف الرئيسيَّين، وهما «الاعتقاد» المكوَّن في الداخل من جهة، والحادثة الواقعة في عالم الأشياء من جهة أخرى، حتى لَترانا ننصرف إلى عباراتنا الكلامية نفسها، ندور فيها وندور، كأنما هي العالم الذي لا عالم سواه، على حين أن هذه العبارات — إن أُريدَ بها أن تكون ذوات معنًى — ليست إلا مُشيرات نشير بها إلى الواقع كما «نعتقد» أنه يقع، هي كمقياس الحرارة نضعه في الماء الساخن ليكون أداة دقيقة تضبط لنا درجة الحرارة التي نُحسُّها إذا ما وضَعْنا أصابعنا في الماء؛ فالجملة اللغوية ما دامت تشير إلى ما هو خارج الإنسان فهي الصيغة الرمزية التي نشير بها إلى ما نعتقد أنه موجود في العالم.

الاعتقاد — إذَن — حالةٌ حيوية تقتضيها الحياة نفسها وضرورة بقائها؛ ولذلك فهي حالةٌ تضرب بجذورها إلى الحيوان الأدنى، غير أننا إذا ما علَونا بالاعتقاد إلى مرحلة الإنسان، حيث يجد وسيلة التعبير عنه بكلمات تُفصِّل أجزاءه وتُحدِّدها، وجب لهذه الوسيلة التعبيرية ألا يكون لها معنًى يجعلها غايةً في ذاتها، بل يكون معناها في إشارتها إلى ما هو خارج عن حدودها؛ إشارتها إلى ما كان الاعتقاد قد تكوَّن عنه من جوانب العالم؛ فعندئذٍ تُقاس دقة التعبير بدقة إشارته إلى ما في العالم من تفصيلات وحوادث.

ونعود إلى ما بدأنا به فنقول: إن «الحق» صفة لا نَصِف بها شيئًا من الواقع نفسه، بل نَصِف بها «اعتقادًا» لدى فرد من الناس عن ذلك الواقع؛ وبالتالي نَصِف بها «عبارة» يقولها صاحب الاعتقاد ليُعبِّر بها عن اعتقاده؛ فليس «الحق» في ذاته كائنًا موضوعيًّا خارجيًّا حتى يجوز للفلاسفة أن يبحثوا فيه على هذا الاعتبار، بل هو «علاقة» بين الاعتقاد من جهة وبين الأمر الواقعي المُعتقَد فيه من جهة أخرى، وتكون علاقة الحق قائمةً بين طرَفَيها حين يكون بين الطرفين تطابُق بأي معنًی من معانیه؛ فالاعتقاد الحق هو ما له طرَف خارجي يشير إليه، والاعتقاد الباطل هو ما ليس له طرَف خارجي يشير إليه، أو هو ما يشير إلى طرَف خارجي إشارةً لا تكشف عن طبيعته على نحو ما هي قائمة.

٣

ليس «الحق» — إذَن — كائنًا قائمًا بذاته وحده قيامًا مستقلًّا يُجيز لنا أن نبحث عنه كما يبحث الرحَّالة عن منابع النيل، ولكنه علاقة تقوم بين طرَفَين؛ فهنا — من ناحية — الصورة التي نتصورها عن هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم الخارجي، وهنالك — من ناحية أخرى — العالم الخارجي نفسه بما فيه من أجزاء، وما نَصِفه بالحق هو التصور التي نتصوره حين يكون صورة مطابِقة لما هنالك من واقع.

فليس السؤال المشروع هو: ما «الحق»؟ بل السؤال المشروع هو: ما الظروف التي إذا توافرت لقضية إخبارية قلنا عن هذه القضية إنها حق؟

وليس الفلاسفة جميعًا على كلمة واحدة في الإجابة عن هذا السؤال؛ فمنهم — بين جماعة الوضعيين المنطقيين أنفسهم مثل «همبل» و«نوراث» — من يجعل «الاتساق» شرطًا للحق؛ فالقضية المعيَّنة تكون صادقة لو كانت تربطها صلة لغوية بغيرها، تُجيز لها أن تكون جزءًا من معرفتنا ما دام الأصل الذي هي متصلة به جزءًا من المعرفة مُعترَفًا بصوابه؛ فمثلًا: هل من الحق أن يقال إن بروتس قتل قیصر؟ الجواب هو: نعم إن هذا القول حق لأنه مُشتقٌّ من العبارة الفلانية، والعبارة الفلانية مما تراه مُدوَّنًا في الوثيقة الفلانية؛ وإذَن فهذا القول «مشتَق» مع أقوال أخرى وردت في موضع معيَّن بدأنا بافتراض أنه موثوق بصدقه؛ ومعنى ذلك أن علاقة الحق في قضيةٍ ما هي عدم تناقضها مع قضية أخرى، وليست علامة الحق — في نظر هؤلاء — هي أن تكون القضية مرتبطة ﺑ «الواقع» على نحوٍ ما؛ لأن الباحث — في رأي هذه الجماعة — لا يسعه عند تحقيق الصدق لقضية معيَّنة سوى أن يدور في عالم من قضايا، فيَظل ينتقل من كتاب إلى كتاب ومن وثيقة إلى وثيقة، مُقارنًا هذه الجملة هنا بتلك الجملة هناك، وأما أن يحطم هذا الحصار اللغوي ليَنفُذ منه إلى ما هو واقعٌ خارج أسواره في الدنيا الخارجية، دنيا الحوادث نفسها، فليس له قِبَل به.

على أن لنظرية «الاتساق» في الحق صورًا أخرى لعلها أرسخ أساسًا وأعمق جذورًا في ميدان البحث الفلسفي من صورتها التي أوجزناها عن بعض رجال الوضعية المنطقية، والتي تجعل صدق الجملة متوقِّفًا على بقية الجُمَل التي تُكوِّن معها نسقًا معيَّنًا يبدأ بفرض معيَّن، مع جواز أن تكون الجملة الواحدة حقًّا بالنسبة إلى نسقٍ ما، وباطلةً بالنسبة إلى نسقٍ آخر؛ أقول إن هنالك إلى جانب هذه الصورة في تفسير «الحق» على أساس اتساق الأجزاء، صورًا أخرى بالغة الخطر في عالَم التفكير الفلسفي، يختلف بعضها عن بعض وإن تكن كلها تتفق في أنها تجعل من «الحق» كلًّا متَّسِق الأجزاء، وتجعل من أية معرفة عقلية منظَّمة — كالمعرفة العلمية مثلًا — مجموعة من القضايا مستندًا بعضها إلى بعض في وحدةٍ متصلة القضايا اتصال المقدمات بنتائجها.

