الفصل الثاني عشر

بين الكواكب

من بعيد تبدو المجموعة الشمسية خاوية. فإذا أحطتها بكرة ضخمة بما يكفي لتحتوي مدار كوكب نبتون، فستشغل الشمس، إضافة إلى جميع كواكبها وأقمارها، أكثر بقليل من واحد على التريليون من إجمالي فضاء تلك الكرة. هذه النتيجة تفترض أن الفضاء الموجود بين الكواكب خاوٍ بالأساس. لكن عند النظر عن كثب يتَّضح أن هذا الفضاء يحوي جميع أنواع الصخور المحطمة والحصى وكرات الثلج والغبار وتيارات الجسيمات المشحونة والمسبارات البعيدة التي صنعها البشر. ويتغلغل في هذا الفضاء الكوكبي مجالات جاذبية ومغناطيسية قوية قادرة — مع كونها غير مرئية — على التأثير على الأجسام القريبة. هذه الأجسام الصغيرة ومجالات القوى الكونية تمثل تهديدًا مستمرًّا لكل من يحاول الانتقال من مكان لآخر داخل المجموعة الشمسية. وأكبر هذه الأجسام تمثل هي الأخرى خطرًا على الحياة على الأرض إذا حدث واصطدمت بكوكبنا بسرعات تبلغ عدة أميال في الثانية الواحدة، وهو ما يحدث بالفعل في أحوال نادرة.

الفضاء المحيط بالأرض ليس خاويًا، حتى إن كوكبنا، خلال رحلته حول الشمس بسرعة ٣٠ كيلومترًا في الثانية، يشق طريقه وسط مئات الأطنان من الحطام الكوكبي كل يوم، وأغلبه لا يزيد في الحجم عن حبة الرمال. كل هذه المادة تقريبًا تحترق في الطبقة العليا للغلاف الجوي للأرض، حيث ترتطم بالهواء بطاقة عالية حتى إن هذه الجسيمات الواردة تتبخر. وقد تطور نوعنا الضعيف تحت هذه الطبقة الواقية من الهواء. وبالنسبة لقطع الحطام الأكبر، في حجم كرات الجولف، فهي تسخن بسرعة، لكن على نحو غير متساوٍ، وكثيرًا ما تتهشم إلى قطع أصغر قبل أن تتبخر هي الأخرى. أما القطع الأكبر فيحترق سطحها، لكنها تواصل شق طريقها، ولو بشكل جزئي، وصولًا إلى الأرض. قد تظن أنه بحلول وقتنا الحالي، بعد ٤٫٦ مليارات رحلة حول الشمس، «التهمت» الأرض كل قطع الحطام الموجودة في مسارها. لقد حققنا بالفعل تقدمًا في هذا الاتجاه؛ فالأحوال كانت أسوأ بكثير في الماضي. فخلال النصف مليار عام الأول بعد تكون الشمس وكواكبها انهمر الحطام على كوكب الأرض، حتى إن طاقة الاصطدام ولدت غلافًا جويًّا ساخنًا للغاية وجعلت سطح الكوكب جدبًا.

وعلى وجه التحديد أدت قطعة واحدة كبيرة من الحطام الفضائي إلى تكون القمر. إن الندرة غير المتوقعة للحديد وغيره من العناصر ذات الكتلة المرتفعة في القمر، التي استنتجناها من عينات التربة القمرية التي جاء بها رواد رحلات أبوللو إلى الأرض، تشير إلى أن القمر يتكون على الأرجح من المادة التي قذفتها طبقتا القشرة والدثار، اللتان يشح بهما الحديد، في أعقاب اصطدام خاطف بكوكب مصغر صلب في حجم المريخ. تجمع بعض الحطام الناجم عن هذا الاصطدام كي يكون قمرنا الجميل منخفض الكثافة. وفضلًا عن هذا الحدث المهم الذي وقع منذ نحو ٤٫٥ مليارات عام، كانت فترة القصف الثقيل التي عانتها الأرض خلال فترة طفولتها مشابهة لما مرت به بقية الكواكب وغيرها من الأجرام الكبيرة في المجموعة الشمسية. وقد أحدث كل منها ضررًا مشابهًا، ولا يزال القمر وكوكب عطارد يحملان أكبر عدد من الفوهات التي تسببت فيها أحداث تلك الفترة.

