الفصل الثامن

أصل البنية الكونية

عند دراسة تاريخ المادة في الكون، بالنظر عبر ١٤ مليار عام بأفضل ما نستطيع، سريعًا ما نقابل نزعة وحيدة ظاهرة تحتاج للتفسير؛ ففي كل أرجاء الكون نظمت المادة نفسها في تجانس على صورة بُنى. فقد تكتلت المادة بعضها مع بعض في أحجام مختلفة، بعد أن انتشرت عبر الكون كله في تجانس عقب الانفجار العظيم، كي تنتج عناقيد مجرية كبيرة وأخرى فائقة، إضافة إلى المجرات الموجودة داخل هذه العناقيد، والنجوم المتجمعة بالمليارات داخل كل مجرة، إلى جانب أجسام أخرى أصغر بكثير — كالكواكب والأقمار التابعة لها والكويكبات والمذنبات — التي تدور حول أغلب هذه النجوم إن لم يكن كلها.

كي نفهم بداية جميع الأجرام التي تؤلف الكون الذي نراه علينا التركيز على الآلية التي حولت المادة المنتشرة عبر الكون إلى مكونات ذات بنية معقدة. ويتطلب منا التوصيف الكامل للكيفية التي ظهرت بها البنية في الكون الخوض في جانبين من جوانب الطبيعة لا يزالان إلى اليوم يستعصيان على الفهم. فكما رأينا في الفصول السابقة، علينا التوصل للكيفية التي تتوافق بها ميكانيكا الكم، التي تصف سلوك الجزيئات والذرات والجسيمات المكونة لها، مع نظرية النسبية العامة، التي تصف الكيفية التي تؤثر بها التجميعات الضخمة من المادة والفضاء أحدهما على الآخر.

بدأت محاولات التوصل إلى نظرية واحدة توحد معارفنا بالجسيمات الصغيرة دون الذرية والأجرام الفلكية مهولة الحجم مع أينشتاين. وقد استمرت، دون نجاح يذكر، إلى وقتنا هذا، وستستمر في المستقبل إلى أن تصل إلى «التوحيد الكامل». من أكثر ما يثير ضيق علماء الكونيات المعاصرين افتقارهم إلى نظرية تمزج بنجاح بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة. في الوقت ذاته، فإن فرعي الفيزياء اللذين يتعذر المزج بينهما هذين — علم أصغر الجسيمات وعلم أكبر الأجرام — يبدو أنهما لا يكترثان البتة بجهلنا هذا؛ إذ يتعايشان معًا بنجاح مدهش داخل الكون نفسه، ساخرين من محاولاتنا لفهمهما ككل متجانس. فالمجرة التي تحوي المائة مليار نجم لا تلقي أي بال لفيزياء الذرات والجزيئات التي تتألف منها المجموعات النجمية والسحب الغازية، والأمر نفسه ينطبق على التكتلات الأكبر من المادة التي نسميها بالعناقيد المجرية والعناقيد المجرية الفائقة، التي تحوي مئات وأحيانًا آلاف المجرات. لكن هذه البُنى الضخمة في الكون تدين بوجودها ذاته للتفاوتات الكمية متناهية الصغر التي وجدت داخل الكون البدائي. ولفهم كيف نشأت هذه البُنى علينا بذل قصارى جهدنا بالرغم من حالة الجهل التي نعيش بها اليوم، بحيث ننتقل من النطاقات الصغيرة التي تهيمن عليها ميكانيكا الكم إلى النطاقات الأكبر التي لا تلعب ميكانيكا الكم فيها أي دور، حيث تستجيب المادة لقوانين النسبية العامة.

لتحقيق هذا الغرض علينا البحث عن تفسير للكيفية التي ظهر بها الكون الغني بالبُنى التي نراها اليوم من ذلك الكون عديم الملامح تقريبًا الذي وُجِدَ بعد الانفجار العظيم بوقت ضئيل. أيضًا يجب على أي محاولة لتفسير بداية البنية الكونية أن تفسر بالمثل الحالة التي عليها الكون اليوم. وحتى هذه المهمة المتواضعة أربكت علماء الكونيات والفلك بسلسلة من البدايات الخاطئة والسقطات التي (كما نأمل) تحررنا منها، وبدأنا في السير على الطريق السليم لوصف الكون على نحو صحيح.

طوال الجزء الأكبر من تاريخ علم الكونيات الحديث افترض الفيزيائيون الفلكيون أن توزيع المادة في الكون يمكن وصفه بصفتين هما: التطابق وتوحد الخصائص. يعني التطابق أن كل موضع في الكون يبدو مشابهًا لغيره من المواضع، مثل محتويات كوب اللبن المتجانس. أما توحد الخصائص فيعني أنه يبدو على الصورة نفسها في كل اتجاه من أي نقطة في المكان والزمان. قد يبدو الوصفان متطابقين، لكن هذا ليس صحيحًا. على سبيل المثال لا يمكن وصف خطوط الطول على كوكب الأرض بالتطابق؛ لأنها تبتعد بعضها عن بعض في بعض المناطق وتتقارب في مناطق أخرى، وهي متحدة الخصائص في مكانين فقط هما: القطب الشمالي والقطب الجنوبي، حيث تتجمع كل خطوط الطول. وإذا وقفت على «قمة» العالم أو «قاعه»، فستبدو شبكة خطوط الطول متماثلة في نظرك، مهما أدرت رأسك يمينًا ويسارًا. في مثال آخر ملموس أكثر، تخيل نفسك واقفًا على قمة جبل مخروطي مثالي، وتخيل أن هذا الجبل هو الشيء الوحيد الموجود في العالم. وقتها سيبدو كل منظور لسطح الأرض من هذا الموضع العالي متماثلًا. الأمر عينه يصح لو كنت تعيش في مركز لوحة تصويب السهام أو لو كنت عنكبوتًا يقف في مركز شبكته المثالية. ففي كل هذه الحالات سيتسم منظورك بتوحد الخصائص، لكنه لن يكون متطابقًا بالضرورة.

من أمثلة النمط المتطابق لكن غير متحد الخصائص الجدار المبني من قوالب طوب مستطيلة متماثلة، والمرصوصة بطريقة البناء التقليدية على نحو متداخل. على مستوى عدة قوالب متجاورة وما يضمها من ملاط سيبدو الجدار متماثلًا في كل مكان — من قوالب طوب — لكن خطوط البصر على امتداد الجدار ستكون متقطعة، نافية أي إمكانية لتوحد الخصائص.

المثير للاهتمام (لهؤلاء الذين يحبون هذا النوع من الإثارة) هو أن التحليل الرياضي يخبرنا أن الفضاء لن يكون متطابقًا إلا إذا كان متوحد الخصائص في كل مكان. كما تخبرنا نظرية رياضية أخرى بأنه لو كان الفضاء متوحد الخصائص في ثلاثة أماكن وحسب، فسيكون متوحد الخصائص في كل مكان آخر. ومع هذا ينأى البعض منا عن الرياضيات بدعوى أنها غير مثيرة للاهتمام وغير مثمرة.

