تمهيد

نظرة متأملة في بدايات العلم وعلم البدايات

ظهر للنور مزيج جديد من المعرفة العلمية، وهو مستمر في الازدهار. ففي السنوات الأخيرة لم تأتِنا إجابات الأسئلة المتعلقة ببدايات الكون من مجال الفيزياء الفلكية وحده؛ إذ أدرك الفيزيائيون الفلكيون — من خلال عملهم تحت مظلة مجالات ناشئة تحمل أسماءً مثل الكيمياء الفلكية والأحياء الفلكية وفيزياء الجسيمات الفلكية — أن بمقدورهم أن يستفيدوا استفادة عظيمة من التعمق في هذه العلوم الأخرى. فالاستعانة بفروع عديدة من العلم عند إجابة السؤال «من أين جئنا؟» يمد المتسائلين بنطاق واسع عميق من الرُّؤَى — لم يسبق تخيُّله من قبل — عن كيفية عمل الكون.

في هذا الكتاب نقدم للقارئ هذا المزيج الجديد من المعارف، الذي لا يمكِّننا من تناول موضوع بداية الكون وحسب، بل يمكِّننا من تناول بداية أكبر البُنى التي كونتها المادة؛ بداية النجوم التي تضيء الكون، والكواكب التي توفر الأماكن المرجحة لظهور الحياة، إضافة إلى بداية الحياة نفسها على واحد أو أكثر من هذه الكواكب.

يظل البشر مفتونين بموضوع البدايات لأسباب عديدة، منها المنطقي ومنها العاطفي. فنحن لا نستطيع فهم جوهر أي شيء ما لم نعرف من أين جاء. وكل القصص التي نسمعها، وتسرد لنا أصولنا، تخلف آثارًا عميقة في نفوسنا.

إن نزعة التركيز على الذات المتغلغلة في عظامنا، بفعل تطورنا وخبراتنا على كوكب الأرض، أدت بنا على نحو طبيعي إلى التركيز أساسًا على الأحداث والظواهر القريبة منا عند إعادة سرد أغلب القصص المتعلقة بأصولنا. ومع ذلك كشف لنا كل تقدم في معرفتنا بالكون عن أننا نعيش على سطح ذرة غبار كونية، تدور حول نجم عادي، في طرف ناءٍ لمجرة من نوع شائع، ضمن مائة مليار مجرة في الكون. وتستثير حقيقة عدم أهميتنا الكونية مجموعة من الحيل الدفاعية المدهشة في النفس البشرية. فكثيرون منا يشبهون — دون وعي منهم — شخصًا في رسم كارتوني ينظر نحو السماء المرصعة بالنجوم ويقول لرفيقه: «كلما نظرت إلى تلك النجوم اندهشت من مقدار عدم أهميتها.»

على مر التاريخ، نبعت من ثقافات مختلفة خرافات عن الخلق تفسر أصولنا كنتيجة لقوى كونية تشكل مصائرنا. وقد ساعدت تلك الحكايات على درء مشاعر عدم الأهمية لدى البشر. ومع أن كل قصص البدايات تبدأ في المعتاد بالصورة الكبرى، فإنها سريعًا ما تتجه صوب كوكب الأرض في سرعة مدهشة، وتمر مرورًا سريعًا بنشأة الكون، ومحتوياته جميعها، ونشأة الحياة على الأرض، حتى تصل إلى تفسيرات مطولة لتفاصيل عديدة عن التاريخ الإنساني وصراعاته الاجتماعية، كما لو أننا — على نحو ما — مركز الكون بأسره.