إضافة إلى الحطام المتخلف عن فترة تكون الفضاء الكوكبي، يحتوي هذا الفضاء الكوكبي أيضًا على صخور من جميع الأحجام أتت من المريخ والقمر، والأرض على الأرجح، بينما كانت أسطحها تترنح بفعل التصادمات العاتية. وتؤكد الدراسات الحاسوبية لضربات النيازك بشكل حاسم أن بعض صخور السطح بالقرب من منطقة الارتطام ستندفع نحو الفضاء بسرعة تكفيها للإفلات من مجال جاذبية الجسم. ومن اكتشافات النيازك المريخية الموجودة على الأرض يمكننا أن نخلص إلى أن حوالي ألف طن من صخور المريخ تنهمر على الأرض كل عام. ومن المرجح أن تصل كمية مساوية من الحطام لسطح الأرض قادمة من القمر. لم نكن بحاجة إذن للذهاب إلى القمر للحصول على الصخور القمرية؛ فقد وصلت عشرات قليلة منها إلى كوكبنا، مع أنها ليست من اختيارنا، لكننا لم نعرف هذه الحقيقة خلال برنامج الفضاء أبوللو.

لو أن المريخ قد احتوى على حياة في السابق — وهو المرجح أنه منذ مليارات مضت من الأعوام حين كان الماء السائل يتدفق بحرية على سطح المريخ — لكانت البكتيريا الغافلة، التي تسكن أركان — وبصفة خاصة شقوق — الصخور المنطلقة من المريخ، ستتمكن من السفر إلى الأرض مجانًا. نحن نعلم بالفعل أن بعض أنواع البكتيريا يمكنها البقاء مدة طويلة في حالة سبات، كما يمكنها تحمل جرعات عالية من الإشعاع الشمسي المؤين الذي ستتعرض له في طريقها إلى الأرض. إن وجود البكتيريا المنتقلة عبر الفضاء ليس بالفكرة المجنونة أو الخيال العلمي المحض. بل إن لهذا المفهوم اسمًا مهيبًا هو «التبذُّر الشامل». إذا احتضن المريخ الحياة قبل الأرض، وإذا سافرت أشكال الحياة البسيطة من المريخ على الصخور المقذوفة منه وخصبت الأرض، فهذا قد يعني أن أصلنا جميعًا يعود إلى المريخ. قد يبدو أن هذه الحقيقة تجنبنا المخاوف البيئية المتعلقة بتلويث رواد الفضاء لسطح المريخ بجراثيمهم. لكن في الواقع، حتى لو كان أصلنا جميعًا يعود إلى المريخ، فسنود بشدة أن نتتبع مسار الحياة من المريخ إلى الأرض، وبهذا فإن لهذه المخاوف أهمية كبرى.

أغلب كويكبات المجموعة الشمسية موجودة في «حزام الكويكبات الأساسي»، وهو منطقة مسطحة تحيط بالشمس تقع بين مداري المريخ والمشتري. وفق التقاليد يسمِّي مكتشفو الكويكبات ما يكتشفونه من كويكبات حسب أهوائهم. وللكويكبات الموجودة في حزام الكويكبات، الذي يصوره الفنانون عادة كمنطقة مزدحمة بالصخور الطافية في المجموعة الشمسية، مع أنه يمتد في الواقع لما يربو على مليارات الأميال على بُعد مسافات متباينة من الشمس، كتلة إجمالية أقل من ٥ بالمائة من كتلة القمر، التي تزيد هي نفسها بالكاد عن ١ بالمائة من كتلة الأرض. يبدو الرقم تافهًا في البداية، لكن سريعًا ما تمثل الكويكبات خطرًا كونيًّا طويل الأمد على كوكبنا. فالاضطرابات المتراكمة في مداراتها تؤدي، بشكل دوري، لوجود مجموعة فرعية قاتلة من الكويكبات، ربما يصل عددها إلى عدة آلاف، تحملها مداراتها الممتدة إلى مسافة قريبة من الشمس بحيث تتقاطع مع مدار الأرض، وهنا يصير احتمال التصادم قائمًا. وبحسبة سريعة سنكتشف أن أغلب هذه الكويكبات المارة بالأرض ستضرب الأرض في غضون بضع مئات الملايين من الأعوام. والأجسام التي يزيد حجمها عن الميل عرضًا تحمل طاقة كافية للإخلال باستقرار النظام البيئي على كوكب الأرض، وهو ما يعرِّض أغلب أنواع الكائنات الأرضية لخطر الانقراض. وهذا سيكون أمرًا سيئًا.

