ملحق ختامي

ترجمة لمقال إيهاب حسن: سؤال ما بعد الحداثة

(١) سؤال ما بعد الحداثة١

إنها مسألة متعددة الجوانب، ولعل هذه الأسئلة تلقي بعضًا من الضوء عليها: هل ثمة ظاهرة جديدة في الثقافة المعاصرة عمومًا، وفي الأدب المعاصر بشكل خاص، تستدعي أن نطلق عليها اسمًا جديدًا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يُفيدنا هنا اسم مبدئي من قبيل «ما بعد الحداثة» Post Modernism؟ وكيف يمكن لهذه الظاهرة، دعونا نَتوافق على تسميتها الآن بما بعد الحداثة، أن تتواصَل مع مفاهيم أخرى، مثل الحداثة أو الطليعة avant-garde؟ وهل ثمَّة إشكاليات نظرية وتاريخية تخفيها تلك الظاهرة؟

لقد جاءت معظم الاجتهادات التي سعَت لتعريف ما بعد الحداثة مضطربةً؛ وتبدو في أحسن الأحوال نوعًا من التكرار الذي لا يُفيد، فتُخبرنا بما نحن متأكدون من معرفته بالفعل. إذًا، ما الذي سنجنيه من هذا المسار الاستفهامي الذي بدأناه؟ إذا لم يكن ثمة ما نجنيه سوى إلقاء بعض الضوء على هذا الالتباس المعقَّد فربما يسهم ذلك في فهْم بعضٍ من جوانب اللحظة الثقافية التي نمرُّ بها الآن.

دعونا نبدأ إذًا.

(١-١) تاريخ المصطلح

لستُ متأكدًا أين ومتى كانت المرة الأولى التي تم فيها استحداث هذا المصطلح، خاصة إذا سلَّمنا أن المصطلحات تتوالد تاريخيًّا عن بعضها البعض. ولكن فيما يأتي محاولة لعرض جُل ما نعرفه عنه:

استخدم فيديريكو دي أونيس Federico De Onis كلمة postmodernismo في كتابه مختارات من الشعر الإسباني والإسباني الأمريكي Antologia de la poesia espanola e hispanoamericana (١٨٨٢–١٩٣٢م)، والذي نُشر في مدريد عام ١٩٣٤م، وأعاد دودلي فتس Dudley Fitts استخدامه من جديد ١٩٤٢م في مختارات من شعر أمريكا اللاتينية المعاصر للعام Anthology of Contemporary Latin-American Poetry of (١٩٤٢م).٢ وقد أراد كلاهما الإشارة إلى رد فعلٍ تجاه الحداثة كان كامنًا داخلها، لكنه كان ثانويًّا أو محدود الأثر. كما ظهر المصطلح في موجز سمورفيل Somervell لكتاب أرنولد توينبي  A. Toynbee  دراسة التاريخ A Study of History as early as D.C. في العام ١٩٤٧م. فقد اعتبر توينبي أن «ما بعد الحداثة» مصطلح يصف دورة تاريخية جديدة تمر بها الحضارة الغربية، بدأت حوالي العام ١٨٧٥م، وأننا بدأنا بالكاد نستطلع ملامحها. وبعد ذلك بقليل، خلال الخمسينيات، يحدِّثنا تشارلز أولسون Charles Olson عن ما بعد الحداثة بوصفها ثقافة غدت طاغية أكثر منها تعريفًا له ملامح محددة.
لكن المُنظِّرون الأدبيون ليسوا مثل الأنبياء والشعراء في إحساسهم بوفرة الوقت.٣ ففي عامي ١٩٥٩م و١٩٦٠م، كتب إيرفينج هوي Irving Howe وهاري ليفين Harry Levin عن ما بعد الحداثة بوصفها نكوصًا عن الحركة الحداثية العظيمة. وخلال عَقد الستينيات تم استخدام المصطلح من قِبَل ليزلي فيدلر Leslie Fiedler ومن قِبَلي أنا، ومن قِبَل آخرين أيضًا، باندفاعٍ لا يتسم بالنضج، بل وكذلك بلمسةٍ من التهور. فقد أرادت فيدلر من خلال البوب Pop الطعن في نخبوية التقاليد الحداثية العالية. وأردتُ أنا استكشاف الدافع وراء التفكك الذاتي Self-unmaking الذي هو جزء من تقاليد الصمت الأدبية.٤ فالبوب والصمت، أو الثقافة الجماهيرية والتفكيك، أو — كما سأقول لاحقًا — المحايثة واللاتعيُّن، قد تكون جميعها مظاهر لثقافةِ ما بعد الحداثة. ولكن يتوجَّب عليها انتظار القيام بتحليلٍ متأنٍّ لكل هذا.

