الفصل الأول

(١) في قبضة الأقزام

لم أكَد أُفيق من نومي حتى رأيتُ نور الشمس قد ملأ الدنيا، فحاولت أن أنهَض، فرأيتُني لا أستطيع النهوض، وذهبتْ مُحاولتي عبثًا، فلقد وجدتُني مستلقيًا على ظهري وأنا مُوثَقُ اليدين والسَّاقين، وقد شُدَّ شَعري إلى الأرض بخيوط دقيقة، ورأيت كثيرًا من تلك الخيوط ملفوفًا حول جسمي — من الْمَنكِبيْن إلى الفَخِذَيْن — وكانت الشمس مُرسِلة أشِعَّتها القوية على عينيَّ، فحاولت أن ألتفت يَمْنَةً أو يَسْرَةً فلم أستطع إلى ذلك سبيلًا. وقد تَأَذَّتْ عيْناي بِوَهَجِ الشمس، وكادتا تَتْلفَان، ثم طرقت أذُنَيَّ أصواتٌ خافِتة غريبة بالقرب مني، فحاولت أن أرى مصدرَها، فلم أستطع أن أتبيَّنَه، لأن ضوء الشمس — الذي كاد يُتلف عينَيَّ — منعني أن أرى شيئًا. ثم شَعرْت بأشياءَ تتحرك على ساقي اليُسْرَى مُرتَقِيَةً بخفَّة إلى صدري، وما زالت سائرةً حتى وصلت إِلى ذَقْني!

وشدَّ ما كانت دهشتي حين رأيت أمامي وجه إنسان صغير لا يَزيد طولُه على إصْبَعَين، وبيده قوس وسهم صغيران، وعلى ظهره جَعبة مملوءة بالسِّهام الصغيرة. ثم رأيت نحو أربعين شخصًا — في مِثْل طوله وهيئته وزيِّه — فصرخت من فَوْري صرخاتٍ مزعجةً، فأسرعتْ تلك الحشراتُ الآدمية هاربةً، وامتلأت قلوبُهم رُعبًا وهَلعًا، وأُصِيب بعضهم — كما علمت فيما بعدُ — بجروح خَطِيرة حين هَوَوْا إِلى الأرض. وقد حسِبتُني خلَصت من شرهم، ولكنني لم ألبث أن رأيتهم يقفِزون على جسمي مرة أخرى، وقد جَرُؤَ أحدهم فتقدم حتى وصل إلى وجهي ورفع يديه وفتح عينيه مُتَفَرِّسًا في ملامِحي، وقد بدت على أساريره أماراتُ الدهشة والعجب، ونطق بجملة لم أفهم معناها، فأعادها رفاقه مُهَلِّلين مكبِّرين.

(٢) حربُ الأقزامِ

وفي استطاعة القارئ أن يُمَثِّل لنفسه حَرَجَ موقفي، وشدة دهشتي حين رأيتُني مُكَبَّلًا مُوثَّقًا بالحبال من غير جَرِيرَةٍ ارتكبتُها. وقد كان من الطبيعي أن أبذل كلَّ ما في وُسْعي لأتخلصَ من تلك القيود، فرفَعتُ رأسي — بقوة شديدة — فانقطع كثير من الخيوطِ الدقيقةِ التي شُدَّ بها شَعري من الجهة اليمنى، وقد تألَّمْتُ لذلك أَلمًا شديدًا، ولكنني استطعتُ أن أُحرِّكَ رأسي يَمْنَةً ويَسْرَةً فأَرى شيئًا مما حولي، ثم جَذَبْتُ يَدِيَ اليمنى بقوة فقطعتُ الخيوطَ التي أوثقوني بها.

وما إن رَأَى الأقزامُ ما صنعتُ، حتى شمِلهمُ الفَزَع، وهربوا مذعورِين، ونطق أحدهم بجملة لم أفهمها، وما أَتمَّها حتى أَطلق أَصحابُه أَكثرَ من مائة سهم على يديَ اليمنى، ثم أَتْبعوها بسهامٍ — لا عِدادَ لها — قذفوا بها في الهواء ليُرهبوني، فأكفَّ عن مُقاومتهم. وقد أَحسست من وقعِ هذه السهام مِثلَ وَخْزِ الإبَرِ، وتألَّمْتُ منها — على دِقَّتها وصِغَرِها — أَشد الألم.

فصَبرت قليلًا، ثم تجمَّعَتْ شجاعتي، فهممت بفكِّ قُيودي مرَّة أُخرى، وما فعلتُ حتى أَمْطَرَني الأقزامُ وابِلًا من سهامهم الدقيقة، وكنت — لِحُسن حظِّي — مُرتديًا صِدارًا من جلد الجاموس، فلم تنفُذ إِلى صدري سهامهم.