في الوقت ذاته ليست الكويكبات الأجسام الوحيدة التي تهدد الحياة على الأرض. كان الفلكي الهولندي يان أورت أول من أدرك أن في الأعماق الباردة للفضاء النجمي، أبعد عن الشمس من أي كوكب، توجد مجموعة من البقايا المتجمدة لمراحل التكون الأولية للمجموعة الشمسية التي لا تزال تدور حول الشمس. تمتد «سحابة أورت»، المكونة من تريليونات المذنبات، حتى نصف المسافة إلى أقرب النجوم لمجموعتنا الشمسية؛ أي ما يفوق حجم المجموعة الشمسية نفسها بآلاف الأضعاف.

اقترح جيرارد كويبر، الفلكي الأمريكي الهولندي المعاصر لأورت، أن بعض هذه الأجسام المتجمدة شكلت من قبل جزءًا من قرص المادة الذي تكونت الكواكب منه، وأنها الآن تدور حول الشمس على مسافات أبعد بكثير من مدار نبتون، لكنها أقرب بكثير من المذنبات الموجودة في سحابة أورت. يطلق الفلكيون الآن على هذه المذنبات مجتمعة اسم حزام كويبر، وهي رقعة دائرية تتناثر بها المذنبات وتبدأ بعد مدار نبتون مباشرة، وتضم بلوتو داخلها، وتمتد مسافات تعادل أضعاف المسافة بين نبتون والشمس. أبعد الأجسام المعروفة في حزام كويبر، والمسمى سِدنا، على اسم ربة الإنويت، له قطر يبلغ ثلثي قطر بلوتو. ودون وجود أي كوكب قريب يخل بمداراتها ستظل أغلب مذنبات حزام كويبر في مداراتها الحالية مليارات الأعوام. وكما هو الحال في حزام الكويكبات، تتحرك مجموعة فرعية من أجسام حزام كويبر في مدارات غريبة تتقاطع مع مسارات الكواكب الأخرى. فمدار بلوتو، الذي يمكننا اعتباره مذنبًا كبيرًا للغاية، وكذلك مدارات مجموعة من أشقائه الصغار، التي يسمى الواحد منها بالبلوتينو، تتقاطع مع مدار نبتون حول الشمس. وهناك مذنبات أخرى من حزام كويبر، بفعل الاضطراب الحاصل في مداراتها الكبيرة، تندفع من حين لآخر نحو الكواكب الداخلية للمجموعة الشمسية، عابرة مدارات الكواكب بحرية. هذه المجموعة تضم المذنب هالي، أشهر المذنبات قاطبة.

سحابة أورت مسئولة عن المذنبات ذات الدورات الطويلة، التي تتجاوز فتراتها المدارية عمر الإنسان بكثير. وعلى العكس من مذنبات حزام كويبر، تستطيع مذنبات سحابة أورت الاندفاع نحو كواكب المجموعة الشمسية الداخلية بأي زاوية ومن أي اتجاه. جاء أكثر المذنبات سطوعًا على مر الثلاثة عقود الماضية وهو المذنب هايكوتاك (١٩٩٦) من سحابة أورت، من أعلى مستوى المجموعة الشمسية بكثير، ولن يعود إلى منطقتنا إلا بعد مرور وقت طويل.

لو تمكنَّا من رؤية المجالات المغناطيسية فسيبدو المشتري أكبر بعشر مرات من البدر في السماء. ولا بد أن تكون سفن الفضاء التي تزور المشتري مصممة بحيث لا تتأثر بهذا المجال المغناطيسي القوي. وكما اكتشف الكيميائي والفيزيائي الإنجليزي مايكل فاراداي في عام ١٨٣١، فإنك إذا حركت سلكًا وسط مجال مغناطيسي فستولِّد فارق جهد كهربائي على امتداد هذا السلك. ولهذا السبب تتولد داخل مسبارات الفضاء المعدنية المتحركة بسرعة تيارات كهربية. هذه التيارات تتفاعل مع المجال المغناطيسي الموضعي بطريقة تعيق حركة المسبار. هذا التأثير قد يفسر لنا الإبطاء الغامض لمركبتي الفضاء بايونير عند خروجهما من المجموعة الشمسية. فمركبتا الفضاء بايونير ١٠ وبايونير ١١، اللتان أُطلقتا في السبعينيات، لم تقطعا الفضاء بنفس القدر الذي تنبأت به النماذج الديناميكية لحركتهما. وبعد الوضع في الحسبان مقدار تأثيرات الغبار الفضائي الذي قابلتاه في الطريق، إضافة إلى ارتدادهما بفعل خزانات الوقود المتناقصة، قد يقدم مفهوم التفاعل المغناطيسي هذا — في هذه الحالة المجال المغناطيسي للشمس — التفسير الأفضل لإبطاء مركبتي الفضاء بايونير.

