الفصل السابع

(١) دَسائِسُ الوُشاةِ

يَحْسُنُ بي أن أُطْلِعَ القارئَ عَلى الدَّسيسة السِّرية المجرمة التي دبَّرها أعدائي رغبة في الكيد لي والانتقام مني. قَبل أن أُغادرَ إمبراطورية «ليليبوت». فَقَد أراد الأعْداء — بهذه الدسيسة — أن يَقضُوا على حياتي، أبَى الله إلَّا أن يخيِّبَ آمالهم، فكانت هذه الدسيسة سببًا في تعجيل خروجي من هذه البلاد، فِرارًا من التنكيل بي، وهَرَبًا من انتقام الوُشاةِ والدسَّاسين.

الحقَّ أقولُ: إنني لم أُخْلَق لتعلُّم واجِبات القصر، وما تقتضيه مناصب رجال الحاشية من مَراسِمَ، وليس لديَّ من الْمَهارة والَّلباقَةِ ما يُمْكِنني من مُجاراةِ هؤلاء الناس، فقد كانت صَراحة كلامي وقِلَّةُ احْتِياطي سببًا في إغضاب الإمبراطور، ورأى أعدائي في ذلك — كما قلت — فرصةً سانِحَة للكيد لي عِنْدَهُ. وما إن تأهَّبْتُ للسفر لزيارة إمبراطور «بليفسكو» حتى جاءني عظيم — من كبار رجال القصر — كان يَمْحَضُنِي الوُدَّ والنُّصْحَ ويُخلصُ لي أشد الإِخلاص، وكنت قد أسْدَيْتُ إليه صنيعًا — ذات يوم — فلم يَنْسَه لي. جاءني هذا الصديق خُفْيةً — وأنا جالس ذاتَ ليلةٍ — على غير مَوْعِد، فعجبت من هذه الزَّوْرَةِ الْمُفاجِئة. وما اسْتقرَّ في بيْتي حتى أمر أَتْباعه بالانصراف، وأشار لي بأنه سيُفْضِي إليَّ بحَديث سِرِّيٍّ ذي شأن، فصرفْتُ خدَمي وأغلقت الباب، ووضعت صاحبي فوق مِنْضَدَتي، ثم أنْصَتُّ إلى حديثه إنصاتًا، فبدأ كَلامَهُ بالتَّحِيَّةِ، وما أتَمَّ تحيته، حتى لَمَحْتُ — على وجهه — أماراتِ الحزن والكَآبَةِ، فسألته — متعجبًا — عن سِرِّ حزنه وألمه، فقال لي: «أرجو أن تُصْغِيَ إليَّ — يا صديقي العزيزَ — فإِن الأمر جَلَلٌ، إذْ إنَّ حياتَك وشَرَفَك في خطر!» فاشتد عجبي، وسألته عما يَعْنيه بذلك، فقال لي متأثرًا كئيبًا: «لقد عقدوا — منذ زمن قصير — عدة لِجانٍ سِرِّية، وقد نجحت فيها مؤامَراتُهم الدنيئة، وأصدر المؤتمرون بك قرارًا مُفَزِّعًا. وما أظنك تجهل أن وزير الحربِ يُبغِضك ويحسُدك وينتهز كلَّ فرصة لِلِائْتِمار بك — منذ حللتَ هذه البلاد — ولست أعلم لهذا العَداء سببًا. على أن حِقْدَ هذا الوزير قد زاد عليك — بعد انتصارك الباهر على أهل «بليفُسكو» وظَفَرك بأُسطولهم — فما إِن رأى هذا الفوز حتى اضْطَغَنَ عليك اضْطِغانًا شديدًا، ونَفَسَ عليك هذا النجاح الذي كان يتمنى لو أصابه لِنَفسه. وقد اتفق — هُوَ ووزير المال، وقائدُ الجيش، وكبيرُ الأمناء، وقاضي القضاةِ — على تدبير مؤامرة خبيثة جارِمَةً للانتقام منك وإهْلاكِك، فَعَزَوْا إليك كثيرًا من التُّهَمِ التي لم تَقْتَرِفْ واحدةً منها، وزعَموا — فيما زعَموا — أنك قد أسأْت إلى الإمبراطور، وفي هذه التُّهمَة — وحدها — ما يُبَرِّر إهلاككَ.»

