الفصل الأول

ما بعد الحداثة

الدوافع والمنطلقات
تحوَّلتْ ما بعد الحداثة Postmodernisme منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى مفهومٍ إشكالي حاضر باستمرار، وإلى ساحة صراع للأفكار المُتناقضة والقوى المختلفة لا يمكن بحالٍ تجاهلها. وبحسب ناشري مجلة «بريسي Précis»، فإن «ثقافة المجتمع الرأسمالي المُتقدِّم قد خضعت لنقلة حاسمة من حيث بِنية المشاعر فيها.»١ وهذه النقلة لزمتها بطبيعة الحال نقلة أخرى على الصَّعيد الثقافي يُلخِّصها هويسنز Hyssens قائلًا: «إن ما يظهر الآن [على الساحة الثقافية] إنما هو في الحقيقة نتاج تحوُّل ثقافي تراكمَ ببطء في المجتمعات الغربية.»٢ وهو تحوُّلٌ نجح مصطلح «ما بعد الحداثة» في إضفاء صيغة مفهومية عليه. هذه التحوُّلات ومدى عمقها هما بالتأكيد موضع نقاش، إلا أن التحوُّلات نفسها هي أمر واقع فعلًا، يشهد عليها تغيُّر الوقائع والمناهج والنظريات. وكما يقول جيمسون F. Jameson «ما بعد الحداثة ليست مجرَّد كلمة أخرى لوصف أسلوب معيَّن، وإنما — على الأقل — مفهوم له وظيفة زمنية يربط بين ظهورِ نوعٍ جديدٍ من الحياة الاجتماعية ونظامٍ اقتصاديٍّ جديد.»٣

سنُحاول في هذا الفصل تتبُّع الظروف والعوامل التي أدَّت إلى ظهور نمط فكري جديد، له خصائص مميَّزة، أدَّت إلى وصفه ﺑ «الفكر ما بعد الحداثي». لهذا سنقف عند دوافع ومُنطلقات تلك الحركة، مُحاوِلين تحديد المقصود بما بعد الحداثة وما بعد التحديث والشرط ما بعد الحديث … إلخ.

figure
Demolition of Pruitt-Igoe (1972).

(١) ما بعد الحداثة: النشأة والمصطلح

بدأتْ إرهاصاتُ ثقافةِ ما بعد الحداثة في العالم الغربي كانعكاس مجتمعي من نقطة الوعي بمشكلات الحداثة، وعدم مقدرتها على مسايرة الواقع بشروطه الجديدة، اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا. والحال أننا لا بد أن نقرأ ما بعد الحداثة في ضوء مُبرِّرات ولادتها في أرضها الأم بوصفها انعكاسًا لهذه الشروط الجديدة (الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية) في المجتمعات الغربية، وهو ما يُكرِّس خصوصية الظاهرة بحكم نشأتها في الغرب تحديدًا. ومن ثَمَّ لا ينبغي بالضرورة خضوع المجتمعات الأخرى التي لم تمرَّ بتحولاتٍ مشابهةٍ لهذا النمط من الفكر الجديد. يجب إذًا النظرُ إلى تلك الثقافة باعتبارها نتيجةً طبيعيةً لما مرَّ به الغرب من تناقُضات وانقسامات في الأيديولوجيات الحداثية، لا سيما في علاقة المركز بالهامش وما نشأ عنها من قِيَمِ الاستغلال والاستعمار، وغياب المساواة، وسيطرة النخبة … إلخ. ومن ثَمَّ من الطبيعي أن تنشأ، كنوع من ردة الفعل، اتجاهاتٌ مضادة، تنادي بسقوطِ الأيديولوجيات، والسرديات الكبرى، ونهاية الميتافيزيقا، وتُطالِب بالخروج عن كل قياس معياري، وترسيخ مبدأ الانتماء الفردي، وربما تشيع أيضًا ملمح الثقافة السلعية الاستهلاكية، ورفض مقولات وفرضيات عصر التنوير، وخطاب الحداثة المُتمثَّل في الإيمان المُطلَق بالعقلانية الشمولية.٤
وعلى الرغم من خصوصية الظاهرة ما بعد الحداثية، انطلاقًا من أن كل مجتمع يُفرِز شكلَه وقيمَه الأكثر ملائمةً له، عبْر احتياجاته وشروط وجوده وتحوُّلاته الراهنة؛ فإنَّ هذه الخصوصية تتلاشى أمام سطوة ونفوذ «وسائل الإعلام» وثورة الاتصالات، بالإضافة إلى التأثير الذي تمارسه الفنون المختلفة، لا سيما السينما، بحيث بات التأثُّر بمظاهر ونتاجات «ثقافة ما بعد الحداثة» من قِبَل المجتمعات «ما قبل الحداثية» أمرًا واضحًا ومستشريًا على كافة المستويات. هذا فضلًا عن أن المقارنة واردة أصلًا بين قِيَم المجتمع «ما بعد الحداثي» وقيم المجتمعات «ما قبل الحداثية»؛ يقول جياني فاتيمو G. Vattimo: «إنَّ الثقافة الغربية مع نهاية الحداثة يسودها خطابٌ ميتافيزيقي (خطاب التكنولوجيا)، وهي بذلك ليست أفضل من الثقافات ما قبل الحداثية التي يسودها خطاب الأسطورة، وهي بهذا المعنى تُهمِّش الإنسان وتقهره تمامًا كما تفعل مجتمعات الجنوب بإنسانها المهمَّش.»٥

على كلٍّ، فإن مراجعة سُبلِ التحوُّل من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهو موضوعٌ ربما نُوقش كثيرًا في الغرب، أمرٌ ضروريٌّ لفهْم كيف يُشكِّل توجُّهٌ بعينهِ إلى المستقبل مواقفنا واختياراتنا في المرحلة التاريخية الحالية. وربما هذا الفهْم يَتطلَّب أيضًا التوقُّف عند مفاهيم التحديث وما يخص التقدُّم والتطور التاريخي من أفكار. وهذا ما سنحاول أن نَعرِض له تفصيلًا.

(١-١) هل استنفدت الحداثة شروط وجودها؟

المُتأمِّل في تاريخ الفكر الغربي منذ بدايات عصر النهضة وحتى مُنتصَف القرن العشرين يلاحظ أن هناك معالمَ ثابتةً حكَمت تطوُّر هذا الفكر، وظلت هي المحرِّك والدافع لمعظم أشكاله. هذه المعالم اعتبرها البعض «شرط الحداثة» La condition modernisme بحيث إنها تفْصِل وتَسِمُ المرحلة «الحداثية» عن المرحلة ما قبل «الحداثية». يقول جان بودريار Jean Baudrillard: «ليست الحداثة مفهومًا سوسيولوجيًّا، أو مفهومًا سياسيًّا، أو مفهومًا تاريخيًّا … وإنما هي صيغة مميزة للحضارة، تُعارض صيغة التقليد؛ أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية. فأمام التنوُّع الجغرافي والرمزي لهذه الثقافات، تفرض الحداثة نفسها وكأنها وحدة مُتجانسة، مشعَّة عالميًّا — انطلاقًا من الغرب. ومع ذلك تظلُّ الحداثة موضوعًا غامضًا يتضمَّن في دلالته، إجمالًا، الإشارة إلى تطوُّر تاريخي بأكمله، وإلى تبدُّل في طرق التفكير.» هذا التطوُّر والتبدُّل يجعل من الحداثة — في نظر بودريار — مفهومًا غاية في «الالتباس»، يَصعب معه الحديث عن قوانينَ ثابتةٍ لها «بل فقط معالم».٦ هذه المعالم، على الرغم من تعرُّضها لتصدُّعات عديدة على يد بعض الفلاسفة، ظلَّت هي الركائز التي يقوم عليها المشروع الفلسفي الغربي الحديث. لقد ذهب فوكو M. Foucault إلى أن الفكر الأوروبي الحديث قد مرَّ بثلاثة عصور مُتتابِعة تَتعاقبُ على أساسٍ من «انقطاعات إبستمولوجية» تَنتقل بها المعرفة من حِقبةٍ إلى أخرى؛ أول هذه العصور هو «عصر النهضة» الذي يَستمر من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر. وثانيها هو «العصر الكلاسيكي» الذي يُؤرِّخ فوكو بدايته بظهور اللحظة الديكارتية في أواسط القرن السابع عشر؛ وثالثها هو «العصر الحديث» الذي يبدأ مع مطلع القرن التاسع عشر بظهور مفهوم «الإنسان» من حيث هو «ذات تاريخية» وذلك — وفقًا لفوكو — هو العصر الذي نشهد نهايته.٧ هذه المراحل الثلاث التي مرَّ بها الفكر الغربي يَضمُّها مصطلح «الحداثة»، وتتَّسم جميعها بمعالمَ حدَّدت موقف الإنسان من المعرفة، والعلم، والوجود:
تتميَّز الحداثة بتطويرِ طُرقٍ وأساليبَ جديدةٍ في المعرفة، قوامُها الانتقال التدريجي من المعرفة التأمُّلية إلى المعرفة التقنية. فالمعرفة التأمُّلية تتَّسم بكونها معرفة كيفية، ذاتية وانطباعية وقيمية؛ أما المعرفة التقنية فهي نمطٌ من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الرياضي؛ أي معرفةٌ عمادُها المُلاحَظة والتجريب والصياغة الرياضية. النموذج الأمثل لهذه المعرفة هو العلم أو المعرفة العلمية، التي أصبحَت نموذج كل معرفة. ومن هذا المنظور للمعرفة تكتسب مسألة المنهج أهمية قصوى. فالمنهج هو تنظيمٌ وتحقيقٌ لعملية المعرفة، وطريقٌ يُؤدِّي إلى تحقيق التقدُّم، ويقود إلى اكتساب القدرة على تملُّك الأشياء. والعقل من المنظور الحداثي يتَّسم بالأداتية؛ أي أنه وسيلة لتقنين العالم الطبيعي، ومن ثَمَّ السيطرة عليه. ومبدأ العقل principe de raison هو مبدأ السببية Causalité؛ قانونٌ صارمٌ تخضع له كل ظواهر الطبيعة.