أسفرت وسائل الكشف المحسنة ومسبارات الفضاء المحلقة عن قرب عن زيادة العدد المكتشف من أقمار الكواكب بسرعة كبيرة، حتى إن إحصاء عدد الأقمار صار عملًا لا قيمة له؛ إذ إن أعدادها تتزايد كل ثانية. المهم الآن هو معرفة ما إذا كان أي من هذه الأقمار به ما يستحق الزيارة أو الدراسة. بقدر ما، تعد أقمار كواكب المجموعة الشمسية أكثر إثارة للاهتمام بكثير من الكواكب نفسها؛ فقمرا المريخ، فوبوس وديموس، ظهرا (ليس باسميهما) في رواية جوناثان سويفت المعروفة رحلات جليفر (١٧٢٦). الغريب في الأمر أن هذين القمرين لم يُكتشفا إلا بعد هذا التاريخ بمائة عام. وما لم يكن سويفت يتمتع بقوى خارقة، فإن التفسير الوحيد لهذا هو أنه استنتج أن للمريخ قمرين من حقيقة أن للأرض قمرًا واحدًا وللمشتري أربعة (وهو العدد المعروف لأقمار المشتري وقتها).

يبلغ قطر القمر حوالي ١/ ٤٠٠٠ قطر الشمس، لكنه لا يبعد عنا إلا ﺑ ١/ ٤٠٠ قدر بعد الشمس، وهو ما يجعل الشمس والقمر يبدوان في الحجم نفسه في السماء، وهي المصادفة التي لا توجد في أي كوكب وقمر آخر في المجموعة الشمسية، وهي تمنح سكان الأرض كسوفًا شمسيًّا جذابًا. ثبتت الأرض أيضًا فترة دوران القمر حول نفسه، بحيث صارت مساوية لفترة دورانه حول الأرض. سبب هذا هو جاذبية الأرض، التي تمارس قدرًا أكبر من القوة على الأجزاء الأعلى كثافة من القمر، ما يجعلها تواجه الأرض طوال الوقت. وكلما حدث هذا، كما هو الحال مع أقمار المشتري الأربعة الكبرى، استمر القمر الأسير في مواجهة كوكبه المضيف بوجه واحد فقط.

أثار نظام أقمار المشتري ذهول الفلكيين حين نظروا له عن كثب للمرة الأولى. فالقمر أيو، وهو أقرب أقمار المشتري الكبيرة من الكوكب، مدى حركته مقيَّد وبنيته مضغوطة بفعل تفاعلات الجاذبية مع المشتري والأقمار الأخرى. هذه التفاعلات تضخُّ إلى القمر أيو (المقارب في الحجم لقمرنا) طاقة تكفي لإذابة بعض من أجزائه الداخلية الصخرية؛ ما يجعل أيو أكثر الأجرام نشاطًا بركانيًّا في المجموعة الشمسية. ثاني أكبر أقمار المشتري، يوروبا، يملك من الماء ما يكفي لأن تتسبب حرارته الداخلية، المولَّدة بفضل التفاعلات نفسها التي تؤثر على أيو، في إذابة الجليد الموجود تحت السطح، متسببة في وجود محيط سائل أسفل غطاء جليدي.

تكشف الصور المقربة لسطح القمر ميراندا، أحد أقمار كوكب أورانوس، عن أنماط غير متناسقة تمامًا، كما لو أن القمر المسكين قد انفجر، ثم تجمعت أشلاؤه مجددًا. لا تزال بداية هذه الملامح العجيبة غامضة، لكن قد يكون السبب شيئًا بسيطًا، مثل الارتفاعات غير المستوية للألواح الجليدية.

