الفصل الثالث عشر

عوالم لا حصر لها

كواكب خارج المجموعة الشمسية
عبر عوالم لا حصر لها يصير الله معروفًا،
وواجبنا نحن أن نستدل عليه في عالمنا.
فمن يستطيع اختراق الغياهب،
ليرى عوالم على عوالم يتألف منها الكون،
ويلحظ كيف يجري النظام داخل النظام،
وكيف تدور الكواكب الأخرى حول شموس أخرى،
وأي مخلوقات متنوعة تعمر كل نجمة،
قد يعرف لماذا خلقتنا السماء على ما نحن عليه.
ألكساندر بوب، «مقالة عن الإنسان» (١٧٣٣)

منذ خمسة قرون تقريبًا أحيا نيكولاس كوبرنيكوس فرضية كان أول من اقترحها الفلكي الإغريقي أرستارخوس. قال كوبرنيكوس إن الأرض لا تقع في مركز الكون، بل هي أحد أفراد عائلة من الكواكب تدور حول الشمس.

مع أن عددًا كبيرًا من البشر لم يتقبل بعد هذه الحقيقة، حيث يؤمنون في قلوبهم بأن الأرض ساكنة وأن السماء تتحرك حولها، فإن علماء الفلك قدموا منذ وقت طويل حججًا مقنعة تؤكد على صحة ما كتبه كوبرنيكوس عن طبيعة الكون. فالاستنتاج أن الأرض ليست أكثر من كوكب واحد وسط كواكب المجموعة الشمسية يشير على الفور إلى وجود كواكب أخرى تشبه كوكبنا، وأنها قد تحتضن سكانًا مثلنا، يخططون ويحلمون ويعملون ويلعبون ويتخيَّلون.

لقرون عديدة افتقر الفلكيون الذين استخدموا التلسكوبات في رصد مئات الآلاف من النجوم المنفردة للقدرة على تبين هل لهذه النجوم كواكب خاصة بها. لقد كشفت مشاهداتهم عن أن شمسنا نجم نموذجي تمامًا، وأن نجومًا مماثلة لها تقريبًا موجودة بأعداد عظيمة في أنحاء مجرة درب التبانة. وإذا كان للشمس عائلة من الكواكب، فقد يكون لغيرها من النجوم كواكب خاصة بها قادرة بالمثل على احتضان كائنات حية من كل الأنواع الممكنة. تسبب الجهر بهذا الرأي بصورة تتحدى السلطة البابوية في إعدام جيوردانو برونو على الخازوق عام ١٦٠٠. واليوم، بإمكان السائحين السير بتمهل على طريقه عبر الزحام في المقاهي المفتوحة في ميدان كامبو دي فيوري بروما إلى أن يصلوا إلى تمثال برونو في مركزه، ثم التوقف لحظة للتفكر في قدرة الأفكار (وإن لم يكن قدرة من يحملونها) على الانتصار على من يقمعونها.

كما أوضح لنا مصير برونو، فإن تصور وجود حياة على كواكب أخرى يعد من أقوى الأفكار التي قد تخطر على العقل. ولو لم يكن الأمر كذلك، لكان برونو سيعيش حتى يطعن في السن، وما كانت ناسا لتحصل على التمويل الذي تحتاجه. وهكذا تركز التفكير في الحياة في عوالم أخرى على مر التاريخ على الكواكب التي تدور حول الشمس، وهو الأمر الذي لا تزال ناسا تركز عليه. لكن مع بحثنا عن الحياة خارج الأرض واجهنا فشل عظيم؛ إذ لا يبدو أي كوكب في مجموعتنا الشمسية صالحًا للحياة.

مع أن هذه الإجابة لا تنصف الطرق العديدة الممكنة التي يمكن أن تنشأ الحياة بها وتستمر، فإن الحقيقة هي أن استكشافاتنا المبدئية لكوكبي الزهرة والمريخ، إلى جانب المشتري وأقماره الكبرى، فشلت في تبيُّن أي علامات مقنعة على الحياة. بل على العكس، لقد وجدنا أدلة كثيرة على الظروف المعادية للغاية للحياة كما نعرفها. لا يزال علينا إجراء المزيد من البحث، ولحسن الحظ (لمن يشغلون بالهم بهذا الموضوع) يستمر البحث عن الحياة، خاصة على كوكب المريخ. ومع هذا فالحكم على إمكانية وجود حياة بالمجموعة الشمسية يبدو سلبيًّا بدرجة كبيرة، وهو ما يجعل العقول المرنة تنظر عادة إلى ما يتجاوز منطقتنا الكونية، نحو العوالم العديدة المحتملة التي تدور حول نجوم أخرى خلاف شمسنا.

•••

حتى عام ١٩٩٥ كان بالإمكان إطلاق العنان للتخمين بشأن الكواكب التي تدور حول نجوم أخرى دون التقيد بالحقائق. فباستثناء عدد قليل من قطع الحطام المماثلة في الحجم لكوكب الأرض التي تدور حول بقايا نجم منفجر، والتي تكونت بشكل شبه مؤكد بعد انفجار مستعر أعظم ولا ينطبق عليها تقريبًا وصف كوكب، لم يعثر الفيزيائيون الفلكيون قط على كوكب واحد «خارج المجموعة الشمسية»، عالم يدور حول نجم آخر خلاف الشمس. لكن في نهاية ذلك العام جاء الإعلان المثير عن اكتشاف أول كوكب من هذا النوع، تبعه بأشهر قلائل، أربعة أخرى، وبعد ذلك استمر العثور على كواكب جديدة بشكل أكثر سلاسة. واليوم، نحن نعلم بوجود عدد من الكواكب خارج المجموعة الشمسية يفوق عدد الكواكب داخلها، ووصل إجمالي هذه الكواكب إلى أكثر من ١٠٠ كوكب، ومن المؤكد أن يستمر الرقم في الازدياد في الأعوام القادمة.

