افتتاحية
أعظم قصة حُكيت على الإطلاق
لقد استمر العالم على حاله سنوات طويلة، بعد أن ضُبطت حركاته ذات مرة ليسير بصورة سليمة. وعقب هذا، جاء كل شيء آخر.
بالمضي قدمًا، وفق ما يعرف الآن بالفيزياء المثبتة معمليًّا، بات الكون حارًّا بما يكفي كي تحول الفوتونات طاقتها إلى أزواج من جسيمات المادة والمادة المضادة، التي أفنى بعضُها بعضًا فورًا، لتعيد الطاقة مجددًا إلى الفوتونات. ولأسباب غير معروفة «انكسر» هذا التناظر بين المادة والمادة المضادة عند الانفصام السابق للقوى، وهو ما أدى إلى زيادة طفيفة في نسبة المادة العادية إلى المادة المضادة. كان عدم التناظر طفيفًا، لكنه كان حاسمًا للتطور المستقبلي للكون: فمقابل كل مليار جسيم من المادة المضادة تولَّد مليار + ١ جسيم من المادة.
ومع استمرار الكون في البرودة انفصمت القوة الكهروضعيفة إلى كل من القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة، وبهذا اكتملت القوى الأساسية الأربع للطبيعة. ومع استمرار طاقة فيض الفوتونات في الانخفاض لم يعد ممكنًا تخليق أزواج جسيمات المادة والمادة المضادة تلقائيًّا من الفوتونات المتاحة. أفنت بقية أزواج جسيمات المادة والمادة المضادة بعضها بعضًا في سلاسة، مخلِّفة جسيمًا واحدًا من المادة العادية لكل مليار فوتون، ولم يعد للمادة المضادة وجود. ولو لم يحدث عدم التناظر السابق بين المادة والمادة المضادة، لتألَّف الكون المتمدد من الضوء وحسب، ولم يكن ليوجد أي شيء آخر، ولا حتى الفيزيائيون الفلكيون أنفسهم. وفي غضون فترة قوامها ثلاث دقائق تقريبًا تحوَّلت المادة إلى بروتونات ونيوترونات، واتحد العديد منها لتكوين أنوية أبسط الذرات. وفي الوقت ذاته تسببت الإلكترونات حرة الحركة في تشتيت الفوتونات في أرجاء الكون، مخلِّفة حساءً معتمًا من المادة والطاقة.
حين هبطت حرارة الكون لما دون بضعة آلاف درجة كلفينية — أي أعلى حرارة بقليل من فرن متقد — تحركت الإلكترونات الحرة ببطءٍ كافٍ مكَّن الأنوية المتجوِّلة من اقتناصها من الحساء، وبهذا تكوَّنت الذرات الكاملة لكل من الهيدروجين والهيليوم والليثيوم، أخف ثلاثة عناصر. صار الكون الآن (وللمرة الأولى) شفافًا للضوء المرئي، ولا تزال هذه الفوتونات المتجولة بحرِّية مرئية إلى اليوم في شكل إشعاع الخلفية الميكروني الكوني. استمر الكون، خلال المليار سنة الأولى من عمره، في التمدد والبرودة مع تركز المادة بفعل الجاذبية في تجمعات ضخمة نطلق عليها اسم المجرات. وفي نطاق حجم الكون المرئي لنا وحده تكوَّنت مائة مليار مجرة من هذه المجرات، وكل واحدة منها احتوت على مئات المليارات من النجوم التي تحدث تفاعلات الاندماج النووي الحراري في قلوبها. النجوم الأعلى كتلة من شمسنا بأكثر من عشرة أضعاف تقريبًا يكون الضغط والحرارة في مركزها كافيين لتكوين عشرات العناصر الكيميائية الأثقل من الهيدروجين، بما في ذلك العناصر التي تتألف منها الكواكب والحياة الموجودة عليها. كانت هذه العناصر ستظل غير ذات نفع لو أنها استمرت حبيسة النجوم، لكن النجوم عالية الكثافة تنفجر عند موتها، ناثرة أحشاءها الغنية بالعناصر الكيميائية في أرجاء المجرة.
