الفصل الثاني

(١) زِيارَةُ الإِمْبِراطور

وفي ذاتِ يوم جاء الإِمبراطور ليراني في سِجْني — وهو راكبٌ على ظهر جواده — وقد كبَّدَتْه تلك الزيارةُ كثيرًا من المتاعب التي تغلَّب عليها بشجاعته وثبات جَأْشه؛ فإِن جوادَ الإِمبراطور أَجْفَلَ من شدة الخوف حين رآني، ولولا قوةُ الإِمبراطور ودُرْبَتُه ومهارته في الفروسية لوقع عن ظهر جواده، ولكنه ظل لمهارته ثابتًا رابِطَ الجأش، وكأنه لم يحدث شيء. وقد أسرع رجالُ حاشيته فأمسكوا بِعنانِ جواده، فترجَّل الإِمبراطورُ وأخذ يُجِيلُ نظره فيَّ، ويدور حولي ليراني من كل جهة، وهو بعيد عن متناوَل يدي، حتى لا يُعرِّضَ نفسَه للأخطار، وجلستِ الإمبراطورةُ وأمراءُ القصر وأميراتُه على مقاعِدَ أُعِدَّتْ لهم على مسافةٍ قريبة. وكان الإمبراطورُ أَطْوَلَ من رأيتُه من هؤلاء الأقزام وأقواهم بأسًا، ولهذا أصبح مَوْضِعَ هيْبَتِهم وإجلالِهم. وهو أقْنَى الأنْفِ، زيتونيُّ اللَّون، مُتَناسِبُ الأعضاء، دَمِثُ الخُلُق، رَزِينٌ، تتجلَّى في كل حركاته مظاهرُ الدَّعَةِ والجلالِ. وكان في التاسعةِ والعشرينَ من عمره، وقد مرت عليه سبعُ سنوات تقريبًا وهو جالس على العرش.

وقد اضْطَجَعْتُ على جَنْبِي لأتمكن من رؤيتِه، والتَّفرُّسِ في ملامِحِه، وكان يقترب مني أحيانًا فيصبح في متناول يَدِي، فلم يغِبْ عني شيءٌ من دَقائِق ملامحه وشكله. وكان على رأسِه تاجٌ ثمين من الذهب مُحلًّى بالجواهر، وقد حمل في يده سيفَه مُصْلَتًا ليدافِعَ به عن نفسه، إذا حاولتُ قطعَ أغْلالي، أو هممت أَن أبطِشَ به. وكان طولُ سيفه نحو ثلاثِ أصابِعَ، وغِمْدُه وقَبْضَته من الذَّهبِ الْمُرَصَّع بالماس.

أما صوتُ الإمبراطور فهو — على خُفُوتِه — جَليٌّ واضح النَّبَرات.

وكانت سَيِّدات القصر ورجال حاشيته يرتدون أفخر الثِّياب الْمُوشَّاةِ بالحجارة الكريمة. وقد تحدث إليَّ الإِمبراطور فلم أُدْرِك شيئًا من كلامه، ولكنني أجبته بِلُغَتي فلم يفهم ما أقول، ولبثَ الإمبراطور وحاشيته ساعتين، ثم تركوني وحولي من الحرس عددٌ كبير، ليحُولوا بيني وبين جمهرة الشعبِ الْمُتَزاحِمِ الذي كان يحاول الدُّنُوَّ مني بكل وسيلة.

