الفصل الرابع

ليكن ظلام

تعد الجاذبية — أكثر قوى الطبيعة المألوفة لنا — أكثر الظواهر الطبيعية المفهومة، وأكثرها استعصاءً على الفهم في الوقت ذاته. لقد تطلب الأمر عقل شخص كإسحاق نيوتن، أكثر البشر عبقرية وتأثيرًا في الألفية، كي ندرك أن سمة «القوة عن بعد» الغامضة الخاصة بالجاذبية تنبع من التأثيرات الطبيعية لكل جزء من أجزاء المادة، وأن قوى الجذب بين أي جسمين يمكن وصفها من خلال معادلة جبرية بسيطة. كما تطلب الأمر عقل ألبرت أينشتاين، أكثر البشر عبقرية وتأثيرًا في القرن العشرين، كي نعرف أننا نستطيع وصف سمة القوة عن بعد الخاصة بالجاذبية بشكل أدقَّ على أنها تقوُّس في نسيج الزمكان أحدثه مزيج من المادة والطاقة. وقد بيَّن لنا أينشتاين أن نظرية نيوتن تحتاج إلى بعض التعديل كي تصف الجاذبية بدقة؛ للتنبؤ، مثلًا، بالمقدار الذي ستنحني به أشعة الضوء لدى عبورها قرب جرم ضخم. ومع أن معادلات أينشتاين أكثر تعقيدًا من معادلات نيوتن، فإنها تتوافق بدقة مع المادة التي نعرفها ونحبها؛ المادة التي يمكننا رؤيتها ولمسها والإحساس بها وتذوقها أحيانًا.

لا نعرف بعد من التالي في سلسلة العباقرة هذه، لكننا ننتظر منذ نصف قرن أن يأتي أحدهم ويفسر لنا: لماذا ينبع السواد الأعظم من قوى الجذب التي قسناها في الكون من مواد لم يسبق لنا رؤيتها أو لمسها أو الإحساس بها أو تذوُّقها. بل ربما لا تأتي قوى الجذب الزائدة هذه من المادة أساسًا، بل تنبعث من شيء لا نملك عنه أدنى تصور. على أي حال، لا نملك سبيلًا لحل هذه المعضلة. ونحن الآن لسنا أقرب من الإجابة عما كنا عليه حين اكتُشفت مشكلة «الكتلة المفقودة» هذه لأول مرة عام ١٩٣٣ على يد الفلكيين الذين قاسوا سرعات المجرات التي تؤثر جاذبيتها على جاراتها القريبة منها، والتي خضعت لتحليل أوفى عام ١٩٣٧ على يد الفيزيائي الفلكي البلغاري السويسري الأمريكي المتألق فريتز زفيكي، الذي ظل يدرِّس في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا لأكثر من أربعين عامًا، مازجًا أفكاره واسعة النطاق عن الكون بوسائل تعبير نابضة بالحياة وقدرة مذهلة على إثارة عداء زملائه.

درس زفيكي حركة المجرات داخل عنقود مجري هائل الحجم، يقع بعيدًا وراء النجوم القريبة بمجرة درب التبانة، التي تشكل كوكبة الهلبة (أو «ضفيرة برنيس» على اسم الملكة المصرية البطلمية القديمة). إن عنقود الهلبة — كما يسميه أهل هذا العلم — هو تجمع غني منعزل من المجرات يبعد نحو ٣٠٠ مليون سنة ضوئية عن الأرض. تدور هذه المجرات حول مركز العنقود المجري، متحركة في كل مكان كالنحل الذي يدور حول القفير. وقد اكتشف زفيكي، بالاستعانة بحركة بضع عشرات من المجرات كمؤشر لمجال الجاذبية الذي يجمع العنقود بأسره معًا، أن متوسط سرعتها مرتفع على نحو صادم. وبما أن قوى الجذب الكبيرة تحث الأجسام التي تجذبها على التحرك بسرعات أكبر، خلص زفيكي إلى أن لعنقود الهلبة كتلة هائلة. وحين نحسب الكتل التقديرية لجميع المجرات سنجد أن عنقود الهلبة يعد من أضخم العناقيد المجرية وأعلاها كتلة في الكون بأسره. لكن مع هذا، لا يحوي هذا العنقود ما يكفي من المادة المرئية كي يفسر السرعة المرصودة التي تتحرك بها المجرات. يبدو أن هناك قدرًا مفقودًا من المادة إذن.