إنني أدرك أن تلك الملاحظات لا يُمكن أن تعطي تاريخ هذا الموضوع حقَّه. لكنني آمل أن تكون قد قامت بمهمتها بغير تحريف أو تشويه. ثمَّة شيء واحد مؤكَّد بالنسبة لي: إن مسمى «ما بعد الحداثة» قد اكتسب الآن استخدامًا واسع النطاق، إن لم يكن استخدامًا مُضطربًا. فقد ارتبط بالفن والموسيقى والأدب والرقص والعمارة والتخطيط العمراني والاتجاهات الثقافية من كل نوع، بل إنَّ أحد الأشخاص، ممن حضروا محاضرة لي في اليابان عن ما بعد الحداثة، استخدم المصطلح بصورة مُبتكَرة لوصف نوع جديد من السياسة.

(١-٢) الإشكاليات المفاهيمية لما بعد الحداثة

بالإضافة إلى ما سبق، أجد أنني لم أذكر سوى القليل عن معضلة الإشكاليات المفاهيمية التي تَنبني عليها ظاهرة ما بعد الحداثة. ودعوني أحاول الآن تحديد تسعٍ من تلك الإشكاليات، بادئًا بأكثرها وضوحًا ووصولًا إلى أشدِّها عسرًا وتعقيدًا.

  • (١)
    ليست كلمة ما بعد الحداثة صعبةً وغير مألوفة فحسب؛ بل هي تستحضر كذلك ما ترغب في تجاوزه أو قمعه؛ أي الحداثة نفسها. وهكذا يحوي المصطلح عدوه داخله، على عكس مصطلحات مثل الرومانسية romanticism والكلاسيكية classicism والباروك baroque والروكوكو rococo. وعلاوة على ذلك، فإنه يوحي بالتواصل الزمني وفي نفس بالوقت بالتأخُّر والتدهور الذي لا يمكن أن يعترف به أي منتمٍ لتيارِ ما بعد الحداثة. ولكن ما هو الاسم الذي يصلح لهذا العصر الغريب الذي نحياه؟ عصر الذرَّة أو الفضاء أو التليفزيون أو السيميائية أو التفكيكية؟ أم عصر اللاتعين، كما اقترحت (اللاتعين في مقابل المحايث)؟٥ أم هل يكون من الأفضل ألا نشغل أنفسنا بأمر تلك التسمية، وأن نتركها لمن سيأتون بعدنا؟
  • (٢)
    مثله مثل العديد من المصطلحات التصنيفية — من قبيل ما بعد البِنيوية أو الكلاسيكية والرومانسية — فإن مصطلح ما بعد الحداثة يُعاني بعضًا من اللااستقرار الدلالي: بمعنى أن المُفكِّرين لم يُجمعوا على معناه. ومما يُضاعف من صعوبة الأمر وجود عاملَين؛ أنه مصطلح جديد نسبيًّا، لم يبلغ الرشد بعدُ، وصلته الدلالية الوثيقة بالعديد من المصطلحات الجديدة غير المُستقرة أيضًا. وهكذا يعني بعضُ النقاد بما بعد الحداثة ما يقصد به الآخرون النزعة الطليعية avant-gardism، بينما لا يَزال البعض الآخر يُسميها ببساطة بالحداثة. وهو الأمر الذي يَستدعي نقاشًا.٦
  • (٣)
    يَرتبط بذلك صعوبة أخرى تتعلَّق بعدم الاستقرار التاريخي للعديد من المفاهيم الأدبية، وقابليتها المستمرة للتغيير. فمَن هذا الذي يجرؤ، في عصرنا هذا الذي يستشري فيه سوء الفهم، على الزعم بأن كلًّا من كولريدج Coleridge وباتر Pater ولفجوي Lovejoy وأبرامز Abrams ووبيكهام Peckham وبلوم Bloom فهموا الرومانسية بالطريقة نفسها؟ هناك بالفعل بعض الأدلة — في مقالاتي بشأن هذا الموضوع مثلًا٧ على صعوبة الفصل بين ما بعد الحداثة والحداثة، بما يُهدِّد إمكانية التمييز بينهما. ولكن ربما قد تفيد هذه الظاهرة، التي هي قريبة الشبه بظاهرة «الانزياح الأحمر» red shift٨ كما أسماها هابل Hubble في علم الفلك، في يومٍ من الأيام لقياس السرعة التاريخية للمفاهيم الأدبية.
  • (٤)
    ليس ثمة ستار حديدي أو سور كسور الصين يَفصل بين الحداثة وما بعد الحداثة؛ فالتاريخ يَتضمَّن طبقات مُتعدِّدة من المعنى والتفاصيل، والثقافة تخترق الماضي والحاضر والمستقبل. إنني أشكُّ في أننا جميعًا نجمع بين شيء من الفيكتورية والحداثة وما بعد الحداثة في آنٍ واحد. ويُمكن بسهولة أن يكتب المؤلِّف الواحد عملًا حداثيًّا وآخَر ما بعد حداثي (التباين الواضح بين عملي جويس Joyce  صورة الفنان في شبابه Portrait of the Artist as a Young Man ويقظة فينيجان Finnegans Wake). وبصورة أعم، وعلى مستوًى أعلى من التجريد السردي، ربما تكون الحداثة نفسها، قادرة بالفعل على استيعاب الرومانسية، وأن ترتبط الرومانسية بالتنوير، وأن يَرتبط التنوير بعصر النهضة، وهكذا حتى تَكتمِل الدائرة، وصولًا إلى اليونان القديمة.
  • (٥)
    هذا يعني أنه يتوجَّب علينا أن نَنظر إلى أي مرحلة زمنية وفقًا لآليتَي التواصُل والانقطاع؛ حيث إنَّ كلا الآليتين يكمل كلٌّ منهما الأخرى. الرؤية الأبولونية، المجرَّدة الشاملة، لا تدرك سوى التواصُل التاريخي. والشعور الديونيسي، الحسِّي شبه المُتبلِّد، لا يلمس سوى اللحظة المنفصلة.٩ وبالتالي تتطلَّب ما بعد الحداثة، من خلال الوجهَين السابقين، النظر إليها دائمًا بطريقة مزدوجة. فلا بد أن نضع في اعتبارنا، إذا أردنا أن نفهم التاريخ، ونستوعب (نُدرك، نفهم) التغيير، التشابه والاختلاف، الوحدة والتمزُّق، الخضوع والتمرد.
  • (٦)

