الفصل الثالث

(١) نُدَماءُ الإِمبراطورِ

وأراد الإِمبراطور — ذاتَ يوم — أن يُرَفِّه عني، ويُمْتِعَ نظري، فيَعْرِضَ أمامي — في حفلة أُنْسٍ وابتهاج — بعضَ مزايا هذا الشَّعبِ النشِيط الماهر الذي فاق جميع الشعوب التي رأيتها في حِذْقه وذكائه وَجُرأَته. وكان أعجبَ ما رأيته في ذلك الْحَفْل المحتشدِ براعةُ الرَّاقِصِين على الحِبال، وَجُرْأَتُهم النادرةُ، فقد رأيتهم يَفْتَنُّون في ضُروب الرقص على خَيْطٍ أبيضَ دقيقٍ طولُه اثنتا عشْرةَ قدمًا وإحدى عشْرة إصبَعًا.

وعلِمتُ — من عاداتهم وتقاليدهم العجيبة — أن الذين يخاطرون بأنفسهم وَيُعَرِّضونها للتَّهْلُكة في أثناء قيامهم بهذه العروضِ الخَطِرة، هم سَراةُ الأقزامِ وأعيانُهم، وأبناء الأُسر الكريمة العريقة في المجد، وأن هذه الألعاب الخَطِرَةَ هي وسيلتهم الوحيدةُ إلى بُلوغ أرقى مناصب الدولة، والْوُصول إلى منادَمَةِ الإِمبراطور.

فإِذا خلا مَنْصِبٌ كبير، لوفاة صاحبه، أو نَقْمَةِ الإِمبراطور منْهُ — وكثيرًا ما نَقَم الإِمبراطور من ندمائه لِأَتْفَهِ الأسباب — تقدَّم لِلامتحان خمسة أو ستة من الأقزام الذين يُرَشِّحون أنفسهم لهذا الْمَنْصِب، ويَرَوْن في أنفسهم القُدْرَةَ على النجاح، فيستأذِنون من الإِمبراطور أن يُهَيِّئَ لهم الفرصة — لتسليته هو ورجالُ الْبَلاطِ — فإِذا أذِنَ لهم، ظَلُّوا يرقصون أمام الإِمبراطورِ وحاشِيَتِه — على تلك الحِبال الدقيقة العالية — ويقفِزون إِلى أعلَى، فمن فاقَ أقْرانَهُ في القفز عليها، واستطاع أن يصِل إلى مُسْتَوًى منَ الارتفاع يَعْجِزُ أقرانُه عن بلوغه، فقد فاز بذلك الْمَنْصِب العالي الذي تَطْمَحُ إليه نفسُه.

(٢) تكاليفُ العُلَا

وكثيرًا ما أمر الإِمبراطورُ كبارَ موظَّفيه أن يرْقُصوا ويقفزوا على الحبل — مع أولئك المرشَّحين الْجُدُدِ — ليطمئنَّ الإِمبراطور على أنهم لَمَّا يفقِدوا كِفاياتِهم ومزاياهم الباهرةَ التي أكسبتهم — من قبلُ — مناصِبهم الرفيعة.

وقد لَقِيَ حَتفَه كبيرُ صَيارِفَةِ الإِمبراطورية، وراح شهيدَ مَهارته وجُرأته، وكان يستطيع أن يقفز إلى ارتفاع إصْبَعٍ فوق الحبل، وهو أقصَى ارتفاع وصل إليه أكبر موظَّف في الإِمبراطورية، ولم يصل غيره إلى مثل هذا الارتفاع من قبلُ، وقد رأيتُه بنفسي وهو يقفز على الحبل الدقيق تلك القفزةَ الخَطِرة التي عرَّضته للهلاك والتَّلف، وقَلَّما خَلَتِ التَّمْرينات من حَوادِثَ مَشْئُومَةٍ، وقَدْ أَثبت أكثرَها سِجِلُّ الإِمبراطورية.

(٣) شُهَداءُ الْمَجْدِ

وقد رأيتُ بعينَيّ ثلاثةً من هؤلاء الْمُرشَّحين هَوَوْا إلى الأرض، فكُسِرَتْ أرجلُهم، وقضَوْا بقية حياتهم مُقْعَدين.