لوصف هذه العوالم المكتشفة حديثًا، ولتحليل تداعيات وجودها على بحثنا عن الحياة خارج الأرض، علينا التسليم بحقيقة وحيدة عسيرة التصديق؛ فمع تأكيد الفيزيائيين الفلكيين على معرفتهم بأماكن هذه الكواكب، وأنهم استنتجوا كتلتها وبعد الواحد منها عن النجم الذي يدور حوله والأوقات التي تحتاجها الكواكب لتكمل مداراتها، بل وحتى أشكال هذه الكواكب، فإنه لم يتمكن أحد من رؤية ولو كوكب واحد من هذه الكواكب أو تصويره.

كيف يسعنا استنتاج كل هذه المعلومات عن الكواكب التي لم نرها قط؟ تكمن الإجابة في العمل الكشفي المألوف لمن يدرسون ضوء النجوم؛ فعن طريق فصل الضوء إلى ألوان الطيف المكونة له، ومن خلال مقارنة أطياف آلاف النجوم بعضها ببعض، يستطيع المتخصصون في دراسة ضوء النجوم تمييز أنواع مختلفة من النجوم فقط من خلال نسب كثافات الألوان المختلفة التي تظهر في أطياف النجوم. في الماضي كان الفيزيائيون الفلكيون يصورون هذه الأطياف النجمية فوتوغرافيًّا، لكنهم اليوم يستخدمون أجهزة حساسة تسجل رقميًّا قدر الضوء النجمي من كل لون بعينه يصل إلى الأرض. ومع أن النجوم تبعد عنا بتريليونات الأميال، فإن طبيعتها الجوهرية صارت كتابًا مفتوحًا لنا. ويستطيع الفيزيائيون الفلكيون الآن أن يحددوا بسهولة — فقط من خلال قياس طيف ألوان الضوء النجمي — أي النجوم تشبه الشمس عن كثب، وأيها أكثر حرارة وأكثر سطوعًا، وأيها أبرد وأخفت من شمسنا.

وبإمكانهم عمل المزيد. فمع معرفتهم المتزايدة بتوزيع الألوان في أطياف أنواع النجوم المتباينة، يستطيع الفيزيائيون الفلكيون تحديد أي نمط مألوف في طيف النجم سريعًا، وهو ما يبين في المعتاد الغياب الكلي أو الجزئي لألوان معينة في الضوء. وهم عادة ما يميزون مثل هذا النمط، لكنهم يجدون أن كل الألوان التي يتألف منها أزيحت قليلًا إما ناحية طرف اللون الأحمر أو البنفسجي من الطيف، وبهذا تكون كل العلامات الإرشادية إما مائلة للون الأحمر أو البنفسجي أكثر من المعتاد.

يميز العلماء هذه الألوان من خلال أطوالها الموجية، التي تقيس المسافة الفاصلة بين القمتين المتعاقبتين لموجة الضوء المتذبذبة. ولأن الأطوال الموجية تتطابق مع الألوان التي تدركها أعيننا وعقولنا، فإن استخدام الأطوال الموجية في تعيين الألوان يكون أكثر دقة من مجرد تسميتها بالكلمات كما نفعل في حديثنا العادي. وحين يحدد الفيزيائيون الفلكيون نمطًا مألوفًا من شدة الضوء المقاسة لآلاف الألوان المتباينة، لكنهم يجدون أن الأطوال الموجية في هذا النمط أطول (مثلًا) بواحد في المائة، فإنهم يخلصون إلى أن ضوء النجم تغير نتيجة تأثير دوبلر، وهو مصطلح يصف ما يحدث حين نرصد جسمًا وهو يبتعد عنا أو يقترب منا. فعلى سبيل المثال، إذا كان الجسم يقترب منا، أو كنا نتحرك نحوه، فسنجد أن الأطوال الموجية للضوء الذي نرصده «أقصر» من تلك الآتية من جسم آخر ساكن بالنسبة لموضعنا. وإذا كان الجسم يبتعد عنا، أو كنا نتحرك مبتعدين عنه، فسنجد أن الأطوال الموجية تصير «أطول» مما لو كان الجسم ساكنًا. تعتمد الإزاحة عن وضع السكون على السرعة النسبية بين مصدر الضوء ومن يرصدونه. وبالنسبة للسرعات الأقل بكثير من سرعة الضوء (البالغة ١٨٦ ألف ميل في الثانية)، يساوي التغير البسيط في جميع الأطوال الموجية للضوء، والمسمى بإزاحة دوبلر، نسبة سرعة الاقتراب أو الابتعاد إلى سرعة الضوء.

خلال فترة التسعينيات، كرَّس فريقان من الفلكيين، أحدهما في الولايات المتحدة والثاني في سويسرا، أنفسهما لزيادة الدقة التي يمكن بها قياس إزاحات دوبلر لضوء النجوم. وقد عمدا إلى هذا ليس فقط لأن العلماء يفضِّلون دومًا الحصول على قياسات أدق، بل لأنه كان لديهم هدف مباشر: اكتشاف وجود الكواكب من خلال دراسة ضوء النجوم.

لِمَ اتبعوا هذا الطريق غير المباشر لاكتشاف الكواكب خارج مجموعتنا الشمسية؟ لأن في وقتنا الحالي توفر هذه الطريقة السبيل الوحيد الفعال لاكتشاف الكواكب. وإذا كانت مجموعتنا الشمسية ترشدنا للمسافات التي تدور عليها الكواكب حول النجوم، فعلينا أن نستنتج أن هذه المسافات ليست إلا كسرًا بسيطًا من المسافات بين النجوم. إن أقرب النجوم إلى الشمس يبعد عنا حوالي نصف مليون مرة ضعف المسافة بين الشمس وأقرب الكواكب لها؛ عطارد. وحتى المسافة بين بلوتو والشمس أقل من واحد على الخمسة آلاف من المسافة بيننا وبين رجل القنطور، وهي أقرب مجموعة شمسية إلينا. إن المسافات الضئيلة بين النجوم وكواكبها، إضافة إلى الخفوت الذي تعكس به الكواكب ضوء نجومها، يجعل الرؤية الفعلية للكواكب الموجودة خارج مجموعتنا الشمسية ضربًا من المستحيل. تخيل، مثلًا، أن أحد الفيزيائيين الفلكيين يقف على أحد كواكب مجموعة رجل القنطور ويوجه تلسكوبه صوب مجموعتنا الشمسية محاولًا تحديد كوكب المشتري، أكبر كواكب المجموعة. إن المسافة بين الشمس والمشتري تعادل واحدًا على خمسين ألفًا من المسافة بين الراصد وبين الشمس، بينما تبلغ درجة سطوع المشتري واحدًا على المليار من درجة سطوع الشمس. يحب الفيزيائيون الفلكيون تشبيه هذه المشكلة بمحاولة رؤية حشرة سراج الليل بجوار وهج كشاف ضوئي قوي. قد نستطيع عمل ذلك في يوم ما، لكن في الوقت الحالي لا تزال محاولة رصد الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية تفوق قدراتنا التكنولوجية.