إذا طبقت قانون نيوتن للجاذبية وافترضت أن العنقود المجري لا يوجد في حالة شاذة من التمدد أو الانهيار، تستطيع أن تحسب متوسط السرعة الذي ينبغي أن تتحرك المجرات به. كل ما تحتاج إليه هو حجم المجرة وتقدير تقريبي لكتلتها؛ فالكتلة — التي تعمل عبر المسافات التي يحددها حجم العنقود — تحدد مقدار السرعة التي ينبغي أن تتحرك بها المجرات كي تتجنب الوقوع في مركز العنقود أو الهرب بعيدًا عنه تمامًا.

وبعملية حسابية مشابهة — كما أوضح نيوتن — يمكنك حساب السرعة التي يتحرك بها كل كوكب في مداره حول الشمس، وذلك وفق بعده عنها. ليس في الأمر أي سحر، فهذه السرعات تتوافق مع ظروف الجاذبية التي يجد كل كوكب نفسه فيها. وإذا حدث أن اكتسبت الشمس كتلة أكبر، فسيتعيَّن على الأرض وغيرها من كواكب المجموعة الشمسية التحرك بسرعات أعلى للاستمرار في مداراتها الحالية. ولو تحركت الكواكب بسرعة أكبر من اللازم، فلن تكفي كتلة الشمس للحفاظ عليها في مداراتها. ولو كانت سرعة دوران الأرض في مدارها حول الشمس أكبر من الجذر التربيعي لضعف سرعتها الحالية، فسيصل كوكبنا إلى «سرعة الإفلات»، ومن ثم، كما خمنت، سيفلت من المجموعة الشمسية. يمكن تطبيق المنطق عينه على أجرام أكبر حجمًا بكثير، على غرار مجرتنا نفسها، مجرة درب التبانة، التي تتحرك النجوم داخلها في مدارات تتوافق مع جاذبية كافة النجوم الأخرى، أو في العناقيد المجرية، التي تشعر فيها كل مجرة بجاذبية المجرات الأخرى. وكما قال أينشتاين ذات مرة (بكلمات أكثر بهاءً في اللغة الألمانية عن الترجمة الإنجليزية التي قام بها أحدنا [دونالد جولدسميث]) إجلالًا لإسحاق نيوتن:

فلنتطلع إلى النجوم لتعلمنا
كيف تصل إلينا أفكار أستاذنا
فكل واحدة منها تتبع رياضيات نيوتن
وتسير في مسارها بصمت

عند النظر إلى عنقود الهلبة، مثلما فعل زفيكي في ثلاثينيات القرن العشرين، سنجد أن المجرات التي يتكون منها تتحرك جميعها بسرعة أكبر من سرعة الإفلات الخاصة بها، وهذا فقط لو حسبنا هذه السرعة من خلال إضافة كتلة كل مجرة إلى الأخرى، وهو ما يمكن تقديره من مقدار سطوع المجرات. من واقع هذه الحسابات، من المفترض أن ينفرط عقد تلك المجرات، بما لا يترك سوى أثر مشتت بعد مرور بضع مئات من ملايين الأعوام، أو ربما مليار عام، على تكونه. لكن عمر هذا العنقود يتجاوز العشرة مليارات عام؛ أي ما يقارب عمر الكون ذاته. وهكذا ولد أكثر ألغاز علم الفلك استمرارًا إلى يومنا هذا.

خلال العقود التالية على عمل زفيكي كشفت عناقيد مجرية أخرى عن المشكلة نفسها. هذا يعني أنه لا يمكن اتهام عنقود الهلبة بأنه مختلف عن غيره. من الملوم إذن؟ نيوتن؟ كلا، فقد خضعت نظرياته للبحث والدراسة على مدار ٢٥٠ عامًا، واجتازت جميع الاختبارات. أينشتاين؟ كلا، فالجاذبية المهولة للعناقيد المجرية لا ترقى في الحجم للمستوى الذي يمكن تطبيق نظرية النسبية العامة لأينشتاين عليه، تلك النظرية التي وضعت قبل عقدين لا أكثر من اكتشاف زفيكي. ربما تكون «الكتلة المفقودة» المطلوبة لربط مجرات عنقود الهلبة بعضها ببعض موجودة بالفعل، لكن في صورة خفية غير معروفة. ولبعض الوقت أعاد الفلكيون تسمية مشكلة الكتلة المفقودة باسم «مشكلة الضوء المفقود»، بما أن الكتلة يستدل عليها من زيادة الجاذبية. واليوم، في ظل التحديد الأفضل لكتل العناقيد المجرية، يستخدم الفلكيون اسم «المادة المظلمة»، مع أن مصطلح «الجاذبية المظلمة» سيكون أدقَّ.

