إلمَامَة

جوناثان سويفت١ مؤلف رحلات «جَلِفَر»

ولد «جوناثان سويفت» في «دوبلن» يوم ٢١ من نوفمبر سنة ١٦٦٧م. وهو من سلالة أسرة قديمة في كنيسة «يورك»، وقد تزوج جده «توماس سويفت» «إليزابيث دريدن» خالة الشاعر «دريدن» المشهور، وكان «جودوين سويفت» — أحد أعمامه — من رجال القانون في «دوبلن»، وكان والد المؤلف مدير فندق في هذه المدينة.

•••

وقد ولد «جوناثان سويفت» بعد موت أبيه، وكانت أمه لا تملك شيئًا من حطام الدنيا، ولا تكاد تجد القوت، فاضطرت إلى التماس المعونة من بعض أقاربها، ثم نزحت تلك الأرملة الفقيرة إلى «ليستر» واضطرت اضطرارًا إلى أن تسلم طفلها إلى مرضع رحلت به إلى «وتهافن» بإنجلترا، وأبقته عندها حتى بلغ السادسة من عمره، ولكنها حين عادت به إلى «دوبلن» كان قد بدأ يعرف القراءة.

ولقد كان في هذه السن شرسًا، مفتول الساعدين، مرهوب الجانب، وكان مملوءًا صحة ونشاطًا، ولم يستطع عمه أن يبقيه عنده، فأدخله مدرسة «كيلكني» ثم ألحقه في عام ١٦٨٢م بمدرسة «لاتربنتييه» في القسم الداخلي، وتولى الإنفاق عليه، ولكن «سويفت» لم يلق نجاحًا في حياته الدراسية — برغم ذكائه الحاد — فقد كان أسوأ مثال للطالب، وكان لا يفتأ يتشاجر مع أقرانه، ويعاقبه مدرسوه على شراسته. على أنه كان مولعًا أشد الولع بالمطالعة، وكان أحب الكتب إلى نفسه أبعدها عن دروسه. وكان من الطبيعي أن تنتهي حياته المدرسية بالخيبة والإخفاق، ولكنه جاز — مع ذلك — امتحان البكالوريا بنجاح، فأدهش نجاحه كل أساتذته الذين كانوا يترقبون — بملء الثقة — رسوبه في الامتحان.

وما إن التحق بالجامعة حتى صار خلقًا آخر، وأصبح ذلك المثال السيئ خير مثال للطالب النابغ الممتاز، واشتد شغفه بالعلوم، ولا سيما علمي التاريخ والتشريع.

ولما نشبت ثورة سنة ١٦٨٨م كان في العشرين من عمره، فسافر إلى إنجلترا خالي الجيب، لا يملك شيئًا، وقد سافر إلى «ليستر» على قدميه، رغبة في استشارة أمه في اختيار المهنة التي يحترفها.

فرأت أمه في ذلك فرصة حسنة، فقد كانت أشد فقرًا من ولدها، وكانت في حاجة إلى معونته، وكان لها قريبة اسمها السيدة «تمبل» متزوجة رجلًا اسمه السير «وليم تمبل» أحد كبار رجال الحكومة المعدودين، وكان من الموثوق بهم، فألحق الشاب «سويفت» بوظيفة سكرتير، بمرتب ٥٠٠ فرنك في السنة، ولكن «سويفت» الشاب المتوثب الطموح لم يكد يلتحق بهذه الوظيفة حتى دب في نفسه دبيب الملل منها.