يوفر لنا تأثير دوبلر سبيلًا آخر. فإذا درسنا النجم عن كثب، يمكننا أن نقيس بحرص أي تغيرات تظهر في إزاحة دوبلر للضوء الصادر عنه. هذه التغيرات قد تنشأ من التغير في السرعة التي يقترب بها النجم أو يبتعد عنا. وإذا أثبتنا أن هذه التغيرات تتبع دورة ثابتة — بمعنى أن درجتها ترتفع حتى حدٍّ أقصى ثم تهبط حتى حدٍّ أدنى، ثم تعاود الارتفاع للحد الأقصى نفسه، وتتكرر هذه الدورة على مدار فترات الوقت نفسها — سيكون وقتها الاستنتاج المنطقي هو أن هذا النجم من المؤكد أنه يتحرك في مدار حول نقطة بعينها في الفضاء.

ما الذي يتسبب في حركة النجم على هذا النحو؟ على حد علمنا، وحدها قوة الجاذبية الخاصة بجسم آخر قادرة على ذلك. لا ريب أن الكواكب، بطبيعتها، لها كتل أقل بكثير من أي نجم، ولهذا ليس لها سوى قوة جاذبية محدودة. وحين تمارس قوة الجذب على نجم قريب له كتلة أكبر منها بكثير، يكون الناتج تغيرًا طفيفًا في سرعة تحرك النجم. المشتري — على سبيل المثال — يتسبب في تغيير سرعة الشمس بحوالي ٤٠ قدمًا في الثانية، وهي سرعة أعلى قليلًا من سرعة أسرع عدَّائي العالم. وبينما يتم المشتري دورته التي تستمر اثني عشر عامًا أرضيًّا حول الشمس، سيقيس المراقب الموجود على مستوى هذا المدار إزاحات دوبلر لضوء الشمس. هذه الإزاحات ستبيِّن أنه في وقت معين ستزيد سرعة الشمس بالنسبة للمراقب بمعدل ٤٠ قدمًا في الثانية عن القيمة المعتادة. وبعدها بستة أعوام سيجد المراقب نفسه أن سرعة الشمس أقل بمقدار ٤٠ قدمًا في الثانية عن السرعة المعتادة. وبين هاتين الفترتين ستتغير السرعة النسبية بسلاسة بين هاتين القيمتين القصويين. وبعد عقود قليلة من رصد هذه الدورة المتكررة، يستطيع المراقب أن يخلص إلى أن الشمس لها كوكب يدور حولها في مدار مدته اثنا عشر عامًا ويؤثر على مدار الشمس، بحيث تتغير سرعتها بفعل هذه الحركة. إن حجم مدار الشمس، بالمقارنة بحجم مدار المشتري، يساوي بالضبط معكوس النسبة بين كتلتي الجرمين. وبما أن كتلة الشمس تفوق كتلة المشتري ألف مرة، يكون مدار المشتري حول مركز جاذبيتهما المشترك أكبر ألف مرة من مدار الشمس، وهو ما يؤكد حقيقة أنه من الأصعب بألف مرة زحزحة الشمس من موضعها عن المشتري.

للشمس، بطبيعة الحال، عدة كواكب، وكل منها يجذب الشمس بفعل قوة جاذبيته. وعلى هذا يكون صافي حركة الشمس هو نتاج معقد لحركات مدارية، لكل واحدة منها فترة دوران متكررة. ولأن المشتري، أكبر كواكب الشمس وأضخمها، يبذل القدر الأعظم من قوة الجاذبية على الشمس، يهيمن التغير الذي يفرضه المشتري على نمط الحركة المعقد هذا.

حين سعى الفيزيائيون الفلكيون لاكتشاف الكواكب خارج المجموعة الشمسية من خلال مراقبة التغير في حركة النجوم، عرفوا أنه للعثور على كوكب مشابه للمشتري، يدور حول نجمه على مسافة مقاربة للمسافة التي يبعدها المشتري عن الشمس، سيكون عليهم قياس إزاحات دوبلر بدقة تكفي للكشف عن تغيرات السرعة التي تعادل أربعين قدمًا في الثانية تقريبًا. على سطح الأرض تبدو هذه السرعة كبيرة (حوالي ٢٧ ميلًا في الساعة)، لكن بالمقاييس الفلكية، نحن نتكلم عن أقل من جزء من المليون من سرعة الضوء، وحوالي واحد على الألف من السرعة العادية التي تتحرك بها النجوم مقتربة منا أو مبتعدة عنا. وعلى هذا، من أجل اكتشاف إزاحة دوبلر من خلال تغيير في السرعة يساوي جزءًا من المليون من سرعة الضوء، على الفيزيائيين الفلكيين قياس التغيرات في الطول الموجي؛ أي في لون النجم، بواقع جزء على المليون.