    ولكن «الفترة الزمنية» لا يُمكن النظر إليها على أنها مجرَّد فترة بإطلاق؛ بل هي بناء تزامني وتَعاقُبي في آنٍ واحد. وما بعد الحداثة ليست استثناءً، مثلها في ذلك مثل الكلاسيكية أو الرومانسية كما سبق القول؛ فهي تتطلَّب تعريفًا زمنيًّا وتصنيفيًّا، تاريخيًّا ونظريًّا. وليس في وسعِنا أن نزعم على نحوٍ فعلي وجود تاريخ محدَّد لها، وبالتالي لن نتمكَّن من تحديد «تاريخ» لها على النحو الذي حدَّدت به فيرجينيا وولف تاريخًا للحداثة، عندما قالت: «في أو حوالي شهر ديسمبر ١٩١٠م.» وهكذا أيضًا نَكتشِف باستمرار «أسلافًا» عديدِين لما بعد الحداثة لدى شتيرن ودوساد وبليك ولوتريمون ورامبو وجاري وتزارا وهوفمنشتال وجيرترود شتاين، وجويس في أعماله المتأخِّرة، وكذلك باوند في أعماله المتأخِّرة، ودوشامب، وأرتو، وروسي وباتاي وبورخ وكوينيو وكافكا. ما يَعنيه هذا هو أننا قد صنعنا في أذهاننا أنموذجًا لما بعد الحداثة، ورموزًا خاصة معيَّنة للثقافة والخيال، وانتقلنا بعدئذٍ من أجل «إعادة اكتشاف» صلات القربى بين مختلف المؤلِّفين ومختلف العهود، استنادًا إلى ذلك الأنموذج. بمعنًى آخر، لقد أعدنا اختراع أسلافنا، ولسوف نفعل ذلك دومًا. ووفقًا لذلك يُمكن للكتَّاب الأقدم أن يكونوا ما بعد حداثيِّين: بيكيت وبورخيس ونابوكوف وجومبروفيتس؛ كما يُمكن ألا يكون الكتَّاب الأحدث منهم كذلك: مثل ستيرون وأبدايك وجاردنر.