وكان أخوفَ ما يَتَخَوفَّون منه أن يأمرَ الإِمبراطورُ وزراءَه أنفسهم بأن يُبرهنوا أمامه — مرَّةً جديدةً — على كِفايتهم ومهارتهم، وثَمَّةَ لا يدَّخِرون جُهدًا في الْفَوْقِ على غيرهم من النُّدماء، وربما سقطوا إلى الأرض من ارتفاع شاهِق، وعرَّضوا أنفسهم لأخطار جسيمة.

وقد علمت أن أحد هؤلاء النُّدماء، هوى منذُ عام وهو يقفز على الحبل، وكان لا بُدَّ من تحطُّم رأسِه، لولا أنه سقط على إحدى وَسائِدِ الإِمبراطور، فنَجا بذلك من موتٍ محقَّق.

وَثَمَّةَ نوعٌ آخَرُ من الألعاب التي يَبْهَجُ الإمبراطورُ بها نفسَه، وهو وَقْفٌ على الإِمبراطور والإِمبراطورة والوزراء، وذلك أن يضع الإِمبراطور فوق مائدته ثلاثة خُيوطٍ من الحرير — غايةً في الدِّقة — طولها سِتُّ أصابعَ، أوَّلها قِرْمِزِيٌّ، وثانيها أصفرُ، وثالثها أبيضُ، وهذه الخيوط الثلاثة هي جوائز يمنحها الإِمبراطور من يَمْتازُ على غيره بالمهارة والْجُرأة. فإِذا بدأت الحفلة — في قاعَةِ الاستقبال الكبيرة بالقصر الإِمبراطوري — ظَلَّ المُتَبارون يَفْتَنُّون في شَتَّى ضُروب القفز والرقص بمهارة لم أَرَ لها مثيلًا في أيِّ شعب عرَفتُه في كل أسفاري ورِحْلاتي الكثيرة السابقة.

(٤) أَنْواطُ الْجَدارَةِ

وكان الإِمبراطور — في بعض أسْمارِه — يأخذ بطرَفيْ عَصَوَيْنِ مُتَوازِيَتَيْنِ في الفضاء، ويُمْسك رئيسُ وزرائه بالطرَفيْن الآخرَيْن، ثم يَقْفِزُ عليهما الْمُتَبارون، ولهم في هذه اللُّعبة أفانينُ شتَّى، وهي تنتهي بمكافأة الفائز الأول بالخيط القِرْمِزيِّ، والفائز الثاني بالخيط الأصفر، والفائز الثالث بالخيط الأبيض.

وهذه الخيوط هي أوْسِمَةُ المجد والفَخار في تلك البلاد، ويتخذون منها حَمائِلَ سُيوفهم، أو يجعلونها زينةً لهم، وإشعارًا للعامَّة بما أحْرَزوه من أنْواطِ الجدارة وشاراتِ المجد.

(٥) بين ساقَيْ «جَلِفَر»

وفي ذات يوم فكَّر الإِمبراطورُ في وَسيلة فَذَّة للتسلية، فحشد فَيْلَقًا كبيرًا من جيشه، وأمرني أن أقِفَ فارِجًا ساقَيَّ بِقَدْرِ ما أستطيعُ، ثمَّ أمر جيشه أن يَمُرَّ من فُرْجَةِ ساقَيَّ لِيَعْرِضَهُ أمامَه، فمرُّوا صُفوفًا، في كل صَفٍّ منها أربعةٌ وعِشرون راجِلًا، تَلِيها صُفوفُ الفُرسان، في كل صفٍّ منها ستةَ عشرَ فارسًا، ثم تَبِعها رجال الموسيقى، فَحامِلو الأعلامِ الخفَّاقة، فحامِلو الأسِنَّةِ والحِراب المرفوعة.

وكان ذلك الجَيشُ مكوَّنًا من ثلاثةِ آلاف راجِلٍ وألفِ فارس.

وقد أمرهم الإِمبراطور أن يَلْزَموا جادَّةَ الأدب، وأَلَّا تَبْدُوَ منهم — في أَثناء سيرهم — أَيَّةُ إشارةٍ تدُل على السُّخْرِيَةِ، فإِذا خالفَ أَحدهم أَمر الإِمبراطور كان جزاؤُه القتل.

وما كانت هذه الأوامرُ الصَّارِمَةُ لتمنعَ بعض الجنود والضباط الفضُوليِّينَ من أن يرفعوا أبصارهم إليَّ — وهم يمرُّون من فُرْجَةِ ساقَيَّ — ويضحكوا ساخِرين أو مدهوشين.