•••

أثمرت هذه القياسات الدقيقة عما هو أكثر من اكتشاف الكواكب. فبادئ ذي بدء، بما أن خطة الكشف تعتمد على العثور على دورات متكررة من التغير في سرعة النجم، فإن طول كل واحدة من هذه الدورات يقيس بشكل مباشر الفترة المدارية الخاصة بكل كوكب. وإذا تحرك النجم في دورة متكررة معينة، فمن المؤكد أن يتحرك الكوكب في فترة حركة مماثلة، وإن كانت في مدار أكبر بكثير. هذه الفترة المدارية تكشف بدورها عن المسافة بين الكوكب والنجم. أثبت إسحاق نيوتن منذ فترة طويلة أن أي جسم يدور حول النجم سيكمل كل مدار بشكل أسرع إذا كان أقرب لهذا النجم، وأبطأ إذا كان أبعد؛ ففترة الدوران تتناسب مع قيمة متوسط المسافة بين النجم والجسم الذي يدور حوله. في النظام الشمسي — على سبيل المثال — تعادل فترة دوران مداري قوامها عام واحد مسافة مساوية للمسافة بين الأرض والشمس، بينما تعني فترة دوران مداري قوامها اثنا عشر عامًا أن المسافة تساوي ضعف هذا المقدار ﺑ ٥٫٢ مرات؛ أي في حجم مدار المشتري. وبهذا يستطيع فريق الأبحاث الإعلان ليس فقط عن العثور على أحد الكواكب، بل عن أنهم يعرفون أيضًا كلًّا من فترة دورانه المداري ومتوسط المسافة بينه وبين نجمه.

وباستطاعتهم استنتاج المزيد عن الكوكب. فعند تحرك الكوكب على مسافة معينة من النجم، ستجذب جاذبية الكوكب النجم بقوة تتناسب مع كتلة الكوكب. وكلما كان الكوكب أكبر كانت القوة أكبر، وهذه القوى تسبب تغير حركة النجم بمعدل أسرع. وفور معرفة فريق البحث للمسافة بين الكوكب والنجم، يستطيع وقتها إدراج كتلة الكواكب في قائمة السمات التي حددوها من خلال الرصد الدقيق والاستنتاج.

هذا الاستنتاج لكتلة الكوكب من خلال رصد تغير حركة النجم يأتي مع إخلاء للمسئولية عن أي خطأ. فالفلكيون ليس لديهم أي سبيل لمعرفة ما إذا كانوا يرصدون نجمًا متغير الحركة من اتجاه يتصادف أنه متوافق بالضبط مع مستوى مدار الكوكب، أو من اتجاه عمودي على مستوى المدار مباشرة (وفي هذه الحالة ستكون سرعة النجم التي سيقيسونها صفرًا)، أو من اتجاه لا هو على امتداد المستوى بالضبط ولا عمودي عليه (وهو ما يحدث في كل الحالات تقريبًا). إن مستوى مدار الكوكب حول النجم يتوافق مع مستوى حركة النجم المتأثرة بجاذبية الكوكب. وعلى هذا، لن نرصد السرعات المدارية الكاملة إلا إذا تصادف أن كان خط البصر الخاص بنا يمر بنفس مستوى مدار الكوكب حول النجم. لتخيل موقف مشابه ولو من بعيد، تخيل أنك في مباراة للبيسبول، وأنك قادر على قياس سرعة الكرة بينما تتحرك قادمة نحوك أو مبتعدة عنك، لكنك ستعجز عن قياس السرعة التي تجتاز الكرة بها مجال رؤيتك. إذا كنت مكتشف مواهب فسيكون أفضل مكان تجلس فيه هو خلف القاعدة الأولى، على امتداد خط حركة الكرة ذاته. لكن إذا شاهدت المباراة من الخطين القاعديين الأول أو الثالث — بحيث يكون خط رؤيتك متعامدًا على مسار الكرة — فإن الكرة التي سيقذف بها الرامي لن تبدو لك وكأنها تقترب منك أو تبتعد عنك، وإذا حاولت قياس سرعة الكرة على امتداد خط رؤيتك فستجد أن هذه السرعة ستبلغ الصفر تقريبًا.

نظرًا لأن إزاحة دوبلر تكشف فقط عن السرعة التي يتحرك بها النجم نحونا أو مبتعدًا عنا، لكنها لا تكشف عن السرعة التي يعبر بها النجم خط رؤيتنا، فنحن نعجز عادة عن تحديد مدى قرب خط رؤيتنا إلى النجم من مستوى مدار النجم. هذه الحقيقة تعني أن الكتل التي نستنتجها من الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية هي الحدود الدنيا للكتل، ولن نتأكد من أنها الكتل الحقيقية للكواكب إلا في الحالات التي نرصد فيها النجم على امتداد مستوى مداره. وفي المتوسط، تعادل الكتلة الفعلية للكوكب من خارج المجموعة الشمسية ضعف الحد الأدنى للكتلة المستنتج من رصد حركة النجم، لكننا لا نملك سبيلًا لمعرفة أي الكواكب تزيد كتلته عن هذا المتوسط وأيها تقل عنه.

إضافة إلى استنتاج فترة الدوران المداري للكوكب وحجم المدار، إلى جانب الحد الأدنى من كتلة الكوكب، يستطيع الفيزيائيون الفلكيون الذين يدرسون التغير في حركة النجوم من خلال تأثير دوبلر تحقيق نجاح آخر؛ إذ يستطيعون تحديد شكل مدار الكوكب. بعض كواكب المجموعة الشمسية، كالزهرة ونبتون، لها مدارات دائرية شبه تامة، بينما كواكب أخرى، كعطارد والمريخ وبلوتو، مداراتها بها استطالة واضحة، بحيث تكون الكواكب أقرب بكثير من الشمس في نقاط معينة على امتداد المدار عن غيرها من النقاط. ولأن الكواكب تتحرك أسرع بكثير حين تكون أقرب لنجومها، تتغير سرعة النجم بشكل أسرع في هذه الحالات. وإذا شاهد الفلكيون نجمًا يغير سرعته بمعدل ثابت على امتداد دورته، يستنتجون أن هذه التغيرات تنجم عن وجود كوكب يتحرك في مدار دائري. وعلى النقيض، إذا وجدوا أن التغيرات تحدث أحيانًا بصورة أسرع وأحيانًا أخرى بصورة أبطأ، يستنتجون أن الكوكب له مدار غير دائري، وبإمكانهم تحديد مقدار الاستطالة المدارية — القدر الذي ينحرف به المدار عن الدائرية — من خلال قياس المعدلات المختلفة التي يغير بها النجم من سرعته خلال دورته المدارية.