قمر بلوتو الوحيد، كارسون، كبير للغاية وقريب من بلوتو، حتى إن للاثنين التقيد المدي عينه؛ ففترة دوران كلا الجرمين حول أنفسهما تعادل فترة دورانهما حول مركز كتلتهما المشترك. بشكل تقليدي، يسمِّي الفلكيون أقمار الكواكب على اسم الشخصيات الإغريقية التي وجدت في حياة إله الإغريق الذي يحمل الكوكب اسمه، مع أنهم يستخدمون الاسم المناظر للإله لدى الرومان لتسمية الكوكب نفسه (ولهذا سُمي كوكب المشتري مثلًا ﺑ Jupiter وليس Zeus). ولأن الحياة الاجتماعية لآلهة القدماء كانت حياة معقدة، فليس هناك نقص في الأسماء التي نختار منها.

كان سير ويليام هيرشل أول من اكتشف كوكبًا آخر خلاف الكواكب التي تُرى بسهولة بالعين المجردة، وكان مستعدًّا لتسمية الكوكب الجديد على اسم الملك الذي سيدعم أبحاثه. ولو نجح سير ويليام هيرشل في مسعاه، لكانت أسماء الكواكب ستسير كالتالي: عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، جورج. لكن لحسن الحظ ساد التفكير العقلاني، وبعد بضعة أعوام حمل الكوكب المكتشف حديثًا الاسم الكلاسيكي أورانوس. لكن الاقتراح الأصلي لهيرشل في تسمية أقمار الكواكب على اسم شخصيات في مسرحيات ويليام شكسبير وقصيدة ألكساندر بوب «سلب خصلة الشعر» لا يزال متبعًا إلى اليوم. ومن بين أقمار أورانوس السبعة عشر لدينا أرييل، كورديليا، ديدمونة، جولييت، أوفيليا، بورشيا، باك، وأمبريل، إضافة إلى القمرين الجديدين كاليبان وسيكوراكس، المُكتشفين حديثًا عام ١٩٩٧.

•••

تفقد الشمس المادة من سطحها بمعدل ٢٠٠ مليون طن في الثانية الواحدة (وهو بالصدفة المعدل نفسه الذي يتدفق به الماء عبر حوض نهر الأمازون). تفقد الشمس هذه الطاقة على صورة «رياح شمسية»، تتكون من جسيمات مشحونة عالية الطاقة. هذه الجسيمات التي تتحرك بسرعة تصل إلى الألف ميل في الثانية تتغلغل في الفضاء بين الكواكب، حيث تصدها عادة المجالات المغناطيسية للكواكب. استجابة لهذا، تلتف الجسيمات أعلى وأسفل القطب الشمالي والجنوبي المغناطيسيين للكوكب، وتصطدم بجزيئات غازات الغلاف الجوي منتجة هالات من الوهج الملون. رصد تلسكوب هابل الفضائي هذا الوهج قرب قطبي كوكبي المشتري وزحل. وعلى الأرض تذكرنا ظاهرة الشفق القطبي (عند القطبين الشمالي والجنوبي) بحقيقة أن وجود الغلاف الجوي الواقي أمر طيب.

يمتد الغلاف الجوي للأرض فعليًّا فوق سطح الأرض بأعلى بكثير مما ندرك. والأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض في «مدارات منخفضة» تدور على ارتفاعات تتراوح من ١٠٠ إلى ٤٠٠ ميل فوق سطح الأرض، وتكمل دورة كاملة كل ٩٠ دقيقة. ومع أن من المستحيل على أي شخص التنفس على مثل هذه الارتفاعات، فإن بعض جزيئات الغلاف الجوي تظل موجودة، بما يكفي لامتصاص طاقة الدوران ببطء من الأقمار الصناعية الغافلة. ولمنع هذا الاستنزاف تحتاج الأقمار الصناعية التي تدور على ارتفاعات منخفضة إلى دفعات متقطعة، لكيلا تتهاوى إلى الأرض وتحترق في الغلاف الجوي. إن الطريقة المثلى لتحديد حافة غلافنا الجوي هي بالسؤال عن المكان الذي تقل كثافة جزيئاته الغازية إلى مستوى كثافة جزيئات الغاز في الفضاء النجمي. وبهذا التعريف يمتد الغلاف الجوي للأرض آلاف الأميال في الفضاء. تدور أقمار الاتصالات الصناعية على مستوى أعلى من هذا بكثير؛ ٢٣ ألف ميل فوق سطح الأرض (أي حوالي عشر المسافة بين الأرض والقمر)، وتنقل الأخبار والآراء عبر كوكب الأرض. على هذا الارتفاع الخاص، لا يكترث القمر الصناعي بالغلاف الجوي لكوكب الأرض وحسب، بل تقل أيضًا سرعة دورانه حول الأرض بشدة، بسبب قوة الجاذبية التي تقل كثيرًا على هذا الارتفاع، حتى إنه يحتاج إلى أربع وعشرين ساعة لإكمال دورة واحدة حول الأرض. ومن خلال التحرك بسرعة تماثل سرعة دوران الأرض حول نفسها، تبدو هذه الأقمار الصناعية وكأنها «تحوم» فوق نقطة بعينها على خط الاستواء، وهو ما يجعلها مثالية لبث الإشارات من أحد أجزاء سطح الأرض إلى آخر.