ولَمَّا رأَيت أَن كلَّ محاولة للفَكاك لن تَنْتُج إلا شرًّا، آثرْتُ الهدوء والسَّكينةَ، وانْتَوَيْتُ البقاء إلى الليل ليتسنَّى لي فَكُّ قيودي في الظلامِ.

(٣) خَطيبُ الأقزامِ

وما إن رأَوْا هدوئي واستسلامي، حتى كفُّوا عن إِطلاق سهامهم، وكنتُ أَراهم يزدادون زيادة مُطَّرِدة — لَحْظة بعد أُخرى — فلم تُخِفْني كثرةُ عَددهم، لأنني كنت على يقين من قدرتي على الفَتْك بأكبرِ جيش من جيوشهم، وسحقهِ بأقدامي — مهما يكثُرْ عددُه — بأيسر جُهد. وبعد قليل سمعت صوْت عمَّال منهمكين في العمل، فأدرتُ رأْسي يَسْرَةً، فرأَيت جماعة من الأَقزامِ يعملون بِجدٍّ في إقامة مِنْبَرٍ على جانبيه سُلَّمانِ، فلما أَتَمُّوه صَعِد إليه سَيِّدٌ مِن سَراتهم، ولم يكد يبلغ أَعلاه حتى نَهَكَهُ التعب. وكان ارتفاع هذا الْمِنْبَرِ الذي أَعْلَوْهُ قدمًا ونصفَ قدم، وقد صعِد — مع هذا السَّرِيِّ — ثلاثةٌ من خدمهِ، فوقف واحد منهم إِلى يمينه، وآخرُ إِلى يساره، وثالثٌ من ورائِه يحمل أَطرافَ ثوْبِه الطويل. ثم أَخذ الخطيب يُلْقي عليَّ خطبة طويلة لم أَفْقَهْ منها كلِمةً واحدة. وكان يصيح بأعلى صوته، وأَنا لا أَكاد أَسمع منه إلَّا جَرْسًا خافِتًا، وهو على قِيدِ شِبْرٍ مني، وكان صوْتُهُ الخافِتُ مناسبًا جسمَه الضَّئيلَ، ولم يكن شابًّا ولا شيخًا، بل كَهْلًا تَلُوحُ على وجههِ أَمارات النشاط والْجِدِّ وقد عرفتُ — من حركاتِه وَإشاراته، وَطَلاقة لِسانه، وإعجاب سامِعيه بحسن بَيانِه — أَنه من خُطبائهم النابغين الْمُتَصَرِّفين في فنون القول وأَساليب البيان.

ورأَيت من حسن الأدب أَن أَرُدَّ على خطبته — وإِن لم أَفهم منها كلمة واحدة — بإِشارات الخضوع والاستسلام، فهمست بكلمات خافتة حتى لا يُؤْذيَه صوتِي الطبيعيُّ الذي كان — لارتفاعه — يُزعجهم ويُؤذيهم، ويُصِمُّ آذانهم، وَأَشَرْتُ إليه بما يفهم منه أَنني جائع، فنزل عن مِنبره، وأَمر من حولهُ بإِحضار ما أَحتاج إليه من طعام وشراب.

(٤) طعام «جَلِفَر»

وبعد قليل أَحضروا إليَّ من الطعام والشراب ما حَسِبوا أَنه يكفيني، ثم صَعِدَ إِلَيَّ أَكثرُ من مائة قَزْم على سلالِمَ وضعوها على جسمي، وساروا مُرْتفعين إِلى فمي، وفي أيديهم سِلالٌ مملوءة باللحم والخبز، وكانت خِرْفانُهم لا تزيد على حجم الضفادع الصغيرة، فكنت ألْتهم خمسة منها وستة أرغفة في فمي مرة واحدة، وَهُمْ يَدْهَشون من ذلك، ويتملكهم الذُّعر والفزع. ثم أشرت إليهم أنني في حاجة إلى الْماء، فأحضَروا إليَّ أكبرَ بِرْميل عندهم، وما زالوا يدحرجونهُ حتى اقترب من فمي، ففتحوه فجَرَعْتُهُ كله جَرْعَةً واحدَة، فصفَّقوا مدهوشين مما رأَوْا، ورقَصُوا من شدة الفرح — ولهم العذر في ذلك — فإنهم لم يروْا في حياتهم رجلًا في مثل هذه الضخامة، ولقد كنت بين هؤلاء الأقزام كأنني جبلٌ شامخ، وقد أكلت من طعامهم ما يكفي لغذاء جيشٍ كبير منهم شهرًا كامِلًا. وقد كانوا فَزِعِين من رُؤيتي، فلما أمِنوا بطْشي ورَأَوُا استسلامي وهدوئي انطلقوا يُغَنُّون ويَمْرَحون، وتزاحموا إليَّ يرقصون على صدري، وقد استولى عليهم السرور والابتهاج.