وهكذا، في انتصار للمشاهدات الدقيقة المقترنة بالقدرة على الاستنتاج، يستطيع الفيزيائيون الفلكيون العاكفون على دراسة الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية الخلوص إلى أربع خصائص أساسية بشأن أي كوكب يجدونه: الفترة المدارية للكوكب، متوسط بعده عن النجم الذي يدور حوله، الحد الأدنى لكتلته، إضافة إلى استطالته المدارية. يحقق الفيزيائيون الفلكيون كل هذا من خلال اقتناص ألوان الضوء القادم من النجوم التي تبعد عن مجموعتنا الشمسية بمئات التريليونات من الأميال، ومن خلال قياس هذه التغيرات بدقة تتجاوز الواحد في المليون، وهي ذروة محاولاتنا لسبر أغوار السماء بحثًا عن أبناء عمومة الأرض.

تتبقى مشكلة واحدة فقط؛ فأغلب الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية والمكتشفة خلال العقد المنصرم تدور حول نجومها على مسافات أقل بكثير من المسافة بين الشمس وكواكبها. تبدو المشكلة أكبر لأن جميع الكواكب خارج المجموعة الشمسية المكتشفة إلى الآن لها كتل مماثلة لكتلة كوكب المشتري؛ ذلك الكوكب العملاق الذي يدور حول الشمس على مسافة تماثل خمسة أضعاف المسافة بين الأرض والشمس. لنأخذ دقيقة لدراسة الحقائق، قبل أن نلقي نظرة على تفسيرات الفيزيائيين الفلكيين للكيفية التي اكتسبت بها هذه الكواكب مداراتها الأصغر بكثير عن المدارات المألوفة لنا في مجموعتنا الشمسية.

كلما استخدمنا طريقة قياس التغير في حركة النجوم للبحث عن الكواكب التي تدور حول نجوم أخرى، علينا البقاء حذرين تجاه التحيزات التي تحملها هذه الطريقة في طياتها؛ أولًا: الكواكب القريبة من النجم تأخذ وقتًا أقل في الدوران حوله مما تأخذه الكواكب البعيدة عنه. وبما أن الفيزيائيين الفلكيين يملكون وقتًا محدودًا يرصدون فيه الكون، فمن الطبيعي أن يتمكنوا من اكتشاف الكواكب التي تدور حول النجوم في مدة قدرها ستة شهور، مثلًا، أسرع من اكتشافهم للكواكب التي تستغرق عشر سنوات لتكمل دورة واحدة. في كلتا الحالتين على الفيزيائيين الفلكيين الانتظار حتى انقضاء دورتين على الأقل للتأكد من أنهم اكتشفوا نمطًا متكررًا من التغيرات في سرعة النجم. ومن ثم سيستنفد العثور على كواكب ذات فترات مدارية تماثل فترة المشتري البالغة اثني عشر عامًا الجزء الأكبر من الحياة المهنية للفرد الواحد.

ثانيًا: سوف يبذل الكوكب من قوة الجاذبية على النجم الذي يدور حوله حين يكون قريبًا منه أكثر مما يبذله حين يكون بعيدًا عنه. وقوة الجاذبية الأكبر تسبب تغيرًا أسرع في سرعة النجم؛ ما يؤدي إلى وجود إزاحات دوبلر أكبر في طيفه. وبما أن بمقدورنا الكشف عن الإزاحات الأكبر أسهل من كشفنا للإزاحات الأصغر، تجذب الكواكب الأقرب لنجومها اهتمامًا أكبر، وتفعل هذا أسرع من الكواكب البعيدة عن نجومها. ومع ذلك، وعلى جميع المسافات، يجب أن يتمتع الكوكب الموجود خارج المجموعة الشمسية بكتلة تماثل كتلة المشتري تقريبًا (٣١٨ مرة قدر كتلة الأرض) حتى يُكتشف بواسطة طريقة إزاحة دوبلر. فالكواكب الأقل كتلة تعجز عن التسبب في تغيير سرعة النجم تغييرًا يرقى إلى مستوى تستطيع الوسائل التكنولوجية اليوم الكشف عنه.

في ضوء ما سبق، ليس من المستغرب إذن أن يكون أول الكواكب المكتشفة خارج المجموعة الشمسية مماثل للمشتري من حيث الكتلة، وأنها جميعًا تدور بالقرب من نجومها. المفاجأة الحقيقية كانت في أن كثيرًا من هذه الكواكب اتضح أنها قريبة للغاية من شموسها، حتى إنها تكمل دورة كاملة ليس في غضون عدة أشهر أو سنوات كما هو الحال في كواكب المجموعة الشمسية، بل في غضون أيام قلائل. وجد الفيزيائيون الفلكيون إلى وقتنا هذا أكثر من عشرة كواكب يكمل كل منها مداره في أقل من أسبوع، وأحدها يحمل الرقم القياسي في إكمال دورته كل يومين ونصف. هذا الكوكب، الذي يدور حول نجم شبيه بشمسنا يعرف باسم «إتش دي ٧٣٢٥٦»، له كتلة لا تقل عن ١٫٩ مرة قدر كتلة المشتري، ويتحرك في مدار بسيط الاستطالة ومتوسط المسافة بينه وبين شمسه يعادل ٣٫٧ بالمائة فقط من المسافة بين الأرض والشمس. بعبارة أخرى، هذا الكوكب العملاق له كتلة تعادل ٦٠٠ مرة قدر كتلة الأرض، ويدور حول شمسه على بعد عُشر المسافة بين الشمس وعطارد.