ولعل ذلك الملل ناشئ من ضآلة مرتبها، أو لأنه كان يضطر اضطرارًا إلى تناول الطعام مع رئيس خدم الفندق في المطبخ، وقد حدث له أثناء وجوده مع السير «وليم» أنه حشد ضد الأرستقراطية كل ما في نفسه من الأحقاد والآلام التي ظهرت آثارها العميقة في كتاباته. وما أجدرنا أن نبادر فنقرر بأن أحقاده تلك لم يكن لها مسوغ، فقد كان «الشفالييه دي تمبل» يغمره دائمًا برعايته وإخلاصه وفضله. ولما اعتزل ذلك السياسي الشيخ وظيفته ووهب وقته لغرس حديقته ودراسة الأدب أصبحت وظيفة «سويفت» السكرتير الشاب هينة سهلة، وصار عنده من فراغ الوقت الذي يختص به أعماله الشخصية ما يساعده على تحقيق رغباته، وقد مهد له اتصاله بالسير «وليم» السبيل للوقوف على أسمى المعارف الإنسانية، ولم يكن هذا الشاب ليجد مرشدًا له خيرًا من هذا الشيخ، وقد اتسعت مواهبه ونمت مزاياه الباهرة الخارقة نماءً سريعًا. وكان السير «وليم» أول من لمح فيه ذلك النبوغ وقدمه إلى الملك «غليوم الثالث» فقدم له فصيلة من الدراجون، ولكن «سويفت» لم يكن ذا نزعة عدائية حربية، بل كان يميل إلى البقاء في الدير، وأراد السير «وليم» أن يدخله مكتب حامل الأختام، فرفض هذه المهنة أيضًا. وفي سنة ١٦٩٣م ظفر بدرجة دكتور في المثيولوجيا (علم الأساطير) ثم صار قسيسًا، وأصبح بفضل رعاية الملك وعناية السير «وليم تمبل» ظافرًا بتحقيق شيء من أطماعه التي كانت منصرفة إلى الوصول إلى أسمى المراتب الكنسية، ولم يكن يحلم بشيء إلا بالوصول إلى درجة رياسة الكهنة. وقد يئس كل اليأس بعد أن أخفق في مساعيه التي لم ينل منها سوى تلك الوظيفة المتواضعة، وظيفة قسيس، فلم يلبث فيها إلا قليلًا، ثم انتزعها منه أحد الخونة. وقد توفي السير «وليم» بعد أن أوصى له بمبلغ زهيد هو مائة جنيه، وأوصى — إلى ذلك — بأن يعنى بنشر مؤلفاته، وكانت نزعة «سويفت» الهزلية قد ذاعت وعرفت عنه، ولما خشي اللورد «بركلي» أن يصيبه شيء من تلك النزعة وهبه كنيسة «دبلاراكول». وفي سنة ١٧٠٠م ألحق بكتدرائية «سان ماتريك» فكفلت له خيراتها المختلفة دخلًا سنويًّا قدره ١٠٠٠٠ جنيه. ثم انقطع «سويفت» إلى «لاراكور» حيث تفرغ لعمله كل التفرغ، وقد ارتاح لجمال الخلاء ومباهج الطبيعة، ولكن أطماعه لم تزل جادة في سيرها، وقد دفعته إلى النزوح إلى «لندن»، فاندفع بنشاطه وهمته في ميدان السياسة وأصبح في سنة ١٧٠٤م من أكبر الزعماء، ولما كان معروفًا بأنه نقاد لاذع في نقده، فائق في أسلوبه التهكمي البارع — الذي ظهرت بوادره منذ سنة ١٦٩١م في «معركة الكتب» — ظفر من حزبه الذي يناصره ويدافع عن قضيته بأكبر قسط من التأييد. ثم فاجأته بعض الصدمات التي جرحت عزمه وكبرياءه، وأيأسته، فلم ير بدًّا من العودة إلى «لاراكور». وقد نشر بين سنتي ١٧٠٤، ١٧١٠م عددًا من تصانيفه الهزلية، كان لبعضها أثر كبير في مستقبل المملكة. ثم تولى بعد ذلك إدارة جريدة «الإجزامنر»، فحمل فيها على كثير من الكبراء، وسخر منهم، وندد بهم في قسوة عنيفة، ثم تزوج سنة ١٧١٩م «باسترجونسون» بنت وكيل السير «وليم تمبل»، وهي فتاة جميلة، وقد ذاع صيتها باسم «ستلا».

ولما عاد إلى «أيرلندا» نال شهرة شعبية عظيمة بحملاته على الوزارة الإنجليزية، وافتتن الشعب به عقب نشره «رسالة تاجر جوخ». وقد حمل فيها على إصدار نقود. وجرأ جميع مواطنيه على رفضها، فأثرت تلك الرسالة في حاكم الهند أشنع تأثير، فأمر بمحاكمة الطابع، وقرر ٣٠٠ جنيه مكافأة لمن يدله على صاحب هذه الرسالة، ولكن الطابع بريء. وأصبح «سويفت» بطل «أيرلندا» المحبوب.

وكان في كل مرة يزور فيها «أيرلندا» تقام له الزينات وتسطع له الأنوار، وكان يتحاشى كل هذه المظاهرات بوسيلة واحدة، هي الإسراع بالعودة إلى «لاراكور» حيث أنجز وضع كتابه «جلفر» وهو أحد مؤلفاته التي سجلت اسمه في عداد الخالدين.