وما إن سمعتُ منه هذا الكلام حتى بلغ تأثُّرِي وحزني مبلغًا كبيرًا، فَأَردْت أن أُبَرِّئَ نفسي مما زعَموه، فطلب إليَّ — راجيًا — أَلَّا أقاطِعَه، وأن أُصْغِيَ إلى ما يقول؛ فَسَكَتُّ عن الكلام، فقال: «ثِقْ — أيها الصديق العزيز — أنني لم أنْسَ لَك ما أسلفته إليَّ من صَنِيعٍ، وقد بذلتُ قُصارَى جُهدي في تعرُّف دقائق هذه الْمُؤامرة وتفاصيلها، وانتهى سَعْيِي أخيرًا بالحصول على صُورة التقرير الذي كتبه خصومُك، وقد عَرَّضت نفسي للهلاك في سبيل إنقاذِك، فلو انْكشف سرّي لما كان لي من عقاب إلاَّ القتلُ.»

(٢) قَرارُ الاِتِّهامِ

ثم ناولَني قرارَ الاتهام، فقرأته مدهوشًا حائرًا، وإلى القارئ نَصَّهُ:

  • أولًا: «نَصَّ قانون الإِمبراطورية — في باب العقوبات — على أن كلَّ شخصٍ — أيًّا كان جِنْسُه — يدخل القصر الإِمبراطوري من غير إذْن يعتبر مُسيئًا للإِمبراطور ويكون معرّضًا للمعاقبة بأقصى العقوبات، وهو القتل. كما يَنُصُّ — في باب العُقوبات أيضًا — على أن كل من ألقى شيئًا من القاذورات على القصر الإِمبراطوري يَستحقُّ القتل.

    وقد ارتكب «عِملاق العمالقة» هاتين الجريمتينِ الشنيعتينِ، زاعمًا أنه يريد إطفاء النار التي شَبَّت في حجرة الإِمبراطورة العزيزة، فاقْتحم فِناءَ القصر الإِمبراطوريِّ — دون إذْنٍ من الإِمبراطور — وأَلْقَى على النار ماءً قذرًا دنَّس به القصر. وكلُّ جريمة من هاتين الجريمتين تَسْتَوْجِبُ العِقاب بالقتل جَزاءً عادِلًا لمن يرتكبها.