يتكون عطارد من صخور ومعادن تتلظى في حرارة تصل إلى عدة مئات من الدرجات على الجانب المواجه دومًا للشمس. وعلى النقيض، فالمشتري وغيره من كواكب المجموعة الشمسية العملاقة (زحل وأورانوس ونبتون) كرات هائلة من الغازات، تحيط بقلوب صلبة لا تضم سوى نسبة مئوية بسيطة من كتلة الكوكب. وكل نظريات تكوُّن الكواكب تقضي ضمنًا بأن أي كوكب في مثل كتلة المشتري يستحيل أن يكون صلبًا، كعطارد والزهرة والأرض؛ لأن السحابة البدائية التي كونت الكواكب لم تحتوِ إلا على القليل من المادة التي يمكنها التصلب كي تكوِّن كوكبًا كتلته أكبر من كتلة الأرض بعشرات المرات. نستنتج من هذا، كخطوة أخرى في رحلتنا الكشفية العظيمة للكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية، أن كل الكواكب المكتشفة من هذا النوع حتى الآن (نظرًا لأن لها كتلة تماثل كتلة المشتري) لا بد أن تكون هي الأخرى كرات عظيمة من الغازات.

يترتب على هذا الاستنتاج سؤالان: كيف استطاعت هذه الكواكب الشبيهة بالمشتري التواجد في مدارات قريبة كهذه من شموسها، ولماذا لا تتبخَّر الغازات المكونة لها في ظل الحرارة المهولة؟ للسؤال الثاني إجابة سهلة نسبيًّا: فكتل الكواكب الهائلة تستطيع الحفاظ على الغازات الخفيفة الساخنة حتى مئات الدرجات؛ لأن قوة جاذبية هذه الكواكب يمكنها التغلب على ميل ذرات وجزيئات الغازات للهرب إلى الفضاء. ومع ذلك، ففي أشد الحالات تطرفًا تميل الكفة بقدر يسير لمصلحة الجاذبية، ويقع الكوكب مباشرة خارج النطاق الذي تتسبب فيه حرارة شمسه في تبخير غازاته.

السؤال الأول المتعلق بالكيفية التي وصلت بها الكواكب العملاقة إلى مداراتها حول شموسها الشبيهة بشمسنا يأخذنا نحو القضية الجوهرية الخاصة بالكيفية التي تكونت بها الكواكب. كما رأينا في الفصل الحادي عشر، عمل المنظرون بجد من أجل التوصل إلى قدر من الفهم لعملية تكون الكواكب في المجموعة الشمسية. وقد خلصوا إلى أن كواكب الشمس كونت نفسها عن طريق مراكمة المادة؛ إذ نمت من كتل أصغر من المادة إلى أخرى أكبر داخل سحابة مسطحة من الغازات والغبار. وداخل كتلة المادة المسطحة الدوارة المحيطة بالشمس هذه، تكونت تركيزات فردية من المادة، بشكل عشوائي في البداية، لكن لاحقًا، بسبب تمتعها بكثافة أعلى من المتوسط، من خلال الفوز في مسابقة شد الحبل الجذبوية بين الجسيمات المختلفة. وفي المراحل النهائية لهذه العملية استمرت الأرض وغيرها من الكواكب الصلبة على قيد الحياة بعد التعرض لقصف عنيف من آخر الشظايا العملاقة للمادة.

أثناء عملية التجمع هذه بدأت الشمس في السطوع، متسببة في تبخير العناصر الأخف كالهيدروجين والهيليوم من المناطق القريبة مباشرة منها، وتاركة الكواكب الأربعة الداخلية (عطارد والزهرة والأرض والمريخ)، وهي تتألف بالكامل تقريبًا من العناصر الأثقل كالكربون والأكسجين والسليكون والألومنيوم والحديد. وعلى النقيض من ذلك، فإن كل كتلة من كتل المادة التي تكونت على مسافة من خمسة إلى ثلاثين ضعف المسافة من الأرض إلى الشمس ظلت على قدر كافٍ من البرودة بحيث احتفظت بمعظم الهيدروجين والهيليوم الموجود بالقرب منها. ولأن هذين العنصرين هما الأخف بين العناصر فهما أيضًا أكثر العناصر وفرة، ونتج عن الاحتفاظ بهما أربعة كواكب عملاقة، كل منها يعادل أضعاف كتلة الأرض.

لا ينتمي بلوتو إلى طبقة الكواكب الداخلية الصخرية ولا إلى مجموعة الكواكب الخارجية الغازية. بدلًا من ذلك يشبه بلوتو، الذي لم يُفحص بعد من خلال أي مركبة فضائية مرسلة من الأرض، مذنبًا عملاقًا، مكونًا من خليط من الصخور والجليد. إن المذنبات، التي يتراوح قطرها عادة من ٥ إلى ٥٠ ميلًا، خلافًا لبلوتو الذي يصل قطره إلى ٢٠٠ ميل، تعد من أوائل كتل المادة التي تكونت في بدايات المجموعة الشمسية، ولا يضاهيها عمرًا إلا أقدم النيازك، التي هي قطع من الصخور أو المعادن أو مزيج من الصخور والمعادن تصادف أنها ضربت سطح الأرض ويستطيع من تعلم التفريق بين النيازك والصخور العادية التعرف عليها.

وعلى هذا بنت الكواكب نفسها من مادة تشبه تلك الموجودة في المذنبات والنيازك، ثم استخدمت الكواكب العملاقة قلوبها الصلبة في اجتذاب كميات كبيرة من الغازات والاحتفاظ بها. أظهر تحليل العمر إشعاعيًّا للعناصر المعدنية الموجودة في النيازك أن أقدمها يبلغ من العمر ٤٫٥٥ مليارات عام؛ أي أقدم بقدر ملحوظ من أقدم الصخور التي عُثر عليها على القمر (٤٫٢ مليارات عام) أو الأرض (٤ مليارات عام). إن مولد المجموعة الشمسية، الذي حدث إذن منذ حوالي ٤٫٥٥ مليارات عام قبل الميلاد، أدى بصورة طبيعية إلى تمايز الكواكب إلى مجموعتين: الكواكب الداخلية الصلبة الصغيرة نسبيًّا، والكواكب العملاقة الغازية الأكبر بكثير في الحجم والكتلة. تدور الكواكب الأربعة الداخلية حول الشمس على مسافات تتراوح من ٠٫٣٧ إلى ١٫٥٢ مرة قدر المسافة بين الأرض والشمس، بينما تظل الكواكب الأربعة العملاقة على مسافات أبعد بكثير، تتراوح من ٥٫٢ مرات إلى ٣٠ مرة قدر المسافة بين الأرض والشمس، وهو ما مكنها من أن تكون عملاقة.