لقد جلبت السيطرة العلمية على الطبيعةِ الوعدَ بالتخلُّص من الندرة والحاجة، وتعسُّف الطبيعة، إلى الأبد. وجلب التخطيط العقلاني للتنظيم الاجتماعي ولأنماط التفكير، الوعدَ بالتحرُّر من لا عقلانية الخرافة، والدِّين، والأسطورة، ومن الاستخدام المُتعسِّف للسلطة، والتحرُّر كذلك من تسلُّط الجانب اللاعقلاني داخل طبيعتنا البشرية. عبْر مشروعٍ كهذا فقط، يمكن أن تتحقَّق الخصائص الكلية والثابتة والدائمة لكلِّ البشر باعتبارهم بشرًا.

وابتداءً من القرن اﻟ ١٨ — الذي عُرف بعصر التنوير — سيَبدأ فصلٌ جديدٌ من الإيمان المُطلَق بالعقل وإطلاق طاقاته وقدراته في شتَّى ميادين المعرفة. إنه عَقْد انتصارِ قيم الحرية والعدالة والديمقراطية والانفتاح. يقول كانط مُجيبًا على سؤالٍ «ما التنوير؟»: «إنَّ معنى التنوير خروج الإنسان من تبعيته؛ أي أن يَملك الإنسان شجاعة استخدام عقله بنفسه.»٨
لقد قَبِل فكرُ التنويرِ بقوةٍ فكرةَ التقدُّم، وذلك الإعراض عن التاريخ والتقاليد التي تَعتِنقها الحداثة. وقد كان ذلك الفكر بمثابة حركة علمانية ابتغَت تحرير المعرفة من الأوهام والمقدَّسات وتنظيم المجتمع في سبيل تحرير البشر من القيود؛ وفي هذا يقول كوندرسيه Condorcet خلال آلام مخاض الثورة الفرنسية: «القانون الجيد لا بد أن يكون جيدًا لكل إنسان، تمامًا كما أن القضية الصحيحة هي صحيحة بالنسبة للجميع.» لقد كانت تلك الرؤية متفائلةً بصورة مدهشة، وكما لاحظ هابرماس Habermas فإن مُفكِّرين، مثل كوندرسيه، كانوا «مأخوذين بتوقُّعٍ مفرطٍ مؤدَّاه أن الفنون والعلوم ستجلب، ليس فقط السيطرة على قوى الطبيعة، وإنما كذلك فهْم العالَمِ والذات، والتقدُّم الأخلاقي، والعدالة في المؤسَّسات، بل والسعادة لبني البشر.» لذا يُعرِّف هابرماس الحداثة بأنها محاولةٌ «لإنشاء العِلم الموضوعي، وتأسيس الأخلاقيات العامة وقواعد القانون والفن المستقل، كلٌّ وَفق منطقِه الداخلي الخاص.» في نفس الوقت أرادت الحداثة أن «تُطلِق الإمكانيات المعرفية لكل هذه الميادين من أشكالها الخفية.»٩
كان مشروع الحداثة الغربي مشروعًا طموحًا، يُنادي بحقوق إنسانٍ عالمية، وقيم العقل … العقل أعدلُ الأشياءِ قسمةً بين الجميع، قيمه ثابتة لا تتغير، كلية شمولية، صارمة تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان. وعلى الرغم من ذلك، فقد جاء القرن العشرون ليقلب كلَّ قيم عصر التنوير رأسًا على عقب. وعبْر الحربَين العالميتَين، وخطر الفَناء النووي والمد الاستعماري الغربي، حُكمَ على مشروع التنوير أن يتحوَّل إلى عكس ما يُعلنه، وأن يُحيل مطلب التحرُّر الإنساني إلى نظام اضطهاد عالمي باسم تحرير البشر. تلك كانت الأطروحة الهامة التي تقدَّم بها هوركهايمر M. Horkheimer وأدورنو T. Adorno في عملهما «ديالكتيك التنوير» Dialektik der Aufklärung الصادر عام ١٩٤٧م. لقد حاوَلا البرهنة، وفي الذهن تجربة ألمانيا هتلر، وروسيا ستالين؛ على أنَّ المنطق الذي يقبع خلف عقلانية التنوير هو منطقُ هيمنةٍ واضطهاد. والتلهُّف إلى السيطرة على الطبيعة جلبَ معه السيطرةَ على البشر، ولم يكن يمكن أن يُوصل ذلك في النهاية «إلا إلى كابوس قهر للذات».١٠ والسؤال الآن هو: هل كان مشروع التنوير، أم لم يكن، محكومًا منذ البدء بالإفضاء إلى مثل هذا العالَم الكافكاوي؟ وهل كان، أم لم يكن، سيقود عاجلًا أم آجلًا، إلى هذا الخراب وتلك الحروب التي لحقت بالبشرية؟ وهل تبقَّى فيه ما يُمكن استلهامه والبناء عليه؟

انطوى فكر التنوير، بالطبع، على لائحة طويلة من المشكلات الصعبة، وعلى قدْرٍ غير قليل من التناقُضات. وفي الوقت نفسه تبدو أهدافه نفسها عصيةً على التحقيق، على نحوٍ دقيق، إلا عبْر مشروع «طوباوي» مثالي، وقد بدا هذا المشروع قائمًا على الاضطهاد بالنسبة للبعض، بينما مثَّل للبعض الآخر نموذجًا للتحرُّر. لكن السؤال الذي طرحه هذا المشروع، والذي لم يكن هناك مفر من مواجهته حتى لو تمَّ هذا بعد حين، هو: مَن يملك حق إعلان سلطة العقل العليا؟ وكيف تحوَّل ذلك العقل إلى سلطة ملموسة؟

مع مطلع القرن العشرين كان قد تبلور في هذا النقاش موقفان نقديان رئيسان، رغم كونهما متعارضَين:

الأول: عند ماكس فيبر M. Weber الذي يقول: «بعد أن زالت الأقنعة وتبدَّتِ الحقيقة، تبيَّن أن تراث التنوير إنما قام على انتصار العقلانية الأداتية ذات الأغراض المحدَّدة. هذا الشكل من العقلانية حفر عميقًا في جملة حياتنا الاجتماعية والثقافية، ومن ضمنها البنى الاقتصادية، والقوانين … وحتى الفنون. وعليه فلا يقود نمو العقلانية الأداتية إلى تحقيقٍ ملموسٍ للحرية الشاملة، وإنما إلى إيجاد «قفص حديدي» من العقلانية البيروقراطية لا فِرارَ منه.»١١
إذا أمكن قراءة تحذير فيبر — يقول هارفي١٢ — كما لو كان آية ننقشها على شاهِدِ قبرِ عقل التنوير؛ فإن هجوم نيتشه المبكِّر على مقدماته الأساسية إنما كان إحدى غضبات آلهة الإغريق: «تحت سطح الحياة الحديثة المغطَّى بالمعرفة والعلم، تكمن قوًى دافعةٌ بربريةٌ، بدائيةٌ، وخاليةٌ من كل أثر للرحمة.» فكل صور التنوير المتعلقة بالحضارة، والعقل، والحقوق الكلية، والأخلاق انتهت إلى لا شيء. وما يدعوه نيتشه ﺑ «أزمة الزمن الحاضر» و«إفلاس الزمن الحاضر» ودعوته إلى «إدارة الظهر إلى العصر»، ومعاملة الحاضر معاملة ملؤها «القسوة والتجبُّر»؛ لا ينفصل عن حديثه عن «افتقاد الزمن الحاضر لكل قيمةٍ أيًّا كان شأنها.»١٣
لقد نشأ التحوُّل في نبرة الحداثة عن الحاجة للتصدي للحس بالفوضوية وعدم النظام واليأس الذي بذره نيتشه في زمنٍ حفل بالحراك الصارخ والتوتُّر وفقدان الاستقرار في الحياة السياسية والاقتصادية، وهو اضطراب تشبَّثَت به وأسهمت فيه الحركة الفوضوية التي سادت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وتلازم ذلك مع إعلاء الرغبات الجنسية والنفسانية واللاعقلانية (من النوع الذي حدَّده فرويد Freud ثم تابعه كليمت Klimt١٤ في تداعياته الفنية الحرة) التي أضافت بُعدًا آخَر إلى الفوضى القائمة. لقد كشف هذا الزَّخم الدافق من الحداثية أنه من المستحيل تقديمُ العالَم في لغة واحدة. والفهْم الحقيقي إنما يُبنى من خلال الكشف عن زوايا العالَم المتعدِّدة. كانت إبستمولوجيا الحداثة، باختصار، تدفع بقوة نحو تعدُّد الرؤى النسبية، في الكشف عما ظل يُعتقد أنه الطبيعة الحقيقة لواقعٍ قائمٍ متجانس، رغم ما فيه من تعقيدات، يقول فرويد: «إن ما نُسمِّيه بحضارتنا هو الذي ينبغي أن نُحمِّله إلى حدٍّ كبيرٍ تبعةَ بؤسنا، وإن التخلي عن هذه الحضارة للعودة إلى الحالة البدائية سيَكفُل لنا قدْرًا من السعادة أكبر بكثير … كيف انتهى الأمر بعدد كبير من المخلوقات البشرية إلى الأخذ — على ما في ذلك من غرابة — بوجهة النظر المعادية للحضارة تلك؟ أعتقد أن استياءً دفينًا، من منشأ ناءٍ للغاية، كان يتجدَّد في كل طور من أطواره، هو الذي حثَّ على تلك الإدانة، التي كانت تتكرَّر بانتظام، بفضل ظروفٍ تاريخيةٍ مؤاتية.»١٥
هذه الرُّوح الانهزامية النكوصية التي يتحدَّث بها فرويد كانت هي السائدة في مطلع القرن العشرين، وتبدو كطرفِ نقيضٍ للخطاب الحداثي التنويري الشمولي. ولنقرأ توصيف مارشال بيرمان M. Berman في كتابه «كل ما هو صلبٌ قد تبخَّر في الهواء»  All that is Solid Melts into Air، وعنوان الكتاب هو إحدى جُمَل البيان الشيوعي لماركس، يذهب مارشال بيرمان إلى «أن الحداثة تحتوي على تناقُضاتها الداخلية؛ فأنماط الفكر الحداثي قد تتحوَّل إلى سلفية جامدة يصيبها التقادم؛ لأنَّ أنماطًا من الحداثة قد تَحتجِب لأجيال طويلة دون أن تخلفها أنماط بديلة.» ويرى بيرمان أن المشروع الحداثي قائم على فكرة توحيد البشرية وتجاوز الحدود والاختلافات «لكنها وحدة أضداد، وحدة اللاوحدة؛ فهي تُحيلنا جميعًا إلى خِضَمِّ تيارٍ من العزلة المتزايدة والولادة من جديد، من الكفاح والتناقض، من الغموض والقلق العميق. فأن تكون حديثًا هو أن تكون جزءًا من عالَمٍ حيث يكون.» كما يقول ماركس: «كل ما هو صلب قد تبخَّر في الهواء.»١٦
لقد أصبح واضحًا آنذاك أن مأزق الحداثة الحقيقي هو أنها تبنَّت شعاراتٍ غير قابلة للتحقيق في مجتمعٍ تُسيطِر عليه الآلة الرأسمالية … وقد وجد بعض نقاد الحداثة١٧ في قصة فاوست Faust  لجوته Goethe مُعبِّرًا جيدًا عن المأزق الحداثي: ففاوست هو البطلُ الملحميُّ المستعِدُّ لهدم الخرافات الدينية، والقِيَم التقليدية والتقاليد، من أجل بناء عالَم جديد شجاع من رماد العالم القديم. ولهذا يَسعى فاوست، ومعه كل الآخرين (بمن فيهم الشياطين)، بالفكر والعمل، من أجل بلوغ الحد الأقصى من التنظيم، وصولًا إلى السيطرة على الطبيعة، وخلق عالَمٍ جديدٍ، رائعٍ وسامٍ، يُفجِّر ويَستَوعِب كل الطاقات الكامنة … عالم كفيل بتحرير البشرية من الفاقة والحاجة (التي هي نفسها، لو لاحَظنا، نفس أهداف المشروع الحداثي). ولإظهار إرادة التغيير هذه، لا يتورَّع فاوست، رغم ما يُبديه من رعب، عن ترك شياطينه تَقتل زوجَين متحابَّيْن طاعنَيْن في السِّن، يَعيشان في كوخ صغير على شاطئ البحر، لا لسبب إلا لكونهما ببساطة لم يعودا ملائمَيْن للعيش طبقًا لتصميم العالم الجديد؛ هذا هو مأزق الحداثة كما تَصوَّره جوته في فاوست.
يُضاف إلى ما سبق تنامي وتضخُّم الرأسمالية العالمية، وبحسب دولوز،١٨ فإن آثار هذا التضخُّم قد انعكست على البيئة الخارجية، بحيث أضحى ما يُطلق عليه تدمير بيئة الكرة الأرضية La destruction de l’environnement de la terre قد اقترَب من نهايته. أما آثار هذا التضخُّم على الإنسان فهي عديدة، أهمها البطالة والفقر وسيطرة التكنولوجيا وإحلالها محلَّ الإنسان، وما يحدث مُسبقًا في أطراف المركز الهامشية، يَحدث الآن في مركز النظام نفسه. هذا بالإضافة إلى الانعكاسات النفسية الخطيرة، والتي أبرزها الفصام.

إزاء هذا الوضع المُرتبك من فقدان الثقة في المشروع الحداثي الذي بدأت مقولاته في الانهيار واحدةً تلو الأخرى، بدأ الوعي الغربي يَطرح تساؤلات تحمل بداخلها إيذانًا بنهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى. يُلخِّص دولوز هذه التساؤلات كالآتي:

«ما الوظائف الجديدة التي صارت تُناط بالمثقف، والذي أضحى مثقفًا نوعيًّا بعد أن ﮐان يُنظر إليه على أنه مُثقَّف شمولي؟ ما الأنماط الجديدة لتولُّد الذات والتي أمسَت أنماطًا لا هُويَّة لها بعدما كان يُنظر إليها على أنها مُتطابقة ومتماسكة ذات هُويَّة محددة؟ ما هي رؤيتنا وما هي لغتنا، وما هي حقيقتنا أو هُويَّتنا اليوم؟ وما دُمْنا نشارك ونساهم في إنتاج ذاتٍ جديدة، فأية سلطة يلزم مواجهتها، وما هي قدراتنا على المواجهة؟ ألا تجد تقلُّبات الرأسمالية نفسها وجهًا لوجه، وبكيفية غير متوقَّعة، مع انبثاق بطيء لذاتٍ جديدةٍ كبؤرة مقاومة؟ في كل مرة يحدث فيها تحوُّلٌ اجتماعيٌّ ما، ألا تكون ثمة حركة انقلاب وتحوُّل ذاتي، بإبهاماته والتباساته، بل وبإمكاناته أيضًا؟ هذه هي الأسئلة التي يَطرحها جيلنا.»١٩