فمن الصور الهامة التي ظهر عليها مذهبُ الاتساق في الحق، الصورة الديكارتية التي ترتكز على المبدأ القائل بأنه لا يجوز للباحث عن الحقيقة أن يُثبِت شيئًا على أنه الحق إلا ما يستطيع إدراكه إدراكًا واضحًا مُتميِّزًا. ومثل هذا الإدراك لما هو حقٌّ معصوم من الخطأ مُبرَّأ من الشك، إنما يتم بطريق العِيان المباشر؛ أي إنه يتحقق لصاحبه بالحَدس؛ فما نُدرك بالحدس أنه حقٌّ واضح بذاته يكون كذلك بغير شك، لكننا لا نُدرك مثل هذا الإدراك الحدسي إلا إن كان المعروض أمام العقل «فكرة بسيطة» أو «قضية بسيطة»، على أن هذه البساطة لا تعني أن تكون الفكرة خلوًا من الكثرة الداخلة في تكوينها، بل إننا لَنَعدُّها فكرة بسيطة إذا ما كان قوامها أكثر من عنصر واحد، لكنها عناصر يتصل بعضها ببعض صلةً ضرورية. وبعبارةٍ أخرى، فإن ما يُطلِق عليه ديكارت اسم «فكرة بسيطة» أو «قضية بسيطة» هو حكمٌ شرطيٌّ صِيغَ على نحوٍ يجعل التالي فيه لازمًا بالضرورة عن المُقدَّم، وإن يكن هذا التالي لا يستلزم بالضرورة صدق المقدَّم.٤ ولنضرب لذلك الأمثلة التي ضربها دیكارت نفسه؛ فالفكرة التي قوامها «إذا كان ثَمة وعيٌ ذاتي، كان ثَمة وجود» فكرةٌ بسيطة عند دیكارت، ولو أن بساطتها لا تتنافى مع أن يكون هنالك تركيب شرطي يتوقف فيه التالي على المقدَّم، بحيث يستحيل أن يَصدُق المقدَّم ولا يَصدُق التالي معه، على حين أن العكس يجوز ألا يكون صحيحًا؛ أي إن التالي قد يَصدُق دون أن يَصدُق معه المقدَّم؛ فيكون هنالك «وجود» دون أن يستلزم ذلك «وعيًا ذاتيًّا»، وكذلك القضية ٢ × ٢ = ٤ هي بمثابة تركيب شرطي صورته إذا أُضيفَت ٢ إلى ٢ كان الناتج ٤، فها هنا أيضًا يستحيل أن يَصدُق المقدَّم دون أن يستلزم ذلك صِدق التالي معه، لكن العكس غير صحیح، فلا نقول إنه إذا كانت هنالك أربعة فلا بد أن تكون اثنتان قد أُضيفتا إلى اثنتَين؛ لأن الأربعة قد تنتج عن إضافةٍ أخرى، كإضافة ثلاثة إلى واحد.

نعود إلى ما كنا بصدد الحديث فيه، وهو أن الحق شرطُه عند ديكارت هو الإدراك الواضح المُتميِّز، وهذا الإدراك يكون عِيانًا مباشرًا للحقيقة المعروضة، ومثل هذه الحقيقة لا بد أن تكون فكرة بسيطة أو قضية بسيطة، لكن هذه البساطة لا تتنافى مع أن يكون هنالك عنصران داخل القضية، لكنهما متماسكان على نحوٍ يجعل عنصرًا منهما مستحيلًا بغير الآخر، كما هي الحال في صِدق التالي إذا صدَق المقدَّم في القضية الشرطية. ومع ذلك فإدراك المقدَّم والتالي لا يكون انتقالًا من جزء إلى جزء، إنما هو إدراك لكلٍّ واحد متصل يتم بفعلٍ حَدسي واحد يكشف عما فيه من حق واضح بذاته ممتنع على الشك، ومِثل هذا الحق هو الذي يصلح بعد ذلك أساسًا ينبني عليه ما أردنا بناءه من علم أو فلسفة؛ لأن مِثل هذا الحق هو بمثابة المبدأ الذي نشتق منه معرفتنا كلها في تناسُق أجزائها، فما نستدله من المبادئ الواضحة بذاتها استدلالًا صحيحًا يكون بدوره حقًّا لا شبهة فيه، فكأنما ترتبط كل خطوة بالخطوة السابقة عليها كما ترتبط الحلقة التالية بالحلقة السابقة في السلسلة، تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى مما يجعل الخالفة في يقين السالفة.

وهكذا يكون المَثل الأعلى للمعرفة عند دیكارت هو البناء المتَّسِق من القضايا الصادقة، التي يكون صِدق كلٍّ منها متوقِّفًا على موضعها من البناء؛ فأساس البناء هو الحقائق التي نراها رؤيةً مباشرة، وطوابقه هي الحقائق التي نستمدُّها من ذلك الأساس الیقیني، فتكون بدورها يقينية. على أن هذا الصدق الذي ننسبه إلى كل قضية مما يَرِد في البناء النسقي، صدقٌ مُطلَق؛ بمعنى أنها تكون صادقة دائمًا، فليس هنالك نسقٌ آخر ممكن، بحيث يتغيَّر فيه الأساس فتتغيَّر بالتالي مجموعة القضايا الصادقة المترتِّبة عليه.

ولئن كانت السلسلة في ارتباط حلقاتها بعضها ببعض صورةً توضح كيف تتَّحِد أجزاء المعرفة عند دیكارت وكيف تتَّسق تلك الأجزاء بحيث يؤدي السابق إلى التالي، فمثل هذه الوحدة ليس هو ما يُقرُّه هيجل وتلاميذه، وهم أيضًا ممن يأخذون بمذهب الاتساق في الحق، لكنهم يتصورونه على وجه آخر.

فليس الأمر أمر «حقائق عدة» ارتبطت واتَّسقت في بناء يخلو من تناقُض الأجزاء وتنافرها، كما قد تصوَّره ديكارت، بل هو «حق واحد»؛ ﻓ «الاتساق» — كما يراه هيجل وأتباع مدرسته — ليس صفةً تُضاف إلى القضايا من خارجها؛ بمعنى أن تكون القضية الواحدة حقًّا وهي مُفرَدة معزولة قائمة وحدها ثم تظل على حقِّيَّتها أيضًا بعد أن تُضاف إلى غيرها في بناء، وغاية الأمر أنها في هذه الحالة الثانية يظهر اتِّساقها مع غيرها من أجزاء البناء، فمثل هذا الاتساق الديكارتي لا يكون هو الشرط الضروري للصدق، ما دام الصدق ليس متوقِّفًا عليه كما رأينا في احتفاظ القضية الصادقة بصدقها حتى وهي مُفرَدة. كلا، إنما الحق عند هيجل لا يتوافر إلا للبناء كله، ولا تكون القضية الواحدة حقًّا إلا وهي جزء من البناء، ولو عزلتَها لكنت بمثابة من يجذُّ جزءًا صغيرًا من جسم حي لا يكمل وجوده إلا وهو متكامل الأجزاء.