(٢) جَزاءُ الأشرارِ

ولم يخلُ هذا الشعب من فُضولِيِّينَ أشْرارٍ، فلقد وصَلَتِ الْجُرْأةُ ببعضهم إلى حد أن رشقني بالسِّهام، وقد سدَّد أحدهم سهمًا إلى عيني اليُسرى لِيَفْقَأها، فرأى القائدُ الْمُوَكَّلُ بِحِراستي أن يَدْفَعَ عني هذا الأذَى، فألقى القبض على ستة من زُعَماء الأشرار، ولم ير عِقابًا يُكافِئُ جُرْمَهم إلا أن يَشُدَّ وَثاقَهم، ويدفعَهم بين يديَّ لأنكل بهم جزاء خُبْثِهم ومحاولتهِم الفتكَ بي. فأمسكت بهم في يديَ اليمنى، ووضعت خمسة منهم في جيب صِداري، وأدْنَيْتُ السادس من فمي متظاهرًا بأنني سآكله حَيًّا.

فظلَّ ذلك القَزمُ المسكين يُرسل صَرَخاتٍ مؤلِمَة، واستولى الجزع على القائد وجنوده حين رأوْني أُخرج من جيبي مُدْيَة صغيرة. ثم تبدل جَزعُهم وخوفهم بِشْرًا وائْتِناسًا حين رأَوْني أقطع الخيوط التي أوثقوه بها وأضعهُ — مُتلطِّفًا — فوق الأرض. وما رأى القزَمُ نفسه طليقًا حتى أسرع في فِراره، وهو لا يكاد يُصَدِّق أنه نجا من الهلاك. ثم أخرجتُ رِفاقَه من جَيْبِ صِداري — واحِدًا بعد آخرَ — وفعلتُ بهم ما فعلته بصاحبهم. وقد عطَف عليَّ القائدُ وجنوده ومَن حولَهم من الشعب، وبَدَتْ على وجوههم أماراتُ الحب والتقدير، حين رأَوْا كَرَمَ خُلُقي وتَرَفُّعي عن الانتقام من أعدائي — مع قدرتي على الفتك بهم — وقد ذاع بين جميع السُّكان أنني رجل كريم خَيِّرٌ، وعلم رجال الحاشية — بعد قليل — بما صنعتُ، فكان لذلك أحسنُ وَقْعٍ في نفوسهم.

(٣) عاقِبَةُ الإحْسانِ

ولقد تهافت الفُضوليُّون والْكَسالَى على رؤيتي، وجاءوا إليَّ من كل أنحاء الإمبراطورية، وقد ذاع نبأ قدومي في كل مكان، وكادت القُرَى تخلو من ساكِنيها، فَتُعَطَّل الزراعة والصناعة، وتقف حركةُ البيع والشراء، فقد وفد الأقزام لرؤية العِمْلاق أو «الجبل الآدَمِيِّ» كما يُسَمُّونه. ولكنَّ جلالةَ الإِمبراطور خَشِيَ سوءَ العاقبة، فأمَرَ بألا يحضُر إِليَّ أحدٌ إلا بِتَرْخيصٍ، وضريبة يفرِضُها عليه، وقد رَبَحَتِ الحكومةُ من جَرَّاء ذلك أمْوالًا طائلة.

وَفي هذه الأثناء عقد الإِمبراطورُ مَجْلِسَ الشُّورَى، لينظر فيما يقرِّرُه في أَمري، فقد علمْتُ أن الاِرْتباكَ قد وصل بهم إلى أقصاه، فقد كانوا يخشَوْن أن أقطع أغْلالي فأُصبحَ طليقًا، وقد رأَوْا — إلى ذلك — أن غِذائي يُكَبِّدهم أمولًا عظيمة، ويتطلب منهم طعامًا كثيرًا، ورُبما سبَّب ذلك مَجاعَة في البلاد، فقد لا يَفِي غِذاؤُهم كله لإِطعامي. ورأَى بعضهم أن يكفُّوا عن تغذيتي حتى أهْلِكَ جوعًا فيستريحوا من شَرِّي، وَرأى آخرون أن يمزِّقوا جسمي بسهامٍ مسمومةٍ، ولكنهم خشُوا أن يتعفَّنَ جسمي فينشُرَ الوَباءَ في مدينتهم، ثم ينتقل إلى جميع أنحاء الإِمْبِراطوريَّةِ فَيُهْلِكَهم جميعًا.