وليست رحلات «جلفر» كما تبدو لأول وهلة مجرد قصص بسيطة عن الجنيات والعفاريت، فقد توخى المؤلف فيها، وهو يصف «ليليبوت» و«بربدنجاج»، عرض أخلاق إنجلترا تحت ستار السخرية.

وقد قال المسيو «تيرته» الناقد المشهور: «إن كل موهبته وكل مؤلفاته قد تجمعت في هذا الكتاب، وإن عقله الخصب قد طبع فيه صورته وقوته، ولست أرى أثرًا رائعًا في تصنيفه وفي أسلوبه مثل هذا الكتاب، وما هو إلا صحيفة رجل عادي، كان جراحًا، ثم ربانًا يصف بقوة وثبات ما وقع نظره عليه من الحوادث والأشياء. وكان «كوك» يكتب على هذا النحو، ولكن «سويفت» قد طلب الحقيقة، فأصابها، وكان فنه في عمله هو أن يجعل الغرض أساسًا ثم يقرر الآثار التي تنجم منه.»

وقال مؤلف آخر: «إن سياحات «جلفر» لأشد حزنًا من سياحة «دانتي» خلال الجحيم. فأنت عبثًا تلتمس فيها سببًا إلى السماء. فأي موازنة بين سياحة «بونتاجريل» و«رابيليه» الخيالية؟

إن سفينة «بونتاجريل» كانت تجري بعلم تام وبطبيعة تامة. فرياح المستقبل تهب في ثنايا شراعاتها، على حين أن «جلفر» الذي مثله «سويفت» كان يجري دون أمل أو خيال، فقد كشفت له البلاد الموهومة التي هبط إليها، عن نقائص الإنسانية التي زادت خيبته زيادة شنيعة. وقد أدرك منها أن الإنسانية مستعصية الشفاء لا سبيل إلى إصلاحها واستئصال أدرانها، وأن كل ما فيها إنما هو أنانية وشقاء، وأن العالم — حين يتكشف عنها — يصبح نوعًا من النيران المتأججة في الفضاء، وقد عمل «سويفت» على تشويهها وتجريدها من قيمتها، كما حقر المثل الأعلى للخلود.»

وقد رتب «سويفت» كل شيء بنظرة سائح مطمئنة، كل غايته وسعيه متجهة إلى شيء واحد: هو أن يظهر نفسه بمظهر الحقيقة، وقد كان جادًّا في قوله: «كان من صميم قلبي وبودي أن يصدر قانون يحتم على كل سائح ألا يذيع أنباء سياحته، وأن يقسم أمام اللورد حافظ الأختام: إن كل ما سيطبعه إن هو إلا حقيقة محضة، أو إنه كذلك على قدر ما يظن. وعلى هذا لا يكون الناس مخدوعين، كما هم دائمًا مخدوعون. وإني أصوت سلفًا لمثل هذا القانون، وأقبل راضيًا ألا تطبع مصنفاتي إلا بعد تهذيبها.»

كان «سويفت» من أشهر أعلام عصره، وقد ظهر لنا في ميدان النقد بصورة رجل هائل، قوي العضلات، مفتول الساعدين، عظيم الخطر في شئون بلده وأحواله، وهو على ثقة بأن ستكون له شهرة خالدة، ولكن الرخاء والسعادة ما كانا ليمسياه وإذا كان من الحق أن «سويفت» — وقد غامر في الحياة — لم يألف من قبل إلا مرارة التوسل للإحسان حتى اضطر إلى أن يحنو لبعض العظماء، فمن المحقق أنه كان مسلحًا، وكان قادرًا على أن يذلل العقبات التي تعترض سموه ورفعته — إذا ما توافرت فيه الشجاعة على الصبر — التي هي بحق دليل على النفوس الكبيرة، أعني النفوس التي لا تضمر حقدًا ولا غيرة. ولا مشاحة أن من الخطأ البين أن يضحي الإنسان بضميره في سبيل المصلحة، وأن يوجه ضرباته حينًا إلى حزبه. وحينًا إلى حزب آخر. جريًا وراء الفائدة التي ينشدها، ويترقب الوصول إليها من أحدهما. لهذا كان ظهور «جلفر» حادثًا جليلًا كما قلنا. وقد كتب الكاتب القصصي «جاي» لسويفت في ١٩ من نوفمبر/تشرين الثاني سنة ١٧٢٦م ما يلي: «نشر في لندن» هنا «كتاب عن سياحات رجل اسمه «جلفر» كان حديث الناس في المدينة كلها. وقد بيع جميع ما طبع منه في أسبوع واحد. وليس ثمة ما يدعو إلى الترويح والتسلية، أكثر مما حواه هذا الكتاب من تنوع الأفكار والآراء، فقد أجمع الناس على ذلك، ولم يشذ منهم أحد. وقد تذوقوا لذة كل كلمة فيه، ولم يعرف الناس اسم مؤلفه، وناشر الكتاب نفسه لا يدري من الذي قدم له هذا الكتاب الذي قرأته جميع الطبقات؛ من أعلاها إلى أدناها، من خاصتها إلى عامتها، من غرفة رئيس الوزارة إلى غرفة المرضع.»