تلك صورٌ ثلاث قدَّمناها بين يديك لمذهب يری صِدق القضية الصادقة مستمَدًّا من اتساقها مع غيرها من القضايا لا في مقابلتها للأمر الواقع. وفي رأينا أن مثل هذا «الحق» الذي يعتمد كل الاعتماد على علاقة الصيغ اللفظية بعضها ببعض هو حق صوري يَصلح في مجال المنطق الخالص والرياضة البحت وما يجري على غِرارهما من ضُروب التفكير الاستنباطي، لكنه لا يَصلح وحده أبدًا في مجال الإخبار عن الطبيعة؛ ففي هذه الحالة الثانية لا مَحِيص لنا عن مقابلة الصيغة الكلامية التي نَسُوق فيها اعتقادًا ما، مع الطرف الخارجي الذي جاءت تلك الصيغة رمزًا يرمز إليه. ومثل هذه النظرية في طبيعة «الحق» تُسمَّى بنظرية المطابقة؛ لأنها تريد أن يكون ثَمة تطابُق بين الرمز من ناحية والواقعة المرموز إليها من ناحية أخرى.

إنه لا خلاف بيننا وبين أنصار «الاتساق» في أن القضية إذا كانت مشتقَّة من سواها، كانت وسيلة تحقيقها هي أن ننظر في استدلالها من أصلها لنرى هل كان سليمًا في استخراجه النتيجة من مقدماتها، أو بعبارةٍ أخرى فالقضية المراد تحقيقها إن كانت مُنتزَعة من قضيةٍ سواها، كانت علامة صِدقها هي اتساقها مع الأصل الذي انتُزعَت منه، ولكن موضع الخلاف الرئيسي هو القضايا الأولية التي منها نبدأ بناءنا العلمي حين يكون هذا البناء مشيرًا إلى الطبيعة؛ فكيف نتبيَّن وجه الحق في تلك القضايا الأولية؟ أما أنصار «الاتساق» فيَكِلُون الأمر إلى الحَدس؛ فبالحدس نُدرك صدق البدايات البسيطة، وأما أنصار نظرية التطابق فيجعلون صدق القضايا الأولية مرهونًا بإدراك شيء خارج عن حدود القضايا نفسها، وهو شيء جاءت تلك القضايا لترمز إليه، وعلى هذه القضايا الأولية أن تُطابِق ما قد جاءت لتُصوِّره أو لتشير إليه إشارةً دالَّة على طبيعته؛ فإن شاهدتُ بُقعةً صفراء مستديرة ذات خصائص فريدة مميَّزة، كانت هذه المشاهدة مُعطًى أوليًّا لا يمكن تحليله وإسناده إلى مصدرٍ سابق عليه، وكانت الجملة التي أعبِّر بها عن تلك المشاهدة جملة أولية لا يمكن ردُّها إلى مقدمةٍ أسبق منها، لكنني بعد ذلك أستطيع من هذه البداية الأولية أن أمضي في طريق الاستدلال العقلي، فأحكم أحكامًا يتوقف صِدقها على صدق تلك البداية الحسية الأوَّلية، كأن أقول مثلًا: إنه ما دامت هذه بقعةً صفراء فهي ليست بيضاء، أو إنها ما دامت مستديرة فيستحيل أن تكون مربَّعة الأضلاع ولا مربَّعة الزوايا، وهكذا. فالصدق في هذه الجُمل المشتقَّة يقوم على الاتساق بينها وبين الجملة الأصلية، وأما صدق الجملة الأصلية فلا بد أن يستند إلى علاقة بينها وبين شيء لا تكون طبيعته من طبيعة الرموز اللغوية، بحيث يصحُّ أن نقول إن الرمز اللغوي إنما جاء ليرمز إليه.

فماذا عسى أن تكون طبيعة هذا الشيء المُشار إليه بالرمز اللغوي، حين تكون القضية الرامزة أولية غير مسبوقة بمقدمةٍ أعم منها؟ هنا ينشعب مذهب التطابق شعبتَين؛ أُولاهما تُوجِب أن تشير القضية الأولية إلى جزء من خبرة الإنسان، والأخرى تُجيز للقضية أن تكون مشيرةً إلى واقعة خارجية دون أن تحتم دخول تلك الواقعة في مجال خبرات الإنسان.

إنه مُحال — عند أنصار الشعبة الأولى — أن نحكم على قضية بأنها صادقة إلا إذا كانت مفهومة المعنى أولًا، وفهمُ المعنى لا يكون إلا إذا كان لنا في خبراتنا ما يوضح لنا إلى أي شيء تشير الكلمات الواردة في القضية التي نقول عنها إنها مفهومة لنا وإنها فوق ذلك صادقة. ولو خلَت خبراتنا خُلوًّا تامًّا من كل ما يوضِّح لنا إلى أي المدلولات تشير الألفاظ المستخدَمة في جملةٍ ما، لَاستحال علينا فهمُ المعنى المقصود فضلًا عن الحكم على العلاقة القائمة بين الرمز ومعناه بأنها علاقة التطابق. وإن جملةً تقولها لي لا أعرف كيف أُترجم مضمونها في حدود خبرتي، لَهي جملة خارجة عن النطاق الذي أستطيع الحكم في حدوده بصدق أو ببطلان، فأقف إزاء جملتك لا موقف المُصدِّق ولا موقف المُكذِّب، بل موقف الذي لا يحكم على قولك بشيء حتى يفهم أولًا.

لكن هذا الرأي الذي يجعل الحديث الخارج بموضوعه عن حدود خبرة السامع، لا هو بالصادق ولا هو بالكاذب، هو رأيٌ سرعان ما يُسلِمنا إلى مشكلة منطقية، وهي التنكر لمبدأ الثالث المرفوع الذي يبدو كأنما يفرض نفسه على العقل فرضًا؛ فأنت تعلم أن أحد قوانين الفكر الثلاثة التي أخذ بها أرسطو، والتي رأی أن لا تفكير بغير افتراض قیامها، هو هذا القانون الذي يجعل الشيء المعيَّن الواحد إما «س» أو «لا – س»، ولا ثالث لهذين الاحتمالين؛ فالشيء الملوَّن إما أن يكون أبيض أو غير أبيض، والخط إما أن يكون مستقيمًا أو غير مستقيم، وهكذا؛ فكذلك القضية المعيَّنة إما أن تكون صادقة أو غير صادقة ولا ثالث لهذين الفرضين. أما أن تقول عن قضية إنها لا هي بالصادقة ولا هي بغير الصادقة لأن مضمونها خارج عن حدود خبرتك فلا تستطيع فهمها وبالتالي لا تستطيع الحكم عليها، فذلك قول يُجافي قانونًا أساسيًّا من قوانين الفكر كما رأينا.