وقد كان في قدرتي أن أقذف بهم إلى الأرض، وأن أُهلكهم في لحظة واحدة، ولكنني رأيت — من كرمِهم وحسن معاملتهِم — ما لم يكن يخطُر لي على بال، فلم ألجأْ إلى القوة، ولم أشأ أن أُعكِّر عليهم صفاءهم وابتهاجَهم.

ولما انتهيت من طعامي شعَرْت بحاجة إلى النوم، وقد علمت — فيما بعد — أن الإِمبراطور كان قد أوفد سفيره لنقلي إلى مدينته، وأن ذلك السفير قد أمرهم بوضع مادة منوِّمة في شرابي الذي سقَوْنيه، وقد أعجب سفيرُ الإِمبراطور بهدوئي واستسلامي، فأشار إِليهم بكلام لم أفهمه، فأحضروا إليَّ دواء شمِمتُ له رائحة ذكية، فمرهموا جروحيَ التي سببتها سهامهم، فشُفيت في الحال، وزالت آثار السهام، ثم أمرهم أن يقطعوا بعضًا من الخيوط التي أوثقوني بها، لأتمكن من النوم على جانبي، وما كادوا يقطعونها حتى استسلمت للنوم، وما زلت نائمًا ثمانيَ ساعات كاملة.

(٥) مَهارة الأقزام

وكان لهؤُلاء الأقزامِ خبرةٌ عجيبة بعلوم الهندسة، ومهارةٌ فائقة في كل ما يُزاوِلونه من الأعمال، فما إِن أمرهم سفيرُ الإِمبراطورِ بنقلي إلى عاصِمة المملكة، حتى ذلَّلوا كلَّ عقبةٍ في سبيل تنفيذ إرادته.

وقد علمت — فيما بعد — أنه عَهِد إلى خمسة آلاف نجَّارٍ ومهندس بعمل عربةٍ كبيرة يحملونني عليها، على أن يكونَ ارتفاعُها ثلاثَ أصابعَ وطولها سبعَ أقدامٍ وعرضُها أربعَ أقدام، وبها اثنتان وعشرون عجلةً. فلما انتهوْا من صُنعها، أقاموا ثمانين عمودًا ارتفاعُ كلٍّ منها قدمان، وفي أعلاه بَكَراتٌ، ثم أنفذوا خيوطًا متينة مُحكمة الفَتْل في هذِهِ البكرات، وفي آخر كلِّ خيطٍ منها شِصٌّ، ثم ألقَوْا عَلَيَّ تِلْكَ الشُّصوصَ وشدُّوها بقوةٍ. وتعاوَن تِسْعُمائةٍ من أقويائهم على شدِّ تلك الخيوط، حتى وَضعوني في تلك العربةِ، وأنا مستغرقٌ في نوم عميق. وقد أنجزوا كلَّ هذا العمل في نحو ثلاث ساعات، ثم شَدُّوا إِلى تلك العربة ألفًا وخَمْسَمائةِ جوادٍ من أقوى خيول الإِمبراطور، وكان ارتفاعُ كلِّ جواد منها أربعَ أصابعَ ونصفَ إصبعٍ، ثم سارت العربةُ في طريقها إِلى مدينة الإِمبراطور.

(٦) في أَنْفِ «جَلِفَر»

وما زالت العربةُ سائِرة نحوَ أربع ساعاتٍ، ثم استيقظت فجأةً لوقوع حادث عجيب، فقد وقفت العربةُ في الطريق ريثما يَتِمُّ إصلاحُ عَطْبٍ يَسِيرٍ أصاب أحد أجزائها، وفي أثناء وقوف العربة دفع الفضولُ ثلاثةً من الأقزام إِلى التمتع برؤْية جسمي ووجهي، فتقدم أحدُهم إلى أنفي، وكان ضابِطًا جريئًا طُلَعَةً يميل إلى الدُّعابة والمزاح، وكأنما أراد أن يَخْبُرَني ويقفَ على تركيب جسمي الضخم العجيب. وما إِن وَصَلَ إلى أنفي ورأى طاقتَيْه حتى خُيِّل إليه أنَّهما كَهْفانِ، فدفعه فضولُه إِلى سَبْرِ غَوْرِهما، فوضع في إحداهما رُمحَه الصغير، وحين أحسست وخزةَ رمحه في أنفي عَطَسْتُ، فتقاذف من أنفي رشاشٌ نَفَذ إِلى الضابط كأَنه رَصاص، فانقلب على ظهره من شدة الذُّعر، وعاد أدراجَه هو وَرفيقاه وهم يرتجفون من شِدَّة الخوف.