مع أن علماء الكونيات كانوا مدفوعين بدافع جمالي للافتراض بأن توزيع المادة في الكون متطابق ومتوحد الخصائص، فإنهم آمنوا بهذا الافتراض بما يكفي لترسيخه كمبدأ كوني جوهري. بوسعنا أن نسمي هذا بمبدأ عدم التميز: فلماذا يتسم أحد أجزاء الكون بأنه أكثر إثارة للاهتمام من جزء آخر؟ على مستوى المسافات والأحجام الصغيرة، يتضح لنا دون جهد خطأ هذا الافتراض. فنحن نعيش على سطح كوكب صلب يبلغ معدل كثافة المادة فيه ٥٫٥ جرام في السنتيمتر المكعب (أي بالمقاييس الأمريكية حوالي ٣٤٠ رطلًا في القدم المكعب). أما شمسنا، وهي نجم عادي، فلها متوسط كثافة يبلغ حوالي ١٫٤ جرامًا في السنتيمتر المكعب، بينما الفضاء بيننا وبين الشمس له متوسط كثافة ضئيل للغاية؛ أقل بنحو واحد على مليار التريليون مرة. إن الفضاء النجمي، الذي يشغل القدر الأعظم من حجم الكون، يحتوي على أقل من ذرة وحيدة لكل عشرة سنتيمترات مكعبة. وهنا ينخفض متوسط الكثافة بين النجوم مليار مرة أخرى عن متوسط الكثافة بين الكواكب.

مع اتساع أفق الفيزيائيين الفلكيين رأوا بوضوح أن مجرة مثل درب التبانة تتكون من نجوم تطفو في فضاء نجمي شبه خاوٍ. تتجمع المجرات بالمثل في عناقيد مجرية بشكل يخرق الافتراض بتطابق الكون وتوحد خصائصه. ومع استمرار الفيزيائيين الفلكيين في تحديد مواضع المادة المرئية على المستويات الأعظم، ظل الأمل موجودًا في أنهم سيجدون أن العناقيد المجرية لها توزيع يتسم بالتطابق وتوحد الخصائص. كي تتسم منطقة ما من الفضاء بالتطابق وتوحد الخصائص، يجب أن تكون من الكبر بحيث لا توجد البُنى (أو تغيب) على نحو متفرد داخلها. وإذا اقتطعت شريحة من هذه المنطقة، تعني سمتا التطابق وتوحد الخصائص أن السمات الإجمالية للمنطقة يجب أن تكون متشابهة من كل الجوانب مع سمات أي منطقة أخرى لها الحجم عينه. وكم سنشعر بالحرج لو اتضح أن النصف الأيمن من الكون يبدو مختلفًا عن النصف الأيسر.

ما حجم المنطقة التي علينا دراستها للعثور على كون متطابق متوحد الخصائص؟ لكوكب الأرض قطر يبلغ ٠٫٠٤ ثانية ضوئية، بينما يبلغ قطر مدار كوكب نبتون ٨ ساعات ضوئية. تشكل نجوم مجرة درب التبانة قرصًا عريضًا مسطحًا قطره قرابة ١٠٠ ألف سنة ضوئية، بينما يمتد عنقود العذراء المجري، الذي تنتمي إليه مجرتنا، لما يقارب ٦٠ مليون سنة ضوئية. على هذا يكون الحجم المرغوب الذي يمكنه أن يمدنا بالتطابق وتوحد الخصائص أكبر من حجم عنقود العذراء المجري. حين أجرى الفيزيائيون الفلكيون دراساتهم عن توزيع المجرات في الفضاء اكتشفوا أنه حتى على مستويات الحجم هذه، التي تصل إلى ١٠٠ مليون سنة ضوئية، يكشف الكون عن فجوات هائلة خاوية، محاطة بمجرات نظمت نفسها على شكل خيوط وألواح متقاطعة. وهكذا يبدو توزيع المجرات على هذا المستوى أقرب إلى اللوفة الإسفنجية عن كثيب النمل المكتظ.

لكن في نهاية المطاف صنع الفيزيائيون الفلكيون خرائط أكبر، ووجدوا ضالتهم المنشودة من التطابق وتوحد الخصائص. فقد اتضح أن محتويات الشريحة الكونية بعرض ٣٠٠ مليون سنة ضوئية تشبه في واقع الأمر الشرائح الأخرى المماثلة في الحجم، وهو ما أوفى أخيرًا بالمعيار الجمالي الذي طال البحث عنه في الكون. لكن، بطبيعة الحال، على المستويات الأصغر، تتوزع المادة في تجميعات متمايزة غير متطابقة وغير متوحدة الخصائص.

منذ ثلاثة قرون، فكر نيوتن في مسألة كيفية اكتساب المادة للبنية. كان من السهل على عقله المبدع اعتناق فكرة الكون المتطابق متوحد الخصائص، لكن هذا أثار قضية أخرى قد لا تخطر على بال أغلبنا: كيف يمكن تكوين أي بُنى على الإطلاق في الكون دون أن تتحد كل المادة الموجودة في الكون كي تكون كتلة واحدة عملاقة؟ وقد زعم نيوتن أنه بما أننا نعجز عن رصد مثل هذه الكتلة، فالكون إذن غير محدود. وفي عام ١٦٩٢ كتب نيوتن إلى ريتشارد بنتلي، رئيس كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج، طارحًا الفكرة التالية:

إذا كانت كل المادة الموجودة في الكون موزعة بالتساوي عبر السماء، وكان لكل جزيء جاذبيته الخاصة نحو بقية الجزيئات، وكان الفضاء الذي توجد فيه هذه المادة محدودًا، فستجنح المادة الموجودة في الخارج، بفعل جاذبيتها، نحو المادة الموجودة بالداخل، ثم بالتبعية تندفع نحو منتصف هذا الفضاء الكلي بحيث تتكون كرة عظيمة من الكتلة. لكن لو كانت المادة موزعة بتساوٍ على امتداد فضاء غير محدود، فلن تتجمع مطلقًا في كتلة واحدة، بل سيتجمع جزء منها في كتلة ما وجزء آخر في كتلة أخرى حتى يتكون عدد لا حصر له من الكتل العظيمة، الموزعة على مسافات كبيرة بعضها من بعض على امتداد هذا الفضاء غير المحدود.

افترض نيوتن أن هذا الكون غير المحدود لا بد أن يكون ساكنًا، بحيث لا يتمدد أو ينكمش. وفي هذا الكون «تتجمع» الأجسام بفعل قوى الجاذبية؛ أي الجذب الذي يمارسه كل جسم ذي كتلة على غيره من الأجسام. إن استنتاج نيوتن الخاص بدور الجاذبية المحوري في تكوين البُنى يظل صحيحًا إلى اليوم، مع أن علماء الكونيات يواجهون مهمة أصعب بكثير من تلك التي كان بصددها. فنحن لا نملك ترف التمتع بفوائد الكون الساكن، وعلينا أن نضع في الحسبان حقيقة أن الكون في تمدد متواصل منذ الانفجار العظيم، وهو ما يقاوم بطبيعته أي ميل لدى المادة للتكتل بفعل الجاذبية. تصير مشكلة التغلب على طبيعة الكون المتمدد المقاوم لتجميع المادة أصعب حين نأخذ بعين الاعتبار أيضًا حقيقة تمدد الكون بسرعة كبيرة عقب الانفجار العظيم مباشرة، وهي الفترة التي بدأت فيها البُنى في التكون. من الوهلة الأولى لن يسعنا الاعتماد على الجاذبية في تكوين أجسام ضخمة من الغازات الرقيقة بأكثر مما يمكننا الاعتماد على استخدام الجاروف في نقل مجموعة من البراغيث عبر فناء مزرعة. ومع ذلك فقد نجحت الجاذبية في عمل هذا.