وَإِنَّهم ليتشاوَرون في أمري، وَقد بلغت بهم الْحَيْرَةُ كلَّ مبلغ، إذ دخل عليهم ضابِطانِ، فأفضيا إليهم بما صنعتُهُ مع الأقزامِ السِّتة الْمُجْرمينَ؛ فكان لكلامِهما أحسنُ وقع في نفس الإِمبراطور. وَعطفَ عليَّ جميعُ أعضاءِ المجلس، وأَلَّفُوا لَجْنَةً — في الحال — لتفرض ضرائب على كلِّ قريةٍ من القُرى، حتى يَحصْلُوا على ما يكفيني من الطعام، ويقدموا إليَّ — في كلِّ صباح — ستةَ عجولٍ وأربعينَ خَروفًا وَمِقدارًا كبيرًا من الْخُضَر والبُقول والْخُبْزِ والماء وما إلى ذلك. وقد أمر جلالة الإِمبراطور بأن يُدْفع ثمن ذلك كله من خِزانة الدوْلة، وعَيَّنَ سِتَّمائة حارس ليقوموا بخدمتي وَحِراستي، وقرَّر لهمْ كل ما يحتاجون إليه من طعام، وَقَد نُصِبت لهم الخِيامُ حوْل الهيكل الذي قرَّروا أن يكون بيتي وسِجْني معًا.

(٤) لغَةُ البلادِ

وَلم يكتف الإِمبراطورُ بذلك كلِّه، فأمر باسْتدِعاء سِتِّمائة خياطٍ ليصنعوا لي ثوبًا يُشْبِهُ زِيَّ ساكِنِي هذه البلاد، واستدعَى ستة من كبار العلماء لِيُلَقِّنوني لُغة الأَهْلِينَ، حتى يَسْهُلَ على الإِمبراطور والأمراء وغيرهم أن يُبادِلونِيَ الكلامَ، كما أمر أتباعَه بأن يُمَرِّنوا جياده وَجياد الأمراء وَالحرَس على الجرْي أمامي، حتى تتعوَّد رُؤْيتي بلا خوْفٍ. وَقَد نُفِّذَتْ أوامِرُ الإمبراطور كلها بِدِقَّةٍ تامَّةٍ.

أمَّا أنا فقد بذلتُ جهدي في تَفَهُّمِ هذه اللُّغة الجديدة، وَساعدتني ذاكِرَتي القوية وَرَغبتي الشديدة في تعلُّمها، على تفهُّم كثير من أساليبها في وَقت قصير، وكان الإِمبراطورُ يكثرُ من زيارتي، وَيُوصي بي المدرِّسين والحُرَّاس، وكان أوَّلَ ما تعلمتهُ أن أُعْرِبَ للإِمبراطور بتلك اللغة عن شكري وَرغبتي في الحرِّية. وَقد جَثَوْتُ أمامه على رُكْبَتَيَّ ضارِعًا إلى جلالته أن يَفُكَّ قُيودي وَيمنحَني حرِّيتي، فقال لي مُبتسمًا: «عليكَ بالصبر، فليس في قدرتي أن أَبتَّ في ذلك وحْدي، فإِنَّ ذلك أمرٌ يعني الدوْلة كلَّها، وَلا بدَّ من استشارة وُزرائي في ذلك، بعد أن تُقْسِمَ أمامي أن تحرصَ عَلَى السِّلْمِ كلَّ الحِرْصِ، وَألَّا تمسَّ أحدًا من رَعِيَّتي بسوءٍ.»

فأقسمتُ أَمامه: إنني لا أُضْمِرُ إِلَّا الخيرَ، وَإنني لن أُسِيءَ إلى أحدٍ كائِنًا من كان، وَوَعَدتُه بأَن أُحسِنَ مُعَاملتَهُم جميعًا.