على أن «سويفت» لم يكتم طويلًا ذلك السر الذي كان يحرص على ألا يذيعه، فقد أفضى به في سنة ١٧٢٧م إلى القسيس «ديفونين».

وقد كتب المسيو «نابرو» في معجم أدب اللغة يقول:

«إن رحلات «جلفر» رواية رائعة، تشتمل على إشارات ووقائع عسرية، وتمثل لوثة الإنسانية العامة، وهذه اللوثة وحدها هي التي تهمنا اليوم، فقد زعم المؤلف أن جراحًا اسمه «جلفر» روى وقائع غريبة ومدهشة حدثت له بعد أن غرقت سفينته التي انتهت رحلتها إلى «ليليبوت»، في بلد لا يزيد طول أحد من أهليه وساكنيه على ست أصابع. ثم ذهب بعد ذلك إلى «بربدنجاج» وهو بلد أهله من العمالقة. ثم انتهى به السير إلى جزيرة «لابوتا» التي يقطنها الفلاسفة والفلكيون، ثم إلى «جلوبد» و«يدريد» حيث يسكن السحرة الذين يستعرضون — رغبة في الفكاهة — عظماء العصور السحيقة. ثم وصل إلى «لوجناك» حيث لقي أشقى خلق الناس وأتعسهم، وهم أناس مخلدون. وأخيرًا سار في سياحة رابعة ووصل إلى بلاد «الهويههمم» أي الخيول الرشيدة المتحضرة التي تعيش على مقربة من الأكثرين بشاعة ودنسًا، وحمقًا ووحشية، وهم الرجال أو «الياهو» وهذه هي الكلمة الأخيرة. وقد سلك المؤلف في نقده طريقته المسلية التي تنطوي على الزراية بالإنسانية. وقد راج هذا الكتاب الأول في نوعه وفي عمق فكرته.»

و«جلفر» بطل «سويفت» قد ألم بكل شيء، وقد قال عنه «بريفت فيرادول»: «إن السياسة المنحطة في الرحلة إلى «ليليبوت» في منازعات عش النمل، تتلاشى حيال الحكمة الهادئة عند أهالي «بربدنجاج»، وحيال الملك الفيلسوف الذي أخذ بيده ذلك المادح الفصيح — للتقاليد والأخلاق في إنجلترا — وعطف عليه وقال له دون تأثر وانفعال: «إنه يرى أن السواد الأعظم من مواطنيه أحط من سار على وجه الأرض.»

ومن بين سياحات «جلفر» — التي حازت في فرنسا قسطًا كبيرًا من الشهرة والذيوع — قصة «البرميل» التي دس في أثنائها — بحجة الدفاع عن الكنيسة — كثيرًا من لاذع التعريض بكثير من دوي الخطر.»

•••

وقد أصيب «جوناثان سويفت» — في آخر أيام حياته — بذهول انتهى بفقدان قواه العقلية شيئًا فشيئًا، وقد قال عنه الناقد «لاهيه»:

«لقد فقد ذاكرته، وقيل: إنه قضى عامًا دون أن يفوه بكلمة واحدة، وكان يستبشع صورة الإنسان، ويسير في كل يوم عشر ساعات وهو ذاهل معتوه.»

وقد مات «سويفت» في ٢٩ من أكتوبر سنة ١٧٤٥م وهو في الثامنة والسبعين من عمره، ودفن في كتدرائية «بتريرك».

١  اقتبسنا هذه الكلمة من ترجمه «سويفت» لتكون عونًا لحضرات المدرسين على فهم حياة مؤلف هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