خلال الأيام الأولى من عمر الكون تمدد الكون بسرعة كبيرة حتى إنه لو كان الكون متطابقًا ومتوحد الخصائص على جميع مستويات الحجم، لم تكن الجاذبية لتحظى بأدنى فرصة للنجاح في عملها، ولم يكن للمجرات أو النجوم أو الكواكب أو البشر أي وجود اليوم، وإنما كانت ستوجد فقط مجموعة من الذرات الموزعة في كل مكان من الكون؛ كون كئيب ممل، خالٍ من المعجبين ومن أي شيء يثير الإعجاب. لكن كوننا كون مسلٍّ مثير للاهتمام؛ هذا بسبب انعدام التطابق والاتساق الذي ظهر خلال هذه اللحظات الأولى من عمر الكون، الذي عمل كحساء كوني فاتح للشهية لكل تركيزات المادة والطاقة التي ستظهر لاحقًا. ودون هذه البداية كان الكون سريع التمدد سيمنع الجاذبية من تجميع المادة في البُنى المألوفة التي نأخذها كأمور مسلم بها في كوننا اليوم.

ما الذي سبب هذه الانحرافات؟ انعدام التطابق والاتساق الذي أمد الكون ببذور كافة البُنى الموجودة فيه؟ تأتينا الإجابة من عالم ميكانيكا الكم، الذي لم يحلم إسحاق نيوتن بوجوده لكن يتحتم علينا الاستعانة به لو كنا نأمل في فهم من أين أتينا. تخبرنا ميكانيكا الكم بأنه على أصغر مستويات الحجم لا يمكن لأي توزيع للمادة أن يظل متطابقًا ومتوحد الخصائص. بدلًا من ذلك ستظهر تفاوتات عشوائية في توزيع المادة ثم تختفي ثم تظهر مجددًا بكميات مختلفة، بينما تصير المادة كتلة مرتجفة من الجسيمات التي تختفي ثم تولد من جديد. وفي أي وقت بعينه ستحوي بعض مناطق الفضاء جسيمات أكثر، ومن ثم ستكون كثافتها أعلى، من المناطق الأخرى. وانطلاقًا من هذا المفهوم الخيالي المعارض للبديهة يمكننا اشتقاق كل شيء موجود. سنحت للمناطق الأعلى كثافة بقليل الفرصة لجذب المزيد من الجسيمات بفعل الجاذبية، ومع الوقت تحولت هذه المناطق الكونية الأعلى كثافة إلى بُنى.

في مسعانا لتتبع نمو البنية الكونية بعد الانفجار العظيم بقليل يمكننا الحصول على بعض الرؤى من فترتين من الفترات الزمنية التي قابلناها من قبل؛ «فترة التضخم»، التي تمدد فيها الكون بمعدل مذهل، و«وقت الانفصال»، حوالي ٣٨٠ ألف عام بعد الانفجار العظيم، حين توقف إشعاع الخلفية الكوني عن التفاعل مع المادة.

استمرت فترة التضخم ما بين ١٠−٣٧ ثانية و١٠−٣٣ ثانية بعد الانفجار العظيم. وخلال هذه الفترة الوجيزة تمدد نسيج الزمان والمكان أسرع من الضوء؛ إذ نما في غضون واحد على مليار تريليون تريليون من الثانية من حجم أصغر من حجم البروتون بمائة مليار مليار مرة إلى ما يقارب الأربع بوصات. أجل، كان الكون القابل للرصد لا يزيد في الحجم عن ثمرة الجريب فروت. لكن ما الذي سبب هذا التضخم الكوني؟ حدد علماء الكونيات المتهم الرئيسي المتسبب في هذا: عملية «تحول طوري» تركت بصمتها المحددة القابلة للرصد في إشعاع الخلفية الكوني.

لا يقتصر التحول الطوري على علم الكونيات وحسب، بل كثيرًا ما يحدث في منازلنا. فنحن نجمد الماء السائل لنصنع مكعبات من الثلج، كما نغلي الماء لننتج البخار. والماء المحلى بالسكر ينتج بلورات من السكر تتجمع على الخيط المدلى داخله. كما يتحول المخيض الطري الثخين إلى كعكة عند خبزه في الفرن. هناك نمط شائع في كل هذه العمليات؛ ففي كل حالة تبدو الأمور مختلفة قبل حدوث عملية التحول الطوري عن الحال بعدها. يؤكد نموذج التضخم الكوني على أنه حين كان الكون وليدًا، مر مجال الطاقة العام بمرحلة تحول طوري، وهي مرحلة واحدة من المراحل المتعددة التي كان بالإمكان حدوثها في تلك الأوقات المبكرة من عمر الكون. هذه المرحلة بعينها لم تتسبب في انطلاق عملية التمدد السريع المبكر للكون وحسب، بل خصبت الكون بنمط خاص من التفاوت بين المناطق ذات الكثافة العالية والمنخفضة. هذه التفاوتات تجمدت بعد ذلك في نسيج الفضاء المتمدد، تاركة مخططًا تمهيديًّا بالأماكن التي ستتكون فيها المجرات في نهاية المطاف. وهكذا صار بمقدورنا، على غرار شخصية بوه-باه، إحدى شخصيات أوبرا «ميكادو» لجيلبرت وسوليفان، الذي تمكن بفخر من تتبع شجرة عائلته وصولًا إلى «كرية ذرية بدائية»، أن نعزو أصلنا، وبداية البنية الكونية كلها، إلى التفاوتات التي وقعت على المستوى دون النووي إبان فترة التضخم.

ما الحقائق التي يمكننا الاستشهاد بها لدعم هذا التأكيد الجريء؟ بما أن علماء الكونيات لا يملكون سبيلًا لرؤية ما كانت عليه الأمور في أول ١٠−٣٧ ثانية من عمر الكون، فهم يفعلون ثاني أفضل شيء ممكن، وهو استخدام المنطق العلمي لربط هذه الفترة المبكرة بأوقات أخرى يمكننا رصدها. إذا كانت نظرية التضخم صحيحة، فإن التفاوتات الأولية المنتَجة إبان هذه الفترة، النتيجة التي تحتم ميكانيكا الكم حدوثها — والتي تخبرنا بأن الانحرافات الطفيفة من مكان لآخر لا بد أن تظهر داخل أي سائل متطابق متوحد الخصائص — ستسنح لها الفرصة كي تكوِّن مناطق من التركيزات المرتفعة والمنخفضة من المادة والطاقة. ويمكننا أن نأمل في العثور على دليل على هذه التفاوتات من مكان لآخر في إشعاع الخلفية الكوني، الذي يمكن تشبيهه بالجزء الأمامي من خشبة المسرح، والذي يفصل فترتنا الحالية عن اللحظات الأولى من عمر الكون الوليد، ويصلنا بها في الوقت ذاته.

كما رأينا من قبل، فإشعاع الخلفية الكوني يتكون من الفوتونات المولدة خلال الدقائق الأولى التي تلت الانفجار العظيم. في فترة مبكرة من تاريخ الكون، تفاعلت هذه الفوتونات مع المادة، مرتطمة بعنف بأي ذرة تحاول التكون حتى إنه لم تتكون أي ذرات على الإطلاق. بيد أن التمدد المستمر للكون جرد الفوتونات من طاقتها، وفي نهاية المطاف، في وقت الانفصال، لم يعد أي فوتون يملك طاقة تكفيه لمنع الإلكترونات من الدوران حول البروتونات وأنوية الهيليوم. منذ ذلك الوقت، ٣٨٠ ألف عام عقب الانفجار العظيم، استمرت الذرات في الوجود — ما لم تتسبب بعض الاضطرابات الموضعية، على غرار الإشعاع الصادر عن نجم قريب، في تمزيقها — بينما الفوتونات، وكل واحد منها محمل بقدر متناقص من الطاقة، مستمرة في التجول عبر الكون مكونة معًا ما يسمى بإشعاع الخلفية الكوني.