لهذا نشأت شعبةٌ ثانية من مذهب التطابق، لا تجعل صِدق القول متوقِّفًا على مطابقته لجزء من خبرة المتكلم أو السامع كما هي الحال مع أنصار الشعبة الأولى، بل تجعله متوقِّفًا على مطابقته لواقعة من وقائع العالم الخارجي، سواء دخلت تلك الواقعة في مجال خبرتنا أو لم تدخل، وبهذا نحافظ على مبدأ الثالث المرفوع؛ لأن القول عندئذٍ سيكون إما صادقًا أو غير صادق ولا ثالث لهذين الاحتمالين، فهو صادق إن كانت هنالك الواقعة التي تُقابِله، وهو ليس بصادق إذا لم تكن هنالك تلك الواقعة، دون أن نشترط لتلك الواقعة أن تكون بين ما خبرناه.

ولعلك تلاحظ في هاتين الشعبتين من مذهب التطابق في القول الصادق أنهما تتَّفقان في جزء كبير من مجال القول؛ ذلك لأن كل ما هو صادق بناءً على خبرتنا التي خبرناها بالواقع، هو صادق أيضًا في رأي الشعبة الثانية التي تجعل الصدق علاقةً بين القول من جهة والواقعة المَقُول عنها القول من جهة أخرى، لكن العكس غير صحیح؛ أي إن ما يَصدُق بهذا المعنى الثاني قد لا يَصدُق بالمعنى الأول. وشرحُ ذلك هو أن خبرتنا إنما تتناول جانبًا من العالم الواقع دون جانب، وإذَن فكل خبرة لنا هي خبرة بواقع، لكن ما كل واقع قد وقع لنا في الخبرة؛ ولهذا كان القول الذي نحكم عليه بالحق مستندين إلى الخبرة، هو قول نحكم عليه نفس الحكم مستندين إلى الواقع. أما في حالة القول الذي نحكم عليه بالحق مستندين إلى الواقع مباشرة، فقد يكون هذا الواقع جزءًا من مجالنا الخِبري وقد لا يكون.

فلو جعل أنصار الحكم على أساس الخبرة طائفةً من القضايا الدالة على خبرات مباشرة سندًا لهم يرتدُّون إليه في أحكامهم على سائر القضايا الفرعية، ثم لو جعل أنصار الحكم على أساس الواقع الخارجي مباشرة طائفةً من القضايا الدالة على وقائع أوَّلية سندًا لهم يرتدُّون إليه في أحكامهم على سائر القضايا، كانت القضايا الأساسية عند الفريق الأول جزءًا من القضايا الأساسية عند الفريق الثاني، بحيث يتحتَّم على كل واحدة من تلك أن تكون واحدة من هذه، لكن العكس غير صحیح.

ولئن كانت الشعبتان مختلفتين في أي القضايا الأوَّلية يُتَّخذ سندًا لأحكامنا؛ أهي القضايا الدالة على الخبرة المباشرة وحدها، أم هي القضايا الدالة على وقائع أولية سواء وقعت لنا في الخبرة أو لم تقع، أقول إن الشعبتين إن اختلفَتا في هذا، فهما بعد ذلك متفِقتان على العلاقات اللغوية التي تُجيز لجملة أن تُشتقَّ من أخرى؛ فلكل فريق منهما نقطة ابتدائه، لكنهما يسيران بعد ذلك معًا في طريقٍ استدلالي واحد؛ إذ يتبعان طائفة واحدة من قواعد الاستنباط، التي هي نفسها قواعد التركيب اللغوي نفسه وقواعد التحويل من جملة في اللغة إلى جملة أخرى.

وهاتان الشعبتان معًا تنتميان إلى مذهبٍ في الحق واحد، هو مذهب التطابق بين القضية من ناحية وما جاءت القضية لتُشير إليه من ناحية أخرى، غير أن هذا التطابق لا يكون إلا في حالة القضايا الأوَّلية الأساسية عند كلٍّ من الشعبتين، وأما القضايا المشتقَّة المُستنبَطة من هذه فلا يكون صدقها صِدق تطابُق مباشر، بل يكون صدقها أول الأمر متوقِّفًا على صدق استدلالها من قضايا أخرى، وهذه من أخرى، حتى نصل في نهاية الشوط إلى قضايا أولية أساسية لا تكون مشتقَّة إلا من المصدر الرئيسي نفسه، وهذا المصدر هو خبراتنا عند إحدى الشعبتين، وهو الوقائع الخارجية عند الشعبة الأخرى.

ونحن في تقرير الحق لقضية إخبارية ننتمي إلى هذا المذهب — مذهب التطابق — في شعبته التي تشترط أن يكون سندنا الأخير هو خبرتنا؛ فما ليس جزءًا من خبراتنا يستحيل عندنا أن يكون له معنًى؛ وبالتالي فهو مستحيل على الحكم بصدق أو ببطلان؛ فإن قيل لنا إن هذا الموقف ينتهي بنا إلى التنكر لقانون الثالث المرفوع؛ إذ نحن قَمِينون بهذا الرأي أن نقف إزاء جملة لم يقع مضمونها في خبرة لنا، أن نقف إزاءها قائلين إنها لا هي صادقة ولا هي غير صادقة؛ كان جوابنا على هذا الاعتراض أن الحكم بالصدق أو بغيره لا يكون إلا لما يمكن اعتباره قضيةً من وجهة النظر المنطقية، ولا يُعَد قضيةً بحكم منطق اللغة نفسه إلا كلامٌ يَصلح أن يقال عنه إنه صادق أو إنه كاذب. أما إن كان الكلام غير مفهوم المعنى لم یكن قضية؛ لأنه عندئذٍ لا يحمل للسامع دعوی يمكنه الحكم فيها. إن الصفة الواحدة قد لا يُقصَد بها أن تصف كل شيء؛ فاللون مثلًا يصف أشياء ولا يصف أشیاء أخرى، ولا تناقُض في ذلك؛ فهذه الشجرة خضراء، وتلك الحمامة بيضاء، لكن العدد لا لون له والفضيلة لا لون لها وهكذا. والتربيع أو عدم التربيع إنما نصِف به أشكالًا هندسية؛ فهذه الورقة مربَّعة، وتلك الكرة ليست مربَّعة، أما الأكل والشرب والمشي والجري، وأما الشجاعة والجبن والكرم والبخل، فلا يقال عنها إنها مربَّعة أو ليست مربَّعة، دون أن نتعرَّض بذلك لمبدأ الثالث المرفوع، وكذلك الوصف بالحق أو بالباطل، بالصدق أو بالكذب، لا يُوصَف به كل شيء، بل لا يُوصَف به كل كلام، إنما يُوصَف به فقط ذلك الجانب من كلامنا الذي نَسُوقه ليحمل للسامع دعوانا أو اعتقادنا عن شيءٍ معيَّن، فعندئذٍ فقط يمكن وصف هذه الدعوى بالحق أو بالبطلان، أما سائر أنواع الكلام التي لا تحمل في طيِّها دعاوی، كالمُستفهِم مثلًا أو المُتعجِّب — ودَعْ عنك بقية الأشياء التي ليست من قبيل الكلام ولا من قبيل الاعتقادات، فلا يجوز وصفها بحق أو باطل؛ لأن مثل هذا الوصف عندئذٍ سيخلو من المعنى.