•••

أطلَّت مشكلة المادة المظلمة برأسها الخفي مرة ثانية. ففي عام ١٩٧٦ اكتشفت فيرا روبين — الفيزيائية الفلكية بمعهد كارنيجي بواشنطن — «كتلة مفقودة» مشابهة، موجودة على نحو غير معتاد داخل المجرات الحلزونية نفسها. فمن واقع دراسة السرعات التي تدور بها النجوم حول مركز المجرة وجدت روبين ما توقعته: فضمن القرص المرئي لكل مجرة كانت النجوم الأبعد عن المركز تتحرك بسرعات أكبر من المجرات القريبة منه. إن النجوم الأبعد يوجد بينها وبين مركز المجرة قدر أكبر من المادة (على صورة نجوم أخرى وغازات)، وهو ما يستلزم تحركها بسرعات أعلى للحفاظ على مداراتها. ومع ذلك ففيما وراء القرص الساطع للمجرة، لا يزال بإمكاننا رؤية بعض السحب الغازية المنعزلة وعدد قليل من النجوم الساطعة. وقد اكتشفت روبين — باستخدام هذه الأجسام كمؤشرات لمجال الجاذبية «خارج» المجرة، حيث لم تعد المادة العادية تسهم في إجمالي الجاذبية — أن سرعاتها المدارية، التي ينبغي أن تنخفض مع ابتعادها أكثر في الفراغ، تظل في الواقع مرتفعة.

تحوي هذه المساحات الخاوية من الفضاء — النطاق المحيط بالمجرة — قدرًا قليلًا من المادة المرئية يعجز عن تفسير هذه السرعات المدارية العالية. وقد استنتجت روبين، صائبة، أن نوعًا ما من المادة المظلمة موجود في هذه المناطق النائية، ما وراء الحافة المرئية لكل مجرة حلزونية. وفي الواقع، تشكل المادة المظلمة نوعًا من الهالة المحيطة بالمجرة بأسرها.

توجد مشكلة الهالة هذه بالقرب منا، في مجرة درب التبانة عينها. ومن مجرة لأخرى، ومن عنقود مجري لآخر، يتراوح الفارق في الكتلة بين الأجرام المرئية والأجرام المظلمة ما بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف، وصولًا إلى مئات الأضعاف. وعلى مستوى الكون بأسره تصل النسبة إلى واحد إلى ستة؛ أي إن المادة المظلمة تفوق المادة المرئية في الكتلة بستة أضعاف.

وعلى مدار الأعوام الخمسة والعشرين المنصرمة كشف المزيد من الدراسات أن معظم المادة المظلمة لا يمكن أن يتكون من مادة عادية غير ساطعة وحسب. وهذا الاستنتاج يستند إلى نمطين من التفكير. أولًا: أن بمقدورنا استبعاد كل الأجسام العادية المشتبه أنها تؤلف المادة المظلمة. هل يمكن أن تكون المادة المظلمة على صورة ثقوب سوداء؟ كلا، فنحن نعتقد أننا سنكون قادرين على كشف هذا العدد الوفير من الثقوب السوداء من خلال تأثيرات جاذبيتها على النجوم القريبة. هل يمكن أن تكون سحبًا مظلمة؟ كلا، وإلا لكانت امتصت الضوء القادم من النجوم الواقعة خلفها أو تفاعلت معه، وهذا لا تفعله المادة المظلمة. هل يمكن أن تتكون من كواكب وكويكبات ومذنبات توجد داخل النظم النجمية (أو المجرية) التي لا تنتج ضوءًا من تلقاء نفسها؟ من العسير تصديق أن الكون يحوي من الكواكب ما يفوق النجوم بستة أضعاف كتلتها، فهذا سيعني أن هناك ستة آلاف كوكب بحجم المشتري، أو مليوني كوكب بحجم الأرض، لكل نجم في المجرة. وفي مجموعتنا الشمسية على سبيل المثال، لا تتجاوز المادة بمختلف أشكالها ما يزيد عن ٠٫٢ بالمائة من كتلة الشمس.