بهذا يحمل إشعاع الخلفية الكوني سجلًّا تاريخيًّا؛ لقطة فوتوغرافية لما كان الكون عليه في وقت الانفصال. عرف الفيزيائيون الفلكيون كيف يفحصون هذه اللقطة بدقة كبيرة. أولًا، تؤكد حقيقة وجود إشعاع الخلفية الكوني أن فهمهم الأساسي لتاريخ الكون صحيح. ولاحقًا، بعد سنوات من تحسين قدراتهم على قياس إشعاع الخلفية الكوني، مكنتهم المعدات المعقدة المحمولة على مناطيد وأقمار صناعية من وضع خريطة للانحرافات الدقيقة في إشعاع الخلفية الكوني عن مستوى التجانس العام. تعد هذه الخريطة سجلًّا للتفاوتات الدقيقة التي زاد حجمها مع تمدد الكون عبر مئات الآلاف من الأعوام التي تلت فترة التضخم، والتي نمت بعد ذلك، خلال المليار عام التالية أو نحو ذلك، إلى توزيع واسع النطاق للمادة على مستوى الكون.

الأمر المثير للإعجاب هنا هو أن إشعاع الخلفية الكوني لا يوفر لنا فقط وسيلة لرسم آثار الكون المبكر للغاية، الذي اختفى منذ زمن بعيد، بل يمكننا أيضًا من تحديد المناطق ذات الكثافة الأعلى بقليل — على بعد ١٤ مليار سنة ضوئية في جميع الاتجاهات — التي صارت لاحقًا عناقيد مجرية وعناقيد مجرية فائقة. فالمناطق ذات الكثافة الأعلى من المتوسط خلفت وراءها فوتونات أكثر من المناطق ذات الكثافة الأقل. وحين صار الكون شفافًا — بفضل فقدان الطاقة الذي جعل الفوتونات عاجزة عن التفاعل مع الذرات المتكونة حديثًا — انطلق كل فوتون في رحلة تحمله بعيدًا عن نقطة منشئه. إن الفوتونات التي ولدت في منطقتنا سافرت لمسافة ١٤ مليار سنة ضوئية في جميع الاتجاهات، مكونة جزءًا من إشعاع الخلفية الكوني الذي ربما ترصده حضارة أخرى بعيدة في الطرف القصي من الكون، أما «فوتوناتهم» التي ستصل لمعداتنا فستخبرنا عما كان عليه الحال منذ زمن بعيد للغاية، في الوقت الذي بدأت فيه البُنى الكونية في التكون.

على مدار الربع قرن الذي تلا الاكتشاف الأول لإشعاع الخلفية الكوني في عام ١٩٦٥، بحث الفيزيائيون الفلكيون عن أي تفاوت في تجانس إشعاع الخلفية الكوني. من الناحية النظرية كانوا بحاجة ماسة للعثور عليه؛ لأنه دون هذا التفاوت في إشعاع الخلفية الكوني على مستوى بضعة أجزاء من مائة ألف، سيفقد نموذجهم الخاص بكيفية ظهور البُنى الكونية صحته. وبدون بذور المادة التي يكشف عنها هذا الإشعاع لن يكون لدينا أي تفسير لوجودنا. لحسن الحظ ظهرت هذه التفاوتات في الوقت المناسب. وفور أن بنى علماء الكونيات أجهزة قادرة على الكشف عن هذه التفاوتات على مستوى ملائم وجدوها بالفعل، في البداية بواسطة القمر الصناعي «مستكشف الخلفية الكونية» في عام ١٩٩٢، ثم لاحقًا بواسطة المعدات الأكثر دقة المحمولة على المناطيد وعلى المسبار WMAP الذي تحدثنا عنه في الفصل الثالث. إن التفاوتات الدقيقة من مكان لآخر في مقدار الفوتونات الميكرونية المكونة لإشعاع الخلفية الكوني، والمصورة بدقة مذهلة بواسطة المسبار WMAP، تجسد سجلًّا للتفاوتات الكونية بعد مرور ٣٨٠ ألف عام على الانفجار العظيم. إن التفاوتات المعتادة لا تزيد عن بضعة أجزاء في المائة ألف من الدرجة أعلى أو أدنى من متوسط حرارة إشعاع الخلفية الكوني، لهذا يشبه الكشف عن هذه التفاوتات العثور على نقاط خافتة من الزيت الطافي على سطح بحيرة عرضها ميل يكون فيها الماء المخلوط بالزيت ذا ظل أقل كثافة بقليل من المتوسط. ومع ضآلة هذه التفاوتات، فإنها كانت كافية كبداية.
في خريطة إشعاع الخلفية الكوني التي رسمها المسبار WMAP، تخبرنا النقاط الحارة الأكبر حجمًا بالأماكن التي تغلبت فيها الجاذبية على نزعات التمدد الكوني وتمكنت من تجميع ما يكفي من المادة لتكوين العناقيد الفائقة. هذه المناطق اليوم نمت لتحوي حوالي ألف مجرة، كل واحدة منها تحوي ١٠٠ مليار نجم. وإذا أضفنا المادة المظلمة الموجودة في هذه العناقيد فستصل كتلتها الإجمالية لما يعادل كتلة ١٠١٦ شموس. وعلى العكس تطورت المناطق الباردة الكبيرة، التي لم يكن بيدها حيلة أمام تمدد الكون، لتكون خاوية من البُنى الكبيرة. يسمي الفيزيائيون الفلكيون هذه المناطق ﺑ «الفراغ»، وهو المصطلح الذي يكتسب معناه من وجود أشياء أخرى محيطة به. وهكذا فإن خيوط وألواح المجرات العملاقة التي يمكننا رصدها على السماء لا تشكل عناقيد مجرية في نقاط التقائها وحسب، بل تشكل جدرانًا وأشكالًا هندسية أخرى تمنح شكلًا للمناطق الخاوية من الكون.