•••

في عام ١٩٧١م كتب إريك هينش E. Henche مقالًا حمَلَته مجلة «الفن في أمريكا» Art in America عنوانه «تحطيم كل القواعد» Breaking All the Rules، وكان مما جاء فيه «على الرغم مِن أن ما بعد الحداثة تشخيصٌ لكلِّ ما يَحدث حولنا؛ فإننا لم نُعطِها حتى الآن تعريفًا واضحًا.»٢٠ على النقيض من ذلك وفي ربيع ١٩٩٥م أصدر مجموعة مِن المُفكِّرين ونجوم المجتمع الأمريكي بيانًا تحت عنوان «انتفاضة ضد طبقة الإعلام» Revolt Against the Media Class وصَفَه أصحابُه بأنه صرخةُ احتجاجٍ ضد استِشراء القِيَم ما بعد الحداثية في المجتمع الأمريكي.٢١ ولعلَّ هذا الاختلاف بين المواقف يَدفعنا للتساؤل عن معنى مُصطلح «ما بعد الحداثة».٢٢
ثمَّة صعوبات عديدة بالتأكيد تقف حائلًا بين إمكانية التحديد الدقيق للمُصطلَح أو المفهوم؛ ولعلَّ إيهاب حسن في مقالته «سؤال ما بعد الحداثة» The Question of Postmodernism٢٣ يَعرض لتلك الصعوبات، يقول: «إنها إشكالية مُتعدِّدة الجوانب، ولعلَّ هذه الأسئلة تُلقي بعضًا من الضوء عليها. هل ثمَّة ظاهرة جديدة في الثقافة المعاصرة عمومًا، وفي الأدب المعاصر بشكلٍ خاص، تَستدعي أن نُطلِق عليها اسمًا جديدًا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يُفيدنا هنا اسم مبدئي من قَبيل «ما بعد الحداثة» Post Modernism؟ وكيف يُمكن لهذه الظاهرة، دعونا نَتوافق على تسميتها الآن بما بعد الحداثة، أن تَتواصل مع مفاهيمَ أخرى، مثل الحداثة أو الطليعة avant-garde؟ وهل ثمَّة إشكاليات نظرية وتاريخية تُخفيها تلك الظاهرة؟ لقد جاءت معظم الاجتهادات التي سعَت لتعريف ما بعد الحداثة مُضطرِبة؛ وتبدو في أحسن الأحوال نوعًا من التكرار الذي لا يُفيد، فيُخبرنا بما نحن مُتأكِّدون من معرفته بالفعل. إذًا، ما الذي سنَجنيه من هذا المسار الاستِفهامي الذي بدأناه؟»
الواقع أن مُنظِّري ما بعد الحداثة لم يَتَّفقوا حتى على تعبير «ما بعد الحداثة»؛ فالبعض مثل ليوتار Lyotard يُفضِّل صيغةً أكثر تحديدًا كالوضع ما بعد الحداثي La condition postmoderne، فيما يراها آخرون كجيمسون «منطقًا ثقافيًّا للرأسمالية المُتأخرة» أو «عصرًا ثقافيًّا أخيرًا في الغرب».٢٤ وهو يرى أن المُصطَلح «مُتضارِب ومُتناقِض داخليًّا … فما بعد الحداثة ليس شيئًا يُمكن أن نُثبِته في مكانه مرةً واحدةً لكَي نُعاود استعماله لاحقًا.» أما أمبرطو إيكو Umberto-Eco فعلى الرغم مِن أن أعماله ما بعد حداثية بامتياز — فهو يَرفُض التسمية ويقترح بدلًا منها ما يُطلَق عليه «تعدُّد اللغات المُعمَّم لزمننا» il multilinguismo della nostra generalizzate؛ كذلك هو الحال أيضًا مع فوكو ودولوز اللذَين اعتبرا أعمالهما تُشكِّل انقطاعًا وتواصلًا مع الحداثة.٢٥
كل هذه الآراء تدعونا للتساؤل: هل يُمكن تعريف ما بعد الحداثة؟ وفقًا لمُنظِّري الحركة فإن لفظة «تعريف» definition هي لفظة حداثية موروثة من نماذج الوضعية المنطقية، ولا تَنسجِم مع الإطار العام المفتوح لما بعد الحداثة، والذي لا يَحوي ضمن مفرداته مقولة التحديد. فالتعريف يُوحي بالثبات كما أنه يفترض مقدمًا أن كلَّ مَن سيَقرؤه سيفهمه كما حدَّده كاتبُه، وكما سيفهمه جميع القراء، وهذا ما يَرفضه مُنظِّرو ما بعد الحداثة الذين لا يُؤمنون بوجود حقيقة موضوعية. ويذهب إيهاب حسن إلى «أن المصطلح، فضلًا عن المفهوم، يَنتمي إلى ما يُطلِق عليه الفلاسفة الفئة المُتنازَع عليها جوهريًّا، وبلغةٍ أبسط — يقول حسن — إذا وضعنا أهم المُفكِّرين الذين ناقشوا المفهوم في غرفة واحدة، ثم أضفنا الإرباك الملازم للمفهوم، وأغلقنا الغرفة، وألقينا بالمفتاح بعيدًا، فلن يحدث اتفاق بين المُناقِشِين، بل سنجد خيطًا من الدماء يبدو أدنى عتبة الغرفة.»٢٦

رغم تلك الصعوبات التي تَكشِف لنا مدى تعقيد المُصطلَح، فضلًا عن المفهوم أو الظاهرة؛ فإننا سنُحاوِل الاقتراب من المصطلح بتحديد بعض الملامح العامة له:

يَنبغي أن نُفرِّق بداية بين ما بعد الحداثة Post-modernisme كمُصطلحٍ يُشير إلى نوعٍ من الثقافة المعاصرة، وما بعد التحديث Post-modernité كحقبة زمنية يمرُّ، أو مرَّ، بها الغرب، نتيجةً لبعض المُتغيِّرات التي لحقت بعملية التصنيع والإنتاج وارتباط ذلك بتنامي وتضخُّم المنظَّمات الرأسمالية العالَمية. ما بعد التحديث يُشير إلى الفترة التاريخية أو المدة الزمنية؛ أما ما بعد الحداثة فيُشير إلى أسلوب أو طريقة التفكير أو الحركة الفكرية والثقافية التي انبثَقَت من هذا الوضع التاريخي الذي يُطلَق عليه «ما بعد التحديث».٢٧ تُشير البادئة Post في مصطلح Postmodernisme في الإنجليزية والفرنسية إلى ما يأتي «بعد» كلازمة تُعبِّر عن الزمان، كأن نقول «ما بعد الكلاسيكية، ما بعد الرومانسية، ما بعد البِنيوية … إلخ.» غير أنها لا تتوقَّف عند العلاقة الزمنية ولكن تَتجاوزها للعلاقة الفكرية؛ إذ تُشير إلى ترك الإطار أو النموذج Paradigme السابق عليها. ويعود استخدام المُصطلَح أول مرة — بحسب إيهاب حسن — إلى الإسباني فيدريكو دي أونيس F. De Onis وذلك في كتابه «مُختارات من الشِّعر الإسباني والإسباني الأمريكي» Antologia de la Poesia Espanola e Hispano Americana الصادر عام ١٩٣٤م، ثم التقطه دودلي فيتس D. Fitts في كتابه «مختارات من الشِّعر الأمريكي اللاتيني المعاصر» Anthology of Contemporary Latin-American Poetry عام ١٩٤٢م، وكان كلاهما يُشير إلى ردِّ فعلٍ ثانويٍّ على الحداثة قائم في داخلها. يرى حسن إذًا أن المُصطَلح نشأ في حقل النقد الأدبي، ثم وُظِّف في حقولٍ معرفية أخرى كالفلسفة والاجتماع والسياسة والتحليل النفسي واللغويات والدين … إلخ. لكن المؤكَّد أيضًا — وهو ما يُشير إليه حسن — أن المُصطلَح اكتسب مدلولًا لأول مرة في كتاب فيلسوف التاريخ الإنجليزي أرنولد توينبي A. Toynbee  A Study of History «دراسة التاريخ»، عندما استخدمه ليُشير إلى ثلاث خصائص رآها تُميِّز الفكر والمجتمع الغربيَّين منتصف القرن العشرين، وهي اللاعقلانية والفَوضوية واللامعيارية، بسبب أفول البورجوازية في التحكُّم بتطوُّر الرأسمالية الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحلول الطبقة العاملة الصناعية محلها، وهو ما رآه انقلابًا، بل انحطاطًا، للقِيَم البورجوازية التقليدية.٢٨
في بداية الستينيات استُخدِم المفهوم على نطاقٍ أوسع؛ إذ استخدمه ليونارد ماير L. Mayer في دراسته (١٨٨٢م) «نهاية عصر النهضة» The End of the Renaissance (١٩٦٣م) ليُشير به إلى التغيُّر المعماري الذي طرأ على المدينة الغربية. وفي نفس الاتجاه نشر المعماري الشهير روبرت فنتوري Robert Venturi مقالته «مبرِّرات عمارة البوب» ١٩٦٥م قدَّم خلالها مُبرِّراتِ وحتمية ولادة مفهوم جديد للعمارة، عِوَضًا عن المفاهيم الجامدة البليدة المُضجرة التي تبنَّتها الحداثة. ثم أتبعَ هذه المقالة بكتاب «التعقيد والتناقض في العمارة» Complexity and Contradiction in Architecture (١٩٦٦م) وضع فيه تصوُّره لخصائص العمارة ما بعد الحداثية قائلًا: «نحن نطالب بعمارةٍ تُعلي الثراء، بمعنى الوفرة والكثرة والزخم في التفاصيل والاقتباس والغموض، فوق الوحدة والنقاء؛ وتُقدِّم التناقضَ والتعقيدَ على التناغم والبساطة.»٢٩
ومع أن الجدل بشأن مفهوم ما بعد الحداثة بدأ في عَقْد الستينيات، العقد الذي يَصفُه هويسنز٣٠ بالخط الفاصل العظيم، في النقدَيْن الأدبي والثقافي في أمريكا؛ فقد امتدَّ هذا الجدل إلى حقول معرفية أخرى. وقد أعلن تشارلز جينكس C. Jencks، وهو أحد المُنظِّرِين الأساسيِّين لما بعد الحداثة في فن العمارة، أن المصدر الأساسي الذي استقى منه فهْمه النظري لمفهوم ما بعد الحداثة هو النقد الأدبي؛ وحسب جينكس فإن «إيهاب حسن كان هو بالفعل مَن عمَّد مفهوم ما بعد الحداثة وجعله أكثر استقرارًا.»٣١ ويُصادق على رأي جينكس ما ذكَره جان فرانسوا ليوتار في كتابه «الوضع ما بعد الحداثي» (١٩٧٩م) من أن عمل إيهاب حسن «أدب الصمت» The Literature of Silence هو المصدر الذي نبَّهه إلى أهلية مفهوم ما بعد الحداثة.٣٢
بدأت ثقافة ما بعد الحداثة في سبعينيات القرن العشرين — بعد التغيُّرات التي طرأت على الساحة الفكرية الفرنسية نتيجة انتفاضة الطلبة في مايو ١٩٦٨م — تتلاقى مع المشروع الفرنسي ما بعد البنيوي. وبمعنًى أدقَّ تجد المناخ النظري الملائم لها من خلال أعمال رولان بارت R. Barthes وفوكو وجيل دولوز وجاك دريدا وجاك لاكان J. Lacan. وسيكون هذا التلاقي هو البداية الحقيقية لما عُرف بحركة ما بعد الحداثة الفلسفية. وفي العام ١٩٧٩م يصدر كتاب جان فرانسوا ليوتار «الوضع ما بعد الحداثي» الذي يَعتبره البعض البيانَ النظري الأول للحركة التي لا يَجمعُها اتجاه واحد، وإن كان يَجمعها بعض الخصائص المشتركة، التي حاول ليوتار تكثيفها في كتابه.
وفي الثمانينيات يستمرُّ الإنتاج الفكري لمُنظِّري التيار (فوكو، دولوز، ليوتار، دريدا، إيهاب حسن) غير أن المصطلح سيَظهر بقوةٍ أكثرَ في ميدان علم الاجتماع: في فرنسا مع جان بودريار؛ وفي بريطانيا لدى سكوت لاش S. Lash في «علم اجتماع ما بعد الحداثة» Postmodern Sociology، ولدى أنتوني جيدنز A. Giddens في «نتاجات الحداثة» The Consequences of Modernity الذي يَقترح فيه مفهوم «الحداثة الجذرية» Radical Modernity بديلًا ﻟ «ما بعد الحداثة».
وفي ظلِّ تنامي المفهوم وتشعُّبه وتداخله مع مصطلحات أخرى عديدة — كما بعد التصنيع Post-industre وما بعد الاستعمار Post-colonialisme — ظهر تيارٌ مناهض بقوة لتيار ما بعد الحداثة، يستند في بِنيَتِه المُضادَّة على الإرث العقلاني الحداثي، داعيًا إلى تصحيح مسار الحداثة بوصفها «مشروعًا لم يَكتمِل بعد»، وأن هذا التصحيح لا يَستدعي أبدًا تقويض المشروع الحداثي المبني على الأسس العقلانية. يَتزعَّم هذا التيار الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس المنتمي إلى مدرسة فرانكفورت Frankfurt School. وبالإضافة إلى هابرماس هناك مجموعة من النقَّاد الماركسيين الذين وجَّهوا كل طاقاتهم وإنتاجهم الفكري لمناهضة تيار ما بعد الحداثة ﮐ «تيري إيجلتون، وديفيد هارفي، وفريدريك جيمسون»، وما زالت إنتاجاتهم الفكرية حتى الآن تدور في هذا السياق.
figure
شعار الحركة المناهضة لثقافة ما بعد الحداثة.
في عام ١٩٩٥م يذهب فالتر أندرسون W. Anderson إلى أن «ما بعد الحداثة سوف يأتي ويذهب، مثل باقي تيارات الفكر؛ أما ما بعد التحديث — أي الظَّرف ما بعد الحداثي — فسيَظلُّ قائمًا.»٣٣ وفي نفس السياق ونفس العام يقول ديفيد هارفي: «ثمَّة علامات، في هذه الأيام، تُشير إلى أن هيمنة ثقافة ما بعد الحداثة هي في عملية ضَعف مُستمر في الغرب.»٣٤ في حين يذهب إيهاب حسن في آخر مقالة نُشرت له إلى أن «ما بعد الحداثة صارت الآن شبحًا … وكلما نظن أننا قد تخلَّصنا منها، يَنهض شبحها مرة أخرى.» ويَستطرِد قائلًا: «ما زالت أفكار ما بعد الحداثة تَتردَّد في خطاب الهندسة المعمارية، والفنون المختلفة، والعلوم الإنسانية، وأحيانًا الفيزياء، كما أنها لم تَقتصِر على المؤسَّسات الأكاديمية، بل نجدها أيضًا في الخطاب الشعبي، وعوالم السياسة والاقتصاد، والميديا، وصناعات الترفيه، كذلك شاعت في لغة الأساليب الشخصية للحياة، مثل طريقة طهو ما بعد حداثية، ومطبخ ما بعد حداثي … إلخ.»٣٥
والسؤال الآن: هل تُمثِّل ما بعد الحداثة كسرًا جذريًّا مع الحداثة، أم أنها ببساطة انتفاضة داخل الحداثة ضد شكل من أشكال الحداثة العليا؟ هل ما بعد الحداثة أسلوب أو طريقة للنظر في العالم والأشياء أم أنها تُعتبر عصرًا كاملًا يَحياه الغرب الآن؟ ومن ناحية أُخرى هل تغيَّرت الحياة الاجتماعية في الغرب منذ مطلع السبعينيات حقًّا، وإلى الحد الذي يَسمح بالقول إنَّ الغرب يعيش الآن مرحلة ما بعد الحداثة؟ أم أنَّ تيارات ما بعد الحداثة — يتساءل هارفي.٣٦ مجرَّد تيارات تَضرب البنى العليا للثقافة، والتي ما انفكَّت تُوغل في الغرابة على وقع التغيير الذي يَحدث دائمًا في «الموضة» الأكاديمية؟
يُمكننا التمييز هنا بين رأيين متعارضَين: الأول يرى أن «حركة ما بعد الحداثة تَنتهِج نهجًا يَنفي الحداثة ويُعلن رفضه لكلِّ أُسُسها ومبادئها.»٣٧ والثاني يرى أن «ما بعد الحداثة نوع خاص من التأزُّم داخل حركة الحداثة.» فحجم الاستمرار هو أكثر بكثير من حجم الاختلاف بين التاريخ المُمتد للحداثة والحركة المسماة ما بعد الحداثة.٣٨ ويُمثِّل الرأي الأول إيجلتون وهارفي وفريدريك جيمسون؛ أما الثاني فيُمثِّله ليوتار ودولوز وفوكو. الرأي الأول يَستند في دعواه إلى أن الخطاب ما بعد الحداثي هو نقيض الخطاب الحداثي فهو خطابٌ يَتبنَّى مبادئ تقوم أساسًا على هدم القِيَم التي أورثَتْها الحداثة مثل الواحدية، والنقاء، والشعور بامتلاك اليقين وأحكام القيمة والسلطة الأبوية بكل صُوَرها؛ لا سيما أشكال السلطة التي أفرزها المجتمع الرأسمالي كالعقل الأداتي واللوجوس، وغيرها من مفردات الخطاب الحداثي الشهير. وكنقيضٍ لهذه القيم، تبنَّت ما بعد الحداثة خطابًا رافضًا الكلي ومُكرِّسًا النِّسبي واليومي، مقابل الحتمي والتاريخي، مُتحرِّرًا من الزمن الخطي، وهادمًا التمايزات بين الاجتماعي والثقافي، وداحضًا ومُهشِّمًا الحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية، كمُحاوَلة لإقصاء السياسات وحيدة الجانب، وكردِّ فعل لتشظِّي المجتمع الراهن وتصدُّعه، ومن أجل التعبير عن تفكُّك العلاقات السائدة في الزمن الراهن. وكان أن نادى معظمُ مُنظِّري ما بعد الحداثة بتبنِّي مفاهيمَ جديدةٍ تَحُلُّ محلَّ مفاهيمِ الحداثة السائدة تجلَّت في ركائزَ ثلاث: الأولى هي الوعي بالفردانية واستقلال الذات عِوَضًا عن النزوع الجمعي الشمولي القديم، والثانية تكريس مفهوم سقوط السلطة بكل أنواعها، وبالتالي نقض مفهوم المركزية والواحدية انتصارًا للتعدُّدية والتنوع. وهما معًا الركيزة الثالثة. هذا هو رأي الفريق الأول الذي يرى في ما بعد الحداثة انفصالًا عن المشروع الحداثي وانقلابًا عليه.
أما الرأي الثاني فيرى أن المشروع الحداثي الغربي هو «مشروع مُتأزِّم في الأساس بحيث يحتاج إلى تصحيح مسار، وأن نهايات هذا المشروع (ما بعد الحداثة) جاءت نتيجةً طبيعية لما آل إليه المشروع الحداثي في القرن الثامن عشر (عصر التنوير).»٣٩ وهذا الفريق يَرفض الرؤية التاريخية «لما بعد الحداثة» بوصفها شيئًا يأتي بعد «الحداثة»، فما بعد الحداثة كامنة في قلب المشروع الحداثي، بحيث إنها لا تُمثِّل انقطاعًا عنه، إنما هي تَفعيلٌ لبعض المقولات والأفكار المتضمَّنة في الحِقْبة الحداثية. يقول ليوتار: «لا الحداثة ولا ما بعد الحداثة يمكن تحديدهما كحِقَبٍ تاريخية واضحة، تكون ما بعد الحداثة فيها شيئًا يأتي «بعد» الحداثة. يجب القول على العكس من ذلك إن ما بعد الحداثة محايثٌ للحداثة، بما أن الحداثة الزمنية تَحمل في داخلها رغبةً في الخروج من ذاتها داخل حالةٍ أخرى.»٤٠ ما يقوله ليوتار هنا يَتوافق مع مبادئ المشروع الحداثي بوصفه مشروعًا «مفتوحًا» يَقبل الاختلاف والتطوُّر، كما يَتوافق مع حضور النَّص الحداثي في المؤلَّفات الكبرى لفلاسفة ما بعد الحداثة، بدايةً من ليبنتس وسبينوزا مرورًا بكانط وهيجل وحتى ماركس ونيتشه وهيدجر.
هذا الحضور للنص الحداثي لا يُفهم إلا بكونه محاولةً لإعادة النظر في مقولات الحداثة من داخلها، وكما يقول دولوز في «منطق المعنى» Logique du Sens 1969 «يتعيَّن على الفلسفة أن تُبرِز في الحداثة شيئًا كان نيتشه يُحدِّده كشيء ضد الزمان؛ أي شيء يَنتمي إلى الحداثة، ولكنه في الوقت ذاته ينبغي أن يَنقلِب ضدها، من أجل زمانٍ بديل.»٤١ والواقع أن أعمال دولوز كلها تَسير في هذا الاتجاه، العمل على نصوص الفلاسفة الحداثيِّين من أجل إعادة قراءتها وتأويلها بحيث يخرج الفيلسوف في النهاية في صورة جديدة غير المتعارَف عليها، وقد اتَّبع دولوز هذه الطريقة في كتاباته عن هيوم وليبنتس وسبينوزا وبرجسون ونيتشه «لا ينبغي لتاريخ الفلسفة إعادة ما يَقوله فيلسوفٌ ما، بل قول ما يُضمره بالضرورة؛ أي ما لا يقوله وهو ماثلٌ مع ذلك فيما يقوله.»٤٢ ومن نفس المنطلق يرى دريدا «أن تفسيراته لنصوص أفلاطون وروسو وماركس وهيدجر هو نوعٌ من الوفاء لهم. لكنه يَتصوَّر الوفاء، لا بوصفه عرضًا مُخلِصًا لما كانوا يُريدون قوله — فهذا في رأيه مجرَّد مساهمة في عملية دفن الموتى، إنما الوفاء الحقيقي يكون في المساءلة النقدية لما قدموه.»٤٣ وفي نفس السياق يقول فوكو: «إننا لا نَخرج عن الفلسفة ببقائنا داخلها، لا، بل بمعارضتها بنوعٍ من الاندهاش، كاندهاش نيتشه من الفلسفة السابقة عليه.»٤٤