فقال لي: «إنّك — إذا فعلت ذلك — أرضيتني وَأرضيت شَعبي، وظفِرتَ بحُبِّنا جميعًا. ولكنني علمتُ بأنك تحمل في جيوبك قَدْرًا من الأسلحة الخطِرة التي تُزَعْزِعُ الأمْنَ في بلادنا، فهل تسمح لنا بتفتيشك؟»

فقلت له: «إنني خاضِعٌ لكل ما يأمرني به جلالةُ الإِمبراطور، وإنني مستعدٌّ أن أَنْزِعَ ثوبي أمامه، وأن أُخرج كلَّ ما في جيوبي ليأخذ منه ما شاء.»

فقال لي: «إن قوانينَ الإمبراطورية تقضي بتفتيشك، ولا سبيل إِلى ذلك إلا بعد أن نَثِقَ بأن هذا لا يُغْضِبُك، وقد حقَّقْتَ حسن ظني بك، وسأُرسل إليك مُفَتِّشَيْنِ ليفْحَصا كل ما تحمله من الآلات الخطرة، وَإني أعِدُك بأن أرُدَّها إِليك يوم تَبْرَحُ بلادي، أو أدفعَ ثمنها لك كما تقدِّره أنت.»

فقلت له: «إِنني مُذْعِنٌ لكل ما يأمُرُني به مولاي، وسأعمل على تحقيق كلِّ ما يُرْضِيه.»

فابتسم لي راضِيًا، وَوَدَّعني شاكرًا مسرورًا.

(٥) تَقْريرُ الْمُفَتِّشَيْنِ

ولَمَّا جاء الْمُفَتِّشان أخذتُهما في يدي وَوَضعتهما في جيوبي لِيرَيا كلَّ ما فيها، وبذلت لهما كل ما أرادا من مُساعدة، ولما انتهيا من الفحص طلبا إليَّ أن أُعِيدَهما إلى الأرض ثانِيَةً، فأنزلتهما — مترفِّقًا بهما — فشكرا لي، وذهبا إلى الإِمبراطور ليبلِّغاه نتيجة تفتيشهما الدقيق، وقد رفعا إلى جلالته التقرير الآتي:
«وجدنا يا صاحبَ الجلالةِ الإِمبراطورية — بعد أن فحصنا جيوب العملاق الهائل، وفتشناها تفتيشًا دقيقًا — ما يلي:
  • (١)

    قِطعة كبيرة من النسيج الْخَشِن تصلح أن تكون بِساطًا يكفي لفرش حجرة الاستقبال، وهي أكبر حجرة في قصر جلالتكم.

  • (٢)

    صُندوقًا كبيرًا من الفِضَّةِ عليه غِطاءٌ فِضِّيٌّ، وقد حاولنا أن نحمله أو نفتحه، فلم نستطع — لضخامته وثقله — فطلبنا إلى العِملاق أَن يفتحَه، ثم دخل أَحَدُنا في ذلك الصُّندوق — وهو مملوءٌ بِتُرابٍ عجيب — فغاصَ فيه إلى رُكْبَتَيْهِ، فظلَّ يعْطِسُ ساعتين عطْسًا مُتواليًا، وهبَّ من ذلك الترابِ غُبارٌ قليل في الهواء، فظل الثاني يعطِس سبعَ دقائقَ كاملة.

  • (٣)

    رِزْمَةً (حُزْمَةً) كبيرة من النسيجِ الأبيض، مَطْوِيّةً طبقاتُها بعضُها فوق بعض، وهي في طول ثلاثة رجال منا، وقد شُدَّت إلى سِلسلةٍ ضَخْمةٍ متينة منقوشةٍ عليها طلاسِمُ كثيرة نظُنها كتابة بِلُغَته التي لا نفهمها.