بطبيعة الحال لم تظهر المجرات بكل بساطة، بصورتها الكاملة، من تركيزات المادة الأعلى كثافة بشكل طفيف عن المتوسط، فمنذ ٣٨٠ ألف عام بعد الانفجار العظيم، وعلى مدار حوالي ٢٠٠ مليون عام تالٍ، استمرت المادة في تجميع نفسها، لكن دون أن يسطع أي شيء في الكون بعد؛ إذ إن النجوم لم تكن قد ولدت بعد. إبان هذه الحقبة الكونية المظلمة احتوى الكون فقط على ما تم تكوينه خلال الدقائق القليلة الأولى؛ الهيدروجين والهيليوم وكميات طفيفة من الليثيوم. وفي غياب العناصر الأثقل — كالكربون والنيتروجين والأكسجين والصوديوم والكالسيوم وغيرها من العناصر الأثقل — لم يحتوِ الكون على أي من الذرات أو الجزيئات الشائعة الآن، التي يمكنها امتصاص الضوء عندما يبدأ أي نجم في السطوع. أما اليوم، في وجود هذه الذرات والجزيئات، فإن الضوء الصادر عن أي نجم مكون حديثًا سيتعين عليه الضغط على هذه الجزيئات بحيث يدفع بعيدًا كميات هائلة من الغازات التي لولا وجوده لانجذبت إلى النجم وسقطت فيه. هذا الطرد يحد من الكتلة العظمى للنجوم الوليدة إلى أقل من مائة ضعف كتلة الشمس. لكن حين تكونت النجوم الأولى في الكون، وفي غياب الذرات والجزيئات التي تمتص الضوء، تكونت الغازات المنجذبة إليها بالكامل من الهيدروجين والهيليوم، مسببة مقاومة طفيفة للغاية لمقدار الطاقة المندفع من النجم. مكن هذا النجومَ من تكوين كتل أكبر بكثير، تصل إلى عدة مئات — بل ربما بضعة آلاف — المرات قدر كتلة الشمس.

تعيش النجوم ذات الكتلة العالية حياة سريعة، وكلما عظمت كتلتها انتهت حياتها سريعًا. فهذه النجوم تحول المادة إلى طاقة بمعدلات مذهلة، بينما تكوّن العناصر الثقيلة ثم تموت في انفجارات مهولة وهي شابة. لا يزيد معدل عمر النجم منها على ملايين قليلة من الأعوام، أي أقل من واحد على الألف من عمر الشمس. إننا لا نتوقع أن نجد أيًّا من النجوم الهائلة هذه على قيد الحياة اليوم؛ لأنه في ظل شيوع العناصر الثقيلة في أرجاء الكون، لن يصير بمقدور النجوم عالية الكتلة أن تتكون من الأساس. في واقع الأمر لم يحدث أن رُصد أي من هذه النجوم عالية الكتلة قط. بيد أننا نعزو لها مسئولية إثراء الكون بكافة العناصر المألوفة تقريبًا، بما فيها الكربون والأكسجين والنيتروجين والسليكون والحديد، التي نأخذ وجودها كأمر مسلم به. سَمِّه إثراءً إن شئت، أو سمِّه تلوثًا، لكن بذور الحياة بدأت مع الجيل الأول من النجوم عالية الكتلة التي اختفت منذ زمن بعيد.

•••

خلال البضعة مليارات عام الأولى بعد وقت الانفصال، استمر تجمع المادة بفعل الجاذبية؛ إذ قربت الجاذبية المادة بعضها من بعض على جميع المستويات تقريبًا. إحدى النتائج الطبيعية لعمل الجاذبية تكون الثقوب السوداء الهائلة، التي تبلغ كتلة الواحد منها عدة ملايين، وربما مليارات، كتلة الشمس. الثقوب السوداء التي لها هذه الكتلة المهولة تبلغ ما يقارب حجم مدار نبتون حول الشمس، وهي تنشر الدمار في بيئتها الوليدة. والسحب الغازية التي تنجذب نحو هذه الثقوب السوداء ترغب في اكتساب السرعة، لكنها تعجز عن ذلك بسبب وجود العديد من الأشياء في طريقها؛ لذا فهي ترتطم وتحتك بكل ما يصادفها أثناء انحدارها نحو الثقب الأسود في دوامة هائلة. وقبيل اختفاء هذه السحب إلى الأبد تتسبب الاصطدامات التي تحدث داخل مادتها ذات الحرارة الفائقة في انبعاث كميات مهولة من الطاقة، مليارات المرات قدر سطوع الشمس، وكل هذا في حجم لا يتجاوز حجم المجموعة الشمسية. تندفع تيارات هائلة من المادة والإشعاع، وتمتد لمسافة مئات الآلاف من السنوات الضوئية أعلى وأسفل الغازات الدوارة، بينما تشق الطاقة طريقها كي تهرب من هذه الدوامة بكل الطرق الممكنة. وبينما تسقط سحابة، وتدور أخرى في انتظار السقوط، يتباين سطوع المجموعة، فتصير أكثر سطوعًا ثم أكثر خفوتًا على مدار ساعات أو أيام أو أسابيع. إذا تصادف أن اتجه أحد هذه التيارات صوبك مباشرة، فستبدو المجموعة أكثر سطوعًا، وأكثر تباينًا في محتوى الطاقة المنتَج، عما هو الحال لو كانت التيارات متجهة إلى الجانب. وعند النظر إليها من أي مسافة كافية، فإن كل هذه الثقوب السوداء، إضافة إلى المادة المندفعة نحوها، ستبدو صغيرة وساطعة للغاية مقارنة بالمجرات التي نراها اليوم. إن ما أنتجه الكون — تلك الأجرام التي وصفنا للتو مولدها — يسمى بالنجوم الزائفة أو الكويزرات.

اكتُشفت النجوم الزائفة في أوائل الستينيات، حين بدأ الفلكيون في استخدام تلسكوبات مزودة بمستكشفات حساسة للنطاقات غير المرئية من الإشعاع، على غرار موجات الراديو والأشعة السينية. صار بالإمكان وقتها عند رسم أشكال المجرات تضمين معلومات عن مظهرها في نطاقات أخرى للطيف الكهرومغناطيسي. وبإضافة ذلك إلى التحسينات في التصوير الفوتوغرافي العادي، بدأت أنواع جديدة من المجرات في الظهور من أعماق الفضاء. من أكثر هذه المجرات إثارة للدهشة كانت تلك الأجرام التي بدت في الصور الفوتوغرافية وكأنها نجوم عادية، لكنها، على عكس النجوم، كانت تنتج كميات استثنائية من موجات الراديو. التوصيف المستخدم لهذه الأجرام هو «مصادر موجات الراديو شبه النجمية»، أو اختصارًا «النجوم الزائفة». والأكثر إثارة للدهشة من موجات الراديو المنبعثة من هذه الأجرام هو مسافاتها؛ إذ اتضح أن هذه الأجرام هي أبعد الأجرام المعروفة في الكون بأسره. لكن لكي تكون النجوم الزائفة بهذا الحجم الصغير، ومع هذا مرئية على مثل هذه المسافات البعيدة، فهذا يعني أنها نوع جديد تمامًا من الأجرام. صغيرة إلى أي درجة؟ ليست أكبر حجمًا من المجموعة الشمسية. ساطعة إلى أي درجة؟ حتى أكثرها خفوتًا يزيد سطوعها عن المجرات المتوسطة في الكون.

بحلول أوائل السبعينيات اتفق الفيزيائيون الفلكيون على أن الثقوب السوداء الهائلة هي محركات هذه النجوم الزائفة، وأنها بجاذبيتها الشديدة تلتهم أي شيء يقع في متناولها. يمكن لنموذج الثقوب السوداء أن يفسر الحجم الصغير والسطوع الكبير للنجوم الزائفة، بيد أنه لا يقول شيئًا عن مصدر غذاء الثقوب السوداء. فقط مع حلول الثمانينات بدأ الفيزيائيون الفلكيون في فهم بيئة النجوم الزائفة، وسبب هذا التأخير هو أن السطوع الهائل للمنطقة الوسطى في أي نجم زائف يحجب رؤية أي شيء محيط أقل سطوعًا. لكن في نهاية المطاف، ومع ظهور تقنيات جديدة لحجب الضوء القادم من المركز، تمكن الفيزيائيون الفلكيون من الكشف عن الزغب المحيط ببعض النجوم الزائفة الخافتة. ومع تقدم أساليب وتقنيات الكشف أكثر، كشف كل نجم زائف عما يحيط به، بل إن بعضها كشف عن بنية حلزونية. وقد اتضح أن النجوم الزائفة ليست نوعًا جديدًا من الأجرام، بل نوعًا جديدًا من الأنوية المجرية.