  • (٧)
    كما رأينا، فإنَّ أي تعريف لما بعد الحداثة يدعو إلى رؤية رباعية مُتكاملة الأطراف، تحوي التواصل والانقطاع، والتعاقُب والتزامن. ولكن أي تعريف للمفهوم يتطلب أيضًا رؤية ديالكتيكية؛ لأن الصفات التعريفية غالبًا ما تكون مُتناقضة، وإهمال ذلك والانخراط في الواقعية التاريخية يُفضي إلى الوقوع في الرؤية الأحادية. والصفات المحدَّدة جدلية ومُتعدِّدة في آنٍ واحد؛ فانتقاء سمة واحدة لتكون معيارًا مطلقًا لما بعد الحداثة يعني وضع بقية الكتَّاب الآخرين في غياهب الماضي؛ وبالتالي لا يُمكننا ببساطة أن نركن، كما سبق لي أن فعلت في بعض الأحيان، إلى القول بأن ما بعد الحداثة تَستعصي على التحديد أو أنها فوضوية أو تخلو من الإبداع؛ فمع أنها تتضمَّن في الواقع كلَّ هذا، إلا أنها تحتوي أيضًا على ما يَستدعي البحث عن «حساسية وحدوية» unitary sensibility (سونتاج)، وإلى «عبور الحدود وردم الهوة» (فيدلر)، وبلوغ مُحايثة الخطاب، كما اقترحتُ أنا، والغنوصية الجديدة وراهنية العقل.١٠
  • (٨)
    يقودنا كلُّ هذا إلى مشكلة تحديد الفترة نفسها، وهي أيضًا مشكلة التاريخ الأدبي في حال التعامل معه كإدراك واعٍ للتغيير. وفي الواقع، فإن مفهوم ما بعد الحداثة يفترض وجود نظرية جديدة أو تغيير ثقافي ما. فأية نظرية يا تُرى تكون الفيكونية Viconian؟ الماركسية؟ الفرويدية؟ الدريدية؟ السيميائية؟ الكوهينية أم الانتقائية؟ هل توجَّب علينا بالتالي أن نترك ما بعد الحداثة — الآن على الأقل — دون تعريف أو مفهوم محدَّدَين، والاكتفاء بالتعامل معها الآن كنوع من «الاختلاف» الفني أو «الأثر» الثقافي؟١١
  • (٩)
    آخر تلك المُعضلات، وربما أكثرها وضوحًا، هي قابلية ما بعد الحداثة للتوسُّع غير المحدَّد: فهل ما بعد الحداثة مجرَّد نزعة أدبية، أم هي بالأحرى ظاهرة ثقافية، أو ربما لحظة تحوُّل حقيقية في الإنسانية الغربية بكافة جوانبها؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف لتلك الجوانب المُختلفة لهذه الظاهرة — النفسية والفلسفية والاقتصادية والسياسية — أن تَلتقي وتتفرَّق؟ باختصار، هل يُمكننا أن نفهم ما بعد الحداثة في الأدب من دون بعض محاولات إدراك ملامح المُجتمع ما بعد الحديث، ما بعد الحديث كما تصوَّره توينبي؛ حيث يكون الاتجاه الأدبي الذي أُناقشه هنا مجرَّد ضرب وحيد نخبوي منه؟١٢

ولا شك أن هناك مشاكل مفاهيمية أخرى أجد نفسي مُتردِّدًا تجاه تناولها (هناك في الوقت الحاضر جمع غفير من الأمور الاصطلاحية والمنهجية والأنطولوجية والإبستمولوجية، فمن يُمكن أن يلوم أي شخص على هذا التردُّد؟) لكنني أعترف أن ذلك قصور واضح يجعلني أقرب إلى الهواة.

(١-٣) الاختلافات

يهدف الجدول التالي إلى تقديم بعض خصائص ما بعد الحداثة في مقابل الحداثة:
الحداثة ما بعد الحداثة
الرومانسية/الرمزية ما بعد الطبيعة/الدادئية
الشكل (متصل ومغلق) اللاشكل (متقطع ومفتوح)
قصد لعب
تخطيط مصادفة
تراتبية فوضى
قوة/لوغوس ضعف/صمت
موضوع الفن/عمل منتهٍ عملية/أداء/حدث
مسافة مشاركة
إبداع/شمولية هدم/تفكيك
تركيب تفكك
حضور غياب
تمركز تشتت
نوع/حدود نص/تداخل النُّصوص
نموذج معياري سياق
ترتيب بواسطة روابط ترتيب بدون روابط
استعارة كناية
انتقاء مزج
جذر/عمق جذمور/سطح
تفسير/قراءة ضد التفسير/قراءة محرفة
مدلول دال
المقروء المكتوب
السرد ضد السرد
الآب الرب الروح القدس
سمة رغبة
تناسلي/ذكوري متعدد الأشكال/مخنَّث
جنون العظمة الفصام
الأصل/السبب الاختلاف/الأثر
ميتافيزيقا سخرية
حتمية لا حتمية
محايثة مفارقة