يبدو هذا الوصف لكيفية تكون كواكب المجموعة الشمسية منطقيًّا لدرجة كبيرة، لكن من المخزي أننا وجدنا أمثلة كثيرة للغاية على أجرام ذات كتل مماثلة لكتلة المشتري، وتتحرك في مدارات حول شموسها أقل من المسافة التي تفصل عطارد عن شمسنا. بل في الواقع، لأن أول كواكب نكتشفها خارج المجموعة الشمسية تقع جميعها على مسافات صغيرة عن شموسها، بدا لوهلة أن مجموعتنا الشمسية هي الاستثناء، وليست النموذج الطبيعي للمجموعات الشمسية، كما افترض المنظرون حين لم يكن بين أيديهم شيء آخر يبنون عليه استنتاجاتهم. وقد أمدهم فهمهم للتحيز الذي تفرضه السهولة النسبية لاكتشاف الكواكب القريبة من شموسها ببعض الطمأنينة، ولم يمض وقت طويل حتى كانوا قد رصدوا، لفترة كافية وبدقة كافية، كواكب غازية تدور على مسافات أبعد بكثير حول شموسها.

واليوم تبدأ قائمة الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية، والمرتبة حسب المسافة من النجم إلى الكوكب، بالكوكب الذي تحدثنا عنه مسبقًا الذي يستغرق ٢٫٥ يوم فقط لإكمال كل دورة، وتمتد عبر مئات الكواكب حتى النجم «كانكري ٥٥»، الذي يدور حوله كوكب تبلغ كتلته ما لا يقل عن أربعة أضعاف كتلة المشتري في فترة قوامها ١٣٫٧ عامًا لكل دورة. من فترة الدوران المداري يستطيع الفيزيائيون الفلكيون حساب المسافة بين هذا الكوكب وشمسه، والبالغة ٥٫٩ مرات قدر المسافة بين الأرض والشمس، أو ١٫١٤ مرة قدر المسافة بين المشتري والشمس. يعد هذا أول كوكب يُكتشف يدور حول شمسه على مسافة أكبر من المسافة بين المشتري والشمس، وبهذا تبدو تلك المجموعة الشمسية مشابهة إلى حدٍّ ما لمجموعتنا الشمسية، على الأقل من منظور النجم وأكبر كواكبه.

لكن ليس هذا دقيقًا تمامًا. فالكوكب الذي يدور حول النجم «كانكري ٥٥» على مسافة قدرها ٥٫٩ قدر المسافة بين الأرض والشمس ليس أول كوكب يُكتشف لهذا النجم، بل الثالث. في وقتنا الحالي جمع الفلكيون بيانات كافية، وصاروا يتحلون بمهارة كبيرة في تفسير مشاهداتهم عن إزاحات دوبلر، لدرجة تمكنهم من فك طلاسم التغيرات المعقدة في حركة النجوم التي يتسبب فيها وجود كوكبين أو أكثر. فكل واحد من هذه الكواكب يحاول التأثير على النجم ليتحرك وفق إيقاعه، وذلك على فترة متكررة تعادل مدار الكوكب حول النجم. ومن خلال الرصد لفترة طويلة بما يكفي، وبالاستعانة بالبرامج الحاسوبية القادرة على إجراء أي حسابات، يستطيع صائدو الكواكب استخلاص تغيرات الحركة الأساسية التي يتسبب فيها كل كوكب بمفرده من غابة التغيرات المتشابكة. في حالة النجم «كانكري ٥٥»، وهو نجم متواضع يمكن رؤيته في كوكبة السرطان، وجد العلماء بالفعل كوكبين قريبين للنجم، لهما فترات مدارية قوامها ٤٢ و٨٩ يومًا، وحد أدنى من الكتلة قدره ٠٫٨٤ و٠٫٢١ من كتلة المشتري، على الترتيب. الكوكب ذو الكتلة الأقل التي تعادل «فقط» ٠٫٢١ قدر كتلة المشتري (٦٧ مرة قدر كتلة الأرض) يعد من أقل الكواكب الضخمة المكتشفة، إلا أن الرقم القياسي للكتلة الأقل في الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية انخفض الآن إلى ٣٥ مرة قدر كتلة الأرض، وهو لا يزال يفوق كتلة الأرض بكثير؛ لذا علينا ألا نحبس أنفاسنا في انتظار أن يكتشف العلماء كوكبًا مقاربًا للأرض في وقت قريب.

لكن مهما درنا حول المشكلة فلن نستطيع تفاديها. تتعلق المشكلة، الظاهرة بجلاء من مدارات الكواكب المحيطة بالنجم «كانكري ٥٥»، بتفسير سبب وكيفية دوران كثير من الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية، ذات الكتل المماثلة لكتلة المشتري، حول شموسها على مسافات قصيرة للغاية. وسيخبرنا الخبراء أنه يستحيل على كوكب في حجم المشتري التكون على مسافة تبعد عن الشمس بأقل من ثلاثة إلى أربعة أضعاف المسافة بين الأرض والشمس. وإذا افترضنا أن الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية تتبع هذه القاعدة، فمن المؤكد أنها تحركت إلى مسافات أقرب لشموسها بعد التكون. وهذه النتيجة — إذا صحت — من شأنها أن تثير على الأقل ثلاثة أسئلة مثيرة للجدل:
  • (١)

    ما الذي جعل هذه الكواكب تتحرك لمدارات أصغر بعد تكونها؟

  • (٢)

    ما الذي منعها من مواصلة التحرك إلى أن تسقط في شموسها وتحترق؟

  • (٣)

    لماذا حدث هذا في العديد من المجموعات الشمسية الأخرى، لكن ليس في مجموعتنا؟

لهذه الأسئلة إجابات نابعة من القريحة الخصبة للمتحمسين حيال اكتشاف كوكب خارج مجموعتنا الشمسية. ونستطيع تلخيص السيناريو المفضل لدى الخبراء كالتالي:
  • (١)

    «هجرة الكواكب» حدثت لأن كميات المادة الكبيرة المتخلفة عن عملية التكون استمرت في الدوران حول النجم داخل مدار الكواكب العملاقة المتكونة حديثًا. تتسبب الجاذبية الكبيرة للكواكب في دفع هذه المادة بانتظام نحو مداراتها الخارجية، وهو ما يتسبب بالتبعية في زحف الكواكب إلى الداخل.