لهذا، حسب علمنا، لا تتكون المادة المظلمة من مادة عادية تصادف أنها مظلمة وحسب، بل تتكون من شيء آخر مختلف تمامًا. للمادة المظلمة قوة جاذبية تتبع القواعد عينها التي تتبعها المادة العادية، لكنها لا تفعل شيئًا آخر قد يمكننا من اكتشاف طبيعتها. بطبيعة الحال يؤدي عدم معرفتنا بماهية المادة المظلمة إلى جعل هذا التحليل قاصرًا. وصعوبة اكتشاف المادة المظلمة، المرتبطة على نحو وثيق بصعوبة إدراك ماهيتها، تثير السؤال: إذا كانت المادة كلها لها كتلة، وكل كتلة لها جاذبية، فهل كل الجاذبية لها مادة؟ لا نعرف الجواب. إن مسمى «المادة المظلمة» يفترض سلفًا وجود نوع من المادة لها جاذبية، وأننا لا نفهمها بعد. لكن ربما تكون الجاذبية هي المستعصية على الفهم.

لدراسة المادة المظلمة بما يتجاوز مجرد استنتاج وجودها، يسعى الفلكيون اليوم لمعرفة أماكن تجمع المادة في الفضاء. فإذا وجدت المادة المظلمة فقط على الحواف الخارجية للعناقيد المجرية، مثلًا، عندئذٍ لن تظهر سرعات المجرات أي دليل على مشكلة المادة المظلمة؛ لأن سرعات المجرات ومساراتها تستجيب فقط لمصادر الجاذبية الموجودة في المحيط الداخلي لمداراتها. وإذا شغلت المادة المظلمة مراكز العناقيد المجرية فقط، فسيتناسب عندئذٍ نطاق سرعات المجرات، كما هو مقاس من مركز العنقود إلى الحافة، مع المادة العادية فقط. لكن سرعات المجرات داخل العناقيد تكشف عن تغلغل المادة المظلمة في الحيز الذي تشغله المجرات المدارية بأسره. في الواقع، تتوافق أماكن وجود المادة العادية مع أماكن وجود المادة المظلمة على نحو كبير. منذ بضع سنوات أنتج فريق بقيادة الفيزيائي الفلكي الأمريكي جيه أنتوني تايسون، الذي كان يعمل وقتها في مختبرات بيل ويعمل الآن في جامعة كاليفورنيا بدافيس (والذي يناديه أحد المؤلفَيْن ﺑ «العم توني»، بالرغم من عدم وجود صلة قرابة بينهما)، أول خريطة تفصيلية لتوزيع جاذبية المادة المظلمة داخل وحول أحد العناقيد المجرية الهائلة. فكلما رأينا مجرات كبيرة وجدنا أيضًا تركيزات عالية من المادة المظلمة داخل العنقود. والعكس صحيح أيضًا؛ فالمناطق الخالية من المجرات ليس بها سوى النزر اليسير من المادة المظلمة.

•••

يتفاوت الفارق بين المادة المظلمة والمادة العادية بدرجة كبيرة من بيئة فيزيائية فلكية إلى أخرى، لكنه يصير على أوضح ما يكون في الكيانات الضخمة كالمجرات والعناقيد المجرية. أما مع الأجسام الأصغر، كالأقمار والكواكب، فلا يوجد هذا الفارق من الأساس. فالجاذبية على سطح الأرض، مثلًا، يمكن تفسيرها بالكامل من واقع كل ما هو موجود تحت قدميك؛ لذا إذا كنت بدينًا وأنت على كوكب الأرض فلا تلقِ باللوم على المادة المظلمة. ليس للمادة المظلمة أيضًا أي تأثير على مدار القمر حول الأرض، ولا على حركة الكواكب حول الشمس. لكننا نحتاجها لتفسير حركة النجوم حول مركز المجرة.

هل يعمل نوع مغاير من فيزياء الجاذبية على المستويات المجرية؟ في الغالب لا. الأرجح هو أن المادة المظلمة تتكون من مادة لم نتكهن بطبيعتها بعد، تتجمع على نحو أكثر توزيعًا مما هو الحال مع المادة العادية. وإلا كنا سنجد أن كل ستة أجزاء من المادة المظلمة يلتصق بها جزء من المادة العادية. وعلى حد علمنا لا تسير الأمور على هذا النحو.

يزعم الفيزيائيون الفلكيون أحيانًا — مخاطرين بإثارة إحباطنا — أن كل المادة التي عرفناها في الكون، المكونة للنجوم والكواكب والحياة، هي مجرد عوَّامات طافية في المحيط الكوني الشاسع المؤلف من مادة تشبه في شكلها العدم.