يَعتمد الجدول السابق على أفكارٍ مختلفة من حقولٍ معرفية عديدة؛ البلاغة واللغويات ونظرية الأدب والفلسفة والأنثروبولوجيا والتحليل النفسي والعلوم السياسية، وحتى اللاهوت؛ كما يَعتمِد على العديد من الكتَّاب: دي سوسير وياكوبسون وليفي شتراوس وروب جرييه ولاكان ودريدا وفوكو ودولوز وبارت وكريستيفا، فضلًا عن أورباخ ودي مان وكيج وكابرو وبراون وشتاينر وبارت وبلوم وسونتاج وروزنبرج؛ وكتَّاب آخرين أنا واحد منهم. غير أن هذه القائمة خادعة؛ لأن تلك الاختلافات دائمة التبدُّل والإرجاء، بل إنها تتلاشى أحيانًا؛ بالإضافة إلى أن المفاهيم في كلا العمودَين ليست مُتناظرة؛ وهي مليئة بالتقابلات والاستثناءات العديدة. ومع هذا، يظهر النزوع نحو «اللاتحدد» في العمود الثاني، الذي يُشير إلى ما بعد الحداثة، بصورة أكبر مما هو موجود في العمود الأيسر — غير أن هذا لا يُضفي مزية معينة إلى العمود الثاني.

على كلٍّ، هناك خمسة افتراضات تُشكِّل وسائل مساعدة قد تُعيننا على فهْم ثقافة ما بعد الحداثة. فهل يُمكننا أن نتجاوز الآن الجدول السابق، إلى الحديث عن مفهوم ثقافي لما بعد الحداثة؟ لم يتبقَّ لي كثير من المساحة هنا، وسأكتفي بعرض هذه الافتراضات، التي أجد في إيجازها حيلة للهروب من النقد:
  • (١)
    تَعتمد ما بعد الحداثة على التحوُّل الأنسني الصارخ الذي حدث على كوكب الأرض؛ حيث الإرهاب والاستبداد، الجزئيات والكليات، الفقر والسلطة، كلٌّ منها الآخر. قد تكون النهاية كارثية و/أو بداية حقيقية لهذا الكوكب؛ عهدًا جديدًا «للواحد والكثرة»، كما اعتاد أن يُردِّد الفلاسفة السابقون على سقراط.١٣
  • (٢)
    تَستنِد ما بعد الحداثة على المد التكنولوجي للوعي، وهو شكلٌ من أشكال غنوصية القرن العشرين،١٤ يُسهم فيه الكمبيوتر وجميع وسائل إعلامنا المختلفة (بما في ذلك الوسيط العجيب الذي نُسميه تليفزيون). والنتيجة هي وجهة نظر مفارقة تنظر إلى الوعي كما لو كان مجرَّد معلومة، وتنظر إلى التاريخ كما لو كان مجرَّد حدث.
  • (٣)
    تَكشف ما بعد الحداثة، في ذات الوقت، عن نفسها في تشتُّت لغة الإنسان في كل مكان. «عودةً» إلى لحظة الخلق الأصلية (الانفجار الكبير Big Bang)، «نزوحًا» إلى حافة الانحسار في الكون (النجوم الزائفة quasars)، «داخل» الثقوب السوداء black holes في الفضاء أو اللاوعي (لاكان) — بديلًا عن مُحايثة العقل والخطاب في المرحلة الحداثية. وربما يكون هذا هو الجانب الأكثر وضوحًا من الغنوصية الجديدة.
  • (٤)

    كما يمكن الحديث عن ما بعد الحداثة، بوصفها شكلًا من أشكال التحوُّل الأدبي، الذي يُمكن تمييزه عن الأشكال التقليدية للتيارات الطليعية (التكعيبية والمستقبلية والدادائية والسريالية، وما إلى ذلك) فضلًا عن الحداثة. ولأنها ليست مُنعزلةً أو مفارقة مثل الأخيرة (أي الحداثة) ولا هي بوهيمية ومنقسمة مثل الأولى (التيارات الطليعية)، فإن ما بعد الحداثة تؤسِّس ذاتها في منطقة مختلفة تقع بين الفن والمجتمع. وهذا ما يَقودني إلى النقطة النهائية.