(٦) قُيودُ الحرِّية

وبعد انتهاء هذه الحفلة، أَرسلتُ عدة مُذكِّراتٍ ألتمُس بها حريتي، وقد حَوَّلها الإِمبراطور على مَجْلس الشورى ومجلس الوزراء، فوافقوا على ذلك كلُّهم، ولم يَشُذَّ عنهم إلا وزيرُ الحرب، فقد عارض أشدَّ المعارضة في أَن أُمْنَحَ الحريةَ. وكان هذا الوزيرُ — لسوء حظي — محبوبًا من الإِمبراطور متمتعًا بثقته — لمهارته وكِفايته في الفنون الحربية — وإن كان ضيِّقَ الفِكر في شئون الحياة والاجتماع.

وقد طلب ذلك الوزيرُ من الإِمبراطورِ أن يضع بنفسه الشروط التي يراها ضرورية لإِطلاق سراحي، فأجابه الإِمبراطور إلى طِلْبَتِهِ. وقد أَتَمَّ الوزيرُ وضع هذه القُيودِ الثقيلةِ مؤيَّدة بالعهود والمواثيق، حتى يأمنوا جانبي حين أظْفَرُ بحريتي. وكان مع الوزير كثيرٌ من سَراةِ الأقزام وأعيانِهم، وقد طلبوا إليّ أن أُقْسِمَ أمامهم إنني لن أُخْلِفَ وَعْدًا، ولن أَنْكُثَ عهدًا، ولن أُخِلَّ بشرطٍ من هذه الشروط كلِّها، إذا فَكُّوا عني قيودي، وأطلقوا لي حريتي. فأَقسمتُ أَمامهم إنني سَأُنَفِّذُ كل شروطهم بدقَّة وأمانة، فلم يكتفوا بهذا القسم، وطلبوا إليَّ أن أقطع على نفسي عهدًا وثيقًا بذلك، على طريقة بلادهم في إعطاء العهود والمواثيق. ورسموا ليَ الخُطَّةَ التي أَتْبَعُها في إقْناعِهم بحسن نِيَّتي، وإذعاني لأمرهم. وكانت طريقتهم في أخذ العهُود والْمَواثيقِ عجيبةً حقًّا، فقد أَمروني أَن أَقبِضَ على إبهام رجليَ اليمنى بيدي اليسرى، ثم أَضعَ الإصْبَع الوُسْطَى — من يدي اليمنى — فوق رأسي، والإِبهامَ على طرف أُذُني اليمنى، فلم أتردَّدْ في تَلْبيةِ كلِّ ما طلبوه مني.

(٧) قَرارُ الإِمبراطورِ

ولقد عَجِبْتُ من ذلك القرار الذي أعطَونيه، وإلى القارئ نصَّه:
«نحن جولباستو إمبراطور «ليليبوت» — أعظم وأقوى الناس، وملاذ اللَّاجئين، ومُرْهِب الأعداء، وأقوى ملوك الدُّنيا، الذي يمتد ملكه ستةَ أَميال مستديرة إِلى أَطراف الكرة الأرضية: ملك الملوك، وأعظم العظماء، وجَبّار الجبابرة، الذي تكاد قَدَماه تَخْرِقان الأرض من ثِقَلِهما عليها، ويكاد رأسُه يلْمِس الشمسَ لطول قامَتِه وارتفاعها، والذي تَرْجُفُ منه الملوك إذا رأَتْهُ، والذي يُقَدِّسُه شعبه، لأنه محبوبٌ كالرَّبيع، لطيف كالصيف، مُخْصِب كالخريف، مَرْهوبٌ كالشتاء، سِلْمٌ للْأَولياء، حَرْبٌ على الأعداء — فَرَضْنا على ضَيْفِنا العِملاق ما يأتي:
  • (١)

    ألَّا يخرجَ بَتاتًا من أرضنا الفسيحة من غير إذن منا مختومٍ بخاتَمنا الكبير.

  • (٢)

    ألَّا يدخل عاصِمَتنا الآهِلَةَ بالسكانِ من غير أن ينْذِرَ الأهالي بذلك قبل ساعتين من دخوله العاصمةَ، ليَلْزَموا مساكِنَهم.