ينص قانون نيوتن للجاذبية على أنه مع أن جاذبية الكوكب تضعف باطراد كلما ابتعدت عنه، فإنك مهما ابتعدت فلن تقل قوة الجاذبية إلى الصفر، وأن أي جسم ذي كتلة ضخمة سيبذل قوى جذب كبيرة حتى لو على مسافات بعيدة. إن كوكب المشتري، بمجال جاذبيته الهائل، يصد العديد من المذنبات التي كانت ستُحدث الخراب في الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية. وبهذا يعد المشتري بمنزلة درع جاذبية يحمي الأرض، ووفر لها فترات زمنية طويلة (من ٥٠ إلى ١٠٠ مليون عام) متواصلة من السلام والهدوء النسبيين. ودون حماية المشتري لكوكب الأرض، كانت أشكال الحياة المعقدة ستجد صعوبة في التطور لهذه الدرجة من التعقيد؛ إذ كانت ستعيش طوال الوقت في خطر الانقراض بفعل اصطدام مدمر.

لقد استفدنا من المجالات المغناطيسية للكواكب مع كل مسبار أرسلناه للفضاء. فمسبار المركبة كاسيني، على سبيل المثال، التي أُرسلت إلى كوكب زحل بغرض الوصول إليه في أواخر عام ٢٠٠٤، كانت قد أُطلقت من الأرض في الخامس عشر من أكتوبر عام ١٩٩٧، وساعدتها جاذبية كوكب الزهرة مرتين، وكوكب الأرض مرة واحدة (أثناء عودتها من الزهرة) وكوكب المشتري مرة واحدة. ومن الشائع تخطيط المسارات من كوكب لآخر بهذا الشكل، تمامًا مثل كرة البلياردو التي ترتد من جوانب الطاولة قبل الوصول إلى هدفها. وإذا لم نفعل هذا فلن تملك مسباراتنا الصغيرة السرعة والطاقة الكافيتين للوصول إلى وجهاتها.

سميت قطعة من حطام المجموعة الشمسية على اسم أحد مؤلفي هذا الكتاب. ففي نوفمبر من عام ٢٠٠٠، سمي أحد كويكبات الحزام الأساسي «١٩٩٤ كيه إيه»، والمُكتشف على يد ديفيد ليفي وكارولاين شوميكر، باسم «الكويكب ١٣١٢٣ تايسون». هذا تشريف لا شك، لكن لا يوجد ما يدعو المرء للتفاخر بشأنه، فكما ذكرنا من قبل فالعديد من الكويكبات تحمل أسماءً مألوفة على غرار جودي وهارييت وتوماس. كما تحمل كويكبات أخرى أسماءً على شاكلة ميرلين وجيمس بوند وسانتا. بأعدادها المتزايدة التي وصلت الآن إلى نحو ٢٠ ألفًا، قد تتحدى الكويكبات ذات المدارات المثبتة جيدًا (وهو معيار تخصيص أسماء وأرقام لها) قدرتنا على تسميتها. وسواء جاء هذا اليوم أم لا، فهناك نوع عجيب من السلوى في معرفة أن قطعة الحطام الخاصة بنا ليست وحيدة في الفضاء، وأنها تغطي جزءًا من الفضاء بين الكواكب، بصحبة قائمة طويلة من القطع الأخرى المسماة على اسم شخصيات حقيقية وخيالية.

حين تحققنا من الأمر آخر مرة، لم يكن الكويكب ١٣١٢٣ تايسون متجهًا نحونا؛ لذا لا يمكننا إلقاء مسئولية إفناء الحياة على الأرض أو بدئها عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