والواقع أن الإنتاج الفكري لفلاسفة ما بعد الحداثة يُؤكِّد أن هذه الأخيرة لحظة من لحظات المشروع الحداثي، ربما تكون لحظة قلق واضطراب وشك، لكنَّها استمرار بصورة أو بأخرى للمشروع الحداثي. لحظة شكٍّ داخل الإطار وليست انقلابًا عليه وعودةً إلى الوراء، إحساس أكبر بواقع متأزِّم، لحظة استشعرها نيتشه وفلاسفة النظرية النقدية من قبل. لكنها لحظة يتبعها إعادة البناء وتغيير المفاهيم. لذلك فنحن — في رأيي — لا نستطيع أن نَصِف ما بعد الحداثة بأنها عودة إلى الوراء ونكوص للخَلف وهدم للإرث العَقلاني الحَداثي، إنها فقط ردُّ فعلٍ مثلما كانت الحداثة ردَّ فعلٍ. ليست ما بعد الحداثة نهايةً للوعي الأوروبي — كما ذهَب البعض، إنما هي فقط لحظة شك وإعادة مساءلة للتراث الحداثي.

•••

استخلاصًا مما سبق يُمكن تحديد بعض السمات العامة لاتِّجاه ما بعد الحداثة،٤٥ وتختلف السمات عن القِيَم والمبادئ؛ إذ السمات تُعبِّر عن الشكل الخارجي (المظهر)، في حين تَكشف القيم والمبادئ عن الأسس الداخلية التي تَنبني عليها الظاهرة:

(أ) انفتاح الإطار النظري

ليس لدراسات ما بعد الحداثة إطارٌ نظري ثابت؛ فالمفكِّر ما بعد الحداثي يرى الحياة موقفية، مُتشظِّية، سائلة، انطباعية … ولذا لم يُطوِّر ما بعد الحداثيين نموذجًا معرفيًّا أساسيًّا يصلح بعد ذلك للتطوير في اتجاه نظرية متكاملة؛ فالنظرية في عُرْفهم مجرَّد خطاب لحيازة القوة في فضاء اجتماعي. من هنا اهتمامُ فلاسفة ما بعد الحداثة باللغة، واحتفاؤهم بالنَّص. سيولي فوكو اهتمامًا خاصًّا بالخطاب، وسيقوم بتحليل البُنى الخطابية التي كانت سائدةً منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، من خلال منهج وصفي يكشف عن نمط وجود الخطاب وكيفية تُجلِّيه وما يترتب عليه من آثار. وستُمثِّل فكرة الأسلوب في علاقته بالمفهوم والمعنى مكانةً هامة في أعمال جيل دولوز. كما يَتخذ ليوتار من مقولة فتجنشتاين Wittgenstein أن المعرفة مؤلَّفة من «ألعاب لغوية» sprachspiele أساسًا لنقد ما أسماه «بالسرديات الكبرى» Les Grands recits؛ أما دريدا فيتخذ من تفكيكه لنصوص كبار الفلاسفة وسيلةً لتفكيك البنية الميتافيزيقية الغربية التي أطلق عليها ميتافيزيقا الحضور La métaphysique de la présence.
تُعَدُّ سمة «انفتاح الإطار النظري» لما بعد الحداثة، نتيجةً طبيعية لموقف فلاسفتها من مفهوم «الحقيقة الموضوعية» La vérité objective — أحد المفاهيم الأثيرة لفلاسفة الحداثة. فإذا كانت الأسئلة الأساسية التي كان يَطرحها كلُّ مفكر حداثي هي: لماذا أنا هنا في العالم؟ وما هو هدفي النهائي، وما معايير الصواب والخطأ؟ فإن هذه الأسئلة الجاهزة يسبقها مسلَّمة مؤداها أن هناك إجابة صحيحة واحدة عن كل سؤال، وعليه فالسيطرة على العالم وإدارته عقليًّا أمر مُتوقِّف فقط على إمكانية عثورنا على تلك الإجابة. وهذا يفترض ضمنًا أن هناك طريقًا واحدًا صحيحًا إذا وُفِّقنا باكتشافه نكون قد عثرنا على الأداة الصحيحة للإجابة على أسئلتنا. وكبديل لهذه الرؤية يرى فلاسفة ما بعد الحداثة أن الواقع المُتشظِّي، الذي تحكمه فكرة الصيرورة، لا مكان فيه لمفهوم «الحقيقة»، كما أن مفهوم الحقيقة من المفاهيم السلطوية التي تُوظَّف دائمًا لخدمة فئةٍ بعينها، يقول بودريار: «لم يَعُد بوسع الفرد أن يضع حدودًا لكيانه، ولم يَعُد بوسعه أن يلعب دوره … إنه الآن صفحة نقية ومعْبَر لكل شبكات التأثير.»