•••

في أبريل ١٩٩٠ أطلقت الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) أحد أعلى المعدات الفلكية تكلفة: تلسكوب هابل الفضائي. يستفيد هذا التلسكوب، بحجمه الذي يعادل حجم حافلة كبيرة ويدار بأوامر تُرسل إليه من الأرض، من الدوران حول الأرض بعيدًا عن تشويش الغلاف الجوي. وفور أن نصب رواد الفضاء بعض العدسات لتصحيح الأخطاء التي شابت مرآته الرئيسية وقت تصنيعها، تمكن التلسكوب من الوصول إلى مناطق لم يسبق رؤيتها من قبل في المجرات العادية، بما في ذلك مراكزها. وعند توجيهه صوب مراكز المجرات تبين أن النجوم تتحرك بسرعة غير مبررة، خاصة في وجود الجاذبية التي تكشف عنها أشعة الضوء المرئي الآتية من النجوم الأخرى في الجوار. حسن، جاذبية قوية، ومساحة صغيرة … لا بد أن هناك ثقبًا أسود. وبالفعل عثرنا في قلب مجرة تلو الأخرى — بل عشرات المجرات تلو الأخرى — على تلك النجوم السريعة المثيرة للريبة. وفي الواقع، كلما أتانا تلسكوب هابل الفضائي بصورة واضحة لقلب إحدى المجرات، وجدنا الأمر عينه.

يبدو من المرجح الآن أن كل مجرة عملاقة تأوي في قلبها ثقبًا أسود ضخمًا، ربما خدم كبذرة جذبوية تتجمع حولها المادة الأخرى، أو ربما يكون قد تكون في وقت لاحق من المادة المندفعة نحوه من المناطق الخارجية للمجرة. لكن لم تكن كل المجرات نجومًا زائفة في شبابها.

•••

بدأت القائمة المتزايدة للمجرات العادية التي تحوي في قلوبها ثقوبًا سوداء في إثارة دهشة الباحثين: أهو ثقب أسود عملاق وليس نجمًا زائفًا؟ أم نجم زائف محاط بمجرة؟ ليس بوسع المرء سوى التفكير في صورة جديدة تسير عليها الأمور. في هذه الصورة تبدأ بعض المجرات حياتها كنجوم زائفة. ولكي تكون نجومًا زائفة — وهو ما يعني في حقيقة الأمر وجود قلب مستعر مرئي لمجرة عادية — لا بد ألا يوجد ثقب أسود جائع فقط، بل أيضًا مخزون وفير من الغازات المندفعة نحوه. وفور التهام الثقب الأسود لكل الطعام المتاح، تاركًا النجوم والغازات التي لم يلتهمها في مداراتها البعيدة الآمنة، ينطفئ النجم الزائف ببساطة. وعندئذٍ يتبقى لدينا مجرة وديعة يستقر ثقب أسود خامد في قلبها.

وجد الفلكيون أنواعًا أخرى من الأجرام، تحتل منزلة بين النجوم الزائفة والمجرات العادية، وتعتمد خصائصها أيضًا على السلوك السيئ للثقوب السوداء الهائلة. في بعض الأحيان تطفو تيارات المادة الساقطة في الثقب الأسود الموجود بمركز المجرة في بطء وثبات، وفي أوقات أخرى يحدث هذا بصور متقطعة. مثل هذه الأنظمة تملأ مختلف المجرات ذات الأنوية النشطة لكن غير المتقدة. على مر السنين تراكمت أسماء الأنواع المختلفة من هذه النظم مثل: لاينرز (مناطق خطوط الانبعاث النووية منخفضة التأين)، ومجرات سيفيرت ومجرات N وأجسام لا سيرتا (البلازارات). كل هذه الأجسام يُطلق عليها الاختصار “AGNs” الذي يعني المجرات ذات الأنوية «النشطة». تظهر المجرات ذات الأنوية النشطة على مسافات بعيدة وأخرى قريبة نسبيًّا، وذلك على العكس من النجوم الزائفة التي لا تظهر إلا على مسافات بعيدة للغاية فقط. يوحي هذا بأن المجرات ذات الأنوية النشطة تملأ نطاق المجرات التي تسيء التصرف. استهلكت النجوم الزائفة كل طعامها منذ زمن بعيد؛ لذا لا يمكننا رؤيتها إلا إذا نظرنا للوراء عبر الزمن من خلال رصد المناطق البعيدة للغاية في الفضاء. على العكس من ذلك، للمجرات ذات الأنوية النشطة شهية أكثر اعتدالًا؛ لذا لا يزال البعض منها يحتفظ بالطعام ليتناوله، حتى بعد مرور مليارات الأعوام.

إن تصنيف المجرات ذات الأنوية النشطة على أساس المظهر وحسب ليس كافيًا؛ لذا صنف الفيزيائيون الفلكيون المجرات ذات الأنوية النشطة على أساس أطيافها وأيضًا النطاق الكامل لانبعاثاتها الكهرومغناطيسية. خلال الفترة من منتصف التسعينيات إلى أواخرها حسن الباحثون نموذج الثقوب السوداء، ووجدوا أن بمقدورهم توصيف كل الوحوش العجيبة التي تحويها حديقة المجرات ذات الأنوية النشطة من خلال قياس عدد قليل من المؤشرات وحسب، وهي: كتلة الثقب الأسود الموجود في الجرم، والمعدل الذي يتغذى به، وزاوية رؤية القرص الخارجي والتيارات الخارجة منه. على سبيل المثال، إذا كنا ننظر في اتجاه خروج أحد التيارات المندفعة من المنطقة المحيطة بالثقب الأسود، فسنرى جسمًا أكثر سطوعًا بكثير عما لو كنا ننظر إليه من زاوية مختلفة من الجانب. يمكن للتنويعات المختلفة لهذه المؤشرات الثلاثة أن تفسر كل صور التنوع التي يرصدها الفيزيائيون الفلكيون، مفسرة لهم كيفية تطور أنواع المجرات ومانحة إياهم فهمًا أعمق لعملية تكون المجرات وتطورها. إن قدرة هذا العدد القليل من المؤشرات على تفسير العديد من المظاهر — اختلافات الشكل والحجم والسطوع واللون — هو انتصار غير مسبوق لفيزيائيي القرن العشرين الفلكيين. ولأن هذا الأمر احتاج لعدد كبير من الباحثين وسنوات عديدة وقدر كبير من وقت التلسكوب، فهو ليس بالأمر الذي يعلن عنه ببساطة في نشرة الأخبار المسائية؛ ومع هذا فهو انتصار حقيقي.