(٧) استئنافُ السَّيْر

ثم استأنفت العربةُ سيرها، وما زالت سائرةً بقية النهار، حتى إذا أَدرَكَنا الليلُ، قام على حراستي خَمْسُمائةِ حارسٍ، يحملون قِسِيَّهم وَسِهامَهم، ليُسدِّدوها إِليَّ إذا حاوَلْت الفَكاكَ من أَسْرِي. وإِلى جانبهم خَمسمائة قَزْمٍ يحملون المشاعِل لتُضيءَ لهم السَّبيل.

واستأْنفنا السير مرة أُخْرى حين أَشرقت الشمسُ، وما زِلْنا سائرين إِلى وقت الظُّهر، فلم يبقَ بيننا وبين المدينة إلا مائتا ذِراعٍ، فرأينا الإِمبراطورَ وجميعَ رجالِ حاشيته قد خرجوا لاستقبالنا وَالتقَوْا بنا في ذلك الْمَكان، وكان الإمبراطور شديدَ الشَّوق إلى رُؤيتي — بعد ما سمعه عَنِّي من الغرائبِ وَالْمُدهِشات — وقد رأَيته في مَوْكِبٍ حافِل، وقد حاوَل أَن يتقدم نحوي، فحذَّره بعض أَتباعه الدُّنُوَّ مني، والصعودَ إلى جسمي، حتى لا يحدثَ له مكروهٌ، أو يصابَ بأذًى.

(٨) الهَيْكلُ المهجور

وكان في ذلك الْمَكان الذي حللْناه معبدٌ قديم، وهو يُعَدُّ بحقٍّ أكبرَ هيكل في جميع أرجاء المملكة، وقد كانوا يصلّون فيه، ثم هجروه بعد أن تدنَّس منذ بضعِ سنوات، فقد وَقع فيه حادثُ قتل، فأصبح — على حسَب تقاليدِهم وعاداتهم — دَنِسًا بعد أن كان مُقَدَّسًا، فهجروه بعد أن نقلوا كلَّ ما فيه من أثاثٍ وطُرَفٍ إلى معبد آخرَ. وكان ارتفاعُ الباب الشَّماليِّ الكبير أربعَ أقدامٍ وَعرضُه قدمين، وَبه نافِذتان ترتفعان عن سطح الأرض إِصْبَعين، وَطولُ كلّ منهما ستُّ أَصابعَ.

ثم جاءوا بإِحدَى وتسعين سلسلةً في حجم السلاسل الرقيقة التي نُعلِّقُ بها ساعاتنا، وكان طولُ كلِّ سلسلةٍ منها ستَّ أقدام، فشدُّوها إلى ساقِيَ اليُسْرَى، وأَحْكَموا ربِاطَها بستةٍ وثلاثين قُفْلًا حتى لا يدَعوا ليِ وسيلةً للفِرار.

(٩) البُرْجُ العالي

وكان أمامَ ذلك الهيكل — وعلى مسافة عشرين قدمًا منه — بُرْجٌ عالٍ ارتفاعُه خمسُ أقدام، فصعِد الإمبراطور وحاشِيَتُه إِلى ذِرْوَته ليتسنَّى لهم رؤيتي والتَّحَقُّقُ من شكْلي، وهم بِمَأمَن من كل خطر، واشتد زِحامُ الشعبِ حوْلي، فقد ذاعَ صِيتي في أَرجاء تلك البلاد، وأقبل الناس من كل مكان، ليرَوْا ذلك العِمْلاقَ الهائل، الذي أطلق عليه أهلُ تلك البلاد اسمَ «الجَبل الآدَميِّ»، فتوافَدوا مُسْرِعين إلى رؤيتي، وصعِد إِلى جسمي نحو عشرة آلاف قَزم، فأشفق الإِمبراطورُ عليَّ وأمر بإنزالهم جميعًا، وحرَّم على شعبه الصُّعودَ إِلى جَسَدي، وهدَّد من يخالف أمرَه بالقتل.

ثم أمر الإِمبراطور بقطْع الخيوط التي كانوا قد أوثقوني بها من قبل — فنهضت واقِفًا، وسرت حول الْوَتِدِ الذي شدُّوا إليه السلاسل، في دائرة قصيرة أمام ذلك الهَيْكلِ العَتِيقِ. وليس في وُسْع إنسان أن يتصور مقدار دهشة هذا الشعبِ وعَجَبه حين رآني واقفًا على قدميَّ، وكان طول تلك السلاسل نحو سِتّة أقدام، فأصبحت أستطيع أن أروحَ وأَغْدُوَ في شكل نصف دائرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