تقوم جميع الأجوبة المتنوعة الهادفة إلى معرفة البدايات على فرضية أساسية مفادها أن الكون يسير وفق قواعد عامة تكشف عن نفسها، على الأقل من حيث المبدأ، أمام فحصنا المتأني للعالم من حولنا. رفع فلاسفة الإغريق شأن هذه الفرضية إلى قمم سامقات، مؤكدين على أننا — نحن البشر — نمتلك القدرة على إدراك كيفية عمل الطبيعة، إلى جانب الحقيقة الكامنة وراء ما نرصده: أي الحقائق الجوهرية التي تحكم كل شيء آخر. ومن المفهوم أنهم أكدوا على أن الكشف عن تلك الحقائق سيكون أمرًا عسيرًا. فمنذ ثلاثة وعشرين قرنًا، شبه الفيلسوف الإغريقي أفلاطون — في أشهر تأملاته في جهلنا — من يلهثون وراء المعرفة بسجناء مقيدين بالسلاسل داخل أحد الكهوف، ويعجزون عن رؤية الأشياء الموجودة خلفهم، وعليهم أن يحاولوا استنتاج وصف دقيق للحقيقة من الظلال التي تلقيها هذه الأشياء.

بهذا التشبيه لم يلخص أفلاطون محاولات البشر لفهم الكون وحسب، بل أكد أيضًا على أن لدينا ميلًا طبيعيًّا للإيمان بوجود كيانات غامضة محسوسة على نحو باهت تتحكم في الكون، مطلعة على معارف لا يمكننا — في أفضل الأحوال — إلا ملاحظتها جزئيًّا. ومن أفلاطون إلى بوذا، ومن موسى إلى محمد، ومن فكرة القوى الكونية الخفية إلى الأفلام الحديثة كفيلم «ماتركس» (المصفوفة)، خلص البشر من جميع الثقافات إلى وجود قوى عليا تتحكم بالكون، وأنها قادرة على فهم الفارق بين الحقيقة والمظهر الخارجي.

منذ خمسة قرون بدأ منهج جديد لفهم الطبيعة في بسط هيمنته ببطء. وهذا المنهج — الذي نطلق عليه الآن العلم — نشأ من احتشاد التقنيات الجديدة والاكتشافات التي تمخَّضت عنها. وقد مكن انتشار الكتب المطبوعة في أرجاء أوروبا — إلى جانب التحسينات المتزامنة في وسائل السفر عبر البر والبحر — الأفرادَ من التواصل على نحو أسرع وأكفأ، وبهذا أمكن لكل شخص أن يتعرَّف على ما يقوله الآخرون، وأن يستجيب له استجابة أسرع بكثير مما كان يحدث في الماضي. وإبان القرنين السادس عشر والسابع عشر عزَّز هذا من الجدل المتبادل، وأدى إلى ظهور أسلوب جديد في اكتساب المعرفة، قائم على مبدأ مفاده أن السبيل الأكثر فعالية لفهم الكون هو الملاحظة الدقيقة، المقترنة بمحاولات لتحديد مبادئ عامة وأساسية تفسر مجموعة من المشاهدات.

أسهم مبدأ آخر في مولد العلم؛ فالعلم يقوم على التشكيك المنظَّم؛ أي الشك المنهجي المستمر. قليلون منا يتشكَّكُون في استنتاجاتهم، ولهذا يدعم العلم منهجه المتشكك من خلال مكافأة من يتشككون في استنتاجات الغير. قد يحق لنا أن نصف هذا المنهج بأنه غير طبيعي، ليس لأنه يدعو إلى الشك في أفكار شخص آخر، بل لأن العلم يشجع ويكافئ من يستطيعون أن يثبتوا أن استنتاجات غيرهم من العلماء أبعد ما تكون عن الصواب. بالنسبة لعلماء آخرين، فالعالم الذي يصحح خطأ زميل له، أو يذكر أسبابًا وجيهة تدعو بقوة للشك فيما توصل له ذلك الزميل من استنتاجات، يؤدي في الواقع عملًا نبيلًا، تمامًا مثل معلم الزن الذي يعنف الراهب المبتدئ عندما يحيد عن طريق التأمل، بالرغم من أن العلماء يُقوِّم بعضهم بعضًا كأقران ذوي مكانة متساوية، وليس كمعلم وتلميذ. وبمكافأة العالم الذي يكشف عن خطأ زميله — وهي مهمة تجعلها الطبيعة البشرية أسهل بكثير من اكتشاف الفرد خطأه بنفسه — أوجد العلماء معًا نظامًا طبيعيًّا للتصويب الذاتي. فقد أوجد العلماء مجتمعين أكثر وسائلنا كفاءة وفعالية لتحليل الطبيعة؛ وذلك من خلال سعيهم لإثبات خطأ نظريات غيرهم من العلماء، حتى وهم يدعمون أخلص مساعيهم لتقدم المعرفة البشرية. وبهذا يكون العلم مسعى جماعيًّا، لكنه ليس بالمجتمع الذي يشيع الإعجاب المتبادل الزائف بين أفراده، وما كان مقصودًا له أن يشيع.