  • ثانيًا: بعد أن تغلب «عملاق العمالقة» على أسطول «بليفسكو» وأحضره إِلى هذه البلاد، أمره حضرَةُ صاحب الجلالة الإِمبراطورية أن يأتِيَهُ ببقية سفن الأعداء، لتُصبح إمبراطورية «بليفسكو» مستعمَرة تابعة لإِمبراطورية «ليليبوت»، وليتمكن جلالة الإِمبراطور من مُعاقبة زُعَماء الفتنة والثائرين الذين هربوا إلى تلك البلاد، ويُنَكِّلَ بهم جزاء تحريضهم على الثورة والعِصيان، ولكن «عملاق العمالقة» لم يُلَبِّ أمر الإِمبراطور، وأَبَى إلِّا الإِصرارَ على عِصْيانه ومخالفته، معتذرًا بسبب واهٍ هو اشْمِئْزازُهُ من الإِقدام على خَنْق شعب نبيل، وإِذلالِ أُمة حُرَّة بريئة.
  • ثالثًا: لم يَكَد يأتي سُفَراءُ «بليفسكو» — منذ أَيام قليلة — إلى قَصْر «ليليبوت» طالبين الصلح مع جلالة الإِمبراطور، حتى تقدم «عملاق العمالقة» إلى جلالته، باذِلًا كل ما في وُسْعِه لتخفيف العقاب، متَشَفِّعًا في أَعداء الإمبراطور، وهو يعلم — عِلْمَ اليقينِ — أَن هذا الوَفْدَ يُمَثِّل أَمَّةً طالما ناصَبَتْنا العِداء، وشَنَّتْ علينا حربًا ظالمة، وليس لهذه الشَّفاعَةِ الْمُجْرِمة إلا معنى واحد، هو خِيانَةُ الدولة والْكَيْدُ لها.
  • رابعًا: اعْتزم «عِمْلاقُ العمالقة» أَن يسافر إِلى «بليفسكو» — بعد أَن خانَ إِمبراطورَنا ولم يُؤَدِّ له واجِبَ الإِخلاص والأمانة الْمَحْتُوم على كل فرد من الرَّعِيَّة — وهو على أُهْبَةِ السفر إِلى بلاد الأعداء، من غير أَن يَحْصُل على إِذْنٍ رسميٍّ من جلالة الإِمبراطور، مكتفيًا بإِجازة شفوية، وفي هذا أَكبر دليل على جُرْأَته وخِيانته، وميله إِلى مساعدة إمبراطور «بليفسكو» عَدُوِّنا اللدود.»

(٣) مُناقَشَةُ التَّقرِيرِ

ثم قال لي ذلك الصديقُ العزيزُ «إن هذا التقرير يحتوي أَدِلَّة أُخرى لم أَشأ أن أَنقُلَها إليك، فقد اكتفيتُ بنقل أَهمِّها وأَعظمِها خَطَرًا، ولست أَكتُمُك أَن جلالة الإِمبراطور قد ناقش هذا التقرير وأَظهر مَيْلَهُ لِلِاعتدال والعَطْف، وقرَّر — أَمام المجلس — أَن العدلَ يقضي عليه بأن يَعْفُوَ عنك، وأَن حُسْنَ نيتك، وما أسلفْتَه إِلى الدولة من — أعمال جليلةٍ — يُقَلِّل من مُؤاخَذَتِك، ويشفعُ لك في العفو عما أَلْصَقُوهُ بِكَ من تُهَمٍ شنيعة.

ولكن وزير الحربِ ووزير المالِ وقائد الجيش كانوا يميلون إلى الاِقتصاص منك، وقتلك أشنعَ قِتلة. وقد اقترحوا أن يوقدوا النار في مسكَنِك ليلًا، وأن يقِفَ القائدُ ومعه عشرون ألفَ فارس معتمِدين قِسِيَّهُم، مُتحفِّزين لإِطلاق سهامِهم المسمومة — على وجهك ويديك — إذا حاولت الفِرار من الحريق.

ورأَى غيرهم أن يَصْدُرَ أمْرٌ سِريٌّ إِلى بعض خدمك بأن يُلْقُوا في ثيابك عَصِيرًا سامًّا لا يمس جلدك حتى يُمَزِّقَه تمزيقًا، ويَفْتِك بجسمك فَتْكًا ذَريعًا. وقد وافق القائد على هذا الرأي، ولكن جلالة الإِمبراطور أَصَرَّ على إنقاذ حياتك، وانضم إلى رأي جلالته كبير الأُمَناء. وقد وافق أمينُ أسرار الحكومة «السكرتير» — حين سُئِلَ عن رأيه — على أن يُصْدِرَ الإِمبراطور عَفْوه عنك — وأنت تعرف أنه من خُلَصائك ومُحِبِّيك — وقد اتفق معهم على أن التُّهَمَ التي أَلْصقوها بك خطيرةٌ حقًّا، ولكنَّ إخلاصَك وحسن نيتك جديران بالشفاعة فيما اقترفْتَه من جُرم. وقد طلب أن يخففوا العقوبة إلى أقصى حدود التخفيف.