  • (٤)

    عمودَيْنِ أَجْوَفَيْنِ من الحديد، ينتهي كلٌّ منهما بجِذع كبير من الخشب مثبَّتٍ فيه، وفي أَحد طرفيْه قطعٌ كبيرة بارزةٌ من الحديد، هي أَشبه بنقش لم نهتد إلى فهم معناه، وفي أَسفله حفرةٌ مثبتٌ في جوفها مِسمار ضخم من الحديد.

  • (٥)

    كثيرًا من قطع معدِنية مُستديرة، مختلفة الْحُجوم والألوان، بعضها أحمرُ وبعضها أبيضُ، وهي من الفِضة والذهب، ولم نستطع أن نحملها مُتعاونَيْن إِلَّا بعد عَناءٍ شديد.

  • (٦)

    سَيْفَيْنِ كبيرينِ، حدَّاهما مُرْهَفان، وهما في عُلبة كبيرة.

  • (٧)

    سلسلةً ضخْمةً من الفِضة، في آخِرِها آلةٌ عجيبة مستديرة، نِصْفُها من الفضة، والنصف الآخر من مادة بَرَّاقة تبدو تحتها نقوش غريبة، وهي تلمع لمعانًا عجيبًا، وقد أدْناها العِملاق من آذاننا، فسمِعْنا لها حركة دائِبة تُشْبه صوت الطاحونة أو السَّاقِيَةِ، وهي — في ظنِّنا — حيوان مجهول، أو لعلَّها — إذا لم نكن واهِمَيْنِ — هي الإله الذي يعبُده، وهذا ما نُرَجِّحُه، لأنه قال لنا — وهو يَشرح فائدتها — إنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا من غير أن يستشير هذه الآلة، فَهِيَ تُعِينه على أداء كل أعماله، وتُعَيِّنُ له أوقاتَ النَّهار والليل.

  • (٨)

    شَبكةً كبيرة تشبه شِباكَ الصَّيادين، وهي تُفتح وتُقفل، وفيها قِطَعٌ كَثِيفة من الذهب الذي لا يُقَدَّر بقيمة.

  • (٩)

    آلةً كبيرة مثبَّتًا فيها كثيرٌ من الأعمدةِ الطويلةِ التي تشبه أعمدة فِناء القصر الإِمبراطوري، ونظنها مُشطًا يرجِّل به شَعره.

  • (١٠)

    حِزامًا ضخْمًا مصنوعًا من الجلد الْغَليظ، معلَّقًا في ناحيته اليُسْرى سَيْفٌ يبلغ طولُه طول ستةٍ رجال منا، وفي ناحيته اليمنى غِرارَةٌ كبيرة مقسومةٌ قسْمَين، يَسَع كل قسم منهما ثلاثة رجال منا، وقد مُلِئَ أحدُهما بِكُراتٍ كبيرة كل كُرَةٍ منها في حجم رأْسِنا تقريبًا، ومُلئ الآخر بحبوب سُودٍ لا عِدادَ لها، وقد استطعنا أن نحمل في يدنا أكثر من خمسين حَبَّةً منها.

هذا هو تقريرُنا عَمّا وجدناه في ثِياب هذا العملاقِ الْوَدِيعِ الذي يسّر علينا عملنا، وأظهر لنا أقْصَى ما يستطيع من التَّوَدُّدِ والتَّلطف والاِحترام.

وقد أمْضَيْنا تقريرَنا هذا بعد أن انتهينَا من كتابته في اليوم الرابع من القمرِ التاسعِ والثمانينَ من حكم جلالتكم السعيد.»