٤

ما دمنا نجعل «الخبرة» عمادنا في تمييز ما له معنًى مما ليس له، فما أحرانا أن نُحدِّد معنى «الخبرة» تحديدًا يُزيل ما يُحيط باللفظ من غُموض. إننا نزعم أن الكلام ذا المعنى المفهوم هو ما أمكن ترجمة مضمونه إلى خبرات وقعَت لنا، وأما إن حاولنا مثل هذه الترجمة لجملة من الجُمل فلم نستطِع، كانت تلك الجملة غير مفهومة لنا، وبالتالي كانت غير ذات معنًى؛ فماذا نريد ﺑ «الخبرة» في هذا السياق؟ فالظاهر أن لهذه الكلمة معاني كثيرة تَرِد في السياقات المختلفة، وإن يكن هنالك العنصر المشترَك الذي يسري في تلك المعاني الكثيرة فيجعلها جميعًا أعضاء أسرة واحدة، هي التي نحاول الآن أن نجد السمة الشائعة بين أفرادها.

فمن الوجهة اللغوية يكون للكلمة معنًى يقع في حدود «الخبرة» إذا ما كان لتلك الكلمة تعريف تُحدِّده الإشارة إلى مُسمًّى معيَّن؛ فإذا ما كانت الكلمة رمزًا يشير إلى كائن معیَّن محدَّد بين الكائنات، قلنا إن لها معنًى في عالم «الخبرة»؛ فاسم العَلم الذي يُسمِّي فردًا من أفراد الكائنات كلمة من هذا القبيل، مع ملاحظة ما قد أسلفنا الحديث فيه بالتفصيل (راجع الفقرة ۳ من الفصل الرابع)، وهو أن أسماءً ﮐ «العقَّاد» أو «المقطَّم» أو «النيل» وإن يكن قد جرى العُرف على اعتبارها أسماء أعلام، إلا أن كل اسم منها — من وجهة نظرنا — يدل في الحقيقة على مجموعة كبيرة من الحالات المتعاقبة؛ وإذَن فاسم العَلم الحقيقي هو الاسم الدال على حالة واحدة من هذه الحالات الكثيرة، وأفضل ما يؤدِّي مهمةَ اسم العَلم من الألفاظ هو لفظٌ كل مهمته أن يشير، مثل كلمة «هذا» نقولها مشيرين إلى حالة بعينها في كائن بعينه. وبديهي أن المشير لا يشير إلا إذا كان هنالك شيء يُشار إليه؛ ومن ثَم كان اسم العَلم — بهذا التحديد لمعناه — كلمة ذات معنًى يقع في عالم «الخبرة».

ماذا يدل عليه اسم ﮐ «ابن خلدون» من عالم الخبرة؟ إن ابن خلدون الرجل لم يقع لأحد منا في خبرته؛ بمعنى أن أحدًا منا لم يرَه في أية حالة من حالاته الواقعة، ولكننا قرأنا كلمتَي «ابن خلدون» في مواضع عدة من كتبٍ عدة، فهاتان الكلمتان مكتوبتَين في تلك المواضع هما كل «خبرتنا» التي تجعل للاسم معنًى، وكذلك اسم «سندباد» الذي ورَدَ في القصص الخيالية يكون له معنًى في «خبرتنا» بمقدار ما قد رأيناه واردًا في السياقات التي ورَدَ فيها. والفرق بين معنی «ابن خلدون» ومعنى «سندباد» هو أننا نستطيع أن نتابع الحالات التي ورد فيها اسم «ابن خلدون» حتى نبلغ مرحلةً نقتنع عندها بأن لهذا الاسم مسمًّی حقيقيًّا كان بين أفراد البشر، وأما بالنسبة لاسم «سندباد» فمهما تابعناه في مواضعه التي ورد فيها فلن نبلغ خطوةً في طريق السير نقتنع عندها أن للاسم مُسمًّى خارج الصفحات التي ورَدَ مكتوبًا عليها. وعلى كل حال ﻓ «الخبرة» التي تجعل لكلٍّ من الاسمين السالفَين معنًى، هي رؤية الاسم مكتوبًا أو سمعه منطوقًا، وليست هي الشخص المُسمَّى مرئيًّا أو محسوسًا بأية حاسَّة أخرى.

وبكلمةٍ مُوجَزة نقول: إن الكلمة يكون لها معنًى خِبريًّا إذا لم نوضح معناها بكلمة أخرى، بل بالإشارة المباشرة إلى حالة من حالات الواقع المحسوس؛ فإذا قلت لك عن اللون الأحمر إنه هو اللون الواقع في آخر ألوان الطيف الشمسي، كنت بمثابة من يوضح لك الكلمة بكلمات أُخرَيات، أما إذا قلت لك عن اللون الأحمر إنه هو «هذا» مشيرًا إلى بقعة لونية أمامنا، كنت بذلك أُحدِّد معنى كلمة «أحمر» بالرجوع إلى الخبرة رجوعًا مباشرًا. على أن الكلمة التي نوضحها بكلمة أو كلمات أخرى (كما يفعل القاموس في شرح الألفاظ) إذا ما استطعنا أن ننتهي بهذا التعريف اللفظي إلى مرحلة يمكن عندها الإشارة إلى المُسمَّى الفعلي في عالم الواقع المحسوس، نقول عنها إنها ذات معنًى خِبري، إن لم نصل إليه بخطوة واحدة فنحن مستطيعون الوصول إليه بعد خطوتين أو ثلاث.