وقال لهم — فيما قال —: «إن صداقتي وإخلاصي لعملاق العمالقة معروفان لا سبيل إلى إخفائهما، وربما كان ذلك مستوجبًا لِلظِّنَّةِ والرِّيبة في أمري، فقد يحسب بعض الناس أنني أُحابِيه، ولكنني لا أَعْبأ بمثل هذا الاتهام ما دام في ذلك إِرضاءُ ضميري وإرضاءُ الحقيقة، فأنا أرى أن تَذْكُرُوا جلائلَ أعماله، وأن يكون — فيما أسلَفه من جميع الصُّنْع — ما يخفِّف مِن محاسَبَتِنا له على جرائمِه.

ولا أحسَب أن جلالة الإِمبراطور يأبَى أن يُنْقِذَ حياة هذا الرجل، مكتفيًا بفَقْءِ عَيْنَيْهِ، وفي هذا عِقابٌ رادِعٌ وتحقيق لرحْمة الإِمبراطور وشفقتِه. وفي ظَنِّي أن ذلك العِقابَ يُوافق مصلحةَ الدولة، لأن حياة هذا العملاق نافعة للبلاد، وهو قادر — بعد ذلك — على القيام بكل ما تَفْرِضه عليه الدولُة من الواجبات التي تحتاجُ إلى القوة الجِسْمِيَّة.»

ولكنَّ جميع الحاضرين امْتَعَضُوا، وأصرُّوا على رفض هذا الاقتراح.

ثم قام وزير الحرب غاضبًا — يكاد يَتَمَيَّزُ من الغيْظِ — وقال: «إِنّي لَفِي حَيْرَة شديدة من هذا الرأي الفائل الذي أبداه لنا أمين أسرار الحكومة، وإِني لفي أَشد الدهشة من إِشْفاقه على هذا الغادِرِ وضَنِّه بحياة مجرم خائن للدولة، أمَّا الأعمال التي يزعُم أن هذا العملاق قد أدَّاها للدولة فهي — كما ينص القانون — جرائمُ شَنِيعَة، فهو لم يُطْفئ النار إلا بعد أن ألْقى على القصر ماءً قذرًا. وإن من يقدر على إطفاء الحريق — في لحظة واحدة — يقدر كذلك على إغراقِ القصر والمدينة كلها من غير أن يُكَبِّدَه ذلك أيَّ عَناء، وإنّ من يستطيع أن يتغلب على أسطول العدو بِمُفْرَده — إذا رَضِيَ — يستطيع كذلك أن يَرُدَّ أسطول الأعداء إليهم إذا غَضِبَ، وإن من يرفض أمر الإِمبراطور، ولا يُلَبِّي إشارَتَه، لَهُوَ رجلٌ خائن للدولة مُواطِئٌ لأعدائها. وليس لهذا الْعاقِّ الغادر من جزاء — على عُقوقه وغدره — إلا الموتُ العاجِل، فإِذا تهاوَنْتُمْ في أمره أصبح حَرْبًا عليكم، وإلْبًا مع أعدائكم. فلا تترددوا لحظة واحدة في التخلص منه وإهلاكه، دون أن تأخذكُم — في ذلك — هَوادَةٌ، أو تَثْنِيَكم عنه رَأْفَةٌ أو رحمة.»

وما سمع وزير المال هذه الْحُجَجَ حتى أقَرَّها، وأعلن ارتياحه لما أبداه وزير الحربِ من السَّداد والحكمة، وأَصالة الرأي، وبعد النظر.