فِليسِن فريلوك، ومارسي فريلوك

(٦) بينَ يَدَيِ الإِمبراطورِ

ولَمَّا سَمِعَ الإِمبراطورُ تقرير المفُتِّشَيْن جاء إليَّ ومعه ثلاثة آلاف جنديٍّ من فُرْسانِه المُدَرَّبين، وقد أمسكوا بِقِسِيّهم، وتأهّبوا للحرب والنِّضال، مُتَرقِّبِين أقلَّ إشارة من الإمبراطور، فلم أعبأْ بهم. والتفتُّ إلى الإمبراطور، فحَّياني مبتسمًا متلطفًا، وأمرني أن أُخرجَ سَيفي من غِمْدِهِ ليراه، وكان قد علاه شيء من الصَّدَأِ، بعد أن ابْتَلَّ بماء البحر، ولكنه كان — بِرَغْم ذلك — يَلمع في يدي قليلًا. وما إن رأى الأقزام سيفي مُصْلَتًا في يدي حتى علت صرَخاتهم، واشتد صِياحهم، فأمرني الإمبراطور أن أرُدَّ السيف في غِمْده، وأن أتلطف في وضعه على الأرض، فلبَّيت أَمره من فَوْرِي.

ثم طلب إليَّ أن أُرِيَه قِطْعَتَيِ الحديد الَّلتين أشار إليهما المفتِّشان — وهو يَعْني بذلك بُندقيَّتي ومُسَدَّسي — فقدَّمتهما إليه وشرحت له فائدتهما، وطريقة استعمالهما، بقدر ما أستطيع من التعبير، ورجوت من جلالته ألَّا يفزَع وألا ينزعِج، ثم أَرسلتُ طَلْقًا في الهواء فسقط الرجال على ظُهورهم من شِدَّةِ الذُّعْر، وكأنما سمعوا رَعْدًا قاصِفًا، ولم يَشُذَّ الإِمبراطورُ — وهو أَقواهم بأسًا وأَثبتهم جَنانًا — فقد تملَّكه الفزَع، ولم يَعُدْ إلى رُشْدِه إلَّا بعد وقت، ثم قدمت إليه بندقيتي ومسدسي وكيسَ البارود، وحذَّرته أشد التحذير أَن يُدْنِيَ هذا الكيس من النّار حتى لا يلتهب البارودُ، فينسِفَ قصره ومدينته نسْفًا، فعجب من ذلك أَشد العجب.

ولَمّا قدمت إليه ساعتي، دَهِش لرؤيتها أشد الدهَش، وأمر اثنين من جنوده الأقوياء أن يعلِّقاها في عصًا ليسهُلَ عليهما حملُها على كَتِفيهما.

وقد اشتدت دهشة الإِمبراطور وحَيْرته من دَقَّاتِها المتواصلة، ومن حركة عَقْرَبِ الدقائقِ، وظل يُنعم النظر فيها، ثُمَّ عرضها على أطِبَّائِه وعلماء بلاده ليُبْدُوا رأيهم فيها، فَحاروا وتَبايَنَتْ آراؤُهم في تَعْلِيلِها، وضلَّت أفهامهم في تعرُّف حقيقتها، ثم قدَّمت إليه القِطع الفِضِّيَّة والحديدية التي معي، ووضعت أمامه ِكيس نقودي، وبه تِسْعُ قطع ذهبية كبيرة وبعض قطع أُخرى صغيرة. ولَمَّا انتهى من تفحصها أعطيته مُشْطي، وعُلْبَةَ سَعوطي، ومِنديلي، وصحيفتي. وقد حمل جنود الإِمبراطور سَيفي وبندقيتي وكيس البارود والرَّصاص إلى قَلْعَةِ الإمبراطور، ثم تركوا لي ما بَقي.

وكنت قد وضعت — في جَيْب خفيٍّ — نظّارتي وبعض أشياءَ صغيرة أُخرى لا فائدةَ للإِمبراطور منها، ولا غُنْيَةَ لي عنها، وقد خَشِيت عليها التَّلَفَ أو الضَّياعَ، فلم أُنَبِّهِ المفتشيْن إليها، وادَّخرتها لنفسي لتنفعَني في وقت الحاجة حين أُغادِرُ هذه البلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