حلِّل هذا الذي قلناه عن معنى «الخبرة» حين نقول عن كلمةٍ ما إن لها معنًى في «الخبرة»، تجد الأمر يرتدُّ إلى «عادة» يُكوِّنها الشخص الذي يتعلم كلمة ومعناها على هذا النحو، وما دام الأمر كذلك ﻓ «الخبرة» — إذَن — هي «عادة» نربط بها بين رمز لُغوي وشيء مرموز إليه بذلك الرمز. إنني إذ أُشير لطفل يتعلم اللغة في أعوامه الأولى قائلًا له كلمة «أحمر» ومشيرًا له إلى بقعة لونية حمراء، فإنني بذلك أعمل على أن يربط الطفل صوتًا معيَّنًا بانطباع بصري معيَّن؛ فإذا ما بلغ هذا الربط عنده من القوة حدًّا يُمكِّنه إذا ما رأى أحد الطرفين أن يستحضر الطرف الآخر في ذهنه، فلو قلت له لفظة «أحمر» دون أن يكون اللون الأحمر في مجاله البصري استحضر اللون، وإذا رأى اللون حاضرًا استحضر اللفظ، أقول إن الربط بين الطرفين إذا ما بلغ عنده هذا الحد، كان بمثابة من كوَّن لنفسه عادة؛ وإذَن فلو قلنا عن الطفل عندئذٍ إن له «خبرة» باللون الأحمر، كان معنی قولنا هذا هو أن الطفل قد كوَّن العادة التي تربط بين كلمة معيَّنة وما تشير إليه الكلمة في عالم الأشياء.

إن الذي يفرق بين الأحياء والجوامد هو الوعي، على أن الأحیاء تعود فتتفاوت في درجة وعيها بما حولها. وليس يقتصر الوعي على مجرد تأثُّر الكائن الواعي بما حوله، فلسنا نقول — مثلًا — عن الترمومتر إنه على «وعي» بما حوله ما دام عمود الزئبق فيه يتأثر بالحرارة المحيطة به؛ فالجانب المهم من صفة «الوعي» التي تُميِّز الحي من الجامد أولًا، ثم تُميِّز الإنسان من سائر درجات الأحياء ثانيًا، هو احتفاظ الكائن بما قد وعاه في لحظة ماضية، وربطه بغيره من حالات الوعي الأخرى، بحيث يكون من الطرفين «عادة» تجعل أحد الطرفين وحده كفيلًا أن يستحضر الطرف الآخر في مجرى الشعور، ومن مجموعة هذه العادات تتألَّف «الخبرة».

فماذا نعني — في ضوء هذا الذي قلناه — حين ندعو إلى وجوب اعتماد معنى جملةٍ ما على «الخبرة» وحدها، ما دام الفرض في تلك الجملة هو أنها تُنبِئ عن جزء من العالم الخارجي بنبأٍ ما؟ إن ما نعنيه على وجه الدقة هو أن يكون السامع لتلك الجملة قد كوَّن لنفسه عادات بالنسبة إلى كل لفظة واردة في الجملة، بحيث يكون أحد الطرَفَين المرتبطَين في كل حالة من الحالات انطباعًا حسِّيًّا، ويكون الطرف الآخر لفظًا نُسمِّي به ذلك الانطباع، وبالطبع لا يكون الاعتماد على الخبرة كاملًا إلا إذا كان الانطباع الحسِّي الذي هو المَرجِع في فهم معنى الكلمة التي تُسمِّیه انطباعًا باشرتُه بنفسي؛ أي إن الاعتماد على الخبرة لا يكون كاملًا وافيًا إلا إذا كانت الخبرة خبرتي أنا؛ فلو قلت إني أرى بقعةً حمراء، أو قلت إني أُحِس ألمًا في ضرسي، كان معنى الجملة عندي معتمِدًا على خبرةٍ مباشرة أُمارِسها، لكن مثل هذه الخبرة المباشرة ذاتيٌّ كما ترى، خاص بصاحبه، ولو قصَرْنا أنفُسنا عليه وحده لما كان هنالك سبيل للتفاهم؛ أعني أن طريق الاستفادة بخبرات الآخرين ينسدُّ فلا يكون به مَنفذ نتسلَّل منه إلى تلك الخبرات الأخرى فنُوسِّع بها مدى عِلمنا بالعالم الذي نعيش فيه.

وسبيل الاتصال بيني وبين الآخرين، بحيث يُوصِّل كلٌّ منا خبراته إلى سواه، هي أن يقدِّم المتكلم للسامع قالبًا فارغًا قوامه العلاقات القائمة بين أطراف خبرته مجرَّدة عن مضمون أطرافها المتعلقة بها، فيملأ السامع هذا القالب الفارغ من مخزون ذاكرته بما يجعل جملة المتكلم مفهومة له، فإذا لم يجد في ذلك المخزون ما يُسعِفه في ملء ما يريد أن يملأه، ظلَّت جملة المتكلم مُستغلِقة على فهمه؛ يقول المتكلم لمن يتحدَّث إليه — مثلًا — «لمع البرق ليلة أمس»، فلا ينقل إليه بهذا الحديث «لمعة» كلمعة البرق، بل ينقل إليه «لفظًا» أملًا في أن يكون السامع قد كوَّن في حياته الماضية «عادات» شبيهة بعادات المتكلم؛ أي أن يكون السامع قد رأى في حياته الماضية لمعة البرق، ووجد إلى جواره من يقول له «بَرْق» في تلك اللحظة نفسها، بحيث ارتبط اللفظ المسموع باللمعة المرئية وتكوَّنَت «العادة» أو «الخبرة» التي تجعل كلمة «البرق» بعد ذلك مفهومة، لكن هذا السامع إذا ما فهم عن المتكلم معنی عبارته «لمع البرق»، فإنما يفهمها لا بلمعة البرق التي رآها المتكلم، بل بلمعة البرق التي كان السامع قد رآها في خبرته الماضية واستذكرها الآن بمناسبة ذِكر اللفظ المرتبِط بها.

بهذا نفهم مذهب الوضعيين المنطقيين الذي يربط ربطًا وثيقًا بين معنى الجملة من جهة وطريقة تحقيقها من جهةٍ أخرى؛ فما ليس لدينا طريقة لتحقيق صِدقه يكون كلامًا بغير معنًى، وما يكون كلامًا ذا معنًى هو ما نملِك وسيلة التحقق من صِدقه، والتحقق من الصدق لا يكون — بالبداهة — إلا إذا فُهِم للكلام معنًى، وفَهمُ المعنى لا يكون إلا إذا كانت لدينا خبرات ماضية تستثيرها في الذاكرة ألفاظ الجملة المراد فَهمُها وتحقيقها. هكذا يتَّصل «معنى» الجملة ﺑ «تحقيق صدقها» اتصالًا يجعل قيام أحدهما مستحيلًا بغير الآخر، فيستحيل أن يكون لكلامٍ «معنًى» بغير أن يكون الكلام ممكن التحقيق على أساس خبراتنا، ويستحيل أن يكون تحقيق الكلام ممكِنًا بغير أن يكون له معنًى مفهوم استنادًا إلى خبراتنا.