  • (٣)

    أن يَقْصُرَ تَنَزُّهَهُ وسيْرَه على طُرُقِنا الفسيحة الكبرى، وألَّا يَجُولَ أو ينام في أي حَقْلٍ مزروع، حتى لا يُتْلِفَ ما فيه من حَرْثٍ.

  • (٤)

    أن يحْرِصَ كلَّ الحِرص على ألَّا يَطَأَ بقدمه جسمَ أيّ فرد من رعايانا، أو خَيْلِهم أو عَرَباتِهم في أثناءِ سيره في طريقه، وألَّا يُمسكَ بيده أيَّ إِنسان من غير إذْنِه ورِضاه.

  • (٥)

    أن يحمل البريدَ ويوصِلَه إلى المسافاتِ البعيدةِ، كلَّما طلبنا إليه ذلك، وأن يقوم بهذا العمل ستةَ أيام في كل قَمَرٍ (شهْر) من الأقمار.

  • (٦)

    أن يُحالِفنَا، ويكون عَوْنًا لنا على أعدائنا الذين يقطنون بجزيرة «بليفسُكو»، وألَّا يدَّخر وُسْعًا في تدمير أسطولهم الذي يُعِدُّونه الآن لِغَزْوِ بلادنا.

  • (٧)

    أن يُعِينَ عمَّالنا ويُساعدَهم — في أوقات فَراغه — على حمل بعض الأحجار الضَّخْمة التي يبنون بها أَسوارَ حديقتنا الكبرى، وجُدْرَانَ دُورِنا الحُكومية.

  • (٨)

    أَن يُقَدَّمَ له ما يكفيه من الغِذاء — بعد أَن يُقسمَ على احترام هذا الدستور — وأَن يكون غِذاؤه في كل يوم مِقدارًا من اللحم والسمك يكفي لإِطعام أَلفٍ وثَمانِمِائَةٍ وسبعينَ وأَربعةٍ من أَفراد رعِيَّتِنا، وأَن يكون حُرًّا في مقابلة شخصنا الإمبراطوري، وأَن يُمنَحَ ما نشاء من المِنَحِ.

صدر هذا القرار — عن قَصْرنا — في اليوم الثاني عشَرَ من القمرِ الواحِدِ والتِّسعين من حكمنا.»

(٨) حُرِّيَّةُ «جَلِفَر»

وما إن أَتْمَمْتُ القَسَمَ وأَمْضَيْتُ هذه الشروطَ — وأَنا مسرورٌ بالظفرِ الْوَشِيكِ بحريَّتي، برغْم ثِقَلِ هذه القيود — حتى فَكُّوا سَلاسِلي وأغْلالي وأَصبحتُ منذ تلك الساعة حُرًّا طَليقًا.

وقد جاء الإِمبراطور نفسُه، وتلطَّف بي، وهنَّأَني بحريتي، فركعت أَمامه ضارِعًا شاكِرًا، فرجا مني — متلطفًا — أَن أَقِفَ، فأذْعَنْتُ وشكرتُ له عطفَه الذي غمرني به.

ولعل أَعجبَ ما أَدهشني من تلك الشروط — التي وضعوها في ذلك الدُسْتورِ الذي أَمْضَيْتُه — أَنهم أَمروا لي بطعام يكفي لتغذية أَربعة وسبعين وثَمانِمائةٍ وأَلفِ فردٍ منهم.

وقد سألتُ صَديقًا من خُلَصائي الذين اصْطَفَيْتُهم من هؤلاء الأقزام: كيف عَرَفوا أَن هذا القدر بعينه من الطعام يَسُدُّ حاجتي من الغِذاء؟

فقال لي: «إن عُلَماءَ الرِّياضَةِ قد قاسُوا قامَتي إلى قاماتِهم، وحَسَبوا ضَخامَتَها، فوجدوا أَن نِسْبَةَ حجمي إلى أَحْجامهم كَنِسْبةِ أَلفٍ وثمانِمائة وسبعين وأَربعةٍ إلى واحِدٍ؛ فقدَّروا أَن الغذاء الذي يكفي هذا العددَ من الناس يكفيني وَحدي!»

•••

ومن هذا يتبين القارئُ بَراعَةَ هؤلاء الأقزام، وسَعَةَ علمهم، وحُسْنَ تصرُّفِهم، ودِقَّةَ حسابهم وتقديرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