ثم قال وزير المال مُعَقِّبًا: «على أن خِزانَةَ الدولة قد نَقَصَتْ نَقْصًا عظيمًا بما أنفقناه على هذا العملاق من المال الجسيم، وإن كل يوم يمر على بقائِه في هذه البلاد يُكبِّد الدولة نفقات طائلة لا تحتملها الْخِزانة العامة. أما هذه الطريقة العجيبة التي يراها أمين أسرار الحكومة، فهي أَضَرُّ علينا — وعلى البلاد — من بقائه سالِمًا. فإنَّ فَقْءَ عينيه — وإن أَضَرَّ بِهِ — يَزِيدُ شَهِيَّتَه للأكل، كما تدل على ذلك المشاهدات والاختبارات. ولعلكم عرَفتم أن فَقْءَ عيون الطيور يَزيد شَهِيَّتها للطعام، ويجعلها تَسْمَنُ بسرعة شديدة. ولا شكَّ أن جلالة الإِمبراطور وأعضاء مجلسِه كلِّه — الذي انعقد لمقاضاة «عملاق العمالقة» — مقتنعون كل الاقتناع بأنه ارتكب جرائم وخطايا تستحق الإهلاك، وفي هذا مُسَوِّغٌ كافٍ لتنفيذِ أحْكام القانون بِلا تَرَدُّدٍ، أو مُناقشةٍ.»

•••

ولما كان الإِمبراطور لا يوافق على القتل، قال للمجلس متلطِّفًا: «إذا كنتم تَرَوْنَ أن فَقْءَ عينيهِ عِقَابٌ خفيفٌ، فَاشْفَعُوهُ — إذا شئتم — بِعِقاب آخر.»

فتشجع أمين أسرارِ الحكومةِ حين سمِع كلام الإِمبراطور، والتمس من المجلس — في خُضوع — أن يسمح له بالرد على قول وزير المالِ. فلما أَذِنَ له المجلُس، قال: «وإذا كان وزير المالِ يرى أن غِذاء هذا العملاق يكبد الدولة مالًا طائلًا، فإِن في قدرته — وحدَه — أن يعالج ذلك بطريقة أُخرى غيرَ الإِهلاك، فيقلِّلَ من طعامه شيئًا فشيئًا، وبهذا ينتهي أمرُ العملاق إلى الضَّعْفِ والهُزالِ، وفِقْدانِ شهِيَّة الأكل، ثم يُسْلِمُهُ ذلك إلى الموت.»

•••

وهكذا استطاع صديقُك أمين أسرار الحكومة أن يُقْنِعَهم بهذه الفِكرة، فاكتفَوْا بفقءِ عينيك وخَفْض طعامك حتى تَهْلِكَ جُوعًا. وقد سُجِّل ذلك في محضر الجلسة، وقرر المجلسُ إنفاذ هذا القرار بعد ثلاثة أيام. وسيجيئك أمين الأسرار — بعد مضي هذه المدة — فَيَتْلُو عليك هذا القرار، ويُظهر ما أبْداه المجلس من الرحمة بك والشفقة عليك — حين اكتفَى بفَقْء عينيك — ثم يكتُم عنك بقية القرار لأنهم آثَرُوا كِتْمانه.

وسيجيء — مع أمين الأسرار — عشرون جَرَّاحًا من مَهَرَةِ أطباء جلالة الإِمبراطور، لِيَفْقَئُوا عينيك، بعد أن يُسَدِّدوا سِهامهم الحادَّة إِلى حَدَقَتَيْهما، وأنت مَطْروحٌ على الأرض.

وقد اعتقد جلالة الإِمبراطور أَنك سَتُذْعِنُ لهذا العِقاب، وترضَى به، بعد أن تعرف أنهم قد عدَلوا عن قتلك.

والآن — يا صديقي — أرجو أن تأذَن لي في الانصراف خُفيةً، وقد أدَّيْتُ لكَ حق الصداقة، وأخبرتك بكل ما دار، حتى تكون على بَيِّنَةٍ من أمرك.

ثم عاد هذا الصديق الوَفِيُّ — من حيث أتَى — وتركني وحدي مستسلمًا لهمومي وحَيْرَتي.