  • (٥)
    بوصفها ظاهرة فنية فلسفية إيروتيكية اجتماعية، تميل ما بعد الحداثة إلى القوالب أو الأشكال المنفتحة … اللعوب … الانتقائية … المتقطعة … غير المحددة، خطاب تَشظٍّ، وأيديولوجية تجزئة، وإرادة «اللافعل»، واحتجاج الصموتيين على كل هذا — ومع هذا فهي تضمر ما في كل هذا من أضداد وواقع متناقض. وكأن «في انتظار جودو» وجدت صدًى، إن لم يكن إجابة، في «السوبرمان».١٥

لا يسع المرء في النهاية إلا أن يتساءل: هل تُصبح بعض التحوُّلات المعرفية والاجتماعية — تلك التي تشمل الفنون والعلوم، والثقافة العليا والدنيا، والمبادئ الذكورية والأنثوية، والأجزاء والكليات — فاعلةً بيننا على كافة المستويات؟ بوسعنا أن نخمِّن ونخمِّن: فلن تُصبح تلك الكتابة غير المرئية، «حبر الزمن»، مقروءة إلا بوصفها تاريخًا.

١  هذه ترجمة لمقالة: Ihab Hassan, The Question of Postmodernism, Performing Arts Journal, Vol. 6, No. 1 (1981), pp. 30–37.
٢  قدَّم مايكل كولر في مقاله ‘Postmodernismus’: Ein begriffsgeschichtlicher Uberblick, Amerikastudien 22 (1977): 8–18) أفضل تأريخٍ لمصطلح ما بعد الحداثة. ويحتوي العدد نفسه من المجلة على مناقشات بالغة الثراء حول المصطلح؛ وعلى وجه الخصوص ذلك الحوار الذي دار بين جيرهارد هوفمان Gerhard Hoffmann وألفريد هورنونج Alfred Hornung وروديجير كونو Rudiger Kunow(“‘Modern,’ ‘Postmodern’ and ‘Contemporary’ as Criteria for the Analysis of 20th Century Literature,” pp. 19–46).
٣  يقصد حسن أن المصطلح تم استخدامه بطريقة مندفعة، وربما غير ممحصة في مجال النقد الأدبي (المترجِم).
٤  يشير حسن هنا إلى كتابه الشهير أدب الصمت Literature of Silence (١٩٦٧م)، في هذا الكتاب يُبيِّن حسن كيفية توظيف الصمت بوصفه ضربًا من المجاز في تمييز النوع الجديد من الكتابة، الذي ظهر وازدهر في العديد من الأعمال الأدبية (أعمال ميللر وبيكيت على سبيل المثال) إبان الأعوام من ١٩٦٠–١٩٧٠م. يُسلط حسن الضوء على مسألة الهوس باللغة لدى كتَّاب ما بعد الحداثة، ويصفه بأنه يتَّسم بالتناقض؛ لأن اللغة الفعلية التي تستخدمها الشخصيات في أعمالهم تُنتج قدْرًا ضئيلًا من التواصل المفهوم. والنتيجة التي يَجدها حسن مميزة لأدب ما بعد الحداثة القصصي هي حالة من «الصمت» تمَّ بلوغها بوساطة سيل من الكلمات، الأمر الذي يحمل في طياته نوعًا من المفارقة اللغوية (المترجِم).
٥  انظر مقال إيهاب حسن بعنوان Culture, Indeterminacy, and Immanence: Margins of the (Postmodern) Age في دورية Humanities in Society, 51–85.
٦  يميل ماتيي كالينيسكيو Matei Calinescu مثلًا إلى الربط بين ما بعد الحداثة والطليعية الجديدة neo-avantgarde، ونجد ذلك في كتابه Faces of Modernity: Avant-Garde, Decadence, Kitsch (Bloomington, Ind.: Indiana University Press, 1977) ؛ بينما يربط ميكلوس تسابولشي Miklos Szabolcsi بين الحديث والطليعي، ويُسمِّي ما بعد الحداثة بالطليعية الجديدة، في مقاله بعنوان Avant-Garde, Neo-Avant-Garde, Modernism: Questions and Suggestions، والذي نُشر في دورية New Literary History ((1971-72): 49–70)؛ ويُسمي بول دي مان Paul de Man العنصر الإبداعي «حداثي»، ويَعتبره لحظة الأزمة في أدب كل فترة على حِدة، في كتابه “Literary History and Literary Modernity”, Blindness and Insight (New York: Oxford University Press, 1971), 142–165.