(ب) انفتاح الموضوعات البحثية

ليس لتيار ما بعد الحداثة موضوعات بحثية بعينها؛ فهو يدرس كل شيء في الحياة بداية من نمط الإنتاج وعلاقاته في المرحلة الرأسمالية المُتأخِّرة مرورًا بنظم المعرفة والخطابات وحتى عروض الأزياء والمصارعة الحرة.٤٦ والملاحظ أيضًا في الإنتاج الثقافي ما بعد الحداثي غياب المباحث التقليدية المعهودة في الفلسفة، وربما يكون مرجع هذا إلى رفض فلاسفة ما بعد الحداثة لمفهوم «النظرية»، لا توجد نظرية في الوجود والمعرفة والقيم، هناك فقط خواطر وتأملات ومفاهيم دون وعاء نظري شامل يجمعها في وحدة واحدة. والواقع أن افتقاد هذا الإطار النظري، بحسب رورتي R. Rorty،٤٧ كان أحدَ أهم الانتقادات التي وجَّهها هابرماس لفلاسفةٍ من أمثال فوكو ودولوز وليوتار.
يَرتبط بهذه السِّمة خاصية أخرى واضحة في معظم الإنتاج ما بعد الحداثي؛ وهي محوُ بعض الحدود والفواصل: هذه الخاصية لها تمثُّلات عديدة، أولها محو التمييز القديم بين الثقافة العليا والثقافة الجماهيرية أو الشعبية، وهي خاصية سنعود إليها بالتفصيل عند الحديث عن استطيقا ما بعد الحداثة. وثانيها محو الفواصل القديمة بين الأنواع الأدبية وأنواع الخطاب الأخرى؛ حيث كان السائد فيما مضى إمكانية التمييز بين أنواع الخطاب المختلفة: «الخطاب السياسي»، و«الاجتماعي»، و«التاريخي»، و«الأدبي»، أما الآن فكل هذه الخطابات متداخلة مع بعضها بحيث يصعب تصنيفها، وربما هذه هي صورة أخرى من صور مفهوم «التناص» intertextualité. وقد كان جيل دولوز يقول: «أريد أن أكتب تاريخ الفلسفة كالرواية.»٤٨ كما أننا نلمس داخل النَّص الدولوزي انفتاحًا على العديد من المجالات المعرفية، وكما يقول ريمون بيلور: «إنَّ أعمال دولوز على اتصال مباشر بالفن والعلم والجسد وعلم الأحياء.»٤٩ وربما يُفسِّر هذا سبب حضور النَّص الأدبي، بكل أشكاله، في النَّص الفلسفي ما بعد الحداثي ربما بدرجة تفوق حضورَ النُّصوص الفلسفية. يرتبط هذا أيضًا «بتماهي وتداخُل المجالات المعرفية المختلفة وإدراجها تحت ما يُسمَّى ﺑ «الدراسات الثقافية» Cultural Studies»٥٠ وهو مصطلح يُعبِّر بصورة أكثر واقعية عن الممارسات الفكرية لمُنظِّري ما بعد الحداثة، وفي هذا السياق يتساءل فريدريك جيمسون وديفيد هارفي عن «هل يُمكن تسمية أعمال ميشال فوكو، وهذا ينطبق أيضًا على معظم مُفكِّري ما بعد الحداثة، فلسفةً أمْ تاريخًا أمْ نظريةً اجتماعيةً أمْ علومًا سياسية؟»٥١

(ﺟ) شيوع فكرة النهايات

وهي فكرة بدأت مع هيجل وردَّدها بعض تلامذته من بعده، كان إريك فيل Eric Weil يقول: «إنَّ هيجل قد وضع للفلسفة نقطة النهاية.»٥٢ وقد أعلن اشبنجلر Spengler (١٨٨٠–١٩٣٦م) صراحة «نهاية الغرب»  Der untergang des western وأفوله. وأزكى نيتشه Nietzsche هذه الروح عندما أعلن «موت الإله» Tod Gottes. هذه التيمة — تيمة النهايات — أصبحت حاضرةً بقوة في الخطاب الفلسفي الغربي في النِّصف الثاني من القرن العشرين. يكتب بنيامين Walter Benjamin عن «نهاية الفن في عصر الإنتاج الآلي»، ويؤسِّس هيدجر Heidegger مشروعه الفلسفي على «تقويض الميتافيزيقا»، ويعلن بارت R. Barthes عن «موت المؤلِّف»، ويكتب فوكوياما Fukuyama «نهاية التاريخ»، ويُعلن فوكو «موت الإنسان»، ويُحدثنا رورتي عن «نهاية الفلسفة النسقية». وفي نفس السياق يُحاول «فاتيمو» حصر ظاهرة ما بعد الحداثة على المستوى الفكري في خمسة مبادئ هي: نهاية الفن وأفوله – موت النزعة الإنسانية – العدمية – نهاية التاريخ – تجاوز الميتافيزيقا.٥٣ وهي كلها تَنويعٌ على فكرة النهايات. لا يوجد عِلم أو فلسفة أو فنٌّ، بل إعلان النهاية لكل شيء؛ «دق أجراس الموت» بتعبير دريدا. ومع ذلك لا نستطيع أن نقول إنَّ كل فلاسفة ما بعد الحداثة نادَوا بفكرة النهايات؛ فجيل دولوز، على سبيل المثال، من الفلاسفة القلائل الذين لم يُولوا فكرة النهايات أية أهمية؛ لذا فهي غير حاضرة في نصوصه، وهو يقول في الحوار الذي أجراه معه فرانسوا إوالد: «لم أهتمَّ بتجاوُز الميتافيزيقا أو بموت الفلسفة قط. فللفلسفة وظيفة تظلُّ حاضرة تمامًا، وهي خَلْق المفاهيم، ولا يُمكن لأحد أن ينوبها في ذلك.»٥٤ وفي موضعٍ آخَر يقول: «إنَّ مستقبل الفلسفة لم يكن أبدًا مشكلةً بالنسبة لنا، وما يُقال عن نهايتها أو موتها، هو فقط لحظة يأس وإرهاق.»٥٥ وقد خصَّص دولوز كتابه «ما الفلسفة؟» Qu’est-ce que la philosophie? لمناقشة هذه الإشكالية، وقد طرح السؤال عن ماهية الفلسفة من أجل تأكيد دورها في ظل تنامي هذه الروح العدمية. ومع ذلك تظلُّ هذه الروح هي السائدة في النَّص ما بعد الحداثي. وسيكون لها بالتالي العديد من النتائج؛ أولًا: افتقاد النَّص ما بعد الحداثي لروح النقد، ليس نقد الحداثة بطبيعة الحال، وإنما نقد الأوضاع والسياسات الراهنة؛ لذا يعمد معظم فلاسفة ما بعد الحداثة إلى استخدام منهج وصفي خالص للظواهر دون محاولة الانتقال إلى مستوى التحليل النقدي. ثاني هذه النتائج، انهيار فكرة التقدُّم الخطي للتاريخ؛ فالتاريخ الإنساني، مفتوح على احتمالات مُتعدِّدة، قد يتقدَّم، ولكنه قد يَتراجع أيضًا — كما حدَث في الحربَين العالميتَين. وكما لاحظ أدورنو من قبل فإن التقدُّم البشري له تاريخ بالفعل، إنه التاريخ الذي انتقَل «من المقلاع إلى القنبلة الذرية».٥٦ ثالث هذه النتائج، خلو العالم من أي معنًى وافتقاده لأي قيمة، وما يترتب على ذلك من تغيُّر مفهوم القيمة ونسبية المعايير الأخلاقية.