(٤) هروب «جَلِفَر»

كانت هذه البلاد — فيما علمت وكما أَثْبَتَ لي أكثرُ من عرَفت — مثالًا من أمثلة العدل والإنصاف، ولم يكن الحكام يستبدُّون بالرَّعِيَّة قبل عَهْدِ هذا الإِمبراطور وأبيه وجَدِّه — كما أسلفتُ القول — ومتى ساد الْجَوْرُ، واستسلم الحاكِمُ لأهْوائه، كان ذلك مُؤْذِنًا بِسُوء الْمَآل. وهكذا أثار هذا الإِمبراطور — كما أثار أبوه وجَدُّه من قبلُ — كثيرًا من الفِتَنِ التي نَجَمَتْ عن استبداده في الحكم، وما جرّه هذا الاستبداد من خَلق الْمُشْكِلاتِ التي لا تعود على البِلاد بالنفع. وكان من سُنَّة هذا الإِمبراطور التي سارها وارتضاها — ولم يَشْرَكْهُ فيها أحد من أسْلافه — أنه كان يُصدر أشنع الأحكام في أتْفَهِ الذُّنوب، ثم يُعلنها مُمْتَنًّا على شعبه بها، على الرغم مما فيها من ظلم وإرْهاق، متغنِّيًا بِصفات العطف والرحمة والشفقة التي ميَّزه الله بها عن سائر الحكام. ثَمَّةَ تمتلئُ قلوبُ الناس رُعْبًا وهَلعًا كُلما سَمِعوه يتغنى بذكر الرَّحمة والشفقة والعدالة، فقد طالَما أَلِفوا — في أمثال هذه الألفاظ — مُقَدِّماتٍ لأقَصى الأحكام الجائِرَةِ!

أما أنا فقد غَرِقْتُ في بحر منْ الهمُوم، وتَحَيَّرْت في أَمري، ماذا أَصنع؟ وكيف أَقول؟ وهل أُقابل هذا الْحُكْمَ راضِيًا مستسلمًا من غير أَن يَسمع الْقُضاة دِفاعي عن نفسي؟ على أَنني كنت واثقًا كل الثقة أَلَّا فائدةَ من ذلك لو دُعِيتُ إلى مجلس القضاء. ولقد شهِدتُ بنفسي قضايا لا تكاد تختلف عن قضيتي هذه، ورأيت كيف انتهت وَفْقَ رغَبات القُضاةِ والحكام، دون أن يُسمع لِمُتَّهَمٍ قولٌ مهما يكن صادقًا مُحِقًّا.

وتحرَّكتْ في نفسي رغبة جامحة إلى الانتقام من هؤلاء الأقزام الضِّعاف، ودَكِّ إمبراطوريتهم على رُءُوسهم دَكًّا. فقد كان من اليسير على مثلي — وأنا حُرٌّ طَليقٌ أن أقذف مدائنهم بالأحجار، وأُدَمِّر حاضِرَةَ بلادهم في زمن يَسِير، ولكنني ذكرت اليمين التي أَقسمتها للإِمبراطور، وذكرت ما غمرني به هو وشعبه — حين قَدِمْت عليهم — من فضْل وعطف وتكريم، ورأيت أن أدْفَعَ الإِساءةَ بالإِحسانِ، وأن أكتفيَ بالْهَرَب من هذه البلاد، فقد كنت على يقين أن قضاءَ ذلك المجلس لا بُدَّ نافذٌ، وأن من سوء الرأي والْخَطَلِ أن أطمع في الاحتفاظ بعْيَني وحريتي وحياتي، بعد أن أصدر ذلك المجلسُ قَضاءه الْمُبْرَمَ في أمري. وقد زادني إيمانًا بهذه العقدة أَنني رأيت كثيرًا من الْمُتَّهَمين قد حوكموا في جرائمَ — أقلَّ خطرًا من جُرمي — دون أن تأخذ القضاةَ في أمرهم هَوادَةٌ ولا رحمةٌ.