بعد ٧ أو ٨ مليارات سنة من عملية الإثراء هذه ولد نجم غير مميز (الشمس) في منطقة غير مميزة (ذراع كوكبة الجبار) في مجرة غير مميزة (درب التبانة) في جزء غير مميز من الكون (أطراف عنقود العذراء المجري الفائق). احتوت سحابة الغاز التي تكونت منها الشمس على مخزون من العناصر الثقيلة يكفي لتكوين بضعة كواكب، وآلاف الكويكبات ومليارات المذنَّبات. وإبان تكون هذه المجموعة الشمسية تكثفت المادة وتراكمت على نفسها من سحابة الغاز الأم وهي تدور حول الشمس. وعلى مدار مئات الملايين من الأعوام التالية تسبب الارتطام المتواصل للمذنبات عالية السرعة — والحطام المتخلف عن تكوُّن المجموعة الشمسية — في صهر أسطح الكواكب، وهذا منعها من تكوين الجزيئات المعقدة. ومع النقصان المستمر للمادة القابلة للتراكم في المجموعة الشمسية بدأت أسطح الكواكب في البرودة. تكوَّن الكوكب الذي نسميه بكوكب الأرض في مدار يمكن فيه لغلافه الجوي أن يبقي على المحيطات، في حالة سائلة بالأساس. ولو كان كوكب الأرض أقرب للشمس لتبخرت المحيطات، ولو كان أبعد من ذلك عن الشمس لتجمدت المحيطات، وفي كلتا الحالتين لم يكن تطور الحياة على الصورة التي نعرفها ليصبح ممكنًا.
إن التنوع المدهش للحياة على الأرض، وفي كل مكان آخر بالكون (كما يمكن أن نفترض)، يرجع إلى وفرة عنصر الكربون بالكون، إلى جانب الجزيئات التي لا حصر لها (البسيطة والمعقدة) المصنوعة منه؛ إذ تفوق الجزيئات المبنية على عنصر الكربون سائر الجزيئات الأخرى مجتمعة. لكن الحياة هشة. ولا تزال مواجهات كوكب الأرض مع الأجرام الضخمة — المتخلفة عن عملية تكون المجموعة الشمسية، التي كانت فيما مضى أحداثًا شائعة — تسبب دمارًا هائلًا في نظامنا البيئي. فمنذ ٦٥ مليون عام فقط (أي منذ أقل من ٢ بالمائة من تاريخ الأرض)، ضرب كويكب وزنه عشرة تريليونات طن ما يعرف الآن بشبه جزيرة يوكاتان، مفنيًا أكثر من ٧٠ بالمائة من الحياة النباتية والبرية على سطح الكوكب، بما في ذلك الديناصورات؛ تلك الزواحف المهيمنة على الكوكب في تلك الحقبة. منحت هذه الكارثة البيئية الفرصة للثدييات الصغيرة الباقية على قيد الحياة؛ كي تملأ الفراغ المتكون حديثًا. وتطور فرع من هذه الثدييات كبيرة الأمخاخ، نطلق عليه اسم الرئيسيات، إلى رتبة ونوع — الإنسان العاقل — وصل إلى مستوى من الذكاء مكنه من اختراع الطرق والأدوات العلمية، وأن يبتكر علم الفيزياء الفلكية، ومن ثم يستنتج بداية الكون وتطوره.
نعم، للكون بداية. نعم، الكون مستمر في التطور. ونعم، يمكن تتبع كل ذرة في أجسامنا رجوعًا إلى لحظة الانفجار العظيم والأتون النووي الحراري الذي اعتمل في قلوب النجوم عالية الكثافة. نحن لسنا موجودين في الكون وحسب، بل نحن جزء منه. إننا مولودون منه. بل قد يحق لنا القول إن الكون هو الذي مكننا، هنا، في ركننا الصغير هذا، من أن نفهمه. وقد بدأنا في هذا للتو.