  • (٢)

    حين اقتربت الكواكب نحو شموسها لمسافات أقرب من المسافات التي تكونت عليها، ثبَّتت قوى المد للنجم كل كوكب في موضعه. هذه القوى، الشبيهة بقوى المد الآتية من الشمس والقمر التي تسبب ارتفاع مستوى المحيطات على الأرض، أجبرت الكواكب على الدوران حول نفسها في نفس المدة التي تستغرقها في الدوران حول شمسها، كما حدث للقمر بفعل قوى المد الآتية من الأرض. وقد منعت أيضًا أي مزيد من الاقتراب بين الكوكب والنجم، وذلك لأسباب تتطلب الانغماس في ميكانيكا الأجرام السماوية بدرجة تستحق منا أن نغفل ذكرها هنا.

  • (٣)

    من المرجح أن الصدفة وحدها حددت أي المجموعات الشمسية تكونت بقطع ضخمة من الحطام، والقادرة على الحث على هجرة الكواكب، وأيها، مثل مجموعتنا، بها قدر قليل نسبيًّا من الحطام بحيث ظلت الكواكب على نفس المسافات التي تكونت عليها. في حالة الكواكب التي تدور حول النجم «كانكري ٥٥»، من المحتمل أن تكون الكواكب الثلاثة قد هاجرت إلى الداخل، وأن أبعدها قد تكوَّن على مسافة تعادل أضعاف المسافة التي تفصله حاليًّا عن شمسه. أو ربما تكون التفاصيل الخاصة بمقدار الحطام الموجود داخل مدار الكوكب، والمقدار الموجود خارجه، هي التي تسببت في الهجرة الكبيرة للكوكبين الداخليين، بينما ظل الكوكب الثالث في مداره الأصلي.

أقل ما يمكن قوله هو أنه لا يزال أمام الفيزيائيين الفلكيين عمل كبير قبل أن يسعهم الزعم بأنهم فسروا كيفية تكون مجموعات الكواكب المحيطة بالنجوم. في الوقت ذاته يستمر الباحثون عن كواكب خارج المجموعة الشمسية في السعي وراء حلمهم بالعثور على توءم للأرض؛ كوكب مماثل للأرض من حيث الحجم والكتلة والمسافة المدارية عن النجم الأم. وإذا وجدوا مثل هذا الكوكب، فهم يأملون في استكشافه — حتى لو كان على بعد عشرات السنوات الضوئية — بدقة كافية لتحديد ما إذا كان يملك غلافًا جويًّا ومحيطات مثل الأرض، وربما توجد حياة على هذا الكوكب الشبيه بكوكبنا.

يعرف الفيزيائيون الفلكيون، أثناء سعيهم وراء هذا الحلم، أنهم بحاجة إلى معدات تدور فوق غلافنا الجوي، الذي تمنعنا تأثيرات التشوش الخاصة به من الحصول على قياسات دقيقة للغاية. تهدف إحدى التجارب — مهمة كبلر التي أطلقتها ناسا — لرصد مئات الآلاف من النجوم القريبة، وتسعى لرصد النقصان الطفيف في ضوء النجوم (البالغ واحدًا من مائة في المائة) الذي تسببه حركة الكواكب المشابهة للأرض في الحجم عبر خط الرؤية بيننا وبين النجم. يمكن لهذا الأسلوب أن ينجح فقط في المواقف النادرة التي تكون فيها رؤيتنا ممتدة على امتداد المستوى المداري ذاته للكوكب، لكن في تلك الحالات ستساوي الفترة المنقضية بين مرات عبور الكوكب أمام النجم الفترة المدارية للكوكب، التي ستحدد بدورها المسافة بين النجم والكوكب، وسيكشف حجم النقصان في ضوء النجم عن حجم الكوكب.

ومع ذلك، إذا كنا نأمل في معرفة ما هو أكثر من الخصائص الفيزيائية للكوكب، فعلينا دراسته من خلال التصوير المباشر وتحليل طيف الضوء الذي يعكسه الكوكب في الفضاء. ولدى كل من ناسا وإيسا — وكالة الفضاء الأوروبية — برامج قيد التنفيذ لتحقيق هذا المأرب في غضون عقدين من الزمان. فمن شأن رؤية كوكب شبيه بالأرض، حتى لو بدا كنقطة زرقاء شاحبة قريبة من نجم أسطع منها بكثير، أن تلهم جيلًا جديدًا من الشعراء والفيزيائيين والسياسيين. إن تحليل الضوء المنعكس عن النجم، ومن ثم تحديد هل يحتوي غلافه الجوي على الأكسجين (وهي الإشارة المحتملة على وجود حياة) أو الأكسجين والميثان (وهي العلامة الأكيدة تقريبًا على وجود حياة) أم لا، سيعد من نوعية الإنجازات التي تغنى بها الشعراء من قبل، وسيعلي من شأن بشر عاديين لمصافِّ الأبطال لعصور، ويضعنا وجهًا لوجه (كما كتب إف سكوت فيتزجيرالد في روايته «جاتسبي العظيم») أمام شيء يتناسب مع قدرة الإنسان على التعجب. أما من يحلمون بالعثور على الحياة في مكان آخر بالكون، فينتظرهم القسم الأخير من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