إن لنظرية المعرفة عندنا جانبَين هامَّين يتوقف الواحد منهما على الآخر؛ فهنالك — أولًا — السؤال الذي يسأل: في أي الظروف يكون للجملة من كلامنا معنًى (ونريد المعنى الذي به يكون للكلام إشارة إلى شيء من الواقع)؟ ثم هناك — ثانيًا — السؤال الذي يسأل: كيف يُتاح لنا أن نعلم إذا كانت الجملة (ذات المعنى) صادقة في إخبارها عن العالم أو كاذبة؟ وهذا السؤال الثاني — كما تری — متوقِّف على السؤال الأول؛ لأن ما يتقرَّر عنه في الخطوة الأولى أنه غير ذي معنًى، لا يُسأل عن صدقه أو كذبه. على أن الإجابة عن السؤال الثاني هي التي تُحدِّد ما يكون للجملة من معنًى؛ لأنني حين أرجع إلى الخبرات التي تُثبِت صدق الجملة، أكون بهذا نفسه قد حدَّدتُ الخبرات التي تجعل للجملة ما لها من معنًى.

وأكرِّر هذا في عبارةٍ أخرى زيادةً في توضيحه، إننا إزاء الجملة المعيَّنة نسير مرحلتَين؛ ففي المرحلة الأولى نسأل: أي الخبرات «يمكن» أن يجعل للجملة معنًی؟ وفي المرحلة الثانية نسأل: هل هناك من الخبرات القائمة «فعلًا» ما يجعل تلك الجملة صادقة؟ فإذا كنا إزاء السؤال لا ندري نوع الخبرات التي «يمكن» أن يجعل للجملة معنًى، حذفناها من زمرة الكلام المفهوم، واستغنَينا عن المرحلة الثانية التي هي مرحلة تحقيق صدقها؛ فإذا قيل لي مثلًا إن «المُطلَق أزليٌّ أبدي» كان السؤال الأول إزاء هذا القول هو: هل عندي من الخبرات التي أختزنها في ذاكرتي ما «يمكن» أن يجعل لهذه الكلمات الثلاث معنًى؟ فإن لم أجد مثل هذه الخبرات، كان من العبث أن أنتقل إلى السؤال الثاني الذي يسأل إن كان هذا القول صادقًا أو غير صادق؛ لأنه لكي أسأل هذا السؤال الثاني، يجب — بداهةً — أن أفهم ماذا عسى أن يكون معنى الجملة المعروضة إذا ما ثبت أنها صادقة. وأما إذا اجتزنا المرحلة الأولى موفَّقين بأن عرَفْنا نوع الخبرات التي تجعل للجملة معنًى، انتقلنا بعدئذٍ إلى المرحلة الثانية التي هي البحث عن الخبرات «الفعلية» التي حدَّدنا نوعها في المرحلة الأولى، والتي إن وجدناها قلنا عن الجملة إنها ليست فقط ذات معنًى مفهوم، بل إنها كذلك صادقة تُنبِئ عن العالم نبأً صحيحًا.

معنى العبارة هو نفسه طريقة تحقيقها؛ فإذا لم نجد لتحقيقها طريقةً كانت عبارة بغير معنًى؛ هذا هو مبدؤنا الذي نحذف على أساسه العبارات الميتافيزيقية كلها؛ لأننا نلتمس طريقةً لتحقيق هذه العبارات فلا نجد. يقول لنا الميتافيزيقي — مثلًا — إن العالم أصله عقل، وإن هذه الأشياء المادية التي نُحسُّها إن هي إلا ظواهر ذلك العقل، فلا نقول لذلك الميتافيزيقي إنه أخطأ القول، بل نطلب منه قبل ذلك أن يُبيِّن لنا كيف نتحقق — على أساس خبراتنا — من صِدق عبارته؛ لأنه إذا لم يكن هنالك وسيلة لذلك التحقق من صِدقها كانت عبارة خالية من المعنى، وكنا بالتالي على ضلال إذا وصفناها بحق أو بباطل؛ لأن ما يُوصَف بهذا الوصف أو ذلك هو الكلام ذو المعنى، والمعنى تُحدِّده طريقة التحقيق.

وإنه لَيَكفينا أن نجد طريقةً للتحقيق «إمكانًا» إذا لم يكن التحقيق «الفعلي» في حدود المستطاع، إذا قال قائل عن وجه القمر الذي لا يواجه الأرض أبدًا (فالقمر يواجه الأرض دائمًا بوجهٍ واحد ويُخفي الوجه الآخر) إن به جبالًا ووديانًا، فلا نرفض مثل هذا القول على أساس خُلوِّه من المعنى، بل نقرِّر له معناه على الرغم من استحالة التحقق الفعلي من صِدقه لاستحالة أن يری راءٍ وجه القمر الذي يدور عنه الحديث. نعم إننا نقرِّر لهذا القول معنًى لأن ألفاظه كلها مما قد تعوَّدنا في مجرى الخبرة أن نربط بها ألوانًا من الحسِّ معلومة، فنحن على علم بنوع الانطباعات الحسية التي يتلقَّاها الرائي إذا رأی جبلًا أو رأی واديًا.

لكن مِقياسنا هذا الذي نستخدمه لِنمیز به ما نَقبله وما نرفضه من القضايا، يجد من المعارضة والمقاومة سيلًا لا ينقطع في المؤلفات والدوريات الفلسفية، فحسبُه خطرًا أنه ينتهي بصاحبه إلى حذف الميتافيزيقا حذفًا. والميتافيزيقا — كما تعلم — هي حصن الفلسفة الحصين، الذي تستقلُّ به الفلسفة دون سائر ضروب المعرفة؛ ولذلك فهي حريصة على أن يظل مَصُونًا من الأذى، فإذا رأينا معيارًا نقيس به مشروعية العبارة المعيَّنة من عبارات اللغة، بحيث يؤدِّي بنا إلى التنكر للعبارات الميتافيزيقية كلها، فالويل للمعيار والسلامة للحصن الذي يُراد له البقاء. ولو كان معیارنا هذا أمرًا تحكميًّا نفرضه جزافًا لجاز للمهاجمين أن ينكروه، لكنه معیار مُنتزَع من منطق اللغة نفسها، تلك اللغة التي لا يجد الميتافيزيقيون بدًّا من استخدامها للتعبير بها عن مذاهبهم، وأي شيء هو أدنى إلى البداهة من قولنا إن الجملة إذا أُريدَ لها أن تُخبِر بخبر عن العالَم وجب أن تكون كلماتها دالة على جوانب من خبرات السامع؟ فإذا لم تكن تلك الكلمات — باعتراف قائليها أنفسهم — مما يدل على شيء يقع في حدود الخبرة، أفلا نحكم عليها ونحن مطمئنُّون لصواب حُكمنا بأنها إذَن تكون كلمات فارغة لا تؤدِّي إلى السامع خبرًا؟