لكن ماذا لو كانت هذه النتيجة خاطئة بالكامل؟ فحين يعجز الفيزيائيون عن الإتيان بحل، من المفهوم، بل ويحق لهم في الواقع، أن يتشكَّكوا في قوانين الفيزياء الأساسية التي تقوم عليها الافتراضات التي وضعها غيرهم ممن يحاولون فهم الكون.

في أوائل الثمانينيات اقترح الفيزيائي الإسرائيلي موردخاي ميلجروم من معهد وايزمان للعلوم في ريحوفوت بإسرائيل، تعديلًا في قوانين نيوتن للجاذبية، وهي النظرية التي تعرف اليوم بديناميكا نيوتن المعدلة. رأى ميلجروم — المتقبل لفكرة أن ديناميكا نيوتن تعمل بنجاح في نطاق الأجسام الأصغر حجمًا من المجرات — أن نيوتن قد يكون بحاجة لبعض العون في وصف تأثيرات الجاذبية على مسافات وأحجام المجرات والعناقيد المجرية، التي تكون النجوم والعناقيد النجمية المنفردة الموجودة بداخلها بعيدة للغاية بعضها عن بعض بحيث لا تمارس سوى قدر يسير من تأثير الجاذبية بعضها على بعض. أضاف ميلجروم شرطًا إضافيًّا لمعادلة نيوتن، مصاغًا بصفة خاصة ليلائم الحياة على الأبعاد الكونية الكبيرة. ومع أنه ابتكر ديناميكا نيوتن المعدلة كأداة حوسبية، فإنه لم يستبعد إمكانية استخدام نظريته للإشارة إلى ظاهرة جديدة للطبيعة.

لم تحظ ديناميكا نيوتن المعدلة إلا بنجاح بسيط. بمقدور النظرية تفسير حركة الأجسام المنفردة في النطاقات البعيدة للعديد من المجرات الحلزونية، بيد أنها تثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات. فالنظرية تفشل في التنبؤ بشكل موثوق به بحركة التكوينات الأكثر تعقيدًا، على غرار حركة المجرات في الأنظمة الثنائية والمتعددة. إضافة إلى ذلك مكنت الخريطة التفصيلية لإشعاع الخلفية الكوني التي أنتجها المسبار WMAP عام ٢٠٠٣ علماء الفلك من عزل تأثير المادة المظلمة وقياس هذا التأثير في مرحلة الكون المبكر. وبسبب توافق هذه النتائج مع النموذج المتسق للكون المبني على نظريات الجاذبية التقليدية، فقدت النظرية العديد من مؤيديها.

إبان النصف مليون عام الأول بعد الانفجار العظيم، وهو ما يمثل لحظة عابرة من تاريخ الكون البالغ نحو ١٤ مليار عام، كانت المادة الموجودة في الكون قد بدأت في التجمع في نقاط من شأنها أن تصير لاحقًا عناقيد وعناقيد فائقة من المجرات. لكن الكون كان يتمدد طوال الوقت، وسيتضاعف حجمه في غضون النصف مليون عام التالية. هكذا كان على الكون الاستجابة لتأثيرين متعارضين: الجاذبية التي تريد تكثيف المادة، والتمدد الذي يريد تخفيفها. إذا أجريت حساباتك، سرعان ما تستنتج أن جاذبية المادة العادية لم تكن لتفوز بهذه المعركة وحدها. لقد احتاجت لمعاونة المادة المظلمة، التي لولاها لكنا سنعيش — أو بالأحرى لن نعيش — في كون ليس به أي بُنى أو عناقيد مجرية أو مجرات أو نجوم أو كواكب أو حتى بشر. ما مقدار الجاذبية الإضافي الذي احتاجه الأمر؟ ستة أضعاف مقدار الجاذبية التي تقدمها المادة العادية. هذا التحليل لا يترك أي مجال للشروط التصحيحية الصغيرة التي تضيفها ديناميكا نيوتن المعدلة إلى قوانين نيوتن. ولا يخبرنا هذا التحليل بماهية المادة المظلمة، بل هو فقط يؤكد على أن تأثيرات المادة المظلمة حقيقية، وأنك لن تستطيع، مهما حاولت، عزو تلك التأثيرات للمادة العادية.