(د) تصوُّر مختلف لأسلوب الكتابة

سِمَة مُشتركة في النَّص ما بعد الحداثي، أنه نصٌّ ملتبس يشعر معه القارئ بالصعوبة والغموض وعدم التحديد. نصٌّ لعوب، يَصعب الإمساك به، أو تحديد معناه لدرجةٍ يشعر معها القارئ أن المؤلِّف يتعمَّد اللبس في حد ذاته. وهذا اللاتحديد للمعنى يستند — في ظني — إلى الفهم البارتي (نسبة لبارت) لطبيعة النَّص. فالنَّص كما يتصوَّره بارت لا بد أن يولد أكبر عدد من الدلالات والمعاني، وهذا لن يتحقَّق إذا تعمَّد النَّص الوضوح والشفافية؛ لا بدَّ أن يكون النَّص ملتبسًا عصيًّا على القراءة. من هنا يُحدِّثنا بارت بحفاوة عما أسماه «عدم القابلية للقراءة» illisibilité فكلما زادت صعوبة النَّص وقدرته على الإيحاء، تعدَّدت معانيه وكثُرت دلالته، يقول بارت: «ليس الوضوح صفة مطلقة لا غنى عنها في الكتابة، بل هي من ملحقات الطبقية؛ أي طريقة في الكتابة بمثابة علامة على أنك عضو في طبقةٍ معيَّنةٍ تتحدَّث إلى الأعضاء الآخرين من نفس الطبقة.»٥٧ والواقع أنَّ هذه السمة — الالتباس — حاضرة بقوة في كافة النُّصوص ما بعد الحداثية، ولا أدلَّ على ذلك من قول ليوتار: «لقد قرأتُ في مجلة فرنسية أن البعض ساخطون على كلٍّ مِن دولوز وجاتاري لأنهم — أي هذا البعض — يَتوقَّعون أن يُكافَئوا بقدْرٍ من المعنى، خاصة من قراءة عمل فلسفي.»٥٨ فقد كان لدولوز تصوُّر خاصٌّ لعملية الكتابة،٥٩ كما أن تجربة الكتابة المشتركة مع المحلِّل النفسي فليكس جاتاري F. Guattari قد منحت مؤلفاتهما طابعًا خاصًّا.
١  ديفيد هارفي، «حالة ما بعد الحداثة: بحث في أصول التغيير الثقافي»، ترجمة: محمد شيا (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠٠٥م) ص٢٤.
٢  Huyssen, Andreas. After The Great Divide: Modernism, Mass Culture, Postmodernism (NY: Indiana University Press, 1986) p. 38.
٣  فريدريك جيمسون، «التحوُّل الثقافي»، ترجمة: محمد الجندي (القاهرة: أكاديمية الفنون، ١٩٩٧م) ص٢٣.
٤  فاطمة ناعوت، «الكتابة بالطباشير»، دار شرقيات، ٢٠٠٦م، ص١٣.
٥  Vattimo. G. The End of Modernity: Nihilism and Hermeneutics in Postmodern Culture (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1988) p. XIV.
٦  بودريار، «الحداثة»، ترجمة: محمد سبيلا. الكرمل العدد ٣٦، ١٩٩٠م، ص٨٠، ٨١.
٧  Deleuze, Foucault. Trans by Sean Hand. Foreword by Paul Bové. (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1988) p. 124. وأيضًا: إديث كيرزويل، «عصر البنيوية»، ترجمة: جابر عصفور (الكويت: دار سعاد الصباح للطباعة والنشر، ١٩٩٣م) ص٢٩٩.
٨  كانط، ما التنوير، مجلة «فكر ونقد»، العدد ١٨، ١٩٩٩م، ص٣٣.
٩  Habermas, Jurgen. “Modernity: An Incomplete Project,”. in Foster, Hal (ed.,) The Anti-Aesthetic: Essays on Postmodern Culture (Port Townsend, Wash: Bay Press, 1983), p. 9.
١٠  ديفيد هارفي، مرجع سابق، ص٣١.
١١  ديفيد هارفي، مرجع سابق، ص٣٣.
١٢  السابق، نفس الموضع.
١٣  محمد سبيلا، «الحداثة وانتقادها» (الدار البيضاء: دار توبقال، ٢٠٠٦م) ص٥٣.
١٤  جوستاف كليمت (١٨٦٢–١٩١٨م) فنان ورسام نمساوي شهير، وأحد أبرز فناني ما عُرف بحركة الانفصال الفنية في فيينا Vienna Secession. ومن الأعمال الرئيسة له اللوحات والرسومات الجدارية، وكثير منها موجود في متحف فيينا، وتحديدًا قاعة الانفصال الفني. اهتم كليمت بشكل رئيس بموضوع جسد الأنثى، وأعماله تتميَّز بعرض الإثارة الجنسية بشكل صريح، وهذا يتجلَّى بقوة في العديد من الاسكتشات التي رسمها. وهو ما يَنسجِم مع مبادئ حركة الانفصال الفنية التي تتمحور حول فكرة كشف الحقيقة بصورة فجة، وكسر حواجز الخجل.
١٥  فرويد، «قلق في الحضارة»، ترجمة: جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة، ١٩٧٧م) ص٣٧.
١٦  هارفي، مرجع سابق، ص٢٧، ٢٨.
١٧  Sarup, Madan. An Introductory Guide to Post-Structuralism and Post-Modernism (NY: Harvester Wheatsheaf Press, 1993) p. 83.
١٨  Buchanan, Brett. Onto-Ethologies: The Animal Environments of Uexküll, Heidegger, Merleau-Ponty, and Deleuze (NY: Suny Press, 2009) p. 173. & Deleuze and Guattari. A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia. Trans Brian Massumi (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1987) p. 188.
١٩  Deleuze, Foucault, p. 115.
٢٠  Henche, Eric. Breaking All the Rules. Art in America Magazine 12 June 1971, Vol 112, p. 23.
٢١  Plant, Sadie. The Most Radical Gesture: The Situationist International in a postmodern Age (London: Routledge Press, 1992) p. 17.
٢٢  عادةً ما تَميل الكتابات الإنجليزية لاستخدام مصطلح «ما بعد الحداثة»، في حين تميل الكتابات الفرنسية أكثر لاستِخدام مُصطلح «ما بعد البِنيَوية» Post-Structurelles.
٢٣  انظر ترجمتنا لهذه المقالة في نهاية الكتاب.
٢٤  Jameson, F. Postmodernism, or the Cultural Logic of late Capitalism (1984) in The Jameson Reader (Oxford: Black Well, 2000) p. 98.
٢٥  Plant, Sadie. Ibid, p. 19.
٢٦  Hassan, Ihab. From Postmodernism to Postmodernity: the Local/Global Context, p. 65.
٢٧  إيجلتون، «أوهام ما بعد الحداثة»، ترجمة: منى سلام (القاهرة: أكاديمية الفنون، ١٩٩٦م) ص٧.
٢٨  Hassan, Ihab. On the Problem of the Postmodern, New Literary History, Vol. 20, No. 1, Critical Reconsiderations. (Autumn, 1988), pp. 21-22.
٢٩  ديفيد هارفي، السابق، ص٦٤.
٣٠  Huyssen, After The Great Divide: Modernism, Mass Culture, Postmodernism, p. 88.
٣١  Anderson, Truett. The Fontana postmodernism Reader (London: Fontana Press, 1995).
٣٢  Sarup, Madan. An Introductory Guide to Post-Structuralism and Post-Modernism, 134.
٣٣  Anderson, The Fontana postmodernism Reader. p. 7.
٣٤  ديفيد هارفي، مرجع سابق، ص١٦.
٣٥  Hassan, From Postmodernism to Postmodernity: the Local/Global Context. p. 71.
٣٦  هارفي، المرجع نفسه، ١٩.
٣٧  هارفي، المرجع نفسه، ص١٤٥.
٣٨  هارفي، المرجع نفسه، ص١٤٨.
٣٩  محمد سبيلا، «الحداثة وانتقاداتها»، ص٨.
٤٠  محمد سبيلا، المرجع نفسه، ص١١٣.
٤١  Deleuze, The Logic of Sense. Trans Mark Lester (London: Athlone Press, 1990) p. 289.
٤٢  ريمون بيلور وفرانسوا إوالد، جيل دولوز: الفيلسوف المُترحِّل. ترجمة: محمد ميلاد، في «مسارات فلسفية» (بيروت: دار الحوار، ٢٠٠٤م) ص٤٣.
٤٣  جاك دريدا، «في علم الكتابة». ترجمة: أنور مغيث، ومنى طلبة (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٥م) ص٤٧.
٤٤  روجيه بول دورا، ميشيل فوكو: مخترق حدود الفلسفة. ترجمة: محمد ميلاد، في «مسارات فلسفية»، مرجع سابق، ص١٧.
٤٥  راجع محمد حسام الدين، «الإعلام وما بعد الحداثة» (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٥م) ص١٠٦ وما بعدها (بتصرُّف).
٤٦  لهذا يذهب إيهاب حسن إلى أن لحظة ما بعد الحداثة تُمثِّل نوعًا من الانفجار الذي سوف يؤدي بالحداثة وبعقلانيتها وموضوعاتها إلى التشتُّت إلى وحداتٍ وقطعٍ متناثرة. Hassan, Ihab. From Postmodernism to Postmodernity: the Local/Global Context. P. 78.
٤٧  Rorty, Richard, Essays on Heidegger and Others. Philosophical Papers Volume 2. (Camebridge: Camebridge University Press, 1991) p. 173.
٤٨  Deleuze, Negotiations 1972–1990. Trans by Martin Joughin (New York: Columbia University Press, 1995) p. 83.
٤٩  ريمون بيلور، جيل دولوز: الفيلسوف المترحل، ص٤١.
٥٠  Buchanan, Ian. Deleuze and Cultural Studies, South Atlantic Quarterly 96 (3) (1997): 483–497.
٥١  جيمسون، «التحوُّل الثقافي»، ص٢٣ وهارفي، «حالة ما بعد الحداثة»، ص١٨٨.
٥٢  محمد الشيخ، «المثقَّف والسلطة» (بيروت: دار الطليعة، ١٩٩١م) ص٦٨.
٥٣  Vattimo, G. The End of Modernity: Nihilism and Hermeneutics in Postmodern Culture. p. 205.
٥٤  ريمون بيلور، جيل دولوز: الفيلسوف المترحل، ص٤١.
٥٥  Deleuze, Negotiations 1972–1990. P. 88.
٥٦  عن تيري إيجلتون، مفهوم التاريخ في الفكر ما بعد الحداثي، الكرمل، العدد ٤٤، ص٥١.
٥٧  فليب ثودي، «بارت»، ترجمة: جمال الجزيري (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٣م) ص٨٠.
٥٨  Lyotard, J. F, The Postmodern Condition: A Report on Knowledge. trans Geoff Bennington and Brian Massumi, Foreword by Fredric Jameson (NY: Minnesota Press) p. 71.
٥٩  سنعرض لذلك تفصيلًا في الفصل الرابع في الجزء الذي خصَّصناه عن جيل دولوز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