•••

علينا ألا نفترض، مع ذلك، أن الثقوب السوداء العملاقة يمكنها تفسير كل شيء. فمع أن كتلتها تفوق كتلة الشمس بملايين أو مليارات المرات، فإن كتلتها هذه لا تُذكر عند المقارنة بكتل المجرات الموجودة بها؛ إذ تبلغ أقل بكثير من ١ بالمائة من الكتلة الإجمالية لأي مجرة كبيرة. وعندما نسعى لتفسير وجود المادة المظلمة، أو غيرها من مصادر الجاذبية غير المرئية في الكون، لا تكون للثقوب السوداء أهمية كبيرة، بل بالإمكان تجاهلها تمامًا. لكن عند حساب كمية الطاقة التي تسهم بها الثقوب السوداء — أي حينما نحسب الطاقة التي بعثت بها كجزء من عملية تكونها — سنجد أنها تهيمن على القدر الأعظم من طاقة تكون المجرات. فكل طاقة مدارات النجوم والسحب الغازية التي تتألف منها المجرة في نهاية المطاف تبدو تافهة مقارنة بالطاقة التي بذلت لتكوين الثقوب السوداء. وربما لم تكن المجرات لتتكون على الصورة التي نعرفها لو لم تقبع في قلوبها تلك الثقوب السوداء فائقة الضخامة. إن الثقب الأسود الذي كان فيما مضى ساطعًا لكنه الآن غير مرئي والقابع في قلب كل مجرة يقدم لنا رابطًا خفيًّا؛ تفسيرًا ماديًّا لتكتل المادة في نظم معقدة تدور فيها مليارات النجوم حول مركز مشترك.

إن التفسير الأشمل لتكون المجرات لا يقوم فقط على الجاذبية الناتجة عن الثقوب السوداء فائقة الضخامة، بل على الجاذبية في الظروف الفلكية التقليدية أيضًا. ما الذي كون مليارات النجوم داخل كل مجرة؟ الجاذبية فعلت هذا أيضًا، مكونة ما يصل إلى مئات الآلاف من النجوم في السحابة الغازية الواحدة. إن أغلب نجوم المجرة ولدت داخل «تجمعات» فضفاضة من المادة. ومناطق مولد النجوم الأكثر اكتنازًا لا تزال تشكل «عناقيد نجمية» متماثلة، تدور داخلها النجوم حول مركز العنقود النجمي، وتتحدد مساراتها عبر الفضاء فيما يشبه رقصة الباليه الكونية من خلال قوى الجاذبية التي تمارسها كافة النجوم الأخرى داخل العنقود النجمي، حتى بينما تتحرك هذه العناقيد نفسها في مسارات هائلة حول مركز المجرة، على مسافة آمنة من القوة المدمرة للثقب الأسود الذي يحتل مركز المجرة.

داخل العنقود الواحد تتحرك النجوم بنطاق واسع من السرعات، ويتحرك بعضها بسرعة بالغة لدرجة المخاطرة بالخروج من المجموعة تمامًا. وفي الواقع يحدث هذا الأمر أحيانًا، وذلك حين تتحرر النجوم السريعة من قبضة جاذبية العنقود النجمي وتهيم حرة في أرجاء المجرة. هذه المجرات الحرة، إلى جانب «العناقيد النجمية الكروية» التي يحوي الواحد منها مئات الآلاف من النجوم، تضيف إلى النجوم التي تشكل الهالات الكروية للمجرات. هذه الهالات المجرية، التي كانت في البداية ساطعة لكنها اليوم تفتقد سطوعها ونجومها ذات العمر القصير، هي أقدم الأجسام المرئية في الكون بأسره؛ إذ يرجع تاريخ ميلادها إلى وقت تكون المجرات نفسها.

آخر ما ينهار، ومن ثم آخر ما يتحول إلى نجوم، هو الغازات والغبار الذي ينجذب ويُثبَّت على سطح القرص المجري. في المجرات البيضاوية لا وجود لهذا القرص؛ إذ إن كل ما تحويه من غازات تحول بالفعل إلى نجوم. أما المجرات الحلزونية فبها توزيعات منبسطة من المادة تتسم بوجود سطح مركزي تتكون داخله أصغر النجوم وأكثرها سطوعًا في أنماط حلزونية، وهو ما يبرهن على وجود الموجات العظيمة المتذبذبة ذات الكثافة المتفاوتة والغازات المتخلخلة التي تدور حول مركز المجرة. كل الغازات الموجودة في المجرة الحلزونية ولم تشارك بسلاسة في تكوين العناقيد النجمية تهبط نحو السطح المركزي، وتتجمع، كحلوى الخطمي الساخنة التي تلتصق بعضها ببعض عند التلامس، وتكون قرصًا من المادة يعمل ببطء على تكوين النجوم. على مدار مليارات الأعوام المنصرمة، ولمليارات الأعوام القادمة، ستستمر النجوم في التكون في المجرات الحلزونية، وكل جيل جديد سيكون أكثر ثراءً بالعناصر الثقيلة عن سابقه. هذه العناصر الثقيلة (التي يقصد بها الفيزيائيون الفلكيون كل العناصر الأثقل من الهيليوم) تدفقت إلى الفضاء النجمي من النجوم المسنة أو من انفجارات النجوم ذات الكتلة الهائلة، كالمستعرات العظمى. إن وجودها يجعل المجرة — ومن ثم الكون — أكثر ملاءمة لكيمياء الحياة كما نعرفها.

•••

أوضحنا باختصار مولد المجرات الحلزونية التقليدية، في سلسلة تطورية تكررت لعشرات المليارات من المرات، ونتج عنها مجرات ذات تكوينات متباينة: على صورة عناقيد مجرية، وعلى صورة خيوط طويلة من المجرات، وأيضًا على صورة ألواح من المجرات.

ولأننا كلما نظرنا أبعد في الفضاء نظرنا إلى الماضي أكثر عبر الزمن، فنحن نملك القدرة على دراسة المجرات ليس فقط بشكلها الحالي، بل أيضًا بالشكل الذي كانت عليه منذ مليارات الأعوام، وكل هذا من خلال النظر عبر الفضاء. مشكلة تحويل هذا المفهوم إلى واقع تجريبي تكمن في حقيقة أن المجرات الواقعة على بعد مليارات السنوات الضوئية تبدو كأجسام صغيرة وخافتة للغاية؛ لذا فحتى أفضل تلسكوباتنا لن يمكنها فك طلاسمها. ومع ذلك فقد حقق الفيزيائيون الفلكيون تقدمًا عظيمًا في هذا الصدد خلال السنوات القليلة الماضية. حدثت الطفرة عام ١٩٩٥ حين رتب روبرت ويليامز — الذي كان يشغل وقتها منصب مدير معهد علوم تلسكوبات الفضاء في جامعة جونز هوبكنز — من أجل توجيه تلسكوب هابل الفضائي صوب اتجاه وحيد في الفضاء، بالقرب من مجموعة الدب الأكبر، لما يساوي عشرة أيام من وقت الرصد. يستحق ويليام الفضل كله لأن لجنة تخصيص الوقت الخاصة بالتلسكوب، التي تختار اقتراحات الرصد التي تستحق تخصيص وقت التلسكوب لها، اعتبرت الاقتراح غير جدير بالدعم. فعلى أي حال، المنطقة المطلوب دراستها اختِيرت عن قصد؛ لأنه لا يوجد شيء مثير للاهتمام بها، ومن ثم هي لا تزيد عن رقعة كئيبة مملة من السماء. نتيجة لذلك، لم يكن باستطاعة أي مشروع حالي الاستفادة مباشرة من تخصيص كل هذا القدر من وقت التلسكوب الذي عليه طلب كبير بالفعل. كان يحق لويليام، بوصفه مديرًا لمعهد علوم تلسكوبات الفضاء، تخصيص نسبة بسيطة من إجمالي وقت التلسكوب، «الوقت الذي يقدره بوصفه المدير»، وبالفعل استثمر هذا الوقت في التقاط ما صار يعرف ﺑ «حقل هابل العميق»، وهي واحدة من أشهر الصور الفلكية الملتقطة على الإطلاق.