تلعب المادة المظلمة دورًا حيويًّا آخر في الكون. لفهم كل ما فعلته المادة المظلمة من أجلنا علينا الرجوع بالزمن حتى دقيقتين بعد الانفجار العظيم، حين كان الكون شديد الحرارة والكثافة، حتى إن أنوية الهيدروجين (البروتونات) كان بإمكانها الاندماج معًا. هذه البوتقة الكونية المبكرة حولت الهيدروجين إلى هيليوم، إلى جانب نسب ضئيلة من الليثيوم، وكمية أقل من هذا من الديوتيريوم، وهو نسخة أثقل من نواة الهيدروجين بها نيوترون إلى جانب البروتون. هذا المزيج من الأنوية يمثل بصمة كونية خاصة للانفجار العظيم، أثر باقٍ يمكننا من إعادة تمثيل ما حدث حين كان عمر الكون لا يتجاوز بضع دقائق. كان العامل المحرك وراء تكوين هذه البصمة هو القوة النووية القوية — القوة التي تربط بين البروتونات والنيوترونات داخل النواة — وليست الجاذبية، فقوة الجاذبية ضعيفة، حتى إنها لا تصير مؤثرة إلا حين تتجمع تريليونات الجسيمات معًا.

حينما انخفضت درجة الحرارة لما دون عتبة الاندماج النووي، كان قد نتج عن هذا الاندماج نواة هيليوم واحدة مقابل كل عشر أنوية هيدروجين في الكون بأسره. كما تحوَّل جزء واحد تقريبًا في الألف من المادة العادية إلى أنوية ليثيوم، وجزآن من كل مائة ألف إلى الديوتيريوم. إذا لم تكن المادة المظلمة مكونة من مادة لا تتفاعل مع المادة العادية، وكانت بدلًا من ذلك مكونة من مادة عادية داكنة وحسب، مادة يمكنها الاندماج، فسيزيد حجمها — الذي يفوق حجم المادة العادية بستة أضعاف داخل الحجم المحدود للكون — بدرجة كبيرة من معدل اندماج أنوية الهيدروجين. وستكون النتيجة وقتها زيادة كبيرة ملحوظة في إنتاج الهيليوم، بالمقارنة بالكمية المرصودة بالفعل، ومن ثم مولد كون مختلف اختلافًا كبيرًا عن الكون الذي نعيش فيه.

نواة الهيليوم قاسية للغاية، فمع سهولة تكوينها فإن دمجها مع أنوية أخرى صعب للغاية. ولأن النجوم استمرت في إنتاج الهيليوم من الهيدروجين في قلوبها، وفي الوقت ذاته استمرت في تدمير كميات بسيطة نسبيًّا من الهيليوم من خلال عمليات اندماج نووي أكثر تقدمًا، فإننا نتوقع أن أقل الأماكن احتواءً على الهيليوم في الكون لن تحوي هيليوم أقل مما أنتجه الكون في الدقائق القليلة الأولى من عمره. وبلا شك فالمجرات التي عالجت نجومها المكونات الخام بالحد الأدنى تُبين أن عُشر ذراتها ذرات هيليوم، وهو ما توقعناه في بداية الكون عقب الانفجار العظيم، ما دامت المادة المظلمة الموجودة وقتها لم تشارك في الاندماج النووي الذي أنتج هذه الأنوية.

•••

المادة المظلمة إذن صديقة لنا. لكن من المفهوم أن يشعر الفيزيائيون الفلكيون بعدم الراحة كلما بنوا حساباتهم على مفاهيم لا يفهمونها، حتى حين لا تكون هذه هي المرة الأولى التي يفعلون فيها هذا. فقد قاس الفيزيائيون الفلكيون محصلة الطاقة الناتجة عن الشمس، مثلًا، قبل أن يعرف أحد أن المسئول عنها هو تفاعل الاندماج النووي. ففي القرن التاسع عشر، قبل ظهور ميكانيكا الكم واكتشاف الأفكار العميقة الأخرى عن سلوك المادة على أصغر المستويات، لم يكن الاندماج النووي موجودًا حتى كمفهوم مجرد.

قد يشبه المتشككون المتشبثون برأيهم المادة المظلمة اليوم بمادة «الأثير» الافتراضية التي ثبت عدم وجودها، والتي اقْتُرِحَ وجودها منذ قرون خلت بوصفها وسطًا شفافًا عديم الوزن يتحرك الضوء عبره. فقد افترض الفيزيائيون لسنوات عديدة أن الأثير له وجود، بالرغم من عدم وجود أي دليل يدعم هذا الافتراض، إلى أن ثبت خطؤه من خلال التجربة الشهيرة التي أجراها في كليفلاند عام ١٨٨٧ كل من ألبرت ميكلسون وإدوارد مورلي. كان الفيزيائيون يعتقدون أن الضوء، بسبب طبيعته الموجية، يحتاج إلى وسط يتحرك خلاله، مثلما تنتقل موجات الصوت عبر الهواء، لكن ثبت أن الضوء ينتقل دون أدنى مشكلة عبر الفضاء، دون أي وسط. فموجات الضوء تنشر نفسها بنفسها، على عكس موجات الصوت التي تتكون من اهتزازات في الهواء.