وشأن كافة مساعي التقدم البشري، يعمل المنهج العلمي على نحو نظري أفضل من التطبيق العملي. فلا يتشكك جميع العلماء في بعضهم البعض بالفعالية المطلوبة. ويمكن للحاجة لإثارة إعجاب العلماء الذين يشغلون مناصب مؤثرة — والذين قد يقعون أحيانًا تحت تأثير عوامل بعينها تغيب عن إدراكهم — أن تعيق قدرة العلم على التقويم الذاتي. لكن على المدى البعيد لا يمكن للأخطاء أن تستمر؛ لأن علماء آخرين سوف يكتشفونها ويستفيدون من كشف هذه الأخطاء في رفع شأنهم كعلماء. أما الاستنتاجات التي تصمد في وجه هجمات العلماء الآخرين فتتمكن في نهاية المطاف من تحقيق مكانة «القوانين» العلمية، بحيث تُقبل كتوصيفات صحيحة للواقع، حتى وإن كان العلماء يعرفون أن هذه القوانين قد تجد نفسها يومًا ما مجرد جزء من حقيقة أعمق وأكبر.

لكن نادرًا ما يُمضي العلماء كل وقتهم في محاولة بعضهم إثبات خطأ البعض. فأغلب المساعي العلمية تتقدم من خلال اختبار صحة فرضيات غير تامة الإثبات في ضوء نتائج قائمة على ملاحظة محسنة تحسينًا طفيفًا. ومع هذا، فمن حين لآخر يظهر جانب جديد لنظرية مهمة، أو (وهو ما يحدث على نحو أكثر تكرارًا في عصر التقدم التكنولوجي) تمهِّد مجموعة جديدة تمامًا من الملاحظات الطريقَ لمجموعة جديدة من الفرضيات لتفسير تلك النتائج. وقد تجلَّت أعظم لحظة في التاريخ العلمي، وستتجلى دومًا، حين يُحدث تفسير جديد، قد يكون مصحوبًا بملاحظات جديدة، تحولًا جذريًّا في استنتاجاتنا بشأن كيفية عمل الطبيعة. يعتمد التقدم العلمي على مجموعتين من الأفراد: مَن يجمعون بيانات أفضل ويحللونها بحرص للخروج منها بنتائج، ومَن يخاطرون بالكثير — وقد يجنون الكثير لو نجحوا — في محاولة تحدي الاستنتاجات المقبولة بشكل عام.

إن طبيعة العلم المتشكِّكة تجعله منافسًا غير كفء لقلوب البشر وعقولهم، التي تجفل مما يعتري العلم من جدال دائم، وتفضل التماس الأمان فيما يبدو وكأنه مجموعة من الحقائق الخالدة. ولو كان المنهج العلمي مجرد تأويل آخر للكون، لما حقق الكثير؛ فالنجاح الكبير للعلم إنما ينبع من فعاليته. إذا ركبت طائرة مصنعة وفق القواعد العلمية — القائمة على مبادئ نجحت في اجتياز اختبارات عديدة حاولت إثبات خطئها — فستكون فرص وصولك لوجهتك أكبر مما لو ركبت طائرة مصنعة وفق قواعد علم التنجيم الفيدي الهندوسي.