أنتجت فترة الرصد التي امتدت عشرة أيام، والتي تزامنت مع فترة الإجازات الحكومية لعام ١٩٩٥، الصورة التي تعرضت لأكبر قدر من الدراسة في تاريخ علم الفلك. تقدم لنا صورة الحقل العميق، المرصعة بالمجرات وأشباه المجرات، طبعة أصلية للكون وضعت الأجرام الموجودة على مسافات متباينة من درب التبانة عليها توقيعاتها الخاطفة في أزمنة متباينة. إننا نرى الأجرام في صورة الحقل العميق كما كانت عليه منذ ١٫٣ مليار عام مثلًا، أو ٣٫٦ مليارات عام، أو ٥٫٧ مليارات عام، أو ٨٫٢ مليارات عام مضت، وتاريخ كل جرم محدد من واقع بعده عنا. انكب مئات الفلكيين على كنز البيانات التي تحويها هذه الصورة المنفردة من أجل توليد معلومات جديدة بشأن كيفية تطور المجرات عبر الزمن، وكيف كانت المجرات تبدو بعد تكونها بوقت قصير. في عام ١٩٩٨ التقط التلسكوب صورة أخرى باسم «حقل هابل العميق الجنوبي» من خلال تكريس عشرة أيام من وقت الرصد لبقعة أخرى من السماء في اتجاه معاكس لاتجاه صورة الحقل العميق الأولى، أعلى نصف الكرة الجنوبي. مكنت المقارنة بين الصورتين الفلكيين من التأكد من أن النتائج التي حصلوا عليها من الصورة الأولى لم تمثل شيئًا شاذًّا (على سبيل المثال، لو كانت الصورتان متطابقتين في كل التفاصيل، أو مختلفتين إحصائيًّا من كل وجه، لم نكن لنجد لهذا تفسيرًا علميًّا مقبولًا)، وكذلك تنقيح نتائجهم التي توصلوا إليها بشأن كيفية تكون أنواع المجرات المختلفة. وبعد مهمة صيانة ناجحة جُهز فيها تلسكوب هابل بمستكشفات أفضل (أعلى حساسية)، لم يستطع معهد علم تلسكوبات الفضاء مقاومة الإغراء وأجاز عام ٢٠٠٤ صورة «حقل هابل العميق الفائق»، التي تظهر المزيد عن الكون الأبعد.

مع الأسف لم تثمر أفضل جهود التلسكوب هابل في كشف النقاب عن المراحل الأولى لتكون المجرات، التي ستُكشف لنا من خلال الأجرام الموجودة على أبعد المسافات، وسبب ذلك هو أن التمدد الكوني أزاح القدر الأعظم من إشعاعها نحو نطاق الأشعة تحت الحمراء على طيف الضوء، وهو ما تعجز أجهزة التلسكوب عن التقاطه. لرصد هذه المجرات الأبعد ينتظر الفلكيون التصميم والبناء والإطلاق ثم التشغيل الناجح لخليفة التلسكوب هابل المسمى بتلسكوب جيمس ويب الفضائي والمسمى على اسم رئيس وكالة ناسا إبان فترة إطلاق مركبات أبوللو. (يقول المتهكمون إن اختيار هذا الاسم لم يكن بهدف تكريم هذا العالم الشهير بقدر ما كان ضمانًا لأن لا يُلغى مشروع التلسكوب؛ نظرًا لأن هذا سيعني حذف تراث رسمي مهم.)

سيحمل تلسكوب جيمس ويب الفضائي مرآة أكبر من مرآة هابل، ومصممة كي تفتح نفسها كزهرة آلية معقدة، بحيث توفر سطحًا عاكسًا أكبر بكثير مما يستطيع أي صاروخ حمله. وسيحوي التلسكوب الفضائي الجديد مجموعة من المعدات الأكثر تقدمًا بكثير عن معدات التلسكوب هابل، التي صُممت في الأساس في الستينيات، وبُنيت في السبعينيات، وأُطلقت في عام ١٩٩١، والتي — حتى بعد تحديثها بشكل كبير في التسعينيات — لا تزال تفتقد بعض القدرات الجوهرية مثل القدرة على التقاط الأشعة تحت الحمراء. هذه القدرة موجودة اليوم في تلسكوب سبيتزر للأشعة تحت الحمراء الذي أطلق عام ٢٠٠٣، والذي يدور حول الشمس في مدار أبعد من الأرض عن مدار هابل، وبهذا يتفادى أي تداخل تسببه كميات الأشعة تحت الحمراء الغزيرة التي ينتجها كوكبنا. لتحقيق هذه الغاية سيكون على تلسكوب جيمس ويب الفضائي أن يدور حول الأرض في مدار أبعد بكثير عن مدار هابل، وهو ما يعني أنه لن يكون بالإمكان إرسال مهام صيانة كالتي تجري اليوم؛ لذا حريٌّ بناسا أن تبنيه بشكل سليم من المرة الأولى. وإذا بدأ التلسكوب الجديد العمل في عام ٢٠١٤، كما هو مخطط له، فمن المفترض أن يقدم لنا رؤى جديدة رائعة للكون، بما فيها صور للمجرات التي تبعد عنا أكثر من ١٠ مليارات سنة ضوئية، والتي سنراها في وقت أقرب من وقت نشأتها عما كشفت عنه صور الحقل العميق للتلسكوب هابل. ستتعاون المعدات الأرضية الضخمة مع التلسكوب الجديد، مثلما فعلت مع سابقه، في الدراسة التفصيلية لكنز الأجرام الذي ستكشف عنه خطوتنا العظيمة التالية في عالم معدات الرصد الفضائية.

•••

مع أن المستقبل يبدو غنيًّا بالاحتمالات، فإن علينا ألا نتجاهل الإنجازات المبهرة التي حققها الفيزيائيون الفلكيون خلال العقود الثلاثة المنصرمة، والتي تنبع من قدرتهم على ابتكار معدات جديدة لرصد الكون. كان كارل ساجان يحب أن يقول إن الجماد وحده هو ما لا ينبهر بما يحدث في الكون. وبفضل مشاهداتنا المحسنة صرنا نعلم الآن أكثر مما عرفه ساجان بشأن تتابع الأحداث المدهش الذي أدى لوجودنا: التفاوتات الكمية في توزيع المادة والطاقة على مستوى أصغر من حجم البروتون، التي نتج عنها عناقيد مهولة من المجرات يبلغ عرضها ثلاثين مليون سنة ضوئية. ومن الفوضى إلى الكون اجتازت علاقة السبب والنتيجة هذه تضاعفًا في الحجم قدره ١٠٣٨ ضعفًا، وتضاعفًا للزمن قدره ١٠٤٢ ضعفًا. ومثل خيوط الحمض النووي الميكروسكوبية التي تحدد هوية الأنواع الكبيرة والخصائص المتفردة لأفرادها، فإن شكل الكون الحديث وسماته كانت محفورة في نسيج لحظاته المبكرة، واستمرت دون انقطاع على مر الزمان والمكان. إننا نشعر بهذا حين ننظر إلى السماء، ونشعر به حين ننظر للأرض، ونشعر به حين ننظر في أنفسنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