ومن بين الناقدين للوضعية المنطقية في معيارها المذكور برتراند رسل،٥ فيتقدم باعتراضات منها أننا لو جعلنا معنى الجملة متوقِّفًا على وسائل تحقيقها لما كان لجملةٍ معنًى لأنه ليس هنالك جملة كاملة في وسائل تحقيقها؛ ذلك لأن وسائل تحقيق الجملة تتناول النتائج التي تترتَّب على صدقها، وهذه النتائج تمتدُّ ما امتدَّ الزمن؛ وإذَن فلا سبيل إلى معرفتها، وبالتالي فلا سبيل إلى تحقيقها. وقد كنا لنقبل هذا الاعتراض لو كنا نزعم أن التحقيق الذي نُريده للجملة لكي يجعل لها معنًى، هو التحقيق الذي ينتهي بنا إلى اليقين الكامل، ولكننا نعترف بأن مدى عِلمنا إزاء أي جملة خبرية هو درجة من الاحتمال قد تعلو إلى أي حد شئت، لكنها لن تكون يقينًا كاليقين المألوف لنا في الرياضة؛ إذ يكفي أن تكون ناقلًا في جملتك خبرًا ليكون نقلك هذا — من الوجهة المنطقية — مُعرَّضًا للخطأ، وبذلك يكون صدقه — في حالة الصدق — احتماليًّا لاحتمال أن يكون كاذبًا؛ فإذا قلت لك — مثلًا — إن النيل يَفِيض في شهر أغسطس من كل عام، لم يكن من حقك أن تعترض — كما اعترض رسل — قائلًا بأنه لو كان معنى هذه الجملة هو نفسه وسيلة تحقيقها، كانت بغير معنًى لأن تحقيقها الكامل مُحال، وهو مُحال لأنني إذا علمت أن النيل قد فاض في أغسطس من كل عام مضى، فلا يمنع مانعٌ منطقي من غياب هذه الظاهرة في الأعوام المقبلة؛ وإذَن فلأنتظر طوال هذه الأعوام المقبلة قبل أن أقضي بالصواب على هذه الجملة، وقبل أن أقضيَ بأن لها معنًى؛ لأن تحقيق صوابها وكونها ذات معنًى هما وجهان لشيء واحد؛ أقول إنك لو اعترضت بمثل هذا، أجبناك بأن الصدق المزعوم للجملة الإخبارية قُصاراه أن يكون احتماليًّا بدرجة عالية، فإن كانت خبرة الماضي عن فيضان النيل تُبرِّر لي أن أرجِّح ماذا سيكون عليه في المستقبل، كان هذا الترجيح وحده كافيًا للحكم بصواب الجملة وللقول بأنها جملة تحمل معنًی ما دامت جملةً ممكنة التحقيق.

ومن الاعتراضات التي يعترض بها «رسل» أيضًا على معيارنا في قبول الجملة أو رفضها على أساس إمكان تحقيقها أو عدم إمكان ذلك، قوله إن ذلك المعيار نفسه هو بمثابة جملة لا يمكن تحقيقها وبالتالي فهي جملة ليست بذات معنًی ولا يجوز قبولها؛ فلو جاز لي أن أقبل جملةً مثل «البرتقال أصفر» لأن الرجوع بمضمونها إلى الخبرة أمرٌ ممكن، فأين الخبرة التي أرجع إليها لأتحقَّق من معنى جملة تقول: «العبارة التي لا يمكن تحقيقها هي عبارة بغير معنًى»؟ ولسنا ندري بماذا نُجيب إلا بشيء من منطق رسل نفسه، وهو نظريته في الأنماط المنطقية التي تجعل نوع الحكم الجائز في نمطٍ معيَّن غير جائز في نمطٍ آخر، فما تحكم به على الأفراد لا يصلح للحكم على الفئات، وما يصلح للحكم على الفئات لا يصلح هو نفسه للحكم على فئات الفئات وهكذا؛ فإن جمعتَ قائمةً من قضايا وأمكنك أن تصف كلًّا منها بوصفٍ ما، فلا يجوز أن تقول هذا الوصف نفسه بالنسبة لمجموعة القضايا كلها، وعلى ذلك فلا يجوز أن أُطالِب بتطبيق المبدأ الذي أُطبِّقه على أعضاء القائمة وهي فُرادی، على الجملة العامة التي تُقال عن سائر هذه الأعضاء دفعةً واحدة؛ إن مِصداق كل جملة مُفرَدة هو الواقعة الخارجية التي جاءت تلك الجملة لتصِفها، أما الجملة العامة التي تُقال عن مجموعة الجُمَل المُفرَدة مِصداقها هو الجمُل المُفرَدة نفسها لا عالم الواقع وعالم الخبرة المباشرة، ومن هنا لم يكن يجوز للناقد أن يسأل عن الخبرة التي نؤيِّد بها قضيةً عامة تُقال عن سائر القضايا. ولأضرب مثلًا موضِّحًا قبل أن أترك الحديث في هذه النقطة لأنها نقطة كثيرًا ما تَرِد على أقلام الناقدین، فافرض أن في مكتبتي مائة كتاب، وأنني وصفت كل كتاب بجملة، فأقول مثلًا هذا الكتاب الفلاني يبحث في حياة سقراط وفلسفته، وهذا الكتاب الثاني يشتمل على مذكرات كتَبها فیلسوفٌ معاصر وهكذا، ثم افرض أني قلت عن هذه الجُمَل المائة بعد الفراغ منها هذه العبارة الآتية: «هذه الجُمَل كلها أوصاف للكتب التي في مكتبتي.» فها هنا ترى أن الجُمل المُفرَدة يتحقق صِدقها بالرجوع إلى الوقائع الخارجية؛ أي إلى الخبرة المباشرة بما هنالك، وأما الجملة العامة التي تشير إلى الجُمَل المفرَدة فلا يكون تحقيقها بالرجوع إلى خبرة حسية كما هي الحال في الجُمَل المُفرَدة، بل يكون تحقيقها بالرجوع إلى الجُمَل المُفرَدة نفسها. ونعود بعد هذا الشرح كله إلى قول الناقد للوضعية المنطقية بأن معیارها القائل بأن ما ليس يمكن تحقيقه بالخبرة لا يكون ذا معنًى، هو نفسه قولٌ لا يمكن تحقيقه بالخبرة؛ وإذَن فهو قول بغير معنًى، نعود إلى قول الناقد هذا لنرُدَّه بما أسلفناه من شرح يوضِّح اختلاف النمط في كلٍّ من الحالتين، ومع اختلاف النمط بين قضيتين — واحدة تشير إلى واقع، وأخرى تشير إلى القضية الأولى لا إلى الواقع — أقول إنه مع اختلاف النمط بين قضيتين لا يجوز الحكم عليهما بصفة واحدة.

١  Ayer, A. J., Language; Truth and Logic، ص٨٩.
٢  Human Knowledge، ص١٢٩.
٣  Human Knowledge، ص١٦٠.
٤  Harold H. Joachim, The Nature of Truth، ص٧١.
٥  Russell, Logic and Knowledge، ص٣٧٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