٧  انظر مقال إيهاب حسن بعنوان Postmodernism: A Para critical Bibliography، في New Literary History، والذي أُعيد طبعُه في كتاب Para criticisms: Seven Speculations of the Times (Urbana, III.: University of Illinois Press, 1975)؛ ومقال بعنوان Beckett, and the Postmodern Imagination في TriQuarterly؛ ومقال Culture, Indeterminacy, and Immanence.
٨  الانزياح الأحمر أو تأثير دوبلر ظاهرة فلَكية تُشير إلى زيادة طول الموجة الكهرومغناطيسية القادمة إلينا من أحد الأجرام السماوية بسبب سرعة ابتعاده عنَّا، وهي ظاهرة مهمة في علم الفلك. وقد اعتمد عليها عالِم الفلك الأمريكي هابل في اكتشافه أن المجرات ليست ثابتةً في الكون، بل كلها في حركة وابتعاد مستمر. بذلك أثبت أن المجرات تَتباعد عن بعضها البعض بسرعة مُتناسبة مع ابتعادها، وسُمِّيت هذه العلاقة بقانون هابل سنة ١٩٢٩م. وقد ساهم هذا القانون كثيرًا في اعتماد نظرية الانفجار الكبير.
٩  يستعير حسن هنا التفرقة الشهيرة التي قام بها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، الذي كان مُغرمًا بدرجة كبيرة بالحضارة الإغريقية الكلاسيكية، بين الأبولونية والديونيسية في كتابه الأول «ميلاد المأساة» ١٨٧٢م؛ فقد أكَّد نيتشه في هذا الكتاب على أن الفهْم الصحيح لطبيعة المأساة والحضارة الإغريقية يكون بالنظر إليهما بوصفِهما نتاج الصراع بين اتجاهَين إنسانيين أساسيَّين؛ الاتجاه الأبولوني وهو الرغبة في الوضوح والنظام والعقل، ويُرمَز لهم بأبولو إله الشمس الإغريقي. والاتجاه الآخر الديونيسي وهو دافع بدائي غير عقلاني نحو الفوضى والعبث، ويُرمَز له بإله الخمر ديونيسيوس.
١٠  مع أن بعض النقَّاد ذهبوا إلى أن ما بعد الحداثة زمنية بالأساس، في حين قال آخرون بأنها «مكانية» بصورة رئيسة، إلا أن ما بعد الحداثة تَكشف عن نفسها في العلاقة بين هاتين الخاصيتَين. انظر وجهتَي النظر المتعارضتَين لكلٍّ من ويليام سبانوس William V. Spanos في مقال بعنوان The Detective at the Boundary منشور في كتاب (New York: Crowell, 1976) Existentialism, 163–189، ويورجن بيبر Jurgen Peper في مقال بعنوان (Amerikastudien 22 (1977)), 65–89 Postmodernismus: Unitary Sensibilty.
١١  ما يكون على المحك هنا هو فكرة التقسيم الزمني الأدبي، والتي يُعارضها الفكر الفرنسي المعاصر. وبالنسبة للآراء الأخرى حول التحوُّل الأدبي والتاريخي، بما في ذلك «التنظيم الهيراركي» للزمن، انظر كتاب ليونارد ماير Leonard Meyer بعنوان Music the Arts and Ideas (Chicago: University of Chicago Press, 1967)؛ ومقال كالينيسكو Calinescu بعنوان ،Faces of Modernity وكذلك مقال رالف كوهين Ralph Cohen بعنوان Innovation and Variation: Literary Change and Georgic Poetry في كتاب رالف كوهين وموراي كريجر Murray Krieger بعنوان Literature and History (Berkeley Calif: University of California Press, 1974)؛ وكذلك الفصل السابع من كتابي Paracriticisms.