لكن الجهل بالمادة المظلمة يختلف عن الجهل بالأثير؛ ففي حين يمثل الأثير رمزًا لفهمنا المنقوص، فإن وجود المادة المظلمة ليس محض افتراض، بل يُستدل عليه من خلال تأثيرات الجاذبية المرصودة على المادة المرئية. إننا لا نختلق وجود هذه المادة من لا شيء، بل على العكس نحن نستنتج وجودها من حقائق مرصودة مُشاهدة. إن المادة المظلمة حقيقة واقعة، مثلها مثل المائة ونيف كوكب التي اكتُشف أنها تدور حول نجوم أخرى خلاف شمسنا، وجميعها تقريبًا وُجِدَت بفضل تأثيرات الجاذبية التي تمارسها على النجوم التي تدور حولها. أسوأ ما قد يحدث هو أن يكتشف الفيزيائيون (أو آخرون من ذوي الفكر العميق) أن المادة المظلمة لا تتكون من مادة من الأساس، بل من شيء آخر، دون أن يستطيعوا الدفاع عن حجتهم هذه. هل يمكن أن تكون المادة المظلمة مجرد تجسيد لقوى آتية من أبعاد أخرى؟ أو من كون موازٍ يتفاعل مع كوننا؟ حتى لو صح هذا فلن يغير أي من هذا من الدور الناجح الذي تلعبه جاذبية المادة المظلمة في المعادلات التي نستخدمها لفهم تكون الكون وتطوره.

قد يصرح متشكك آخر متشبث برأيه قائلًا: «الرؤية خير برهان.» قد يصلح هذا المنهج في العديد من مناحي الحياة، على غرار الهندسة الميكانيكية وصيد السمك وربما المواعدة، كما قد يناسب سكان ولاية ميزوري، لكنه لن يصلح كممارسة علمية سليمة. فالبراهين لا تأتي من الرؤية فقط. فالعلم قائم على القياس، الذي يفضل أن يتم من خلال وسيلة أخرى خلاف العينين، اللتين قد تتأثران بعوامل عقلية أخرى؛ كالأفكار المسبقة والأفكار لاحقة التكون والتخيل غير المتحقق من صحته بواسطة الاستناد لبيانات أخرى والتحيز المسبق.

أصبحت المادة المظلمة، باستعصائها على الاكتشاف المباشر لثلاثة أرباع القرن على الأرض، بمنزلة اختبار رورشاخ للمنقبين عنها. يقول بعض فيزيائيي الجسيمات: إن المادة المظلمة لا بد أن تتكون من طبقة شبحية من الجسيمات غير المكتشفة بعد تتفاعل مع المادة من خلال الجاذبية، لكنها تتفاعل بضعف مع المادة العادية أو الضوء أو لا تتفاعل معهما على الإطلاق. يبدو هذا افتراضًا جامحًا، لكن هذا الاقتراح له سوابقه. فمن المعروف مثلًا أن النيوترينوات موجودة، مع أنها تتفاعل بضعف شديد مع الضوء والمادة العاديين. إن النيوترينوات الآتية من الشمس — التي تُنتَج بمعدل اثنين من النيوترينوات لكل نواة هيليوم تتكون في قلب الشمس — تسافر عبر الفضاء الفارغ بسرعة تقارب سرعة الضوء، لكنها تمر عبر الأرض كما لو أنها غير موجودة. الحساب الإجمالي: يمر مائة مليار نيوترينو بكل بوصة مربعة من جسدك في الثانية الواحدة.