وثَمَّةَ انتهزت فرصة التَّرْخِيصِ الشفويِّ الذي ظفِرت به من الإِمبراطور لإِعداد العُدة إلى «بليفسكو»، وبادرت — قبل أن تنقضِيَ الأيام الثلاثة التي أَجَّلَ بها مَجْلسُ القضاء إنفاذَ حكمه — فأرسلت كِتابًا إلى صديقي أمين أسرار الحكومة بما استقرَّ عليه عزمي: من السفر — في ذلك اليوم — إلى «بليفسكو» بعد أن ذكرت له — في ذلك الكتاب — أنني إنما أَفعل ذلك بعد أن رَخَّصَ لي جلالة الإِمبراطور.

ولم أنتظر رَدَّه على كتابي، فسرت — مُجِدًّا في سيري — حتى وصلت إلى شاطئ الجزيرة حيث الأسطولُ، فأخذت سفينة حربية كبيرة، وربطت حبلًا في مقدمتها، ثم رفعت مِرْساتَها، وخلعتُ ملابسي ووضعتها هي وغِطائي في تلك السفينة، وجذبتها إلى الماء، ومازِلت سابحًا — طَوْرًا أعتمد عليها، وطورًا أَسبح إلى جانبها — حتى وصلت إلى ميناء «بليفسكو»، حيث رأيت الشعبَ ينتظِر قدومي بشوق شديد منذ زمن طويل. وقد قدَّموا إليَّ مُرْشِدَيْن سارا بي إلى عاصمة بلادهم. وقد رفعْتُهما بيدَيَّ حتى وصلنا إلى باب المدينة، ثم رجوتُ مِنْهما أن يُبلِّغا أَحدَ الوزراء نبأ قُدومي، وبَقِيتُ في مكاني، وأَنا أُراقِبُ أمر جَلالة إمبراطور هذه البلاد. وبعد ساعة من الزمن جاءني الرد بأن جلالة الإِمبراطور وجميع الأُمَراء والوزراء قادِمون لاستقبالي، فتقدَّمْتُ بِضْعَ خُطُواتٍ حتى لَقِيتُ الإِمبراطورَ وحاشِيَتَهُ — وهُمْ على جِيادهم — ورأيت الإِمبراطورةَ وحاشيتها قد خرجن مع الإِمبراطور لاستقبالي، فاستلقيت على الأرض ليتسَنَّى لي أَن أُقَبِّل يدى الإِمبراطورِ والإِمبراطورة.

وقد صادَفْتُ من إكرام القَوْم، وحسن لِقائهم، واحْتفائهم بي، ما لا أَستطيع أَن أَصفه، وقد قلت لجلالة الإِمبراطور: إنني جئت إلى بلاده — بَرًّا بِوَعْدِي — بعد تَرْخِيصِ إمبراطور «ليليبوت».

ولم أَشَأْ أَن أُحَدِّثَه عن غدْرِ ذلك الإِمبراطور ورجالِه بي. ثم قلت له: إنني مستعد لتلبية كلِّ ما يأمرني به جلالته، إلَّا فيما يعود على إمبراطور «ليليبوت» بالْخَسارَةِ والضَّرر.

•••

وما أَحسَبُ القارئ يطمع مني في تفصيل ما شَمِلني من الْحَفاوة والابتهاج والتلطف والعناية في هذه البلاد، فإِن ذلك يحتاج إلى إسْهابٍ وتَطْوِيلٍ، قد يُضْجِران القارئَ، إذ لا يجد فيهما فائدة تعود عليه.

وحَسْبُ القارئِ أن يعلم أَنني كنت على أسعد حال، وأَهنأِ بال. ولم يكن يُعْوِزُني — في هذه البلاد — إلَّا وجود بيت أسكنه، وسَرير يُناسِبُ حجمي. ولِذلك اضطُرِرْت إلى افْتِراشِ الأرض، مُلْتَحِفًا غِطائي الذي جئت به إِلى هذه البلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