على مر التاريخ الحديث نسبيًّا انقسم البشر في استجاباتهم لنجاح العلم في تفسير الظواهر الطبيعية إلى أربع فرق؛ الأولى تشمل مجموعة صغيرة من البشر اعتنقت المنهج العلمي بوصفه أفضل آمالنا لفهم الطبيعة، ولا تلتمس سبلًا أخرى لفهم الكون. والفرقة الثانية، وهي أكبر عددًا بكثير، اختارت تجاهل العلم، وحكمت عليه بأنه غير مثير للاهتمام، أو مبهم، أو مناقض للروح البشرية. (إن من يشاهدون التليفزيون كثيرًا دون أن يتوقَّفوا لحظة واحدة للتساؤل عن كيفية وصول الصورة والصوت لهم بهذا الشكل يذكِّرونا بأن كلمتي: سحر magic وآلة machine يتشاركان الجذر اللغوي ذاته في اللغة الإنجليزية.) الفرقة الثالثة، وهي أقلية أخرى، تعي الهجوم الذي يشنه العلم ضد معتقداتها الأثيرة؛ لذا فهي تسعى بنشاط لإثبات خطأ أي نتائج علمية تزعجها أو تغضبها، إلا أنها تفعل هذا خارج إطار العمل المتشكك الذي يتبناه العلم، وهو ما يمكن استيضاحه بسهولة إذا سألت أحدهم: «ما الدليل الذي يمكن أن يقنعك بأنك على خطأ؟» هؤلاء المعادون للعلماء لا يزالون يشعرون بالصدمة التي عبر عنها الشاعر الإنجليزي جون دون في قصيدته «تشريح العالم: الذكرى السنوية الأولى» التي ألفها عام ١٦١١ مع ظهور الثمار الأولى للعلم الحديث، حين قال:
وفلسفة جديدة تشكك في كل شيء،
فالنار أُطفئت وجُردت من مكانتها،
ضاعت الشمس، والأرض، وليس بوسع ذكاء بشر
أن يرشده لمكان البحث عنها،
ويقر البشر بإرادتهم بأن العالم ضاع،
حين في الكواكب والسماء
يبحثون عن عوالم جديدة عديدة، فيرون أن هذا [العالم]
يتفتت مجددًا إلى ذراته
لقد تفتت تمامًا، وضاع كل تماسكه …

الاستجابة الرابعة التي يتبناها قطاع كبير آخر من العامة تتمثل في قَبول المنهج العلمي في فهم الطبيعة، مع الاحتفاظ بالإيمان بوجود قوى غيبية خارج نطاق فهمنا تتحكم في الكون. رفض باروخ سبينوزا — الفيلسوف الذي أقام أقوى الجسور بين ما هو طبيعي وما هو غيبي — أيَّ تفريق بين الطبيعة والإله، مصرًّا على أن الكون هو الاثنان في الوقت ذاته. أما أتباع الديانات التقليدية، التي تصر على هذا الفصل، فعادة ما يجدون العزاء في الفصل العقلي بين النطاقات التي تعمل فيها الطبيعة والنطاقات التي تعمل فيها القوى الغيبية.

وأيًّا كانت وجهة النظر التي تتبناها، فليس هناك شك في أن هذه أوقات مواتية لمعرفة ما هو جديد في الكون. دعنا إذن نواصل سعينا الجَسور لتقصِّي بداية الكون، كالمفتشين السريين الذين يستنتجون حقائق الجريمة من الأدلة المتخلفة عنها. إننا ندعوك لتنضم إلينا في بحثنا عن الأدلة الكونية — ووسائل تأويلها — حتى نتمكَّن معًا من إماطة اللثام عن الكيفية التي تحول بها جزءٌ من الكون إلى أنفسنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