لكن بالإمكان توقيف النيوترينوات. فعلى أحيان متباعدة للغاية تتفاعل مع المادة العادية من خلال القوة النووية الضعيفة. وإذا تمكنت من توقيف جسيم ما فبالإمكان تبين طبيعته. قارن سلوك النيوترينوات المراوغة بسلوك الرجل الخفي (في مراحل اختفائه عن العين)، الذي يمكن أن يكون مرشحًا لدور المادة المظلمة كغيره من الأشياء. إن بمقدوره السير عبر الجدران والأبواب كما لو أنها غير موجودة. لكن مع امتلاكه لهذه القدرات، لمَ لا يسقط من أرضية الغرفة إلى القبو؟

إذا تمكنَّا من تطوير أدوات كشف حساسة بما يكفي، فقد تكشف جسيمات المادة المظلمة التي يفترض وجودها فيزيائيو الجسيمات عن نفسها من خلال تفاعلات مألوفة. أو ربما تكشف عن وجودها من خلال قوى خلاف القوة النووية القوية والقوة النووية الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية. هذه القوى الثلاث (إلى جانب الجاذبية) هي الوسيط الذي تجري من خلاله التفاعلات بين كافة أنواع الجسيمات المعروفة. هكذا تكون الخيارات واضحة: فإما يكون على جسيمات المادة المظلمة الانتظار حتى نكتشف ونتحكم في قوة أو طبقة جديدة من القوى تتفاعل بواسطتها هذه الجسيمات، أو أن جسيمات المادة المظلمة تتفاعل مع القوى العادية، لكن بدرجة بالغة الضعف.

لا يرى المؤمنون بديناميكا نيوتن المعدلة أي جسيمات غريبة في اختبارات رورشاخ الخاصة بهم. فهم يرون أن الجاذبية، وليس الجسيمات، هي ما تحتاج للتعديل. ولهذا السبب قدموا لنا ديناميكا نيوتن المعدلة، وهي محاولة جريئة يبدو أنها فشلت، لكنها مع ذلك تعد بداية محاولات أخرى لتغيير منظورنا للجاذبية بدلًا من تغيير أعداد الجسيمات دون الذرية.

يسعى فيزيائيون آخرون وراء ما يسمونه «نظريات كل شيء». في واحدة من هذه النظريات يقع كوننا بالقرب من كون آخر موازٍ، يتفاعل معه من خلال الجاذبية فقط. لن تقابل أي مادة من هذا الكون الموازي، لكنك ستشعر بتأثيره الممتد عبر الأبعاد المكانية لكوننا. تخيل أنه يوجد كون شبحي ملاصق لكوننا، وأنه لا يكشف عن نفسه إلا من خلال قوة الجاذبية. تبدو الفكرة مثيرة ومستعصية على التصديق، لكنها ربما ليست أكثر غرابة من الظهور الأول لفكرة أن الأرض تدور حول الشمس، أو أن مجرتنا ليست المجرة الوحيدة في الكون.

•••

إذن، تأثيرات المادة المظلمة حقيقية. نحن فقط لا نعرف ماهية هذه المادة. يبدو لنا أنها لا تتفاعل من خلال القوة النووية القوية، لهذا هي عاجزة عن تكوين الأنوية. كما لا نجدها تتفاعل من خلال القوة النووية الضعيفة، وهو ما تفعله حتى النيوترينوات المراوغة. ويبدو أنها لا تتفاعل مع القوة الكهرومغناطيسية؛ لذا فهي لا تكون جسيمات، أو تمتص الضوء أو تطلقه أو تعكسه أو تشتته. بيد أنها تمارس قوة الجاذبية على نحو تستجيب له المادة العادية. هذا كل ما في الأمر. وبعد كل هذه السنوات من البحث والتقصي، لم يتمكن الفيزيائيون الفلكيون من اكتشاف أي تأثير آخر لها.

أوضحت الخرائط التفصيلية لإشعاع الخلفية الكوني أن المادة المظلمة لا بد أنها وجدت في أول ٣٨٠ ألف عام من عمر الكون. نحن أيضًا نحتاج المادة المظلمة اليوم في مجرتنا وعنقودنا المجري لتفسير حركة الأجرام داخله. لكن على حد علمنا لم يتسبب هذا الجهل في إعاقة مسيرة الفيزيائيين الفلكيين أو الفت في عضدهم. إننا نتقبل وجود المادة المظلمة كصديق غريب الأطوار، ونستجديها العون وقتما وأينما احتاج الكون منا ذلك.

في المستقبل القريب، كما نأمل، سيتواصل المرح مع معرفتنا بكيفية سبر أغوار المادة المظلمة، وذلك فور معرفتنا لما تتألف منه هذه المادة. تخيل وجود ألعاب، سيارات تمر بعضها من بعض، أو طائرات تسلل شبحية فائقة. إن تاريخ الاكتشافات الغريبة والبلهاء في العلم غني بأمثلة لأشخاص ماهرين جاءوا في وقت لاحق وتوصلوا إلى استغلال مثل هذه الاكتشافات والمعارف على نحو يفيدهم ويفيد الحياة على الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