١٢  استكشَفَ كُتَّابٌ من قبيل مارشال مكلوهان Marshall McLuhan  وليزلي فيدلر Leslie Fiedler الجوانب المتعلِّقة بالميديا والبوب في ما بعد الحداثة على مدار عقدين، رغم أن جهودهما الآن أصبحت شيئًا من الماضي لدى بعض الدوائر النقدية. وقد ناقش ريتشارد بالمر Richard E. Palmer الفارق بين تيار ما بعد الحداثة، بوصفه نزعة فنية معاصرة، وما بعد الحداثة بوصفها ظاهرة ثقافية، أو حتى فترة تاريخية، في مقاله Postmodernity and Hermeneutics، المنشور في دورية Boundary، السنة الخامسة العدد الثاني، ٣٦٣–٣٩٣.
١٣  يعني هذا أن المستقبل مفتوح على كافة الاحتمالات، وأن الزمان — وبالتالي التاريخ — لا يسير بصورة خطية مُضطردة نحو التقدُّم والرقي مثلما كان التصوُّر سائدًا في المرحلة الحداثية. والواقع أن ما يتحدَّث عنه «حسن» هنا هو على علاقة وثيقة بشيوع فكرة النهايات في القرن العشرين؛ فقد أعلن اشبنجلر Spengler (١٨٨٠–١٩٣٦م) صراحةً «نهاية الغرب» Der untergang des western وأفوله. وأزكى نيتشه Nietzsche هذه الرُّوح عندما أعلن «موت الإله» Tod Gottes. وكتب فالتر بنيامين Walter Benjamin «نهاية الفن في عصر الإنتاج الآلي»، ويؤسس هيدجر Heidegger مشروعه الفلسفي على «تقويض الميتافيزيقا»، ويعلن بارت R. Barthes «موت المؤلِّف»، ويكتب فوكوياما Fukuyama «نهاية التاريخ»، ويُعلن فوكو «موت الإنسان»، ويحدثنا رورتي عن «نهاية الفلسفة النسقية». وفي نفس السياق يُحاول «فاتيمو» حصر ظاهرة ما بعد الحداثة على المستوى الفكري في خمسة مبادئ هي: نهاية الفن وأفوله – موت النزعة الإنسانية – العدمية – نهاية التاريخ – تجاوز الميتافيزيقا. وهي كلها تنويع على فكرة النهايات. لا يوجد عِلم أو فلسفة أو فن، بل إعلان النهاية لكل شيء، «دق أجراس الموت» بتعبير دريدا. (المترجِم)
١٤  «الغنوصية» من Gnose وهي كلمة يونانية تعني «المعرفة»، اصطلح الدارسون على استخدامها لوصف عدد من الحركات الدينية في فترة سيطرة الإمبراطورية الرومانية، وهي في مجملها لا علاقة لها بالمسيحية. إنها مجموعة من التيارات أو المذاهب الفكرية (أبرزها الهرمسية والأفلوطينية والباطنية) المعقدة التي تَعتمِد على الفلسفة الباطنية، وتمزج بين العديد من المعارف والأديان الوثنية، وتتجاوَز فكرة الوحي الإلهي كأساس لكل معرفة لاهوتية، وتُفسِّر إياها تفسيرًا مجازيًّا. كما تؤسس الغنوصية للنسبية، والتمرُّد على كل ما هو ثابت، وترفض فكرة الحقيقة الموضوعية؛ فالحقيقة حشد من المجازات والاستعارات لا يَستطيع أحد ادِّعاء امتلاكها، وفي هذا يَكمُن التشابه بينها وبين اتجاه ما بعد الحداثة (المترجِم).
١٥  يُشير «حسن» هنا إلى المسرحية الأشهر لصمويل بيكيت «في انتظار جودو» ١٩٤٨م التي حازت على تقييم أهم عمل مسرحي في القرن العشرين، وفكرة المسرحية قائمة على شخصَين يَرتحلان إلى مكانٍ ما في انتظار الوصول المُرتقب ﻟ «جودو» الذي لن يأتي أبدًا. والواقع أن شخصية جودو من الشخصيات التي تَحتمل تأويلات عدة، هل هو المنقذ أو المخلِّص؟ هل هو الأمل، السعادة، الحب؟ هل هو الزمن، الحياة، الموت؟ إن شخصية جودو الملغزة تسمح بكل هذه التأويلات. ولعلَّ إشارة حسن أعلاه في مقارنته بين مسرحية بيكيت وشخصية سوبرمان سببها التشابه الظاهري بين شخصية جودو وشخصية سوبرمان، فكلاهما منقذ أو مخلِّص، لكن في حين تعدَّدت التأويلات لشخصية جودو، نجد شخصية سوبرمان تقف عند حدود الفكرة العبرانية عن المخلِّص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